صغار الباعة الجائلين، أطفال يبيعون ورودًا أو كتيبات، أو كمامات بمناسبة وباء الكورونا، أيضًا شباب أو شيوخ يواجهون قسوة الشوارع لتحقيق مكاسب متواضعة، يقدم النص-معتمدًا على تقنية المونتاج-واقعًا مأساويًا، يسقط الشيخ في غيبوبة سكر، يتخوف المارة من الاقتراب منه، ينتقل السرد إلى زوجته المتنظرة بقلق عودته للبيت.

بائع الكمامات

عبد الله زروال

 

في المركب التجاري:

ـ طفلة صغيرة لم تتجاوز سنتها الخامسة، ضئيلة الجسم، جميلة التقاطيع، جرت حافية القدمين نحو شاب مفتول العضلات، تمسكت بقوة بساقه ليبتاع منها علبة من المناديل الورقية. لم يتجهم لها، لم ينهرها، بل انحنى وابتسم لها ابتسامة راضية تعبر عن مزاج رائق. رفعها إلى الأعلى، ألقى بها في الهواء، تلقفها بيد واحدة، ثم وضعها بمنتهى الرفق والتؤدة على الأرض. فعل كل ذك برشاقة أكروبات، رفع سروال الجينز، وخفض "تي شورت" الملتصق بالعضلات الناتئة في صدره وذراعيه، مسح على شعرها الناعم القصير، ثم ناولها ورقة نقدية من غير أن يستلم منها علبة المناديل، وتابع مسيره مرحا ويداه تتأرجحان. تأملت الصغيرة الورقة مذهولة ثم ركضت إلى سيدة بادنة في ملاءة سوداء تربعت على الرصيف وهي تصيح: ورقة ورقة! اختطفتها المرأة البادنة منها، التفت يمنة ويسرة، ودستها بخفة في صدرها، فيما عادت بائعة المناديل الصغيرة تبحث عن نعلها الضائعة.

ـ طفلة ممتلئة، آخذة في النضج، رأسها ملفوف في وشاح عريض، لاحقت شابة أنيقة تعرض عليها شراء وردة حمراء. الشابة رغم كعب حذائها الذي كان على قدر من العلو أخذت تسرع الخطو لتتملص منها وهي في أثرها تلح، ولا تكل من الإلحاح:  

  • انظري، الوردة طبيعية، شميها أولا، رائحتها زكية!

وصلت الشابة الأنيقة إلى سيارتها الفارهة، ركبتها وبائعة الورد الأحمر لم تقطع الرجاء، وكأنها على يقين بأنها ستستسلم وتشتري الوردة منها في النهاية. وذاك ما كان، استلمت الوردة منقبضة، ألقتها إلى الأريكة الخلفية من غير أن تنظر إليها، أو تشمها، ونقدتها الثمن. في تلك اللحظة ظهر على حين غفلة حارس السيارات في سترة صفراء علتها طبقات من السواد. في وقاحة همس في أذن الطفلة الآخذة في النضج، وباجتراء جذب طرف وشاحها فبدت لذلك خصلة من شعرها المنكوش، ثم انشغل يساعد الشابة على إخراج سيارتها من الموقف بحركات منسقة تكشف مدى تمرسه بعمله. ذهبت الطفلة الآخذة في النضج متثاقلة إلى المرأة المتربعة على الرصيف، جلست قبالتها، ثبتت لها المرأة الوشاح بالدبابيس، ثم ناولتها وردتين حمراوين، وأشارت إلى رجل وامرأتين خارجين من باب المركب التجاري الكبير.

ـ ولد في سن اليفع تبدو عليه علامات البلاهة يستوقف رجلا في عجلة من أمره، ويعرض عليه كتيبا. الرجل ينتفض، يرفع يديه، ينزع كمامته السوداء، تزداد العروق النافرة من رقبته الغليظة انتفاخا، يرغي ويزبد. الولد يفر إلى المرأة المتربعة ويلقي بما في يديه من كتيبات في حجرها.

       كانت الظهيرة، وكان بائع الكمامات تحت سقيفة يستظل من أشعة الشمس، يتابع هذه المشاهد متحولا بنظره بين بائعة المناديل، وبائعة الورد، وبائع الكتيبات، والمرأة البادنة المتربعة، وبين الفينة والأخرى يرفع الحامل الخشبي الذي تدلت منه كمامات مصنوعة من بقايا أثواب ملونة لعل واحدا من العابرين تجبره الحاجة على الشراء.

       مر به حارس السيارات ينوء بحمل سجل كبير، وعلى كتفه خرقة، توقف ليستريح، نظر إليه في إشفاق ثم قال له يمحضه النصيحة:

- هنا لن تبيع كمامة واحدة، اسرح يا صاحبي، تجول، اذهب قدما في هذا الشارع، الشارع ممتلئ بالعيادات،

والمكاتب، والمطاعم، والمقاهي... وعندما تصل إلى الإشارات الضوئية انعطف يسارا، تحرك، لا تبق متسمرا في مكان واحد، تنقل بين المحكمة، والبريد، والخزينة، و...

تحرك بائع الكمامات يغمز في سيره متحاملا على نفسه لعل الحركة تأتي بالبركة، انتبه إلى متجر يعج بالبضائع، وعلى واجهته الزجاجية ألصقت ورقة كتب عليها:

الكمامات والمعقمات موجودة هنا.

في الشارع الإداري:

كان الوقت عصرا، المصالح الإدارية استنفذت توقيتها المستمر، وأغلقت أبوابها. غير بعيد عن علامة ممنوع الوقوف رجل مطروح على الأرض، عيناه مفتوحتان، الكمامة فوق ذقنه، من شفتيه فاضت رغوة، إلى جانب يده حامل الكمامات، وعلى مقربة يسيرة من قدمه الحافية المنتفخة المحتقنة نعله المتآكلة، والعابرون منهم من ينظر وينصرف، ومنهم من يتوقف دون أن تكون له جرأة على الاقتراب، والكلام يمر:

  • ماذا جرى؟
  • مسكين!
  • ما الذي وقع؟
  • ربما تعسر عليه التنفس.
  • لا شك أنها إغماءة سكر.
  • لم لا تكون... هي بدون شك.
  • من يتصل بالإسعاف؟
  • التعبئة انتهت.
  • سأحاول لعل وعسى...

في الحي الآجوري:

كانت الشمس قد غابت. في الدار التي لم يكتمل بعد بناؤها، تحكي امرأة مفرطة النحافة بلوعة لجارتها عن زوجها الذي تأخر، وفي كل مرة تقطع الكلام لتلقي نظرة إلى الخارج لتعود خائبة وقد ازدادت هواجسها، واحتدم قلقها:

- تأخر كثيرا، الله يحضر السلامة! عندما كان يسرح بدلو "الشباكية" في السوق الأسبوعي قبل أن تصدر الأوامر بعدم انعقاده كان، في أكثر الأحوال، لا يتجاوز العصر، يعود وقد باع كل ما في الدلو، لا يتناول إلا واحدة إذا أحس بهبوط مفاجئ للسكر في الدم، لست أدري من الذي أفتى عليه ببيع الكمامات اليوم، ولا أعرف من أين جاء بها.

 زوجي لا علاقة له بالتجارة، مسكين لا يفهم لا في بيع ولا في شراء، هو في الأصل بناء معلم في كل أشغال البناء، هو الذي بنى هذه الدار، ولولا تلك المصائب التي توالت علينا الواحدة تلو الأخرى لكانت دارنا كاملة لا ينقصها شيء.

كانت له دراجة نارية، اشتراها جديدة من المتجر، نظرت إليها يوما إحدى قريباتي نظرة والعياذ بالله، وفي اليوم التالي كان في طريقه إلى العمل في الصباح الباكر، وكان الضباب، فوقع وقعة قبيحة، وأصيب بكسر خطير...

توقف عن العمل في البناء، اشتد عليه داء السكري، وبدأ ينخر قدمه الصحيحة، فاضطر للعمل بائعا متجولا...

شيعت جارتها التي انصرفت مسرعة وهي تلهج بالدعاء، ووقفت على العتبة تبكي من العجز وقلة الحيلة، وما لبث أن التحق بها أبناؤها الثلاثة يتشبثون بها، ويمدون أعناقهم كالفراخ.

 

كاتب من المغرب