يرى الناقد المصري أن في خطاب جيهان عمر الشعري تتواتر مجموعة من الثيمات؛ مثل التداخل بين مدلولي الموت والحياة، أو التنازع بينهما، وتداخل الفضاءات السيميائية، أو التداخل بين الفن والواقع؛ كما تتواتر مجموعة من العلامات التي تحيلنا إلى فضاء تجريبي، أو إلى وسائط بصرية، وتشكيلية ضمن خطاب المتكلمة.

الهوامش التصويرية الإبداعية فيما وراء بنية العلامة

قراءة لديوان «أن تسير خلف المرآة» لجيهان عمر

محمد سمير عبدالسلام

 

تتداخل صور الموت، والحياة في وعي الذات المتكلمة؛ لتعيد تأويل كينونتها الخاصة من داخل حوارية تمثيلية افتراضية مع الآخر، أو عبر إنتاجية شعرية للعلامة في تمازج الفضاءات، واستبدالاتها الممكنة، أو من داخل ألعاب اللغة، أو التعارض ما بعد الحداثي بين المشاهد التصويرية التي تنتظم في نسيج واحد يقاوم مركزية البنية في ديوان أن تسير خلف المرآة للشاعرة المصرية المبدعة جيهان عمر؛ وقد صدر عن دار أبابيل للنشر بسورية ضمن أعمالها الشعرية سنة 2016؛ فكثيرا ما تعيد المتكلمة تخييل ذاتها كموضوع تصويري ضمن علاقات طيفية أو جمالية بالآخر، أو بالفضاء الذي يقبل التحول، والاستبدال وفق تصور دريدا التفكيكي مثلا، أو تتداخل العوالم التي تشير إلى الواقع مع فضاءات سيميائية تحيلنا إلى سيمياء خشبة المسرح، أو سيمياء التشكيل البصري، أو سيمياء الكادر السينمائي عبر إحالة المتكلمة المتكررة إلى علامة الكاميرا، واتخاذ هذه العلامة نفسها كزاوية للرؤية النسبية في صيرورة السرد الشعري؛ ومن ثم يعزز خطاب جيهان عمر الشعري من تداخل فضاءات الفن مع فضاءات الواقع؛ ويذكرني بحديث جياني فاتيمو بالتداخل بين الواقعي والجمالي في كتابه نهاية الحداثة، وقد نجد ذلك التداخل بين الفضاءات واضحا في امتزاج فضاء المستشفى بفضاء المسرح ضمن السياق نفسه، أو تداخل مائدة الطعام بالبحر الخيالي، وعروس البحر المتخيلة؛ والمستدعاة كنموذج فاعل – من نماذج حكايات ألف ليلة – ضمن لحظة الحضور الإشكالية نفسها، وقد نجد فضاء التابوت مختلطا بصوت الموتي، وبطاقة الحياة الأولى، ووهجها الذي يستنزف مركزية الرؤى المسبقة الأحادية عن الموت؛ أو نجد المرآة تقع في الغرفة الواقعية بينما تتحد – على مستوى التشكيل البصري - بالطيف الذي يذكرنا بصورة والد هملت، أو أطياف الآخر في خيال مكبث مثلا، أو تستنزف المتكلمة فضاء المرآة البصري عبر فاعلية أخرى محتملة لفجوة مظلمة، أو فراغ إنتاجي متجدد للعلامات التمثيلية للذات، والآخر في المساحة الفارغة أو المصمتة فيما وراء المرآة، والتي قد تنبع من فضاء المرآة الفارغ، والثري بدوال الحياة الطيفية؛ ومن ثم تبدو المرآة كفضاء تصويري يحتفي بكل من الفراغ، ولعب الدوال في خطاب جيهان عمر الشعري، وسنجد  أن الصوت الشعري في حالة من التفاعل الدينامي مع تلك الفضاءات، والمشاهد، والصور، والأصوات في أخيلة أنثوية تقوم على ثيمة المياه في الوعي المبدع، والتي وردت في خطاب المتكلمة في سياق كونها معبرا دائريا حلميا باتجاه واقع افتراضي، أو واقع حلمي، أو واقع حلمي آخر يستبدل الواقع من داخل علاماته، وإشاراته الجمالية الخاصة، أو من داخل هوامشه التصويرية؛ فعلامة الغرفة مثلا – عند جيهان عمر – تتداخل مع فضاءات الكادر السيميائي، وفضاء التجسد الأول المعتم الذي يجمع بين وهج الحياة، والفراغ الإنتاجي لعلامة الذات في لقائها بأصوات الماضي، وأطياف الفن.

تتواتر في خطاب جيهان عمر الشعري – إذا – مجموعة من الثيمات؛ مثل التداخل بين مدلولي الموت، والحياة، أو التنازع بينهما أحيانا في وعي المتكلمة، وتداخل الفضاءات السيميائية، أوالتداخل بين الفن، والواقع؛ كما تتواتر مجموعة من العلامات التي تحيلنا إلى فضاء سيميائي تجريبي؛ مثل المسرح، والمستشفى، والتابوت، والمركب، والبحر، والصحراء، والمرآة، والسيارة السوداء، والغرفة، أو تتواتر العلامات التي تحيلنا إلى وسائط بصرية، وتشكيلية ضمن خطاب المتكلمة؛ مثل الكاميرا، والفضاء المتخيل للمرآة كلوحة قابلة لإعادة التكوين، والإحالة أحيانا إلى جماليات الصوت المستدعى من الماضي، أو الغناء، والموسيقى في سياق الاحتفاء بالمراوحات التصويرية بين الحلم والواقع من جهة، أو بين الذات، وتمثيلاتها الاستعارية المحتملة التي تنفتح على الفضاءات، والأصوات الأخرى التي تعيد تفكيك بنية الفراغ من جهة أخرى؛ وسنلاحظ انتظام هذه الثيمات، والعلامات في روابط تصل الذات بالآخر، أو بمستويات تحقق كينونتها الاستعارية الأخرى، أو بالمفهوم الواسع للفضاء، والذي تتشكل فيه الكينونة بصورة دائرية وبكر دائما؛ فالذات قد تجد نفسها بين فضاءين متنازعين، أو متداخلين في الوقت نفسه، أو تجد نفسها في المرآة، وفيما وراء فراغها الإبداعي، أو في تجليها الآخر كفجوة، أو ككهف في الوعي المبدع؛ وكأن ما يصل بين هذه الدوال، والعلامات – في الخطاب الشعري – هو لحظة الحضور الفائقة التي تحتفي بثراء الكينونة، وبتعددية المنظور الإبداعي للذات، والآخر، والعالم.

وتؤكد عتبة العنوان / أن تسير خلف المرآة التوجه السابق؛ فالذات المتكلمة تفترض مثل هذه الحالة من الانعكاسات الإبداعية المتواترة التي تبدو فيها المرآة فضاء جماليا وواقعيا، أو تصير آلية من آليات الرؤية التي تعكس العالم في ثرائه المتجاوز للواقع، ولإطار الرؤية نفسه؛ ومن ثم سنجد أن هذه الفاعلية العاكسة التي منحتها الذات للمرآة، تتضمن إبراز التعارضات، والاختلافات، والتداخلات في بنية الموضوع المنعكس، وفي استبدالاته الممكنة؛ فجسد المتوفي مثلا يريد أن يعانق فعل الغناء القديم في الوعي واللاوعي، والذات تتجلى في علامة المركب؛ لتوحي بالغياب والعودة الممكنة معا؛ وهكذا تصير المرآة فضاء مجازيا لرحلة تراوح فيها الذات بين تجسدها في العالم، وحضورها الفائق المضاعف في التمثيلات المجازية الممكنة.

ويمكننا أن نعيد قراءة بعض العلامات الدالة – في ديوان جيهان عمر – من خلال منهج تشارلز ساندرز بيرس السيميائي الذي يجمع بين التوصيف الدقيق لبنية العلامة، وعلاقتها بالموضوع الذي تشير إليه، ثم ما يتعلق بأثرها في المؤول عبر عملية الاتصال بين المرسل، والمستقبل؛ ويتميز منهج بيرس بأنه يجمع بين الفرضيات المنطقية، والأثر الداخلي المباشر الذي يتولد عن العلامة في عملية الاتصال السيميائي بين الباث، والرائي، أو المتلقي طبقا لنوع العلامة، وتشكلها النسبي الفريد.

وقد لاحظت تواتر بعض العلامات الدالة ذات التجسد الفعلي في ديوان جيهان عمر؛ ويطلق بيرس على هذه الفئة من العلامات تعبير Sinsign ؛ وهي العلامات ذات الحضور النسبي الفعلى في عملية الاتصال؛ وسنجدها في بعض قصائد جيهان عمر في المقعد، والتابوت، والسيارة السوداء، والغرفة، والمستشفى، والمرآة، والصالة؛ وتتسم هذه العلامات – في خطاب جيهان عمر – بشيء من تأجيل مركزية مدلولها الواقعي نفسه؛ فهي دلائل على أحداث، او طرائق للرؤية لا تتسم بالمركزية؛ فالسيارة السوداء تومئ لموت، أو جنازة بينما تبدو مثل ظاهرة في رحلة حلمية، والمرآة تشير إلى الذات الفعلية المدركة بينما تكشف وجه الطيف الخفي فيما وراء الذات المتكلمة؛ فثمة هوامش تصويرية تتعلق بهذه الفئة من العلامات المجسدة واقعيا عند جيهان عمر؛ وسنجد أن الفئتين الأخريين من العلامات متضمنتين أيضا؛ وهما فئة العلامات المتعلقة بالصفات الداخلية البنائية، والتشبيهات، أو فئة العلامات المتعلقة بالخبرات المشتركة والثقافات.

يرى تشارلز ساندررز بيرس في – المختارات الفلسفية ج2 -  أن الإشارة إلى علامة مثل الجمل، تحيلنا إلى تجسد فردي حقيقي ونسبي من تجسدات العلامة في الواقع، وإن لم تتطابق بصورة تامة مع وعي المتلقي في عملية الاتصال السيميائي؛ وتنطبق مثل تلك العلاقة الدلائلية أيضا حين يشير المرسل إلى علامة مثل طائر العنقاء؛ فهو لا يوجد في الواقع، ولكن صفاته، وتجسده الفري، وأوصافه معروفة لدى كل من الباث، والمستمع؛ فهو علامة مؤثرة عبر موضوعها الذي تشير إليه في السياق(1).

هكذا تحيلنا العلامات ذات التجسد الحقيقي – في منهج بيرس السيميائي – إلى إمكانية حضور التكوين، ونسخه النسبية بين عالمي الباث، والمستقبل، وطبقا للعلاقة الدلائلية مع الموضوع الذي تشير إليه العلامة في عملية الإيصال؛ وسنجد أن مثل هذه العلامات، والتكوينات النسبية تتخذ المظهر الواقعي، ثم تقوم بمساءلته جماليا في خطاب جيهان عمر الشعري؛ فالمقعد مثلا الذي يمكن توصيفه كدليل واقعي متجسد لموضوع النزهة، أو الذات في حالة التأمل، والحوار مع الآخرين وعناصر الطبيعة، نجد أنه قد اتخذ وضعا مقلوبا على الشجرة؛ ومن ثم يحمل مدلول التنزه والحوارية مع تأجيل مثل هذه الحوارية عبر اللعب، والاستبدال، والتموضع الشعري في المنظور التجريبي للذات المتكلمة.

وتتداخل الفنون أيضا عبر – تعددية المجالات السيميائية - في خطاب جيهان عمر الشعري، وتتجلى في تداعيات النص؛ فالذات المتكلمة توظف علامة الكاميرا داخل صيرورة السرد الشعري من جهة، وتصف المحتوى الجمالي للكادر، وما يحمله من علاقات شكلية بين العلامات المتضمنة بداخله، ودلالاتها من جهة اخرى؛ وهو ما يكسب نص جيهان عمر نوعا من التعددية في إدراك الذات للفضاء، وفي تجلي الذات نفسها كموضوع أحيانا للكاميرا التي تكشف عن علامات المشهد، وما يقع وراءه من فراغ، أو فجوات حلمية، أو حضور طيفي يعزز من الإنتاجية الخيالية الكامنة في المساحة المظلمة، أو الفراغ المؤجل.

ويذكرني استخدام الشاعرة لعلامة الكاميرا بخطاب جيل دولوز الفلسفي، والنقدي حول علاقة كادر الكاميرا بما يتضمنه من علامات في كتابه الصورة – الحركة؛ إذ يرى أن كادر الكاميرا يمكن تصوره على نحو حسابي تتوازن به كتل الصورة، وخطوطها، وحركاتها، أو يمكن تصوره ديناميا حين يتوقف على المشهد، والشخصيات؛ فقد تعزل الكاميرا وجها، ثم تنفتح وتظهر ما يحيطه.(2).

هكذا يومئ دولوز لتقنيتين تتجلى فيهما جماليات التشكيل البصري داخل الكادر، وسنجد أن كلا منهما قد تجلى في نصوص جيهان عمر، ولكن من داخل توظيف الكاميرا كعلامة تتخذ موقع الرائي النسبي أحيانا، أو يصير الرائي موضوعا ترصده الكاميرا عبر التمثيلات الشعرية الاستعارية التي تنطوي على تخييل الذات، وتخييل الآخر في المكان.

وقد توجه الذات المتكلمة خطابها الشعري إلى طيف نيتشه في سياق مقاومة شفقة الآخرين، والسقوط المتكرر، والانحياز للعب، والغناء؛ ومن ثم تحيلنا إلى تصور نيتشه للمأساة اليونانية، أو إلى الإنتاجية الإبداعية في السياق الوجودي أو اليومي.

تقول جيهان عمر في قصيدة عزيزي نيتشه:

"يرمونني بكرات الشفقة المؤلمة / أسقط مجددا / كلما حاولت الوقوف / عزيزي نيتشه / لماذا لا يفتتحون صالة كبيرة / لألعاب البولينج / ويتسلون في الليل / باللعب والغناء"(3).

ويمكننا تأمل علامة صالة اللعب طبقا لمثلث بيرس السيميائي، وطبقا لتجليها في سياق نص جيهان عمر وعلاقتها بالعلامات الأخرى؛ فعلامة صالة اللعب علامة من فئة العلامات المتجسدة فعليا، وتتصل هنا بموضوع اللعب، أو بموضوع الأداء الإبداعي ضمن قراءة الذات لوجودها الخاص؛ ومن ثم تتصل الصالة بالأداء واللعب اتصالا دلائليا، وتشير إلى مجموعة من المؤولات، والدلالات النسبية؛ فهي تستشرف العودة إلى البهجة القديمة، والحالة الغنائية التي ازدوجت بنشوء المأساة عند نيتشه، أو توحي بفعل الانحياز لهوامش الصالة التصويرية، أو الانتقال من الصالة / الواقع إلى الصالة / الحلم؛ وقد تؤكد علامة  الصالة أيضا فرضية مقاومة فعل الشفقة، أو الوضع المأساوي الكثيف الخفي في القصيدة عبر استبداله أو التطهر من مركزيته بحالتي الأداء، أو التعاطف بمدلوله الواسع؛ والذي يكمن هنا في فعل الغناء الذي يذكرنا بتقارب أورفيوس مع الطيور، أو استبدال علاقة الشفقة بعلاقة التعاطف الممكنة في النص.

وتعيد الذات قراءة كينونتها من خلال الصورة المجازية المتحولة للآخر، وعلاقته المتجددة بالمرآة بوصفها دالا واقعيا، ودالا تشكيليا فارغا أيضا، يحتمل الامتلاء الإبداعي في نص تستطيع؛ وفيه توجه الذات خطابها للآخر الطيفي، وتحتفي بعلاقته التجريبية بالمكان، وبالمنظور، والجسد؛ ومن ثم تصير المرآة دالا واقعيا مؤجلا، ومنتجا للحضور التمثيلي للذات والآخر.

تقول جيهان عمر في قصيدة تستطيع:

"أن تسير خلف المرآة / وليس أمامها / فوق البناية الشاهقة / وليس أسفلها ... / أن تتفقد دولابك بعد أن أخرجت منه / حقيبة ملابس كاملة / تستطيع الآن أن تنام / دون أن ينقر الغراب رأسك طوال الليل / دون أن يفتت النمل قدميك"(4).

وإذا تأملنا علامة المرآة – في النص السابق – بوصفها علامة حقيقية، سنجد أن حقيقتها مؤجلة كفضاء تشكيلي ينطوي على فراغ فني منتج للعلامة، وكاشف عن الحضور الطيفي؛ ومن ثم فهي تمثل موضوع الحضور الذاتي بمدلولة الواسع عبر علاقة دلائلية؛ فالمرآة دليل على حالتي الوجود، والوجود الطيفي؛ وهي تشير – في فعل التأويل السيميائي – إلى دلالات العمق، ولانهائية الانعكاسات الممكنة، والوجود الفائق الذي يستنزف أمراض الجسد، والعلاقات الآلية بالمكان؛ فالآخر قد يبدو كانعكاس طيفي في تشكيل المرآة، أو فيما وراء البناية المرتفعة، وقد تعزز العلامة من الفعل الإدراكي الممكن لامتلاء الفراغ التشكيلي بالصور، أو الانحياز لوجود الأثر التصويري للآخر في المسافة بين التشكيل، والواقع، أو تعزز العلامة من فرضية اتصال الحضور المضاعف بفكرة تداخل الفضاءات؛ فثمة هامش استعاري بداخل بنية الفضاء، يتولد منه الأثر، أو الصوت التمثيلي للآخر؛ والدليل على ذلك اتصال صورة الآخر الطيفية – في وعي المتكلمة – بالمرآة والنافذة، والمجال الهوائي الحر، والغرفة بوصفها دالا واقعيا ينطوي على وجود مغاير للوجود المرضي المأساوي السابق، ويستنزفه في الآن نفسه.

وقد تقوم الذات المتكلمة بتخييل المدلول الفلسفي للموت عبر علامات الحلم؛ ومن ثم تؤجل مركزيته، أو تستنزفه في نوع من تجربة تقوم على رحلة دائرية متكررة بين الحلم والواقع، وعبر فضاءين سيميائيين ارتبطا في الذاكرة الجمعية بالحكايات الخيالية، والحب والحرب؛ وهما البحر الذي اتصل بأخيلة الراوي والشخصيات في حكايات ألف ليلة، والصحراء التي اتصلت بالشعر الغنائي العربي؛ بما يحوبه من غزل، ونهايات، وفخر وحروب؛ ومن ثم تتشكل علامات الحلم في وعي المتكلمة؛ لتصير معبرا للقاء الآخر في مسافة بينية تومئ إلى كل من الحلم والواقع.

تقول جيهان عمر في قصيدة طابع بريد شفاف:

"الحقيقة أنني اخترت لموتي قصة عادية؛ في يوم سأرتب المنزل، ثم أذهب للنوم مبللة قليلا من أثر حمام دافئ، حيث سأرى حلما جميلا يحتوي مثلا على بحر أزرق، ومركب صغير على الشاطئ، أو ورود وجبال ورمال ناعمة ...، دعنا نتفق الآن على أشياء أهم ؛ كأن تتحول أنت إلى يد ضخمة، تحميني من الحوادث البسيطة على الأقل؛ قبل أن أسقط مثلا من فراش صار كبيرا جدا مثل صحراء، وأنا سرب يتضاءل كلما تقادمت في وحدتي، تستطيع أيضا أن تقبل جبين أمي"(5).

وإذا تأملنا علامة المركب – في المقطع السابق – سنجد أنها علامة خيالية تمثيلية تجسد الذات في حلتها الدائرية للحلم، وتشير إلى موضوع الذات في حضورها الاستعاري، ورحلتها الدائرية نحو العوالم الحلمية، وفضاء ما وراء الواقع؛ ومن ثم فعلاقة المركب بموضوعه علاقة تصويرية أيقونية، وتوحي - في فعل التأويل العلاماتي - بالرغبة في استنزاف مركزية الواقع، وحتمية تفسير النهايات، كما تعزز - في مستوى الفعل المولد عن العلامة -  من الانتماء للتداخل بين عالمي الحلم والواقع، وتشكيل الهوية الأنثوية الفردية من داخلهما معا، وتؤكد علامة المركب أيضا فرضية فعل اتصال التأملات الأنثوية بعلامات اللاوعي التي تؤول الحضور بمدلوله اليومي البسيط؛ والدليل حضور المياه بوصفها قطرات ضمن آليات الأفعال اليومية، ثم تجليها في الاتساع التصويري للبحر الحلمي، وتداخله مع الواقع، والتأملات الأنثوية، وصوت الآخر، وتحولاته.

ويمكننا أيضا – في السياق النصي نفسه – تأمل علامة اليد؛ فهي علامة تمثيلية بديلة عن صوت الآخر، وتتصل بموضوع الحضور الطيفي للآخر عبر علاقة تصويرية أيقونية؛ وتومئ – في فعل التأويل – إلى التأكيد المضاعف للحضور رغم نغمة الغياب، وتعزز – في الفعل الذي تحدثه العلامة – من الاتصال الروحي الممكن بالآخر عبر التشبيه، والتمثيل الاستعاري لأيقونة اليد التي ذكرتني ببعض صورها القديمة على الكهوف التي تنتمي لحقب ما قبل التاريخ الفنية؛ إذ يمكننا تلمس الاتصال بالصنعة الجمالية القديمة للفنان عبر هذا الجزء من الجسد / اليد، ودرجة الحركة المتضمنة فيه، وألوانه، وحجمه، وعلاقته بالحجر، وبالعلامات الأخرى المحيطة ببنيته.

 وقد تمزج الذات المتكلمة – في خطاب جيهان عمر – بين الفضاءين الواقعي، والجمالي -  في نص في مسرح المشفي – في بكارة إبداعية توحي بدائرية لحظات النشوء، أو التجدد؛ والمساءلة ما بعد الحداثية لبنية المستشفى الواقعية نفسها؛ إذ يبدو أن الذات قد مرت بلحظات غياب مؤقت، وأعادت قراءة الواقع جماليا في لحظات عودة الوعي الأولى بوصفها تكرارا لولادة حقيقية، أو ولادة جمالية ممكنة، وقد تكون مثل هذه الولادة بهيجة، أو عبثية، أو بهيجة وعبثية معا؛ وسنعاين نوعا من الاستبدال العلاماتي للدوال؛ فالأشياء تبدو مثل ديكور لمسرحية منتظرة، والوجه قناع في بركة راكدة، والأشخاص يمثلون جمهورا لا يجيد التصفيق؛ ومن ثم فالنص يعزز من الاستبدال في نوع من المراوحة التصويرية بين الفضاءين الممكنين للمستشفى والحلم بصورة ما بعد حداثية لا تنتمي كليا لأحد المكانين؛ وتذكرني مثل هذه المراوحة بفكرة تنازع التفاسير في خطاب بول ريكور التفسيري؛ فالذات لا تمنح المستقبل إشارات يقينية عن إدراكها لبنية المكان؛ ومن ثم يصير الفضاء المسرحي علامة تمثيلية، يمكن أن نعيد قراءتها عبر تجليها التصويري؛ وقد عززت عتبة العنوان / في مسرح المشفى من تنازع التفاسير البكر الإبداعية لبنية المكان في وعي المتكلمة، ومن التداخل بين الواقع، وتجلياته الجمالية التمثيلية الممكنة.

تقول جيهان عمر في نص في مسرح المشفى:

"من بدل الديكور خلفي؟ / بت ممثلة في سيناريو لم أقرأه من قبل / من استبدل ستائري الملونة / بلمبات النيون .. التي تركت وجهي / قناعا منعكسا / في مياه راكدة؟ / لا أدري أي دور أسند إلي / وسط جمهور لا يجيد التصفيق"(6).

وإذا تأملنا علامة الفضاء المسرحي الافتراضي – في النص – سنجد أنها علامة تمثيلية تتصل بموضوع القراءة الجمالية لبنية الواقع؛ وهي قراءة توحي بأصالة التداخل وبكارته في الوعي واللاوعي؛ ومن ثم فالفضاء المسرحي علامة تتجلى كأيقونة لفضاء المستشفى ولكنها تفكك مركزيته أيضا، وتوحي في الفعل التأويلي بالمزج بين المأساة والبهجة حين تنتقل الذات عاطفيا – وبصورة فورية – من خبرة الألم في المستشفى إلى الفضاء المسرحي الذي ينطوي على تراجيديا الغربة، وبهجة الأداء معا، كما يشير الفضاء المسرحي – في مستوى الفعل المولد عن العلامة – بدائرية الانتقال من الفن إلى الواقع والعكس حسب نسبية الأدوار، والأقنعة من منظور المتكلمة التجريبي، ويعزز فضاء المسرح الجمالي – في النص أيضا – من فرضية العلاقة الجدلية بين كل من المستشفى ، والمسرح؛ إذ يبدو أن الفضاء الأول ينطوي على الألم، وأن الآخر ينطوي على البهجة أحيانا، ولكننا نصل – في النهاية – إلى المركب الوسط؛ وهو المزج بين الألم والبهجة؛ فالقناع ينطوي على غربة فقدان بدايات الحدث الدرامي المحتمل؛ أما التصفيق الدال على البهجة ينطوي على التأجيل أيضا؛ فالجمهور لا يجيده، أو لا يفعله، أو يوحي بأن المسرحية قد تكون عبثية أيضا.

وتمزج الذات المتكلمة أيضا – بصورة ما بعد حداثية – بين الغياب، والبهجة أو الغنائية الممكنة في نص رغبات أخيرة؛ فالذات تمنح المتلقي إشارات تبدو ساخرة أو مؤجلة عن موت أنجيلا، وطقوس دفنها في تابوت، وعربة سوداء؛ وكأن صوت أنجيلا التمثيلي متوهج بحرارة مجازية تتعارض مع اتحاد الجسد بالأشياء في حالة الموت؛ ومن ثم نجد ذلك الصوت التمثيلي الآخر يتحدث عن الهدوء، أو النوم الذي يوحي بالتناغم أو الهارموني، لا الغياب، وينسج حوارية من نوع آخر مع الذات المتكلمة داخل فضاء السيارة الحقيقي، والذي يبدو فضاء سرياليا أيضا في الوعي، واللاوعي.

تقول جيهان عمر في نص رغبات أخيرة:

"العربة السوداء / تابوت يهرول متنكرا / أغلقوا التكييف / العالم بارد .. بارد / أغلقوا المذياع / أريد أن أنام / نامي .. / نامي ملء جفنيك أنجيلا"(7).

تتجلى – في المقطع السابق – علامة السيارة كفضاء حقيقي، وتجريبي معا، وتؤكد التناقض الإبداعي بين الهارموني، والغياب في المشهد؛ وهي تشير إلى موضوع النهايات المؤجلة في عالم المتكلمة الإدراكي؛ ومن ثم فهي تتصل بالموضوع اتصالا دلائليا فهي سارة للدفن، وتدل على الحدث الجنائزي، بينما تشير أيضا إلى حلم البهجة، وبلاغة التصور الحلمي للمشهد الواقعي نفسه؛ بينما توحي – في التأويل – بالحضور الظاهراتي للصوت الآخر لأنجيلا، وإلى الحوارية الممكنة فيما وراء الغياب في الفعل التأويلي المولد عن مشهد السيارة التي تؤكد بنية الرحيل، وبنية وهج الحياة الحلمية معا؛ وتؤكد علامة السيارة فرضية عودة الصوت الآخر في مسافة بينية ملتبسة تتصل بالحلم، والذاكرة، والواقع معا؛ فالصوت الذي يدعو إلى الصمت، يمارس نوعا من الغناء المتعلق بحالة التوافقية الممثلة في النوم كبديل عن الغياب الكامل.

وتأتي علامة الساعة القديمة كمفتتح لتداخل الأزمنة، والحكايات، والأشياء الصغيرة، ولحظة الحضور في نص عروس البحر؛ فالمشهد اليومي المتكرر يستشرف فاعلية نماذج الماضي في الفراغ الكامن فيما وراء الساعة؛ وهو فراغ إنتاجي للدوال، ويبدو ككهف تستعاد فيه صور الحكايات، وأصواتها القديمة التي تأتي بصورة تؤكد المحاكاة الساخرة في لحظة الحضور الملتبسة بأخيلة اليقظة الأنثوية.

تقول جيهان عمر في نص عروس البحر:

"الساعة القديمة المعلقة / تكتسي بطبقة ضبابية / ولكنني ألمح الوقت المختبئ خلفها/ الساعة الواحدة وثلاث دقائق / توقف الزمن هناك / رغم أنه لم يتجاوز الثامنة / الزيتون يسير على المائدة / وعروس البحر / تجلس بغنج فوق المائدة المقابلة / تلهو بذيلها الذهبي / إلى اليمين قليلا / إلى اليسار قليلا / عروس البحر / تلك التي أغوته / بأن الطعام هناك ألذ"(8).

ويمكننا تأمل علامتي الساعة القديمة، وعروس البحر وفقا لتصنيف بيرس لبنية العلامة بوصفهما علامتين إحداهما حقيقية، والأخرى تنتمي لخبرات الذاكرة الجمعية؛ فعلامة الساعة تتصل بموضوع فاعلية الحكاية في بنية الحضور؛ والقدم في بنيتها يدل على أثر، وفاعليته الماضي في لحظة الحضور؛ فعلاقتها بالحضور دلائلية؛ وتشير – في التأويل – إلى إغواء الماضي للمتكلمة عبر علامة الساعة، وما خلفها من فراغ منتج للدوال، وتعزز في الفعل من قراءة الحضور بوصفه بنية تناظر الماضي، وتنطوي على آثاره الفاعلة في حلم اليقظة، كما تؤكد علامة الساعة القديمة فرضية تحقق الحنين إلى الماضي عبر أصالة الخيال الذي يمكن أن يستدعي نماذج الماضي، وشخصياته في أي وقت؛ وهو ما يؤكد تصورات نورثروب فراي، ويونغ الفكرية والنقدية.

أما علامة عروس البحر فهي عامة، وإنسانية تتصل بموضوعها / النماذج الحكائية الكامنة عبر علاقة رمزية، وتوحي بالصلة الخفية بين الإدراك البشري وعلامات الماضي؛ مثل التراب المتراكم، أو الفراغات المظلمة، أو الساعة القديمة، وتعزز من فعل استدعاء الشخصيات الأسطورية من داخل التداعي الحر لعلامات الحضور؛ فالطعام يستدعي أخيلة عبد الله البحري مثلا في ألف ليلة، أو أخيلة مملكة البحار في قصة بدر باسم مثلا؛ كما تعزز عروس البحر من فرضية إمكانية استحضار الماضي بكامل وهجه الخيالي على علامات الحضور مكانيا مثلا؛ حين تجلس عروس البحر على مائدة حديثة، وكذلك العودة مرة أخرى إلى بنية  الحضور؛ ومن ثم تؤكد عروس البحر دينامية الماضي، ودينامية الحاضر معا.

وتعيد الذات المتكلمة استخدام علامة الكاميرا في سياق الكشف ما بعد الحداثي عن تعارضات الصورة في نسيج الفضاء الواحد في نص اتجاه الليل؛ فالكاميرا تبدو دينامية في حركتها المواكبة لتزامنات الحدث كما هو في تصور دولوز لأحد تجليات الكادر، وصيرورته، وقد تنفلت الكاميرا أيضا – في ذلك السياق - عن منظور الذات التي تصير موضوعا للرؤية؛ فالكاميرا هنا قرأت أولا نغمة الغياب المؤجل، ثم أعادت قراءة كينونة الأنثى وتجسدها التكويني الأول فيما وراء الظهور، والغياب الإبداعي المؤجل، والحضور الجسدي الفائق جماليا في تشبيهاته التي تنفلت عن نطاق رؤية الكادر النسبية نفسها.

تقول جيهان عمر في نص اتجاه الليل:

"بينما يشيعون الآن جثمانك ملفوفا بكتان خفيف / لم نتفق أن تذهب / في مشهد نهار خارجي / قبل أن تنتقل الكاميرا ببطء / إلى لافتة المشفى / وتقتحم غرفتي / أراقب / بينما تعجز الكاميرا عن اختراق المسامات / وتصوير العتمة"(9).

الكاميرا – إذا – علامة حقيقية، وتتصل بموضوع المراقبة لمستويات الوجود العديدة اتصالا دلائليا في السرد الشعري، وتوحي بتبادل الفضاءات الممكنة ضمن حيادية الرؤية نفسها، وتحفز - في التأويل - فعل دينامية الحضور، وتداخل مستوياته رغم الغياب الذي يوحي أيضا باستعادة التكوين الأول للذات؛ ومن ثم تعزز علامة الكاميرا من فرضية التجسد في الغرفة كحدث يتمتع بالأصالة في مواجهة الغياب الماضي؛ فهي ترغب في تأجيل مركزية كل من الحضور والغياب عبر انتقالها السريع بين الموت، والولادة المجازية.

وقد تعيد الذات تركيب المشهد بصورة تجسد اللعب، وإعادة تنظيم العلاقات الجمالية الشكلية الهندسية داخل الكادر، وفق منطق اللعب في نص قياس؛ فالكاميرا تنسج علاقة تنظيمية جديدة بين المقعد، والشجرة، وفضاء المسرح الروماني؛ فالمقعد هنا قد تمرد على وظيفته الأولى الدلائلية، وصار موضوعا للأداء في العلاقات الشكلية الجمالية الهندسية الجديدة؛ فقد يقرأ هنا بوصفه رأسا لمثلث في الفضاء الحقيقي الذي ينطوي على تداخل مع الحلم.

تقول جيهان عمر في نص قياس:

"بجوار المسرح الروماني / لمحت مقعدا بلاستيكيا عالقا فوق شجرة / أشرت بإصبعي إلى أعلى / وضحكنا / قبل أن يوجهوا كاميراتهم / نحو السماء"(10).

وإذا تأملنا علامة المقعد هنا، سنجد أنها تشير إلى تجسد حقيقي ينشق عن وظيفته البنيوية، ويتصل بموضوع القياس الاستثنائي في بنية الإدراك عبر دليل التموضع المغاير على الشجرة، ويوحي بدلالة الغرابة الأولى في علاقات الواقع الهندسية التي تحفز الضحك المضاعف، والسخرية، ويعزز من العلاقة الجدلية بين بنية إدراك الأشياء في حالتي الاستقرار، أوالرغبة الحلمية اللاواعية في تبديل المواقع، والأدوار.

هوامش الدراسة:

(1) Read, Charles Sanders Peirce, Selected Philosophical Writings, V2, Edited by The Edition Project, Indiana University Press, 1998, p. 295.

(2) راجع، جيل دولوز، الصورة – الحركة، أو فلسفة الصورة، ترجمة: حسن عودة، منشورات وزارة الثقافة بسورية، دمشق، سنة 1997، ص 23.

(3) جيهان عمر، أن تسير خلف المرآة، ضمن الأعمال الشعرية، دار أبابيل بسورية، سنة 2016، ص-ص 144، 145.

(4) جيهان عمر، السابق، ص-ص 148، 149.

(5) السابق، ص-ص 187، 188.

(6) السابق، ص-ص 189، 190.

(7) السابق، ص-ص 202، 203.

(8) السابق، ص-ص 215، 216.

(9) السابق، ص-ص 191، 192.

(10) السابق، ص-ص 219، 220.

msameerster@gmail.com