يتأمل هنا الكاتب السكندري المرموق، وبطريقته في الرؤية المتفردة لجوهر الوقائع والأحداث حقيقة محمد حافظ رجب الذي رحل عن عالمنا مؤخرا، وشكّل في فورة إبداعه وجموح كتاباته الأولى، وفي صمته المطبق في النصف الثاني من حياته وتصوّفه، حالة فريدة في الكتابة المصرية، يبلور هنا أبرز ملامحها.

محمد حافظ رجب: قراءة أخرى

علاء خالد

 

(1)

شكَّل القاص محمد حافظ رجب (1935-2021) لي، ولكثيرين بالطبع، ظاهرة محيرة، من ناحية كتاباته السابقة على عصره، حياته البسيطة، خروجه من التعليم مبكرًا، ودخوله سوق الحياة من أدنى درجاته، يبيع المحمصات على الرصيف في محطة الرمل، والصور الشعرية الذكية التي تتخلل قصصه، ومنحنيات موهبته التي صعدت به لأعلى، ثم عاد بها للصمت المطبق، لمدة عشرين عامًا، كأنه لم يكن موجودًا.

الصمت هو ظل حياة حافظ رجب، منذ السبعينيات يعيش في الإسكندرية صامتًا، يخرج ويدخل ويدلي بأحاديث، وأيضًا يكتب، ولكن داخل بالونة الصمت. لم يمتد منحنى الحياة لموقعة جديدة، تستحق أن يؤرخ لها، أضيفت أعوام ربما، ولكن كانت الحياة، هي حياة الموهبة في لحظة الذروة، وكل ما أتى بعد ذلك استهلاك للذروة، حياة وكتابة، فما حدث في الماضي هو الأهم، والجديد هو الصمت والعزلة بتنويعات كثيرة.

لم يعلن حافظ رجب اعتزاله الكتابة، ولكن تم نسيانه تمامًا، حتى خروج ثلاث مجموعات قصصية له في التسعينيات، لم يتوقف عندها الكثيرون. يبدو أن الصمت كان سلاحًا له أيضًا، جعله نادرًا، أصبحت صورته تأخذ تضاريس جديدة وسط الخيال الجمعي الثقافي، متراوحة بين الجنون والعبقرية. كان الصمت والنسيان هما الوقود الذي نفخ في نسيانه ويجهزه للعودة داخل الخيال الجمعي. أصبحت العناصر جاهزة ليصبح أضحية، فالصمت والنسيان عبارة عن موت مؤجل.

لم يظل حيًا إلا داخل مجموعات متفرقة، خاصة في التسعينيات، وما بعدها، بعد تبخر جيل الستينيات أو خفوت تأثيره. جماعات تحن للندرة، لأصالة حياة، أو أصالة موهبة، ولكن في شكلها الضعيف أو المهزوم أو المفارق. في بداية التسعينيات بدأ اسمه مرة أخرى يطفو على السطح، ولكن ما طفا هو "الحالة"، الصورة السياسية لحافظ رجب، التي عاشت قديمًا، في الأوساط الثقافية عندما صرخ بصوته، أو نقلًا عن آخرين، «نحن جيل بلا أساتذة». أما "الشخص الآخر"، شخص الحاضر، ربما نسي أنه كان كاتبًا في أحد الأيام، فخيم على حياته شكل من أشكال الموت المعلن. ربما لم يكن هو هو، فقد حدثت تحولات عديدة، فصمَّت سبيكة نفسه، وشطرتها. كنت أتابع هذه النظرات الزائغة والشاردة التي أراها في صوره المنشورة، والشرود الذي يلفها، لا عرف لمن ينظر، أو يضحك في وجه من؟ كنت أشعر أنه لا ينظر لأحد خارجه، ولكن للشخص الآخر الذي ودعه منذ زمن، الشخص الذي وصل لذروة المنحنى في الكتابة، ثم هبط سريعا، فهذه الذروة، بكل ملابساتها، شكلت مرجعًا له أو "آخر"، ينظر إليه باستمرار، ويوجه له الضحكات أو الطعنات.

(2)

استمرت رحلة التوهج منذ بداية حبه الكتابة في منتصف الخمسينيات، ثم ذهابه للقاهرة للعمل كموظف في أرشيف المجلس الأعلى للفنون والآداب، حتى عودته من القاهرة نهائيًا عام 72. خلال هذه الرحلة كانت هناك رحلة موازية، في الظل، وشديدة الأهمية. بداية من عمله في مطعم والده، ثم استقلاله عنه ووقوفه على "بنكة" لبيع المحمصات أمام سينما استراند، كاشفًا للحياة من هذا المكان الأدنى، ثم بائع جرائد، ثم عمله في مقهى. تخلل حياة الظل هذه، صراعه مع الأب، وزواج مبكر نتجت عنه بنتان، وهو لا زال في السابعة عشر من عمره، ثم انفصاله عن زوجته، وانفصال أبيه عن أمه، وزواجه بأخرى. أي عبث هذا، تجارب عدة حيوات ضغطت في سنين قليلة، وكلها حيوات مذلة، إلا "الموهبة"، هي الوحيدة التي كانت ترفعه لأعلى قمة في نفسه، وينظر من خلالها على الحياة بشغف. لم يمنحه أحد مكافأة إلا الموهبة، التي "جَوْهَرِتْ" حياته، وجعلته يكتب ويكتب، ويكوَّن رابطة أدباء شبان، يكتبون الزجل، من عاملين بؤساء مثله. أي إخلاص هذا، للكتابة، للصحبة، وللمستقبل أيضًا.

(3)

اشتركت في ندوة لتكريم محمد حافظ رجب، عام 1992، أقامها محبوه وأصدقاؤه، في النادي النوبي في الإسكندرية. كنت أريد أن أقترب من صاحب الكرة ورأس الرجل، ومخلوقات براد الشاي المغلي، وأختبر "المسافة" بين عالمه القصصي وحياته، ومدى علاقته بكتابته. حدست أن هناك عالمين متباعدين: حياته وكتابته، وهناك انفصام بينهما، وأنا الذي كنت أبحث عن الاتساق بين الكتابة والحياة. لم يحضر "الأستاذ"، رجع محبوه خائبين من بيته. يومها تحدثت، ربما بما لا يرضي محبيه، أو أصدقاءه. ربما كنت حادًا بعض الشيء، ولكن كنت أريد أن أرى هذه "الظاهرة" التي يشكلها حافظ رجب، عند نقطة الانفصال بين ذروة توهجه، ثم صمته واعتزاله.

ربما لم أسر، كما سار محبوه، وراء نصوصه، كأن لم يحدث شيء، وكأن الموهبة هي هي في كل أحوالها وتحولاتها، حتى ولو دخلت الشرنقة، أو لفها البحران، والتصوف الأخرس، ولم تُلحظ تلك النقطة التي حدث فيها الانفصال بين حياتين، قبل وبعد عودته من القاهرة، وربما قبل ذلك، ولكن صعود الموهبة أخفاها. أحسست أن العامل النفسي، الذي تخفَّى تحت التمرد، وربما "المرض"، الذي لم يعد يتحكم فيه الأديب، كان جزءًا من هذا الصمت، أو البحران العميق الذي كنت ألحظه في صوره.

كتب أخوه السيد حافظ، بعد وفاته أنه أثناء عمله في أرشيف المجلس الأعلى للفنون والآداب، بعد أن سدت الدنيا أبوابها في وجهه، اعتصم في المجلس، وقام برفع الأذان لصلاة الظهر تحت شجرة في حديقة المجلس، وهذا يعني كفره باليسار، الذي كان صيغة التمرد الوحيدة، والمؤسسية. يومها أعلن يوسف السباعي أن الرجل أصابته حالة نفسية شديدة، ولابد من دخوله المستشفى، وقد كان، كبداية للعلاج النفسي.

(4)

كنت أبحث عن حلقة مفقودة في حياته، بين ما هو عليه الآن من صمت مطبق، وبين جموح كتاباته الأولى. هل جموح الإبداع أدى للصمت؟ كأنه حالة صوفية، وربما كان الكثيرون يفسرونها كذلك. كنت أميل لتفسير الفجوة بالمرض النفسي، أو عدم الاتساق. ربما الكتابة نوع من السيطرة على المرض النفسي، وتمنحنا القدرة على العيش بجواره. بمعنى أن المرض النفسي ليس إدانة لحافظ رجب، بل جزءًا من لعبة الكتابة. فطبيعة الكتابة التي كان يكتبها، كما أحدس، هي أحد أسباب ما وصل إليه من صمت، بمعنى أن حس الاغتراب في مجموعاته القصصية الأولى، ربما تحقق فيها من موهبته، ومنحته نشوة الخلق، ولكن أيضا غرَّبته عن عالمه الحميم، أو حجَّمت هذا العالم في قالب، بالرغم من أن أبطاله كانوا جزءًا من عالمه هذا، ولكن كيف كان ينظر إليهم؟

التغريب والحس السوريالي أو العبثي الذي يستخدمه، كان مفارقًا تمامًا لعالمه الحقيقي ولأبطاله الحقيقيين، ولا عيب في هذا، فالمفارقة جزء من لعبة الفن، الذي يأتي لتقريب هذه المفارقة أو لِئم التناقض. كان عنده رغبة، أو أمل باطني، في توحيد العالمين، الداخلي والخارجي، ولكن ربما اتسعت الفجوة في التجريب، حتى تفارقّ العالمان، بدون لِئم لهما. فالانفصام انتقل أيضا لعالمه القصصي، بعد أن كان يخيم على حياته. فالغربة عن الواقع، تتحول مع الوقت إلى غربة عن الذات نفسها كما، يشير الدكتور سيد حامد النساج في قراءته عن حافظ رجب "يتضخم الإحساس بالغربة، ويتحول إلى غربة عن الذات".

ربما كانت طفولته لها من القسوة أو التشتت، بحيث لم تقدر "الموهبة " وحدها، على التمسك بعائلتها المنهارة أو السلطوية، أو الأب السلطوي، أو الأحلام، فتقاطعت "الموهبة" وطلقت مجتمعها، وسارت بمفردها عارية لا تقدر على الاستمرار، والمقاومة. ربما الموهبة فكرة فردية بحتة. هناك مجتمع للموهبة قريب منها، هو موضوعها، وهو المكان الذي ترعرعت فيه. ليس معنى هذا أن مجتمع الموهبة هو الحياة الشخصية المباشرة، فهي ليست سيرة ذاتية، ولكنه مجتمع أحلام الطفولة وسلالاتها الفكرية المتولدة منها.

(5)

داخل الندوة، سالفة الذكر، تحيرت من هذا التشيَّع لشخص وأدب حافظ رجب، وهذه الكتلة المتماسكة من المشاعر، التي لا ينفد منها شيء. فسرت هذا الموقف، بأن الصمت ربما هو الذي صنع الهالات من حوله، وأيضا الروابط النفسية التي تربطه بالمتشيعين له، هي نفسها الروابط النفسية التي صنعت التجاهل له. الصمت واعتزال الحياة، كانا هما الأب الذي قام بقتله قديمًا في قصصه، كما ذكر الدكتور صبري حافظ في مقدمته عن القصة القصيرة، بُعث في جسده مرة أخرى وتربع، وأصبح يمارس سلطة بهذا الصمت الذي لا يد له فيه.

ربما ما كان ما يختلج داخله كبير، لا يقدر على البوح به، كما ذكر هو أكثر من مرة أن "المأساة هي المأساة"، أو شيئًا من هذا القبيل. كان يمكن أن يمر صمته، ولكن الواقع المسيس هو الذي منح هذا الصمت، هذا الحس الأبوي النهائي، الذي لا راد له، ويجب أن يخضع الجميع تحت سلطته، ولا يتم التمرد عليه. العزلة والصمت من أقوى الآباء الآن.

(6)

موهبة حافظ رجب، بعد أن كانت مصدر اعتزاز شخصي له، بدأت تدخل سوق التصنيف العشوائي والتنافسي، وتُقارن بغيرها، وتُثمن أو تبُخس، أي كان، ولكنه أصبح أسيرًا لوظيفة "الكاتب"، بدون صبر "الموظف" ودأبه وجلده. حجمت وظيفته ككاتب، معترف به، أو كموظف في أرشيف مجلس الفنون، من حرارة الحياة وأصابت الموهبة، بعد أن كانت المحركة لها. ربما زميل له هو إبراهيم أصلان، تعامل مع موهبته، التي خرجت من تفاصيل عالمه، بما يليق، لم يغترب عنها إلا بالمسافة التي منحتها له من السخرية الشجية، التي اخترعها لمعالجة عالمه، وتحويله إلى أدب. ربما أصلان كان زاهدا في وظيفة الكاتب، أو درجته في السلم الوظيفي لمؤسسة القصة القصيرة. هذا الزهد، أو الذكاء الفطري، جنَّبه صراع الصعود والترقي، فعاشت موهبته على "قدها"، ولم تدخل في دورة استهلاك قاتلة، بل توسعت وهو يكبر معها، لا أحد منهما، هو وموهبته، أعلى من الآخر. لذا حررته الموهبة من مفهوم "الوظيفة"، أو من صراعها في بلوغ الذروة، التي كان حافظ رجب يريد أن يبلغها في القصة القصيرة، في أن يقف أعلى جبل القصة، أو أعلى سلمها الوظيفي.

لم يتعال أصلان على الطبقة الاجتماعية التي أتى منها، ساح أفقيا مع مفرداتها ورموزها، وحولها إلى طبقة وجودية مغروسة في الحياة الإنسانية، واختفى بؤسها وسط السخرية والنكتة والمفارقة، أما رجب فقد تعالى على الطبقة، لأنه لا يقدر إلا أن يتعالى، لأنه يريد أن يحلق، يجلس في أعلى مكان، ليرد إهانة الزمان، فغرَّبها، ووقف فوق الهواء منفصلًا تمامًا عنها، بالرغم من أنها وأبطالها جزء من عالمه الأصلي. ربما تكون جملة أصلان الإنسانية موحدة، أو غير متنوعة، وعالمه كذلك، ولكنه بلا شك هو عالم عميق، وسخريته الشجية هي الجزء التغريبي فيه، المسافة اللازمة للفحص وللحب معًا.

(7)

لم أشك يومًا في موهبة ولا تفرد ولا كفاح حافظ رجب، ولكن هذه الموهبة وهذا التفرد تم تسويقهما من خلال طرائق التسويق في المجتمع الثقافي والأدبي المؤسسي في الستينيات، المليء بالإحباط، والتنافس، والريادة، وأيضًا تسويقهما، الموهبة والتفرد، من طرف صاحبهما، بدون أن يقصد، عن طريق العزلة والصمت، ولذا سارا، الموهبة والتفرد، في مسارات تبعد عن النقطة الأصلية التي حدث فيها الانفصال بين المبدع وموهبته، وتدخل بينهما المجتمع بظلمه وفقر خياله، وجماعاته الأدبية المسيسة والتنافسية. وأيضا تدخل المبدع بظلمه لنفسه، وبهشاشته، وبيأسه السريع. هناك نقطة تقاطع لم تُرَ، وتم نسيانها، وظل التجاذب حول نقاط خارجية يتم النقاش حولها عند ذكر اسم حافظ رجب: إما كونه أضحية، أو مجنونًا.

(8)

ثم جاء الموت المنتظر منذ عقود. ليطفو اسم حافظ رجب من جديد. الموت، المضمر والحقيقي، كشف التراب عن العبقرية التي كانت متماسة من قبل مع الجنون. ولكن لماذا تحتاج العبقرية، إذا صدقناها، للموت كي تظهر؟ هل هي جزء من الموت، لأنها صامتة، أو شفافة لدرجة أنها لا ترى؟ هل هي سليلة الموت بوصفها ومضة سريعة الانطفاء زمنيًا ومكانيًا؟ لا أعرف. ولكن الكثيرين ممن يقفون في صفه، يشعرون ببعض الذنب تجاهه، وربما داخل هذا الشعور أنهم يحيون فداءه لهم كونه، أضحية، ردت لهم اعتبارهم أمام الصلب البطريركي المجاني.

حتى مصطلح "العبقرية"، الذي تردد حوله، كان وقفًا على "الستينيات" وما قبلها، حيث كانت هناك ذروة تتصاعد مع تصاعد المد الاشتراكي، فكان هناك احتفاء في الفنون، يوازي هذا التصاعد للذروة السياسية أو "البطل السياسي"، وهي الفترة التي كان فيها "التمايز" متاحًا للجميع، من أقصى اليمين لأقصى اليسار، من ثروت أباظة حتى ميخائيل رومان، وغيرهما.

(9)

عند ذيوع نبأ وفاته تحدث الكثيرون بالإدانة، بالرغم من اختفاء كل المعاصرين له والسبب في ما حدث له. أستغرب أن جريمة التجاهل لازالت حية، بالرغم من موت كل أطرافها وشهودها. هل يظل الاتهام عالقا؟ ربما تكون الإجابة أن هناك ظلم ما، وهذا الظلم يصاغ تبعًا لمن يصوغه، ويسقطه تبعًا لمن ينب عنه، وبالتالي هناك هارب دائم من العدالة، لذا يتجدد الاتهام، ولكن بدون أي عقاب، تجديد الاتهام حتى لا ننسى، أو أن هذا الاتهام أو الإدانة هو التكريم الأخير لصاحبه، تحية الوداع الأخيرة. الإدانة، كأداة، حاضرة بأثر رجعي، بعد أن تبنتها وتوراثتها أجيال جديدة، ليحافظوا على العهد، وعلى أحد أداءات المجتمع المصري، بشكل عام، فالجريمة لازالت طازجة، وفي كل وقت ستجد من يوجه الإدانة ويحيي الأضحية.

(10)

أغلب الحوارات التي أجريت مع حافظ رجب، في عقود الصمت والعزلة، كانت تدور حول الماضي، وليس عن إنتاجه ولا أفكاره عن القصة في الحاضر. حوارات كلها جروح وندوب سببها الأدباء من زملائه، الغش والاقتباس والتقليد، توارد أسماء ومواقف، يوسف إدريس، نجيب محفوظ، ضياء الشرقاوي، أصلان، يوسف السباعي، سيد خميس، يحيى الطاهر، وغيرهم. أما البطل الحقيقي لهذه الحوارات أو الفضفضة، فهو الله، ومن بعده القرآن، والاستغفار والصلاة، كأن الزمن توقف، ولم يدخل جديد سوى الله.

حوارات غامضة، تؤكد أكثر لحظة الماضي التي أبدع فيه وانتهت بالمأساة، الماضي الذي تكوّن فيه "السر"، أو "سر الأسرار"، كما يصفه في حواره مع الكاتب على عوض الله كرار، الذي سأله عن سبب تركه للقاهرة، وعودته للإسكندرية، ونشر في جريدة الدستور بعد وفاته. وربما لعدم قدرته على مواجهة هذا "السر"، او الانسحاق أمامه، كما انسحق سابقًا أمام الأب، أو ربما لطبيعة "السر" نفسه.

البطل في حاضره بجانب الله، هو "السر" الذي يفسر صمته وحالته. وقال إنه يفضى به فقط إلى الله في صلاته. وحديثه أن هناك شيئًا توقف في مرور الزمن وأن "المأساة هي المأساة". ربما إحساسه بتوقف الزمن، بسبب أن مقياس الزمن في الستينيات كان سريعًا، الواقع الأدبي كان يلهث وراء الجديد والتجديد، والتمرد على الأشكال.

ورجوع للإسكندرية عام 72، كان به انكسار، لأن ذهابه كان به انتصار، أي كان، يحلق متفردًا بقصصه، وبحدسه وموهبته، ولما صدم فيها، انكسر هذا الطائر، وعاد لم يجد سوى الدين كمدخل لتمرده، وهناك داخل الدين والتدين صاغ هذا "السر"، الذي لم يبح به لأحد، أي كان هذا السر، فقد كان يكبر ويكبر، ويأخذ مساحة من موهبته، ويأكل مساحة من أمله في الحياة، ومن تمرده، وأيضا من إيمانه نفسه. عندما قال مفسرًا وحدة الزمن منذ عودته من القاهرة، وحتى سؤاله عن وضعه الحالي "المأساة هي المأساة"، ليس صوت الإنسان هنا الذي يتكلم، ولكنه صوت ابن الإنسان.

(11)

الموت يعيد الفرد للمجتمع، بعد أن كان خارجًا عنه. علاقة مباشرة كعلاقة بجسد الأم، لأن الذات الفردية لازالت جزءًا من هذا الجسد المجتمعي، ولا تظهر قوة الرابطة إلا في الموت. أيضًا رغبة التفرد الشديد، عند محمد حافظ رجب، وآخرين، في حياتهم؛ ربما سببها، بجانب فرادة إبداعهم وموهبتهم، هذه الجماعة أيضًا، فهي رغبة تمايز جماعية مقنعة في صورة فرد، يعاد "نموذج البطل"، بأشكاله الستينية، بالرغم من أن سبب نشوء هذه الرغبة الفردية كان هروبًا من الجماعة بمفهومها الأبوي.

سيحان الوسط الأدبي، وموت الأب بداخله، سبب مثل هذه الأنواع من الانفلاتات، أي فرد يمكن أن يتوهم النبوة في القصة أو الرواية أو الشعر، لأنه وسط سائب لا صاحب له، وغير علمي، ولا تحكمه علاقات واضحة، أو قواعد مهنية، لذا يمكن أن ينمي داخله أرواحًا متفردة سريعة الاشتعال، وسريعة الانطفاء. الفرد، داخل هذا المجتمع، مشحون بالجماعة، لدرجة أن يعلن عبقريته، أو تعاليه عليها، واستقلاله عنها، ويقتطع نفسه بألم وعذاب من جسدها، ليعلن صيحة تمرده، لا لشيء سوى أن يحافظ على شكل اتصاله بها بهذا الانفصال المؤلم.

(12)

يذكر أصلان في كتابه خلوة الغلبان، في الفصل المخصص عن علاقته بحافظ رجب، أنه تم تسويقه واستهلاكه أيضًا من المجتمع السياسي/ الثقافي في تلك الفترة، هناك لقاءات تليفزيونية تجرى معه، ومقالات صحفية تكتب عنه، بسبب كونه المثقف والكاتب الذي يبيع اللب. أي مفارقة حياته ومأساته، كانت سببا في شهرته، بجانب موهبته، وربما أكثر، في السوق الثقافي في الستينيات. عمله كبائع للب والمحمصات، كان جزءًا من هذا الشيء الخارق الذي قام به حافظ رجب. صورة كلها متناقضات تتنازع مع بعضها: فقر الواقع مع بذخ الخيال الجامح. "الفقر الثري" صنع صورته السالبة، وصنع أسطورته، التي كان يبحث عنها الكثيرون ليحتموا بها، فقد كان هو يقف في الأمام، لأنه لم يعرف أنه في الأمام، لقد تكسرت أسطورته، وليست كتابته، مبكرًا عندما عاد ورفض الخروج، بينما ظلت أسطورة الآخر في الظل، تعمل وتكبر وسط أجيال عديدة، ربما سنحتاج أن نرى أعماله بعيدًا عن صورته المسيطرة وتجاذبات الأجيال والشلل. وربما عندها يستعيد حقًا، لتلك السنوات الأولى قبل اعتزاله، التي كانت تمثل سنوات الإنجاز في تاريخ القصة، ولكن يبقى السؤال كيف كان يمكن تقييمه بدون أي افتعال في واقع مفتعل ينتهز فرصة السقوط ليبني فوقها أضحية؟

(13)

يحكي إبراهيم أصلان في فصله عن حافظ رجب"أنت. . يا من هناك"، أنه كان يشعر بالملاحقة وانتابته حالة نفسية، وجاءت نصيحة أصلان له باستمراره في الكتابة من أجل استعادة التوازن. ويصف أصلان مشهد التعارف بينهما: كان أصلان يجلس فيه مع القاص ضياء الشرقاوي، صديق حافظ رجب، ودخل عليهما حافظ رجب وهو يتأبط حزمة من الأوراق. رحب هذا القادم بضياء الشرقاوي، ولم يلتفت لأصلان. ثم بادر ضياء المؤمن بالواقعية الاشتراكية في الفن "أنتم لسه بتكتبوا القصص الواقعية بتاعتكم دي"، فقال له ضياء نعم، فأردف حافظ رجب "ده إحنا خلاص، عملنا مدرسة جديدة في القصة"، ويكمل أصلان الوصف "ورفع ذراعه الخالية إلى أعلى وقال: ودلوقتي قاعدين فوق، وعمالين نطرطر عليكم، أنتم قاعدين تحت".

هذه إحدى الصور التي جعلته يرى نفسه عاليًا، أو محلقًا فوق الجميع، وصورة أخرى عندما أقام آذان الظهر تحت شجرة في حديقة مجلس الفنون والآداب. في الصورتين المجازيتين، هناك مكان عال متفرد، سواء في الفن، أو في الدين، يتبوؤه صاحب "السر".

عن (المنصة)