منذ اللحظة الأولى ينبهنا صوت «ليلى» -العاملة بمقهى ليلى، المطلقة والأم لطفلة- أن هذه قصة عن الأمل، وتكشف عما تواجهه النساء في هذه المنطقة من العالم. بلغة متقشفة منضبطة بصرامة يعرى النص بسخرية مريرة، واقع مأساوي يفتقد إلى أي أمل في النجاة منه.

الانتظار

هـدى الشماسي

 

هذه قصة عن الأمل.

جاءت ليلى للعمل في المقهى منذ سنتين، وطوال كل ذلك الوقت كانت تنتظر.

إن الباب كبير، ومنه يدخل أشخاص كثيرون في أوقات مختلفة، خاصة بالليل، حين تبدأ مناوبتها ويهجم "القطيع".

هذه التسمية من ابتكار زميلتها في الواقع. قالت لها في أول يوم: كم سيفرحون بك!

وفكرت ليلى بأنها تسخر منها، ولكن العكس تبين سريعا. همس لها أول زبون تقدم له القهوة: جميلة ما شاء الله.

ما دخل مشيئة الله؟ أما الآخرون فقد دفعوا لها بقشيشا يفوق ثمن ما استهلكوه، ودسوا أحيانا أرقام هواتفهم في جيب مريلتها.

إن المرء يستطيع أن يعتاد كل شيء. عدت المال الذي حصلت عليه في الصباح حين عادت لغرفتها المكتراة وتفاجأت كثيرا. وقفت على قدميها وتمشت يمينا ويسارا وهي تتمنى أن لا تدوس صرصارا في الظلام. همست لنفسها: ها نحن نبدأ.

ولكنها لم تعرف ما كانت بصدد بدءه على وجه التحديد.قال لها زبون يلعب بمفتاح سيارته طوال الوقت: أوصلك أينما تشائين وقتما تشائين، وغمزها بعينه دون أن يبتسم.

زميلتها قالت لها وهما تغادران: بالنسبة لذلك الأصلع، ابتعدي عنه.

فأجابتها هي ببراءة: لم؟

-إذن فأنت تريدينه. آسفة يا روحي إنه لي.

وهذه تفاصيل أكثر مما يجب لليلة واحدة، ولكن ليال كثيرة حلت، وتعودت على كل شيء.

إن هذه كما قلنا قصة عن الأمل، ولذلك فلنركز على موضوعنا: لقد كانت ليلى تنتظر الحب.

إن السخرية منها ستفطر قلبها طبعا. تقف في مقهى ليلي ببلدة صغيرة وتتوقع أن يأتي كل يوم. تقول لنفسها أنها ستعرفه حال دخوله، وهو سيعرفها أيضا، وسيقترب منها ويفعل كما في الأفلام.

اشترت جهاز تلفاز مستعمل ما إن استطاعت، وشاهدت أفلاما مترجمة. يقف البطل بباب البطلة ويقول لها: أنا أحتاجك، ولكنها تصده: لقد فات الأوان.

إنها بلهاء تقريبا، أما ليلى فلن تفوت حبها أبدا، ويبقى عليه فقط أن يظهر في حياتها.

ابنتها قالت لها على الهاتف: أنا لا أحب المدرسة، فأجابتها دون تفكير: وأنا لا أحبها، فوبختها والدتها على الفور: هل تسمين نفسك أما؟

حسنا لا، إنها ليست أما، ولكنها تحب الطفلة، وحين يظهر حب حياتها سيحبها هو أيضا ويصبح والدها، أما الآخر فإلى الجحيم، أو إلى أي مكان لا تدخله هي.

في الأفلام يقولون هكذا:إلى الجحيم! ذهبت ليلى إلى الجحيم ذات مرة وقضت به خمس سنوات، وحين خرجت تمسك بها.

-والطفلة؟

-الطفلة ابنتي.

-ابنتي أنا أيضا.

وهذا حديث لا طائل منه، فهم لا يستطيعون اقتسامها مثلا، وعدا ذلك فهو يريدها هي.

-أنا رجلك الوحيد يا ليلى.

لنأمل أنه مخطئ. قطعت المسافة من مدينتها إلى هذه البلدة النائية بسبب نصيحة صديقة لها: في ذلك المكان يركضون وراء النساء كالكلاب.

إن الكلاب قد تعض أحيانا. قررت ليلى قبل مجيئها أن لا يعضها أحد. قبلت ابنتها وهي نائمة واحتضنت أمها وهي تبكي.

-ستكونين بخير.

-سأكون بخير.

وفي الحافلة تقيأت مرتين، وبكت أيضا ثم نامت نوما متقلبا حتى وصولها. رأت حلما تتشاجر فيه مع زوجها السابق. قال لها: أنت مرحاض جيد، فاستيقظت لترى أضواء البلدة حيث وصولوا أخيرا، لكنها كانت مشوشة.

علقت الكلمة برأسها كبصقة. لقد غادرتهُ وبقي أن تغادرها كلماته. دعت الله في سرها: لا أريد أن أظل مرحاضا للأبد يا إلهي، وأحست حينها أن خطواتها مباركة.

لزمتها هذه البركة دائما، أو أنه شعور البركة. أرسلت المال بانتظام لوالدتها وعاشت على أقل ما تستطيع. نبهتها زميلتها أحيانا إلى ضرورة شراء ملابس لنفسها ولكنها لم تهتم، فقد كانت ابنتها تنجح دائما، وكان هذا كل ما يهمها عدا انتظار الحب.

كيف يمر الوقت بالنسبة للأشخاص الذين ينتظرون؟

إن هذا يتوقف على ما تنتظره، وبالنسبة لها هي فقد كان يركض، ويتكدس وراءها على نحو مؤسف: شهران وأنا هنا، ثمانية أشهر ولم أقابل سوى حيوانات، سنة وظهرت شعرة بيضاء في رأسي، سنتان ولم يظهر الحب.

ولكنها قصة عن الأمل. اعتنت بجمالها دائما وحرصت على أن لا تبدو مبتذلة، لا طلاء أظافر مبهرج، ولا أحمر شفاه غامق، والزبائن يكادون يكرهونها يوما بعد يوم.

قال لها أحد السيئين ذات مرة: تفهمين أنك مجرد نادلة على الأقل.

وكان هناك من شتمها بشكل أكثر وضوحا، ولكن كل شيء يمر. قالت لها زميلتها: لا تفكري بأن يحبك أحد هنا.

فأجابتها هي: وأين سيحبونني إذن، وحركت الأخرى كتفيها دون اهتمام.

 إن الوقت يمر. تتصل بها والدتها وتقول لها أن طليقها يبحث عنها. شرب خمرا وجاء يصرخ في الحي بأنهم أخذوا منه زوجته.

-طليقته.

-لم أكن لأخرج حتى أصحح له كلماته يا ابنتي.

والشتائم والصراخ ثم الاعتذار والبكاء. إن ذاكرتها تعج بالكثير من هذا، وهي لا تصدق أصلا كيف تخلصت منه. تراه في أحلامها أحيانا، يتودد إليها أو يبصق ويشتم، ويحرك في قلبها نفس الشعور الثقيل الحارق.

بدا لها في أحد أحلامها كشرطي مرور، وكانت هي ويا للعجب تقود سيارة. أوقفها وقال لها بجدية: بطيئة كثيرا. أسرعي ودوسي كل هؤلاء.

ولكن هذا أمر طبيعي في أحلام الناس الذين يرهنون حياتهم بالانتظار. تقف وراء المشرب وتعاود التحديق بالباب للمرة الألف. يقول لها جزء سيء من نفسها: لم يظهر خلال سنتين، ولن يظهر الآن أيضا.

فتغمض عينيها بحسرة، ثم تفتحهما على الباب الكبير حيث يظهر فجأة طليقها.

 

*كاتبة من المغرب