يدعو الباحث المغربي إلى أهمية الاهتمام بالفلسفة كمعرفة نقدية، وكأفق فكري مُقاوِم لابد أن يعتمد سلطة العقل كمنارة بعيدة المدى، تسعى لبناء ما هو إنساني في الإنسان، اعتمادا على مبحث القيم وتحقيقا للعيش المشترك في ظل سيادة شروط الاختلاف، كمطلب عقلاني طالما حلم به الإنسان منذ أقدم العصور.

الفلسفة والحق في العيش المشترك

محمد بقـوح

 

لعل البعد العقلاني للفلسفة، غالبا ما يفهم وفق طبيعة المجتمع القائم الذي مورست وأنتجت فيه مفاهيمها، من حيث مستواه العلمي ونخبه السياسية والثقافية، وكذلك من حيث منسوب الجرأة الفكرية والأخلاقية لفلاسفته. لهذا، فالحكم على فلسفة ما بكونها عقلانية، رهين بانشغالها اليومي الدائم بالبحث الفكري المحض والمنهجي الصارم في مشكلات العيش المشترك للمواطن بالمجتمع الديمقراطي، عن قرب، أينما كان وحيثما وجد، باعتبار أن قضية العيش اليومي المشترك باتت إحدى القضايا الأساسية التي تحظى باهتمام الفكر النظري الإنساني المعاصر، في ظروف مجتمعية عالمية صعبة، مشحونة بمنطق الفرض والاستهلاك والعنف والعنف المضاد، بجميع أنواعه و أشكاله.

لهذا، يبقى السؤال الفلسفي النقدي المقاوم، الذي يركز على الهدم الناعم للفكر الظلامي وثقافة العنف والعدمية، من جهة، والتأسيس البديل، من جهة أخرى، لثقافة الحوار ومنطق السلم العام والاحترام المتبادل بين الأفراد والشعوب، عملا بمبدأ الحق في العيش المشترك بين الناس، مهما كانت طباعهم الفردية واختلافاتهم الجماعية، سواء بجغرافيتهم الضيقة التي تعني دائرة المدينة والوطن، أو بجغرافيتهم الواسعة المعنى المرتبطة بكونية الحياة البشرية المنفتحة على أرضنا الخضراء.

غير أن مسألة الحق في التفكير العقلاني الذي يهدف إلى بناء الإنسان الإيجابي النافع لنفسه ولمجتمعه، لا يمكن تحقيقها كواقع عملي إلا في ظل وجود شرطها الأساسي المتمثل في تبني السياسات العمومية المنصفة والعادلة اجتماعيا، من قبل السلطة السائدة المدبرة للشأن العام، المحلي والوطني، وخاصة الدولة التي تحرص على الاجتهاد في اتجاه التلويح بخطاب النهج الديمقراطي كأهم ركائزها الأساسية، باعتبار أن الدولة هي المؤهلة سياسيا وعمليا للنهوض بالمجتمع و الارتقاء بالإنسان نحو الأفضل باستمرار.

لهذا، فالحق في العيش المشترك يعني هنا الحلم بواقع إنساني مُقاوِم ضدّ فكر المُهادنة، يسوده فكر الانفتاح على الاختلاف والتعاون والسلم والتآخي، ونبذ ثقافة التقسيم والميز والكراهية والتعصّب والإقصاء المنهجي. ولن يتحقق ذلك كله إلا بالتنزيل العملي للثقافة التشاركية، بدءا بالتركيز السياسي على دمقرطة التعليم، وإشاعة الكتاب المعرفي القيم ونبذ فكر التفاهة، وتشجيع الابداع بكل أنواعه وتجلياته، تحقيقا للمواطن الإيجابي المبدع، والإنساني المنفتح على الآخر المختلف.

هكذا، يعني لنا الكلام عن التحديث والتقدم والديمقراطية والتنمية مجرد شعارات فارغة، بدون تنزيلها كواقع قاعدي، وعيش عام مشترك بين جميع فئات المجتمع بغض النظر عن اختلافاتهم، يكون رهانه الأساسي هو التفكير الجدي المسئول من قبل جهاز سلطة الدولة وحليفها الاجتماعي الطبقي المهيمنان، هو إصلاح التعليم والتكوين والبحث العلمي إصلاحا جذريا حقيقيا، تتحكم فيه نزعة التخلص من عقدة الماضي، وتجديد عقد القران السيكولوجي الجديد مع الشعب، يكون عنوانه الرئيسي هو المصالحة مع الذات الجماعية، بحيث يكون المصير المشترك للطرفين معا بمثابة المرآة الناصعة للواقع الحيّ المشترك، في مجتمع مغربي يعيش المخاض ويمر بتحولات كبرى، كما أنه بات يؤمن بمسئوليته التاريخية العظمى أمام التزامه القوي بثقافة الحق والواجب.

إنه الوضع الاجتماعي الممكن الذي يسعى من خلاله المغرب الديموقراطي المنشود تأسيس أفقه التاريخي والحضاري بجدلية فكر التنوير والتأصيل المقاومين. وهو الوضع البشري الذي يجعلنا كمغاربة في أمس الحاجة اليوم، قبل الغد، ليس لتبرير واقع الحيف والاستهلاك المجاني وترويض الكائن الذي يضر بالجميع، ويجعل الكل يعيش شبح السقوط، بل لمساءلة واقع السلطة المُهيمِنة على المجتمع، من حيث علاقتها بآليات التدبير الحكومي للشأن العام، ومن، تمّ التأسيس السياسي لواقع عملي أكثر وعيا بالمسألة الاجتماعية والحقوقية في مغرب الغد، حيث يكون المواطن(ة) أكثر فعالية ونفعا وإدماجا في حركية تحولات مجتمعه الراهنة والمستقبلية.

من هنا، فمسألة الحق في العيش المشترك في ظل سيادة شروط الاختلاف، مطلب عقلاني طالما حلم به الإنسان منذ أقدم العصور، ولا يزال يعتبر تحديا كبيرا لكل المجتمعات، أينما كانت وحيثما وجدت..

هكذا، نلاحظ أن أهمية الفلسفة كمعرفة نقدية، وكأفق فكري مُقاوِم لابد أن يعتمد سلطة العقل كمنارة بعيدة المدى، تسعى لبناء ما هو إنساني في الإنسان، اعتمادا على مبحث القيم الذي صارت له جاذبيته التربوية، وقوته السلوكية الراهنية أكثر من أية مباحث أخرى.