تتقصى الباحثة العراقية هنا مسألة الهوية وتعقيداتها، باعتبارها رديف الكينونة، في الرواية العربية وكيف أن الازدواج هو السمة الثقافية التي بها تجتمع بها الأبعاد الذاتية النفسية والاجتماعية والسلوكية لكي تعبر عن كينونته الإنسانية: سواء أكان ذلك الازدواج تعددا أوتمركزا أو مقاومة أو تطامنا أو اختلافا.

ازدواج الهوية في الرواية العابرة للأجناس

نادية هناوي

 

ليس يسيرا الوقوف على كنه الهوية ومعرفة ماهيتها من دون تحديد المواضعات التي بها تتقولب الكينونة الآدمية مشكلة هذا الكيان الإنساني الذي تطور على مر التاريخ فمرَّ أولا بمرحلة الفطرة والبراءة ثم تلتها مرحلة التوحش والبوهيمية وبعدها مراحل عدة من التحضر والمدنية التي لن تنتهي إلا باستعادة الإنسانية لفضائلها التي جبلت عليها في أصل وجودها الأول. وأهم المقتضيات التي حققت للإنسان كينونته على تنافر السمات وتباين التوجهات نزول الرسالات السماوية وما سبقها أو رافقها أو استتبعها من أديان وضعية تتجاذب في كثير من معتقداتها مع الكتب السماوية وتدعو إلى فضائل فيها خير البشرية.

وبالرغم من ذلك ظلت الكينونة ومحتواها الهوية موضع تفكر وتدبر في الكون والوجود، أساسه العقل الذي عماده الاحتجاج والتأويل فكانت الفلسفة هي الواضعة لأساسات العلم والممهدة فكرياً لمختلف حقول المعرفة بالعموم. وما كان للتطورات التي طرأت على هذا الحقل المعرفي أن تكون لولا شعور الإنسان أنه لم يقف بعد على كنه حقيقته وحقيقة الوجود من حوله. فتعددت فروع الفلسفة وتنوعت مدارسها وتياراتها بحثا عن كينونة الذات في حيز وجودها الزماني والمكاني وانضمام هذا الحيز في فضاء كوني وما بعد كوني أوسع وأكبر.

ولكل ذات كينونتها التي فيها تتجلى هويتها، ولا هوية من دون كينونة تعبر بها الذات عن صفاتها خيرا أو شرا أو ما بينهما. ولا حدود في مديات التفكير البشري، لذا استنهض الفيلسوف مخيلته في إدراك الوجود جنباً إلى جنب استحثاث قدراته العقلية المنطقية، فكان الفن على طول تاريخه ذا علاقة وثقى بالفلسفة التي أولته اهتمامها فكان يمتثل لتوجهاتها حينا وتفيد هي منه أحيانا أخر، مُعينا إياها على التوصل إلى بعض مراميها وقد يساعدها في حل إشكاليات بحثها عن الجمال والأخلاق والحقيقة وغيرها.

وقد لا نجانب الصواب إذا قلنا إن هذه الإعانة التي قدمها الفن للفلسفة هي الدلالة الأكيدة على أن الفنون ومنها الأدب هي سابقة في وجودها الفلسفة بحقب مديدة. فالفن لصيق الإنسان منذ أن وجد على الأرض، مارسه لا شعوريا ثم حاكاه شعوريا، ليكون ذلك الذي أنشد لا وعيا أو حكى خبرا أو رسم شكلا أو صنع تمثالا أو حاكى مشهدا أو طرب بنغم أو ابتكر شيئا هو المبدع الأول الذي منه أفاد الفيلسوف الأول في أسكتناه ما هو معقول ولا معقول.

ومن يبحث في تاريخ الفلسفة سيجد أن الفلاسفة الأوائل أفادوا من الفن والأدب وما فيهما من تخييل، لتكون الفلسفة هي المنبع الذي منه انبثقت فروع المعرفة كلها واستقت قواعدها وبنت أساساتها العقلية التي هي في أصول تكونها فنية عفوية تكمن في حركة أو لون أو كلمة تعبر عن الإنسان ووجوده ووجود الموجودات من حوله.

ولا عجب أن يكون بعض المبدعين قد ارتقى بإبداعه فصار حكيما ثم ارتقى بحكمته فصار فيلسوفا ليشكل مع آخرين مثله جماعات اتخذت شكل صفوف ثم مدارس، نقل لنا التاريخ بعض أسمائها كالمدرسة الرواقية والمدرسة السفسطائية وغيرهما من المدارس التي استطاعت التوصل إلى رؤى تشكلت فيما بعد أولى النظريات الفلسفية ومنها نظرية المحاكاة عند  أفلاطون وأرسطو وأفلوطين وأوغسطين ولونجينوس وهوراس ثم نظريات التعبير والخلق والانعكاس والنظريات النفسية والاجتماعية والثقافية وغيرها كثير.

وبالرغم من التاريخ السحيق للفلسفة إدراكا ووعيا؛ إلا إن الفلسفة ما زالت تبحث عن الحقيقة مجسدة أولا في الإنسان وهو يبحث عن هويته، ومتمثلة آخرا في كنه الكون وصلة الإنسان الوطيدة به. ومثلما أنّ الفن هو المرتع الذي منه نمت بذرة التفكر فكانت شجرة الفلسفة، كذلك سيظل الفن هو النبع الوافر الذي يمد الفلسفة بالنمو، زاجا في أحضانها بالإشكاليات الفلسفية حول الذات والانا والكينونة وغيرها من القضايا التي لم يزل الجدل حولها غير محسوم بعد. وما دام التشكيك متسرب إلى مختلف تحصيلاتها، فان لا مجال لبلوغ النهاية في ما هو متفكر فيه كمناهج وأساليب نظر. وبالرغم مما حصل للبشرية من نقلات معرفية مهمة وخطيرة بالثورات المعرفية العلمية والعولمية وما بعدها؛ فان إشكالية الكينونة والهوية تظل أهم التحديات الفكرية التي تغوي الفيلسوف والروائي وتدفعهما إلى التفكر والإبداع تأثراً بما وصلت إليه حياتنا المعاصرة من تطورات تكنولوجية.

ولئن كانت الرواية بوصفها جنسا أدبيا يتخذ من السرد أداة بها يسبر الوجود وما قبله وما بعده، يغدو أمر تعاملها الجمالي مع ثيمات ثقافية ومنها ثيمة الهوية بمثابة باب يفتح للفلسفة طريقا باتجاه المزيد من المسائل التي لا تتحدى مناهجها بقدر ما تحفز فيها إمكانات التفكر حفراً وتنقيباً باتجاه وضع إجابات حتى لو كانت مبدئية لأسئلة شائكة وجوهرية. وفي مقدمة تلك الأسئلة: هل الهوية تطابقية في تعاضدها مع الأنا أم هي اختلافية ؟ وإذا كانت الهوية هي الأنا فكيف تتشكل كينونتها ؟ وما دور الوعي في تكوين ماهيتها ؟ وما علاقتها بالوجود ؟ أ هي علاقة تقاطع وتضاد أم علاقة توافق وإتمام ؟ وما أسباب الإخفاق في الإمساك بكنه الكينونة ؟ أ هو الإنسان نفسه أم الوجود أم الأمر كامن فيما بينهما ؟!

لقد بحث الفلاسفة على مر التاريخ في كل هذه المسائل وتنوعت إجاباتهم حولها، لكنها لم تبلغ إلى اليوم مرحلة الجزم والقطع بناجزية أو تكاملية ما توصل إليه أولئك الفلاسفة. ولا خلاف أن المعرفة هي دائما في حالة سيرورة والفلسفة مرتع المعرفة وأس حقولها واستمرار التقدم المعرفي يعني بقاء احتمال تنوع المعرفة وتقدمها قائما لا محالة، واليوم تشهد المعرفة تلاقيا حتميا بين ضروب الإبداع الإنساني وميادين العلم وصنوفه. ومن ضروب ذلك التلاقي الازدواج الذي به قطعت الرواية اليوم أشواطا مهمة في طريق استكناه الأسئلة وتثويرها. وصار الروائي ربيب الفيلسوف أو لعله هو. وكثير من الفلاسفة مارس كتابة الرواية أو لعله كان روائيا قبل أن يمتهن الفلسفة.

الهوية في الرواية العابرة للأجناس:
واحدة من انعكاسات التطور المعرفي في عصرنا الراهن أن غدت الحدود التي تفصل بين الحضارات والأديان أو بين العلوم والفنون والآداب على اختلاف أبوابها وتنوع ميادينها متلاشية أو مفتوحة أو متداخلة أو مخترقة تجسيدا لما تشهده حياتنا من اتجاه سريع نحو التداخل حيث لا حدود قطعية أو حواجز نهائية بينها، فكل شيء سائر نحو التمييع والاندماج كتجلٍ من تجليات الفلسفة بوصفها ميدانا فكريا خالصا، وكاستتباع للعولمة انصياعا لمتطلباتها وامتثالا لمواضعاتها على السواء. ومن ثم لا وجود لما هو نهائي أو حدي أو قطعي أو أحادي، فلقد انجلت الفواصل وتداخلت الأطر حتى شمل الانفتاح في الرؤية ميادين الحياة كلها. وغدت الرواية جنسا قادرا على صهر الأنواع أو الأجناس السردية في قالب يحتويها في جنس واحد عابر عليها ضمن جدلية استجماعية صاهرة فيها تتحقق عملية العبور الأجناسي التالية لعملية التداخل الأجناسي.

وبالعبور تصبح الرواية جامعة في داخلها نوعا أو أكثر من الأنواع الروائية كالسيرة الذاتية والرواية النفسية أو الرواية الفلسفية أو رواية منفى أو رواية تيار الوعي، وقد تدمج معها جنسا أو أكثر كالقصة القصيرة وقصيدة النثر وربما أشكالا فنية أخرى على شاكلة التعالق مع الشعر والتشكيل والسينما والموسيقى. وما يجعل الرواية عابرة للأجناس ليس إمكانياتها الفنية في التخطي والصهر والتذويب تواليا وتعاقبا شاقوليا وخطيا حسب، بل مدياتها الفنية في معالجة الثيمات والتعامل معها بالاستنهاض والتثوير والقلب والتبئير. والهوية إحدى تلك الثيمات التي لم يفِ السرد بكل أبعادها، وبإمكان الرواية العابرة أن تستثمر ما لديها من آليات وتقانات في تمثيل مختلف الرؤى والتصورات التي تنطوي عليها الهوية كإشكالية فكرية، عنها تتفرع تعقيدات الأنا والكينونة وتضادات الذات والآخر وقد تلونت مساربها وتعددت تضارباتها. 

هذا على مستوى السرد إما على مستوى النقد فإن التغاير في المنهجيات ساعد في بيان أشكال الهويات وتمثيلاتها الروائية التي يميل بعضهم إلى توسيع مدياتها تحت مسمى (سرديات الهوية) التي هي مثل سرديات الجماعة التي فيها المجموع هو الفرد وبالعكس، كالبيضة والدجاجة بتشبيه كارول فيلشر فيلدمان التي وجدت في هذه السرديات أدوات تسبر واقع الجماعة وتكشف في الوقت نفسه طريقة تفكير كل عضو[1]، أو بالأحرى قصته سواء أكانت نمطية أم سيرية أم ذهنية. أما العالم فعبارة عن "مسرحية نلعب فيها جميعنا على خشبة المسرح في آن معا أو فترات متقطعة دور القطع الإضافية وأدوات التمثيل والممثلين الاحتياطيين"[2].

ولا خلاف في أنّ زوال الحدود يجعل الرواية أكثر الأجناس انفتاحا على الوجود، فلا يعنيها الفرد في فرديته بل الفرد في مجموعه، والهدف ليس بلوغ اليوتوبيا بالمفهوم الذي طرحه السير توماس مور في القرن السادس عشر؛ بل هو أبعد من ذلك بكثير. وعادة ما ينزع الإنسان في علاقته بذاته والجماعة نزعة فردية بأنانية تجعله يستقل ويتحرر لكنها في الآن نفسه تجعله واقع فريسة الاغتراب المكاني والتهميش الحياتي والإحباط النفسي والقهر الاجتماعي، وهذا التضاد أو التفاوت بين النزعتين الفردية والجماعية هو الذي يبقي الهوية متبدلة دائما في سيرورة إنسانية غير مستقرة، وعالم قلق تتنازعه قوى الاستهلاك والإنتاج، ولم تعد تحكمه أقطاب متربولية بعد أن حلت محلها التعددية الثقافية وسادت النزعة الكوزموبولتية، وأصبح الإنسان "يعيش حياة جامعة تجعل من حدوث انهيار في سوق الأوراق المالية في نيويورك أو انعقاد مؤتمر في موسكو أو قيام إضراب في اسبانيا مسائل شخصية تهمه.. وهو يشارك في الحركة الشاملة للكون ولتاريخه"[3]. ومن جراء ذلك كله تعددت الهويات وبالمقابل صارت الرواية العابرة للأجناس ذات فضاءات أكثر تعددا وتمثيلا وهي تعبر عن المخاوف والهموم والضغائن الجماعية التي فيها يرتبط الفرد بالمجموع اجتماعيا وينفصل عنه وجوديا كما تتماهى الأطراف في المركز الذي لم يعد محوريا فلقد تميعت سلطته وذابت هيمنته بلا حتميات أو محددات.  

ومن حسنات هذا الوضع أن مركزيات الحداثة وأفكارها الاستعمارية تلاشت بعد أن تفككت أواصرها بروابط لا نهائية أضفت على النزعة الفردية مزيدا من القلق والخطر والتيهان. وهذا بالضبط هو الوضع الإنساني الجديد. إن الهوية هي التمثيل الفني الذي فيه تتجسد كينونة الإنسان كهيأة منسجمة متسقة وقوية أو بالعكس هيأة لا شكل لها هشة باهتة مضطربة. ولئن كانت الهوية كذلك؛ فإن من الطبيعي إذن أن يكون لكل فرد طريقته الذاتية في محايثة الوجود داخليا وخارجيا، وبذلك يتشكل شعوره بكينونته وقد تصالحت تاريخيا مع الماضي وتكيفت نفسيا مع الحاضر واطمأنت إلى ما سيكون عليه المستقبل. وهذه النسقية الحياتية قد تبدو معقولة في المرحلتين الكلاسيكية والحداثية، بيد أنها عسيرة التحقق أو بالأحرى غير معقولة في هذه المرحلة التي فيها تواجه البشرية تحديات شتى تنعكس على مختلف شؤون الحياة ومنها الشأن الاجتماعي الذي فيه اكتساب الهوية هو أهم التحديات وأكثرها تناقضا بالاكتمال والتدمير.

وبسبب ذلك تتجه الرواية بكل إمكانياتها العابرة للحدود إلى تجسيد الوضع الجديد للهوية معبرة عن مفارقة التضاد فيها والتي تتجلى في ( الازدواج) الذي يعني التأرجح هشاشة ومتانة، والتنوع تفردا واجتماعا، والتذبذب مكانيا وزمانيا، والانقلاب ذاتيا وموضوعيا وبما يجعل كينونة الذات في وضع مرن دائم التحرك والتبدل، فتتغير باستمرار بلا أدنى معيق وتتملص لكن من دون انفلات، متحررة ومستقلة باستقطاب وانجذاب.  والازدواج في الهوية بوصفه تمثيلا جماعيا يعبر عن مكون بشري معين تجمعه روابط ومكونات، ضمن زمان ومكان وتاريخ ولغة وانتماء، ليس مغالطة وجودية للكينونة المنفردة أو الانفرادية التي وجدت نفسها في ظل عالم يسوده التوليف والتمازج والاندماج بين مكونات المجتمعات على تفاوتها، وبسمات فكرية تفتح الباب على مصراعيه للاختلاف والتنابذ والتشكيك والمناهضة والاغتياب. أضف إلى ذلك سلوكيات التناحر والكراهية التي تشهدها حياتنا المعاصرة. ولا غضاضة في ذلك كله ما دامت الحياة بلا ثوابت تحكمها ولا محددات تحجم فعلها أو إشكالات تتحفظ عليها أو تعزف عن إبدائها أو تداري القول فيها.

وقد تحمل كلمة ازدواج معنى متضادا وسلبيا يوحي بالاضطراب النفسي وما فيه من دلالات القلق وسوء التكيف بالكآبة أو العصاب؛ بيد أن الازدواج في أدبيات الفلسفة ما بعد الحداثية سمة حضارية بها يتحقق التعايش المتآخي والتوطن المكفول حقاً وواجباً، كدليل حياتي به نؤكد منطقيا جدوى البحث عن بدائل حقيقية بها ننبذ التنميط والتقليدية ونستبدلهما بالتواشج الذي به يأتلف الشيء وضده بلا مغالاة.

والغاية التي يحققها ازدواج الهوية التأقلم مع العالم لا بمحاكاة الواقع وإنما بسيرورة الذات مع الواقع نفسيا وموضوعيا. والمحصلة أنّ تلك الذات ستتفهم واقعها متبنية رؤيا للعالم متضادة، بها تصبح خاضعة لتحرك ديالكتيكي سلبي بتعبير ادورنو يسيِّر العالم بالمقلوب. وعلى الرغم من سعة العالم وبسطته فإن حياة الفرد المعاصر تنعكس فيه مختزلة وضيّقة. ومن ثم لا مجال للتأقلم معه إلا بالتشارك والانفتاح اجتماعيا وفنيا وعلميا وإبداعيا وثقافيا ووجوديا ورمزيا..الخ.

ومسألة أن تكون هوية الفرد مزدوجة في مختلف جوانبها يعني أنّ كينونتها مجلى كينونات أخر، والذات الواحدة مجموعة ذوات، على أساس أننا جميعا نعيش حالة اللااستقرار فنحن نشعر بالمواطنة وتعترينا مشاعر التمرد عليها وننتمي لوطن نشعر أننا غير منتمين له، كأننا لا نمت له بصلة، ونتوطن ويملؤنا الإحساس أننا بلا وطن نلوذ إليه أو نتدارى في كنفه لأنه صار مخيفا وطاردا..إلى غير ذلك من المخاوف والتوجسات التي فرضتها علينا حياتنا المتسارعة جاعلة مشكلاتنا وتحدياتنا متقاربة إن لم تكن واحدة.

ومسألة الهوية ليست رهنا بقضايا الصراع بين الشرق والغرب والوطن والمنفى والهجرة والانتماء واللاانتماء، وإنما هي أوسع من ذلك بكثير كونها تجمع بين إحساس الفرد بنفسه داخليا وبين موقفه منها خارجيا. ومن ثم تغدو هويته رهينة الداخل والخارج نفسيا واجتماعيا فيشترك مع ما حوله اشتراكا فيه نفي ووجود، وهيمنة وإتباع.  وليس الفرد المعاصر سوى كيان منفي مع أنه حاضر، ومهاجر وغير مهاجر، مستقطب ومطرود، مستقر ولاجئ، منتم وغير منتم، راسخ ونازح، متأسلم ومتأورب أو متأمرك. وغيرها كثير من أشكال الازدواج التي بها تتقولب الهوية متجاوزة المفهوم النمطي للهوية بوصفها أوراقا رسمية تثبت الشخصية إلى أن تصبح متعددة في مجالاتها ومتبدلة في احتمالاتها. فيزول ذلك الشعور بالانفراد حين تضيق الأمكنة متخلية عن سماتها الرحبة واللامة، بعد أن شاعت العولمة والالكترونيات، فتولدت رؤى وتصورات جديدة لا تخلو من تضاد واصطراع وتوافق وتنازع واستثمار واستئثار وتعددية كالاندماج الديمغرافي والتعايش الاجتماعي والتنوع الثقافي.

ومن الطبيعي أن تغدو الهوية مزدوجة وهي تجمع بين المعتقد الديني والعرق البيولوجي وتخلط المكون الاثني والطبقي بالمكون السياسي و الاجتماعي، لتبدو ممزوجة في صورة ثقافية تتشرب اختلافاتها الفردية في هيأة جماعية تضم الأفراد المتأقلمين واقعيا وزمانيا والمتوافقين فكريا واجتماعيا مع ما حولهم متصالحين وأن فقدوا خصوصياتهم وتخلخلت ثوابتهم وتباعدت أحلامهم في أنحاء شتى. وهو ما تعمل الرواية العابرة للأجناس على تمثيله بمتاحات سردية جديدة تعبر عن ازدواج الهوية في صيغتها ما بعد الحداثية المتسعة فكريا والمتأقلمة شكليا وموضوعيا، كجزء من رؤية انفتاحية تعتمد الازدواج مبدأ ونظاما، فالرواية لا تستعرض أو تتطلع أو تتعاطى مع التصورات والرؤى؛ وإنما هي تحورها لتتماشى معها.

وذريعتها أن لا تمثيل للحيوات من دون نفي الوحدة بالاتحاد وتجاوز الفردانية بالتمازج، تماشيا مع التسارع وتناسبا مع مواضعات التقدم فلا مصادفات ولا أقدار ترسم لتلك الحيوات إلا بمفارقات محسوبة لتكون معلومة النتائج على وفق تطلعات وأهداف تريد من الفواعل السردية أن تكون جاهزة دوما للتبدل تأقلما مع الظروف وتجاوزا للحدود. ولتمثيل ازدواج الهوية في الرواية العابرة للأجناس متاحات منها: التعدد والتمركز والمقاومة والانتماء والاختلاف، وهو ما سنتناوله على التوالي.

1) الازدواج تعدداً:
تتنوع النظريات التي تريد التدليل على الهوية والتعاطي مع ازدواجية إشكالاتها وملابساتها، ومن ذلك نظرية( المعرفة المجسدة) التي تؤمن بأن لا وجود لكيان إنساني مستقل وأحادي عقلا أو جسدا، فالتعدد كامن داخل الفرد الواحد. وتعود أصول هذه النظرية إلى موريس مورلوبونتي وجون ديوي، وتطورت لتكون مجالا بحثيا جديدا ظهر بتأثير علم النفس المعرفي ويتناول طبيعة التطور وتوليد الفكر وكل أشكال التواصل عندنا وفهم مهامنا الفلسفية التي عمَّرت طويلا مثل الذهن والنفس والإرادة والأخلاق والسببية والأحداث. وتعد مقولة( إن أجسادنا هي ما يصلنا بعالمنا وبالآخرين) بمثابة المنطلق الذي منه تستمد هذه النظرية فلسفتها[4]. وبحسب نظرية المعرفة المجسدة؛ فإن الفكر مجسد وتجسيدي والجسد مجسدن كاستعارة معرفية تؤكد إمكانات الجسد البشري في استثمار العقل استثمارا ينطوي على سيرورة ذات علاقات متشابكة ومتقاطعة وتمثيلية "فالذهن متجسد أصلا والعقل يشكل الجسد. وبما أن معظم الفكر لا واع؛ فإن الذهن لا يمكن أن يعرف فقط بالتفكير الذاتي أو الاستبطان..العقل الناشئ من الجسد لا يتعالى على الجسد بما أن العقل يشكله الجسد؛ فإنه ليس حراً بصورة جذرية"[5].

إن هناك فهما جديدا للكائن البشري بوصفه مجموعة تصورات تجعله ذاتا ليست مشطورة أو متشظية وعيا ولا وعيا، بل هي مزدوجة في ذوات. وهو ما يجعلها متحكمة في توجهاتها عارفة حقيقتها التي تكمن في حسها المشترك بالاندماج مع المجموع، نابذة فرديتها التي فيها هشاشتها وضعفها وعدم اتزانها. وهذه النظرية بأساسها السايكولوجي تدحض الأساس الإحيائي الذي يقسِّم الناس إلى أعراق مختلفة حيث كل عرق هو فئة ثقافية وتاريخية مختلفة ومتمايزة بألوان مختلفة من البشر، لأن الأساس ليس الجسد وبيئته البايولوجية؛ وإنما هو المعرفة التي يمثلها هذا الجسد نفسه. ولقد انبنت على نظرية المعرفة المجسدة بعض نظريات النسوية التي تدين التمييز العرقي والجنسي، جاعلة تمثيلاتها الثقافية ملتزمة أخلاقيا بإدانة الخطاب غير الإنساني العميق للعنصرية[6].

ومن العلوم المعرفية التي تؤمن بالازدواج التعددي علم النفس الثقافي الذي يرى أنَّ النمو المعرفي متعلق بالثقافة، وأنَّ بالوعي الثقافي يتحقق الوعي عبر الثقافي الذي به نتكلم "عن الأعراق والاثنيات والثقافات والمفاهيم المركزية..بصيغة الجمع"[7]. ومن المنطقي أن يفرز التطور التاريخي تدريجيا صيغا جديدة ومعقدة على مستوى هذا الوعي، ومنها التلاقي الثقافي الذي يختلف عن الازدواج في أن الأول ينحصر في التلاقي بين مجموعات ثقافية مختلفة بمقاربات عبر ثقافية، بينما الثاني معني بالتعايش بين الأضداد واحترام الفوارق الثقافية. 

ومن النظريات أيضا نظرية (الأمن اللغوي) التي ترى أنّ اللغة عنصر فاعل في تكوين الذات ونموها وتوطينها واستقرارها، وأن باللغة تتحقق عملية التواصل بين الأفراد، وتتفاوت هذه العملية بحسب العمر والمستوى التعليمي والمكانة الاجتماعية والثقافية. وتستودع داخل اللغة الواحدة أنظمة الكلام المتمثلة باللهجات التي هي أول تحد يواجهه الأفراد داخل مجتمع هو غير مجتمعهم. وما أن ينجح الفرد في هذا التحدي حتى يكون قد امتلك وجوده بهوية يتأقلم عبرها لغويا مع الوسط الذي يعيش فيه، فيكون مع المجموع آمنا متوطنا بلا مخاطر أو معوقات.

وما دامت الذات تتمتع بالازدواج، فليس في امتلاك اللغة ما يشي بالتسيد على لغة هي الأم أو استبدادها مؤثرة على قوتها. فاللغة الأم تظل قوية وإن شاركتها لغة أو لغات أخر. إذ لا خوف من اللغة الجديدة التي يمكن للغة الأصلية الانتفاع منها كأساليب لفظية واستعارات تمثيلية وصورية تفيد منها في البقاء حية ومتطورة وانفتاحية. وهو ما تستطيعه اللغة العربية التي فيها يتحقق الأمن اللغوي كعامل مساعد على التواصل الحضاري تأثرا وتأثيرا.

ولو عدنا إلى المرحلة التاريخية أبان الفنوحات الإسلامية، لوجدنا أن العرب مارسوا الأمن اللغوي في البلاد التي فتحوها، فلم تكن اللغة العربية مهيمنة بوصفها لغة المنتصر بل كانت متفاعلة شفاهيا وكتابيا مع لغات الأمصار المفتوحة، وفي الآن نفسه ظلت لغات تلك البلدان مصانة ومحتفظة بأصالتها وإن كانت اللغة العربية هي لغة الدين وحده. ويمنح الأمن اللغوي الإنسان اندماجا يجعله أكثر قوة في وعيه بهويته وحقيقة كينونته، والمجتمع الذي يشيع فيه هذا الأمن هو مجتمع معرفي يراهن على العلم والعقل ولا يترك العواطف والأمنيات والغرائز تدير الحياة كي لا تسود نوازع الغلبة للأنا ومكائد الإقصاء للآخر.

وقد عرفت مجتمعات بلدان المغرب العربي الإفادة من لغة المستعمر منشئة واقعا ثقافيا آمنا فاجأت به المستعمر نفسه، وأولى سمات تلك المفاجأة أن كانت الريادة السردية في المغرب العربي قد تحققت في الروايات التي كتبت باللغة الفرنسية، لتكون صورة متقدمة للازدواج في الهوية جسّدها كتّاب جزائريون وتونسيون ومغاربة مثل محمد ديب ورشيد بو جدرة وكاتب ياسين صاحب المقولة المعروفة( اللغة الفرنسية غنيمة من غنائم الحرب ظفر بها الجزائريون بعد انتصارهم على عدوهم) وفي هذا توكيد للاندماج المتعدد باللغة الذي به قاومت الرواية العربية ما أشاعته الروايات الفرانكفونية والكولونيالية من صور نمطية، أغلبها شريرة تحقر الآخر الذي هو الفرد العربي وتتعالى عليه.

وواحد من أساليب مغالبة هذا التنميط الثقافي هو الازدواج الذي فيه الأمن اللغوي يتجسد صمتا وبوحا محققاً توافق الشخصية مع واقعها متمكنا من مقاومة الاعتياد باللاعتياد، وهو ما نجده في رواية (الحلزون العنيد) لرشيد بو جدرة التي كتبت على شكل يوميات ست اندمجت باجناسية الرواية بعد أن عبرت إليها فذابت في قالبها. وبطل الرواية موظف في الخمسين من عمره، مواظب ملتزم يحترم البيروقراطية، يتم تكليفه بإبادة خمسة ملايين جرذ، فيمتثل للتكليف لكنه يصطدم بحلزون عنيد يقوّض عليه ذلك الروتين ويجعله مزدوجا ما بين الصمت الذي فيه غبطته والكتابة التي من خلالها يبوح بما في داخله "إني أصون خلوتي اشد صيانة وأراقب رئتي عن كثب ولا اضجر أبدا يقرفني الآخرون. والموسيقى تصيبني بصداع مرعب. أعيش وسط غبطة الصمت في بيتي. لا تنخرني الهموم سوى في المكتب لكن اعترف أن طرطقة الآلة الكاتبة وجرس التلفون وأصوات المستغيثين..تعيد لي وفاقي مع العالم"[8].

ويحمل الازدواج السارد على البحث خلال كتابة يومياته عن كلمات تناسب بحثه عن الجرذان التي بها يكتمل توافقه مع نمط حياته المغلق " تصلني أصوات الصباح الأولى ..رويدا رويدا حريرية متزغبة هي ذي الكلمة التي كنت أريد تماما متزغبة..إنها تحتوي كل شيء لا حاجة بنا إلى اللغو فهي تكفي ذاتها بذاتها"[9]. ومحصلة هذا التوافق النفسي توافق لغوي يزدوجان فيشكلان هوية يتجاور فيها إحساسان متضادان هو احترام البيروقراطية كنظام مدني ومقتها كمشكلة حياتية. ويبرز التعدد اللغوي الذي به تنتفي صفة الأحادية في الشخصية وتتجاوز هويتها النمطية في رواية (سواقي القلوب) لأنعام كجه جي التي تتعمد توظيف صور لا نمطية فيها تتداخل اللغة الأم بلغة جديدة، وتتمازج اللهجة بلهجات هي ليست بديلة ولا غالبة وإنما هي تعددية تتلاقى فيها فئة أو طبقة أو ثقافة بفئات وطبقات وثقافات أخذا وعطاء، إنتاجا واستهلاكا.

والرواية عابرة اجناسيا على السيرة الذاتية وما فيها من وثائق رسمية ورسائل، يسردها عراقي عاش منفيا في باريس، وهو إذ يدوّن سيرته لا يذكر اسمه، كإشارة اليغورية إلى ازدواجية هوية المنفي، وذلك بتعددية اللهجات وتجاور اللغة الأم واللغة الأجنبية في أحاديث المنفيين" إننا إذا اجتمعنا فإن الفرنسية قد تكون لغة أحاديثنا لكن العربية لا غيرها ستكون لغة النكات والمعارك والشتائم والأغنيات"[10]. وينشغل السارد على طول الرواية بمسألتين:

ـ مسألة الازدواج ما بين وطن أصل فيه" اكتملت أمامنا بانوراما المأساة التي تمزق وطننا، وطننا الذي كان بيت الأمان يدعى، لكننا جعلنا منه مغارة للصوص"[11]، وبين الاندماج بوطن بديل وتبعات انعكاس ذلك على الذات "هل أعيش بالفعل في باريس وأعاشر أهلها أم اسكن داخل ذاتي التي لم تتمكن من مغادرة قوقعتها"[12]. وهو ما يجعل الذات متوافقة تعددا، وقد اجتمع فيها الاعتداد بالرجولة بالرغبة في التحلي بالأنوثة، مما جسدته شخصية ساري الذي صار بعد العملية الجراحية يُعرف بسارة" انقضت المهمة الثقيلة وها هي تقبض على هويتها الحقيقية بيدها..تخليت عن العرش بكامل إرادتي وخسرت امتيازات الرجل طوعا لأكسب نفسي"[13].

ـ مسألة التعدد في اللغة تجعله دائم البحث في معاني المفردات التي يسمعها مثل زمزم وطرقاعة وأشاوس وغيرها، راجعا إلى القواميس العربية كالمنجد والمنهل، مهتما بمعرفة المعاني واشتقاقاتها، مفيدا من ذلك في ابتكار التسميات التي يطلقها على شخصياته مثل حنقباز السماوة وخاتون، ومن ذلك قوله:" إن من كان اسمه زمزم فلا خوف عليه من هكذا طركاعة وتستفزني المفردة الشعبية الجنوبية فابحث عنها في المنجد في باب طرقع يطرقع فأقع على طرفس يطرفس بمعنى لبس الثياب الكثيرة وعلى طرمح يطرمح بمعنى أطال لكنني لا أجد ما أبحث عنه فاعقد النية على شراء قاموس للهجات الدارجة لكي أحل لغز الطرقاعة لكن أين أعثر في باريس على هكذا قاموس"[14]

وتنتهي الرواية وقد عاد السارد إلى الوطن لكن ككيان بهويتين تتماهيان فيه معا، فهو عراقي وليس بعراقي أيضا، لأن باريس ما زالت بالنسبة له ليست "منفى بل فاصلة جميلة شطرت عمري ووشمتني بختم لا يمحى وكنت قد وصلتها ملتاعا هاربا من احباطين سياسي وعاطفي"[15]، بيد أن هذا السارد المنفي قادر على حفظ سيرته من الاندثار مسطرا تاريخه الخاص الذي هو جزء من تاريخ العراق الحديث.

وتمثل رواية (عراقي في باريس) لصاموئيل شمعون ازدواج الهوية تعددا أولا في الشكل الذي فيه الرواية احتوت داخل قالبها السيرة كنوع منصهر اجناسيا فيها، وثانيا في الثيمة التي فيها هوية البطل تجمع الحلم الأثير بالواقع المرير، وهو يسرد ما في هذا الواقع من عثرات صادفته كالاعتقال والتعذيب والخطف ومضايقات أخرى كثيرة، فلم يستطع التخلص منها سوى بالتعدد، متمتعا بهوية مزدوجة فيها الوطن معيق والمنفى مساعد والاسم الذي يحمله ليس واحدا "أطلقوا سراحي بعد أن تأكدوا من كوني ليت جاسوسا يهوديا.. واقترح علي الضابط انه من الأفضل أن أغير اسمي"[16]، وحتى الكيان الجسدي الذي يملكه عمل على تغييره،" لقد قطعت العضو المشبوه والامبريالي في جسدي"[17]، تخلصا من جور البلدان العربية التي طاردته جاسوسا وعميلا،" العالم العربي مقبرة ضخمة"[18]، ليعيش في باريس كسيناريست يكتب أفلامه ويمارس حريته بطريقة دراماتيكية فيها كثير من المفاجآت المشوقة والصادمة معا. وسر التوافق النفسي واللغوي الذي تمتع به البطل هو إدراكه أهمية أن تكون الهوية مزدوجة حيث الوعي الفردي هو ثمرة الوعي الاجتماعي إزاء ما هو ضروري وما هو بديل. لذا قرر السارد البطل ترك البلاد العربية لاجئا في فرنسا حيث الأجواء مناسبة لكتابة سيناريوهاته، وتلهمه التماثيل والصور أفكارا حيوية، "صورة كبيرة لفكتور هيجو وقد كتب تحتها لا تنسوا هو أيضا كان لاجئا ذات يوم"[19].

وبامتلاك الوعي الذاتي بأهمية الازدواج يكون التعايش البناء قد تحقق داخليا وخارجيا لبطل الرواية، وقد نجا من مشاكله النفسية والحياتية بينما يعاني اللاجئون غير الممتلكين لهذا الوعي من التشتت والضياع في شكل تسكع دائم ولهو رخيص مرة أو في شكل انغلاق فكري وانحباس ذاتي مرات أخرى. وقد يكون الوطن نفسه هو المنفى الذي يشعر البطل أن لا مناص له من السجن الذي فيه سيتمتع بالوفاق النفسي خارجيا وداخليا، "أن الحياة في السجن الذي هو فندق مجاني اشرف له بكثير من حياة في عرين الأسد المحكوم بالجوع وقسوة الطقس ولهذا فانه الآن لا يخاف من أن يلقى عليه القبض"[20] ممتلكا هوية مزدوجة بالتعدد حيث القيد هو الحرية، وهو ما نجده في رواية( ذاكرة مدينة منقرضة) لزهدي الداودي التي ساردها موضوعي والأبطال ثلاثة بدا توافقهم معكوسا في أسمائهم( شمس الدين وخير الدين وشرف الدين) وفي توجهاتهم، فهم متسكعون محتالون يتحولون إلى لصوص يبحثون عن الثراء من دون عناء. وعلى الرغم من أن الرواية ليست عابرة على نوع أو جنس آخر؛ فإنها بالمفارقة التي جسدتها ثيمتها أكدت ازدواج الثلاثة الذين صاروا واحدا هو شمس الدين والواحد هو الثلاثة وقد صار اسمه محفوظ السلامة "انظروا نحن الثلاثة منذ الأزل كنا دوما نتضارب ونتصالح من جديد. أثبتت الأيام إخلاصنا اللامتناهي لبعضنا بعضا نحن شلة وجماعة واحدة ولكن بدون رأس"[21]. بهذا يكون لكل واحد منهم هوية يقتسمها مع الآخر وقد تشكلوا في صور مختلفة تمكنهم من تمويه شخصياتهم الحقيقية في ذوات جديدة متضادة بالقوة التي بها تحمي الضعفاء والفقراء وتقتص من الأقوياء والأثرياء.

2) الازدواج تمركزا:
ليس الازدواج أزمة إنسانية تهمش الإنسان وتهدده بالقتل، وإنما هو الاستقرار الذي فيه يجد الإنسان ذاته. وعلى الرغم من أن أمين معلوف وجد أن "كل من يتبنى هوية أكثر تعقيدا سيجد نفسه مهمشا."[22]، فإنه لم يرفض فكرة الهوية المركبة، وهو القائل: "أنا أبحث في ذاكرتي لأكشف عن اكبر عدد من عناصر هويتي واجمعها وأرتبها ولا أنكر أيا منها"[23]. والرواية هي الجنس الأدبي الأنسب للتعبير عما تقدم بسبب عدم امتلاكها شكلا نهائيا بما يجعل طبيعتها دائمة للعبور والتي بها تتوكد سعة قالبها في احتواء مسائل الهوية بوصفها ماهية وبنائية لا تتحدد في المهاجرين واللاجئين وأمثالهم من الذين أجبروا على العيش في بلاد غير بلدانهم؛ بل هي أوسع من ذلك وأدل.

بعبارة أخرى أن الازدواج ليس خاصا بالمنفي الذي هجر بلاده واضطر للعيش في غيرها أو الذي انقطعت صلته كلية بموطنه الأصلي إنما هو يشمل أيضا المنفي داخل بلده الذي يكافح من أجل أن يحوّل انفصاله وانعزاله إلى تواصل واتصال مع الآخر، رغبة في إحكام مهارات البقاء والتعايش. وهذا لا يعني تشتت الإنسان بين انتماءين عليه أن يكون قادرا على الاضطلاع بكليهما، بل هو يعني التمركز بما يناقض التفرقة والتمييز. ولا غرابة في ذلك ما دام هذا الازدواج تمثيلا من تمثيلات المجال الثقافي الذي فيه يحدث صراع بين ثقافتين إحداهما مسيطرة رسمية والأخرى شعبية مهمشة.

وكثير من الانتكاسات السياسية والاقتصادية ما كان لها أن تحدث لولا ما كان يروّج ثقافيا وإعلاميا من أفكار مضللة تدعو الناس إلى التعصب والتفرقة وبث الكراهية نحو الآخر الذي يوسم بالدونية والتسطح والابتذال والتآمر، قمعا لأية دعوات تسعى إلى إشاعة التسامح والتحاور الفكري والديمقراطي وكي لا يتاح للإبداع الثقافي الجاد النهوض والتأثير في المجتمعات الأحادية المتسمة بالشمول والانغلاق والتخلف. إن الازدواج في الهوية وسيلة بها ندلل على أن هناك استعدادا فطريا وتلقائيا للإحساس بالتعدد في الهوية، يقابله اكتساب اجتماعي به نتعلم أن نظرتنا للآخرين ينبغي أن تحررهم، لا أن تحصرهم في انتماءات ضيقة. وهو أيضا شرط "من شروط الحياة الجديدة والتي فرضتها بشكل أساسي بنية المدينة الحديثة .. بوصفها اجتثاث الإنسان من انتماءاته التقليدية"[24]. وبدونه تكون الهوية في حالة تشظ، فيه يتجلى انهيار القيمة الإنسانية للذات، والمثال على ذلك ما مارسته وتمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين.

وكثير من المجتمعات المنغلقة على هويتها تهمش أبناءها من ذوي الأقلية العرقية أو الدينية فلا تعترف بهم، جاعلة وجودهم رهنا بالتوحد مع الأغلبية وقد تنبذهم فتجعلهم بلا هوية كما يحصل مع الغجر. وقد تهمش هذه المجتمعات الوافدين إليها فتعاملهم معاملة التابع والعبد، فلا تنظم لهم قوانين تحفظ حقوقهم وتدلل على هويتهم كما هو الحال في بعض البلدان النفطية. والصراعات التي تجري اليوم هي صراعات أقطاب تريد التفرد والهيمنة، وهو ما تدركه أوربا التي اتخذت من الازدواج ثقافة، ومن الاندماج إستراتيجية وسياسة تتعامل بها مع الجاليات التي قدمت من مناطق وأقاليم كانت أوربا نفسها تستعمرها ذات يوم، وهو ما نجده في بريطانيا التي تتعامل مع المهاجرين "القادمين إليها على أساس تعزيز الهوية المشتركة"[25] ولن يتم الازدواج والفرد يخضع لضوابط أحادية وشمولية ذات أنظمة مركزية توليتارية لا تقبل بالتمرد على التنميط وترفض ازدواج الهوية، لكنها تعطي أهمية كبيرة للولاء والامتثال.

وواحدة من المهام المنوطة بالمثقف أو المفكر هي التحلي بهوية لا تتقيد بقوالب الأنماط الثابتة والتعميمات الاختزالية كونها تقيد العقل الإنساني وتحول دون التواصل ما بين البشر. وبتحطيم القوالب التي تحجم الفكر يكون المجتمع قد وضع خطواته على طريق الأخذ بالعالمية التي بها تزدوج الهوية فتزول روح التعصرن والكراهية ويختفي العدوان وصراع القوى.

وبالازدواج تتداخل العناوين والمسميات وتتنوع التخصصات والخبرات، وبما يجعل الحياة منفتحة في فضاء كوني عابر لا حدود قومية أو عرقية أو دينية تؤطره كما لا مبدئيات جاهزة تقيده ولا كليشهات مستهلكة تغلله. وأغلب كتابات ما بعد الحداثية تعتمد سياسة الانفتاح ازدواجا في لغة مشتركة وتنوعا في الثقافة التي تشترك فيها مجموعات متعددة ذات خصائص وألوان وتحيزات وعادات تفكير لتصبح واحدة في جماعيتها. فلا عجب بعد ذلك أن تزول أية نزعات أصولية تجاه الآخر، ويتلاشى خطر التعصب وقد حلت بدلا عنه المعرفة المشتركة والتواصل الفعال. فتجد كل فئة كينونتها وقد تعددت وتمركزت فالمرأة ستخرج من شرنقة التهميش لتكون لها غرفتها الخاصة كما تقول فرجينيا وولف وقد تحررت من سطوة الأبوية، كما ستكون الفئات المستضعفة والأقليات المهمشة في منأى عن الطعن في قوميتها أو لغتها أو تاريخها.

وأفضل أنموذج روائي نمثل به على هذا النوع من ازدواج الهوية هو رواية (في حضرة العنقاء والخل الوفي) لاسماعيل فهد إسماعيل أولا في الشكل عبورا على نوع سردي هو السيرة الذاتية التي اندمجت في قالب الرواية الذي هو أكثر من السيرة اتساعا وقدرة على الانصهار. وثانيا في الثيمة التي فيها الهوية تبغي الازدواج بحثا عن التمركز. والسارد البطل هو منسي ابن أبيه ومن اسمه تتوكد هامشيته كفرد منفي داخل بلده بصفة البدون الذين ليس لهم ما لأبناء جلدتهم من حقوق وواجبات. وهو ما يجعل مأساة البطل وجودية بالهوية المسكوت عن المطالبة بها والمحظور البحث في حالها وما فيه من التهميش والدونية" انا الغريب على المكان بمن فيه دخلته قبل ساعات لا غير قضيت معظمها داخل مطبخ المقر اعداد الشاي والقهوة"[26]

وبسبب ذلك عزم البطل على توكيد هويته من خلال: أولا شجاعته في جعل ذاته هي البطلة والساردة في شكل سيرة ذاتية بدأ كتابها عام 1971 وانتهى منها العام 2010. وثانيا تصميمه الواعي على البوح الذي جعله يحترم ذاته حين تمارس دور الجسور المقتحمة كاشفة النقاب عن المسكوت عنه، ويزدريها حين تكون خائفة ومنكمشة ومتوارية. ثالثا موهبته المسرحية وتخصصه العالي في المسرح جعله مطمئنا إلى أن صوته سيقلب المعادلة لصالحه وقد امتلك هويته وإن لم يمتلكها، فلا يعود هو الهامش ولا صقر الرشود هو المركز.

وبعد أن كان اسمه يولِّد فيه شعورا بالتعقيد والسلب فانه الان يتعامل مع اسمه بواقعية من دون أية خشية "سألني عن اسمي حسبته غاضبا حشرجت اسمي همسا تطوع سليمان الياسين اسمه منسي ولانه لم يعرف اسم ابي بعد التفت الي حشرجتي باقية همسا لم اسمع بدرت عن محمد السريع ضحكة مرحة نطلق عليه اسمه الفني المنسي بن ابيه منذ حادثتي هذه صرت ابن أبيه"[27] وموهبته التي تمثلت في جمع قصاصات الجرائد هي التي منحته الهوية التي بها تميز على غيره من الهوامش وفي مقدمتهم فراش المسرح كومار السريلانكي، ثم الصندوق الذي كان مكان حفظ الأسرار وسماه زينب لتكون زينب معادلا موضوعيا للحقيقة. وكلاهما زينب والحقيقة غائبتان عن حياته ومع ذلك يخاطب زينب/ الحقيقة وكأنها حاضرة أمامه ككينونة من لحم ودم "يبقي هدفي أن أدون ما يساعدك زينب على معرفة أبيك لدرجة الحضور الفعلي سواء كبت في الغياب أو في حكمة"[28]

وجل ما يخشاه المهمش النسيان، لذا عزم منسي على تمرين ذاكرته من خلال الكتابة التي تجعله يستحضر التفاصيل التي فيها تتضح الحقيقة "ادريك يا زينب غير معنية بقراءة تفاصيل .. لكنها تفاصيلي تعيد لزمني ذاك دفئا يحفزني اواصل"[29] وإذ يكون ذكر (وطني الكويت سلمت للمجد) مشعرا إياه بالدفء فانه يتقصد تكرار الجملة كلازمة تدلل على تبجيل الوطن، لكن رؤيته لذاته منتسبا بياء المتكلم لهذا الوطن " كويتي" تشعره انه مهزوز وبلا هوية "لا أدري إن كان توبيخا او شماتة.. ان كنت كذلك انا ماذا ..انا كما اراني رؤية متشظية للحياة والموجودات قاطبة من خلال منظار محدودب ذي عدسة تشف لونا رماديا"[30]

والمفارقة أنه يرفض هذه المشاعر السلبية بمشاعر ازدواجية فيها يكون هو المنسي والمذكور والمنقسم والمتحد والجذل والحزين والطيع والمحتج الذي له فصل وأصل وليس لقيطا بلا نسب "وسط هذا المناخ المثبت للغربة راوغني شعور محبط مرتبط باسمي الفني الذي ال متداولا وسط زملائي الطلبة المنسي ابن ابيه وغالبا ما يغفلون اسمي ينادونني يا ابن ابيه ، لا غضاضة أن يصير منسي منسيا فعلا الغضاضة في الدلالة..حزني استوطن صوتي ...افضيت بما يحزنني كنية ابن ابيه تعني اني لقيط.. الرجال مجهولو الاباء وحدهم يكتسبون هذه الكنية"[31] وإذا كانت الظروف تعاكسه فإن ذاته تظل تواجهه بالأسئلة "لو عندكم وثيقة بيت تردد في رأسي .. شاغلني سؤال حاد ما زال يجول داخل رأسي أيهما مرهون بالآخر وثيقة تملك بيت أم وثيقة انتماء لوطن"[32]

وينعكس انتفاضه على ذاته فيرفض أن يكون فائضا وبلا عنوان "أنا الشيء الفائض عن الحاجة عيناي تمسحان المكان فائض علي"[33]، ممارسا سلطته على المستوى الكتابي لمتنه السردي فيسطره سطرا بعد سطر غير آبه لمونولوج هنا أو حوار هناك أو لهجة محلية تتداخل في ثنايا السرد مع اللغة الفصيحة ومن دون وضع فواصل أو علامات، ليكون المتن متراصا سطرا بعد سطر وصفحة تتلو صفحة وقد تمركز قارئه أنثى هي زينب محتلة بؤرة السرد "اكتب وأنت تراودين مخيلتي بصفتك القارئ المحتمل الوحيد ..تحضرين كيانا افتراضيا أو شبحا لا معالم محددة له لأني لم أرك إلا عبر سياق حلم وحيد غابت فيه ملامح وجهك"[34]. وما التناوب على ضمير الخطاب سوى تدليل على هذا التمركز الذي هو بمثابة تعبير شعوري عن خوف متدار من التشظي والانشطار والانفصال، وكتعويض عن رغبة في التصريح بما هو مكبوت واستجلابا لما هو مفقود.

وبسبب ذلك يصبح الإحساس بازدواج الهوية طبيعيا فالزمن نفسه متقلب وهو نفسه "كفيل بتثوير إنسان ما خامل الفعل"[35]، فتعكس الرواية بذلك أجواء التعايش والاندماج، متجاوزة التقنين والتقعيد التاريخيين، غير مقتنعة بعالم السلالات، ومع تعقد الحبك يتوثق شعور السارد (منسي) بأنه صار كائنا جديدا له هويته، وها هو يحدق في الآخرين غير مستغرب ولا متهيب قائلا: " أنا بدون"[36]. وبوعيه بمجتمعه يزداد قوة لأنه ليس وحده الذي همشه المجتمع بل المرأة ولاسيما المطلقة وهو ما جسدته شخصية عهود الكويتية التي تحدت التقاليد وصارت زوجة منسي التي هي في نظر أهلها هامش، لكنها في نظر ذاتها مركز.

وإذا كان منسي في بداية سرد سيرته شابا متعففا عاجزا مستلبا يشعر باللاجدوى ويراوده الانتحار؛ فإنه مع اقترانه بعهود يتصاعد إحساسه الموجب بكيانه الإنساني ليجد نفسه وقد احتل بؤرة الحدث متمركزا بقوة الإرادة وعلو التصميم. ويظل الصندوق رفيقه الذي يفخر به لان فيه الحقيقة التي ستغير الحياة. والازدواج يعني أن يغدو الهامش مركزا، وهو ما وصل إليه منسي في خاتمة الرواية لكنه اصطدم بالأداة التي بها يتحول الازدواج من مجرد شعور نفسي إلى واقع عملي. والأداة هي جواز سفر الذي لم يمنح له لوجود قيد امني يحول دون ذلك. وفي ذلك إشارة اليغورية إلى أن امتلاك الهوية ليس عينانيا، وإنما هي شيء خفي يتجذر في داخل الذات مثل الشمس الساطعة بكل عنفوان، وما دامت الهوية هي الشمس شاخصة لا تحتاج إلى برهان، فلماذا إذن الهوان والإذعان ؟

وفي رواية (ولدت هناك ولدت هنا) لمريد البرغوثي يكون التعايش أمرا صعب التحقق بين مركز يمثله المحتل الإسرائيلي وهامش يمثله المواطن العربي الفلسطيني، مع أن هذا التعايش كان على مر التاريخ متحققا حين كان العرب واليهود يعيشون على ارض واحدة، وهو ما يعبر عنه السارد "تعايشنا معهم طوال مئات السنين في فلسطين والبلاد العربية والأندلس وان أوربا التي تلومنا وتحاسبنا هي التي لم تستطع التعايش معهم وهي التي أرسلت ملايين منهم إلى المحرقة بلا رحمة"[37]. والسارد دكتور يعمل في إحدى الجامعات الخليجية ويذهب في رحلة فريدة مع ولده تميم إلى فلسطين فيسرد تفاصيل الرحلة في شكل سيرة ذاتية تذوب حدودها في قالب الرواية العابرة. وكلمة التعايش تبدو بالنسبة للسارد غريبة بسبب التسلط القسري الذي يمارسه المحتل ضد الفلسطينيين لذلك يسخر منها وممن يدعون إليها " المطلوب منا اليوم ومنذ احتلالهم العسكري لأراضينا هو التعايش مع دباباتهم في غرف نومنا أقول لهم دلوني على إنسان واحد في هذا العالم يستطيع العيش مع دبابة في غرفة نومه"[38].

وهذا ما يولد في نفس الفلسطيني شعورا بالنفي وهو داخل بلده الأصل فتغدو أرضه التي هي معه هنا وقد صارت هناك. وما بين الهنا والهناك والنفي والانتماء والبقاء والمغادرة تتأقلم الهوية وتصبح مزدوجة بالتضاد الذي هو في داخلها مركزي وفي خارجها مهمش "يقف جندي الاحتلال على بقعة يصادرها من الأرض ويسميها هنا فلا يبقى لي أنا صاحبها المنفي في البلاد البعيدة إلا أن اسميها هناك"[39].

وتتضارب المشاعر في دواخل السارد فيشعر أنه مزدوج بالفرح والحزن والضحك والبكاء والحب والكره "واشعر أني أكثر من جسدي"[40]، لكن هذا الازدواج ليس موجودا على مستوى الفرد وحده حسب بل هو موجود أيضا على مستوى المجموع، وفي التاريخ أحداث كثيرة تؤكد أن الكذب السياسي والتواطؤ بين أصحاب المصالح هو الذي يقود إلى الحروب والكوارث التي بسببها تختلف السلطة مع الشعب، فلا يكون بوسع ذلك الشعب سوى الامتثال للازدواج الذي به يمركز هويته رغم أنف المركز الذي سيصير هامشا في نظره.

3) ) الازدواج مقاومة:
قد يتحفظ بعضهم على مسألة الازدواج في الهوية من باب أن التعدد فيها قد يؤدي إلى المغالطة الديمقراطية التي يتولد عنها صراع بين الهويات الأصلية والهويات الفرعية. وقد يكون هذا التحفظ صحيحا إذا استبعدنا حقيقة المقاومة الثقافية التي بها تتمكن الأقليات من صياغة هويتها الخفية. والمقاومة الثقافية سبيل ممهد لتجاوز التنميط في النظر إلى النزعات السلبية كالانعزال واللجوء والانغلاق والقلق والخوف، وهي أيضا أداة ناجعة في النجاة من الاغتراب والتشظي والشتات، وبالشكل الذي يجعل هوية الذات مضاعفة بها تتمكن من إحداث التغيير المجتمعي والتاريخي المنشود. وللمقاومة صورتان ثقافيتان: الأولى مقاومة خفية غير مرئية يمثلها التراث الشعبي والفلكلوري، والأخرى مقاومة محسوسة ومرئية يمثلها الإبداع الإنساني بكل صنوفه وميادينه.

وكثير من أفكار الاستشراق التي تتعالى على الآخر وتتهمه بالدونية والتخلف كانت قد عفت عليها نظريات التعايش والاندماج والانفتاح وعمادها التفاهم والحوار اللذان هما طريقان سالكان للتقريب بين الحضارات والديانات والثقافات. هذا التقريب الذي سيوصل المجتمعات في الشرق والغرب إلى التصالح بعيدا عن كل المظاهر السلبية كالتطرف والكراهية والاسلاموفوبيا والعنصرية والإرهاب التي يرجع بعضهم تزايدها واتساع نطاقها إلى تراجع النضال القومي والوطني الذي بسببه تنامت التيارات الإسلامية السلفية وكذلك التيارات المذهبية والطائفية[41]، بيد أن الأمر أوسع من ذلك كونه يتصل بكينونة الفرد وما يملكه من هوية منفتحة تؤمن بالآخر مقاومة سياسة الانغلاق والمصادرة والكراهية بناء على ثقافة مضادة هدفها التضليل من خلال رسم صورة للعالم المعاصر بوصفه فوضى، وللإنسان بوصفه ضحية للعقل[42].

ليس غريبا أن الرأسمالية أو العلموية أو الشيوعية أو غيرها من الأقطاب الأحادية ليست وحدها القادرة اليوم على إدارة العالم؛ ما دامت العولمة الثقافية تعمل بالضد من هذا الاستقطاب معتمدة الاندماج الثقافي وسيلة بها تتقلص المسافات وتتواصل المجتمعات وتجتمع الثقافة الواحدة بالثقافات الأخرى ـ التي يسميها سمير أمين الثقافات الخراجية[43]ـ كأحد الطرق المولدة للتنوع والتعدد المجتمعي.

والمقاومة في الرواية العابرة للأجناس تتجلى على المستوى الفني في انفتاح قالب الرواية ليضم أنواعا سردية بطواعية ليست فيها أية مقاومة. والرواية إبداع أدبي أساسه التعبير الرمزي عن الرغبة الشعورية في إثبات ازدواج الهوية رفضا للانغلاق والأحادية اللذين هما تبعة من تبعات النزعة الفوقية العدائية للآخر وربما إسقاطات لا شعورية تنماز بالنفور من الذات نفسها والانطواء عليها مع السلبية والإتباع والإفراط في التمييز السلبي أو الاستلاب والفردية. ولولا أن الرواية أداة فنية ناجعة في المقاومة الثقافية لما استضاف أو بالأحرى استعار كتّاب أمريكا اللاتينية ومنهم كاربنتيه واوستورياس وبورخس في رواياتهم المؤثرات الأجنبية العالمية جنبا إلى جنب أدبهم الإقليمي وثقافتهم الشعبية وبروح منبسطة تسعى إلى التأثير المتبادل الحر مع آداب أوربا وأمريكا الشمالية المتروبولية وكذلك بعض الآداب غير المتروبولية كالأدب العربي والفارسي، حتى تمتعوا جراء ذلك بهوية ازدواجية أكسبتهم استقلالا ثقافيا وبلا حساسية للقوميات الأخرى.

والمقاومة على المستوى الموضوعي تتجسد في ثيمة الهوية التي تتحقق بالازدواج والتعددية كسمات ذاتية تمكن الفرد من العطاء والأخذ تأثرا وتأثيرا بلا تبعية ولا انقيادية. وكثير من الطروحات الثقافية حول مسائل النفي والاستلاب قد تفسر لنا بعضا من أسباب المقاومة في الانتساب والانتماء بالهجرة هربا من الاضطهاد الفكري أو وعيا بالمصير القاتم أو خيبة من تغيير الواقع أو رغبة في الأخذ بظاهر التقدم الحضاري وتعلم اللغات وإتقان أساليب العيش العصرية.

ومن ثم يغدو الازدواج بالمقاومة سمة ذلك الكيان الذي كان مستلبا ومنفيا ومنتقصا بسبب ما عاناه من الحرمان والقهر والتضييق، فلم يستسلم وهو يبحث عن حياة تسير عجلتها بروح التعايش الذي به تتوكد المعطيات الإنسانية كلها. وكثير من المنظرين والفلاسفة ما كان لهم أن تتحول أفكارهم إلى نظريات لولا أنها كانت انعكاسا لما عانوه من نفي واضطهاد وسجن خذ على سبيل المثال رومان جاكبسون وميخائيل باختين وتوفتان تودوروف وميشيل فوكو وبول ريكور. وبالمقابل فان كثيرا من المفكرين العرب ما كتبوا الرواية إلا لأنهم وجدوها خير وسيلة بها يعبرون عن رؤاهم الفلسفية إزاء الواقع الداخلي الصغير الذي تمثله بلدانهم والواقع الخارجي الكبير الذي يمثله العالم. ومن انعكاسات هذا الوضع أن الهوية ستكون مستمرة ومتواصلة، تزدوج فيها (نحن) بـ(الأنا) بدلا من الأناego  المفتونة بذاتها"[44]، وهذا الازدواج هو انتقال وتبادل من الموضوع إلى القيمة التي هي أس التعايش الحياتي الذي لا فصل أو تمييز فيه بين الطبقات والقوميات والأجيال وزملاء المكتب وجيران الحي أو المبنى.[45]

والمقاومة التي تصنع هوية ازدواجية هي عادة ما تكون منفتحة تقارب بين الفنون التي بها "يستطيع الناس أن يتجاوزوا كل العزلة والمسافة الاجتماعيتين ويتحدثان عن كل شيء أنهم يقهرون العزلة الواقعية في وهم الكلمات العظيمة والجميلة"[46]. ولا ننسى أهمية الازدواج في مقاومة النسيان الذي يهدد الذاكرة الأحادية بالمحو، لكنه غير قادر على ذلك مع الذاكرة الجماعية التي فيها يعاد اختراع الهوية بالعودة إلى الجماعاتية كما حصل مع الهوية الفرنسية وكذلك الكورسسيكية[47]. وبالهوية الازدواجية المقاومة للنسيان تبرأ الذات من أزماتها الاجتماعية والأخلاقية وأمراضها النفسية فلا يطالها الاكتئاب والانهيارات العصبية والحنين إلى الماضي والكبت والانطواء.

وبين الهوية وثقافة المقاومة ازدواجية اجتماعية تنبع من الفرد نفسه الذي يتأقلم مع ذاته مبجلا لها من ناحية ومتفاعلا مع الآخرين احتراما لهم من نواح أخر. وفي هذا ما يشبه التعبئة الثقافية التي بها تتجاوز الذات نرجسيتها، واجدة فيها دفاعا عن الهوية التي هي رأسمال ثقافي "لا يكتسب ولا يورث دون جهود شخصية انه يتطلب من طرف الفاعل عملا طويلا مستمرا ومعززا للتعلم والتثاقف بهدف أن يندمج فيه ويجعله ملكا له أن يجعله ذاته"[48]. وهذا الرأسمال جزء من الرأسمال الرمزي الذي باستثماره يتحقق الملاذ الثقافي (هابيتوس) بوصفه استعدادات دائمة يمكن تغيير مواضع أنساقها لتشتغل كمبادئ مولدة وكتنظيم للممارسات والتمثيلات التي بها تستطيع الذات أن تكيف هدفها موضوعيا من دون افتراض مقصد واع للغايات[49]، وبهذا تنعم بالأمن والسلام.

ومن الروايات التي موضوعها الهوية التي ازدوجت وهي تقاوم النسيان رواية (الغرف الأخرى) لجبرا إبراهيم جبرا وفيها يتداخل السرد بعلم النفس منتجا رواية نفسية هي فرع سردي اندمج بجنس ارسخ منها هو الرواية العابرة للأجناس. وبطل الرواية رجل يعاني فقدان الذاكرة" إنني ابن هذه المدينة واعرفها شارعا شارعا بل شبرا شبرا وأرعبني أن أدرك أنني اجهل مدينتي لم تقع عيناي على مبنى اعرفه"[50].

ويسبب له هذا الشعور اضطرابا زمانيا ومكانيا يجعل حياته أشبه برحلة في ليل بهيم تصل به حافة الجنون مما يؤدي إلى شعوره السلبي بأنه رجل مشطور إلى شطرين يتنازعهما الوعي واللاوعي والعقل والغريزة وتتجسد ذاته في هويات مختلفة لكن الصورة أمامه تظل واحدة، بها يقاوم الانشطار بالتعدد. فهو وإن كان نمر العلوان والدكتور فخري حسن منصور وحافظ موفق والنور عبد الأحد واحمد الهاشم إلا انه يظل يعلم أن تلك المسميات ليست له وانه شخص آخر غير هؤلاء" انهالت بين يدي رزمة من البطاقات والهويات من أشكال وأحجام وألوان مختلفة وبعضها ألصقت فيه صور شخصية صغيرة كما هي العادة في الهويات"[51]

لكنه شغفه بمعرفة من هو ثم وجود المرأة التي هي بمثابة لغز بالنسبة إليه فمرة اسمها لمياء ومرة سعاد وهيفاء كل ذلك يصعد الحبك، " وإذا كنت لا اذكر اسمي الذي لازمني طيلة عمري فكيف اذكر ما كان زائلا عني مع زوال الأيام والمشاهد"[52]

ولا يكون بمقدوره فعل شيء غير التذكر الذي به يقاوم الشرخ والانشطار ممتلكا هوية مزدوجة تقاوم النسيان، متجاوزا ما مر به من أحلام سريالية، فيعرف من هو بالضبط ويتذكر اسمه " نمر علوان؟ هل أنا نمر علوان؟ الآن اكتشفت السر في كل ذلك التصرف الغريب لقد اخطاوا في معرفة هويتي وصار الذي صار.."[53]، ويستعين بما يحمله من اشطر وشظايا في ترميم ذاكرته وهو يعلم انه حتى لو فقدت ذاكرته "سأتكلم بما تفهمونه ولا تفهمونه مستمدا القدرة على ذلك من ذاكرات كثيرة تجمعت في داخلي"[54]. وتتوضح محصلة هذا الترميم في الذاكرة في الهوية التي صارت معلومة لصاحبها وان اسمه فارس الصقار وله كتاب المعلوم والمجهول فيستقر قلقه وتتوكد ازدواجية هذه الهوية في مقاومة النسيان بالتذكر.

وتتجلى في رواية (طشاري) لأنعام كجه جي، هذه الهوية أيضا ممثلة بالبطلة دكتورة وردية التي صارت لاجئة في فرنسا وهي في الثمانين من عمرها، فتجد في التذكر سلوتها التي بها تتمكن من إثبات هويتها التي ترفض التنازل عنها وفي الوقت نفسه الاستعداد للاندماج بهوية أخرى حديثة عليها "يا لهذه الذاكرة التي تعاند وتحتفظ بكل شيء وترفض أن تتنازل عن التفاصيل"[55]. وسبب عابرية هذه الرواية هو أنها في الأصل رواية واقعية تم صهر حدودها  في حدود الرواية بوصفها جنسا عابرا على الرواية الواقعية.

وتعبر عن الازدواج في الهوية بفاعلية التذكر الذي يريد مقاومة التنويم الذي لا حول لها ولا قوة معه" إن السفر لم يكن قدري لكنني سرت إليه مثل المنومة لم يعد لي في ذلك البلد ما يبقيني ولا من يمسكني"[56] وقد عبر تناوب السارد على ضميري الغائب والمتكلم عن حالة التشظي الذاتي خوفا من الضياع والتلاشي"تذكرت رعبي وكوابيسي في سنوات مضت من احتمال ضياع جوازي كان الواحد لنا يفضل أن يضيع حاله وماله على أن يسهو لحظة عن ذلك الدفتر"[57]. وبالرغم من أن الرواية ليست متعددة الأصوات؛ فإن الساردة تسترجع الأحداث بصوتين: صوتها كساردة موضوعية وصوت عمتها الدكتورة وردية كساردة ذاتية.

وما بين الوطن والمنفى والانتماء واللانتماء يغدو الازدواج أمرا حاصلا ومنطقيا "هكذا كانت حالي قبل أن آتي إلى هنا وافهم أن هذا الدفتر ليس أكثر من وثيقة ..هوية.. هات صورتين وطابعا ماليا وخذ جواز سفرك أما إذا ضاع فلا أسهل من تعويضه"[58] وهذه الحقيقة عرفتها الساردة قبل عمتها بعد أن عايشت الوضع البديل وتكيفت مع اللجوء، مدركة أن الوطن حقيبة تسافر مع الإنسان حيثما سافر. وأن ما يمر به من أزمات وإرهاب لن يشوه حقيقته "هجست عمتي بان الأمور في البلد قد تعسرت مثل ولادة مات فيها الجنين في بطن الأم...بلد مدسوس بين فكي الشيطان هكذا كان في التاريخ وهكذا سيبقى شوكة عصية على الابتلاع تجرح وتنجرح"[59]

وإذ تعتري الدكتورة وردية المشاعر السلبية كقولها: " نحن شعب لا عازة له مثل المشيمة التي ترمى للقطط"[60] و"فائضون في هذه الدنيا مسجلون في خانة الزوال لا احد يهتم لمصائرهم ولا يقلقه أنهم يخبطون في الظلام منذ عشر سنوات"[61] و" واحد يجر واحد والحبل طويل"[62] وغيرها من الأحاسيس المعبرة عن الوحدة والاغتراب، بيد أن لابنة الأخ مشاعر مضادة وايجابية، من ذلك شعورها بالاجتماع والألفة وهو تلتقط صورة للاجئين عراقيين جدد "ارفع الكاميرا .. لكي التقط لهم صورة جماعية .. اطلب منهم أن يتراصفوا ويقتربوا بعضهم من بعض أحاول لملمة شتاتهم ولصق خزف أعمار تشظت" [63] وبفاعلية التذكر تتمرن الذات على مقاومة النسيان" حتى الحنين أتمرن على خلعه فلا أعود معنية بالأشواق أود العودة إلى هناك ولو من باب العلم بالشيء . تقطعت الروابط منذ أن اجتاح الشاشات عراقيون لا يشبهون العراقيين نهابون وقاطعو رؤوس وعملاء يعلقون على صدورهم أنواط شبهاتهم.. خطفوا الوطن وتركونا نعلق مفاتيح بيوت أهالينا على جدران هجرتنا نحلم بحسر العودة"[64]

وتتوضح النزعة لمقاومة النسيان من عنوان الرواية (طشاري) التي لا تعني الدلالة المباشرة أي التفرق والشتات وإنما هي تورية لما هو متسع وفسيح وقد اعتاد العرب تسمية الشيء السلبي والخطير بما هو عكسه فيقولون سليم للملدوغ وبصير للمكفوف وكفيف للمعوز. ومن ثم تكون التسمية (طشاري) تعني الالتحام لا التناثر والاصطفاف لا التبعثر. وليس المقصودون بالطشاري هم الذين هجروا البلاد بل تشمل الجميع. فالعراقيين اللاجئين ينظرون للعراقيين في الداخل كنازحين ومهجرين ومطرودين ومطاردين بينما هؤلاء ينظرون لمن هم في الخارج كمهاجرين ولاجئين ومنفيين. هكذا يغدو الجميع مقاوما وصامدا، من هنا تستعمل الساردة ضمير النحن "إنهم أهلي الذين تفرقوا في بلاد العالم مثل الطلق الطشاري"[65]  

ولان الجميع طشاري لا فرق بين حنين وتذكر واغتراب وتذمر. والذات لا تكون متماسكة وقوية إلا إذا تجاوزت هذه المشاعر التي هي اخطر ما يواجه الكينونة الإنسانية كونها تحول بين الذات وبين هويتها "هذا ما كتبته ابنة شقيقها الحبابة تنظم شعرا عن الأعزاء الذين تفرقوا وما عاد يمكن لشملهم أن يجتمع إلا في أطلس الخرائط .. وهي لا تريد أن تنزلق وراءها إلى فخ الحنين انه مرض نفسي يهاجم أهل الهشاشة ويصيب المهزومين لا تميل وردية إلى تذكارات ما يسمونه زمن الخير" [66] والذات إذ تقاوم انتماءها للوطن بعزمها على التعدد في هويتها انتماء وتاريخا ولغة، فلأن الوطن عجز عن إعطائها حقها في الحياة الكريمة كما أنها أيضا لم تؤد واجباتها تجاه الوطن، "إن خروجنا من بين قوسي الوطن قد وضعنا في خانتين متعاكستين من العقوق.. وكان الوطن عاقا بها نبذها وهي في آخر العمر ولم يشملها بخيمة حمايته هل يعوض تفانيها عن تقصيري فتتعادل كفتا الضمير"[67]. ومن ثم لا سبيل أمام ازدواج الهوية سوى بالمقاومة. وإذا كانت الفرقة قد أصابت الوطن فصار غريبا، فإن مخيمات اللجوء ومعسكرات الهجرة والإيواء وكابينات النزوح والتهجير كفيلة بمقاومة تلك الغربة وذلك بالازدواج.

4) الازدواج تطامنا:
إن ازدواج الهوية هو السبيل الوحيد الذي يجعل المرء متطامنا غير مستقطب أو مستلب أو مشتبك، وما ذلك الا لأنه دائم التذكير لنفسه بأنه يتفكر ويتثقف ويتحول ويختبر، من أجل الحقيقة وليس السلطة، متبصرا طريقه بعينيه لا بعيني غيره الذي قد يوجهه كيفما يشاء، فيسيره تارة يمينا وتارة أخرى شمالا. بيد أن أدبيات العولمة وما بعد العولمة تدحض هذا التسيير القسري، واجدة في الازدواج انتماء نفسيا يحقق تنوعا ثقافيا وغنى معرفيا، وواحدة من إشكاليات المجتمعات العربية المعاصرة هي ارتهان تطامن الهوية بالادلجة والحزبية التي تشوش الكينونة وتميع أساسات الإحساس بها ومن ثم تحول دون بلورة هوية واضحة، ولاسيما في المجتمعات الأحادية التي فيها الأفراد يسيرون نحو مصائرهم بعمى سببه انقيادهم للآخرين سلطة كانوا أو أحزابا أو منظمات، وهو غير مدركين حالة المهادنة والتزلف الذي هم عليه، ولا حالة النرجسية والتعالي التي عليها من يقودهم ويتعهد بهم.

وما تطامن الهوية سوى صورة من صور الازدواج خارجيا وداخليا وروحيا وجسديا ومحليا وعالميا وبلا أدنى شرخ أو انكسار أو تعارض داخل الذات الواحدة، وهو ما تحذر منه أدبيات القومية والأممية، متصورة أن بالتطامن تعددية وتناقضات "تؤدي إلى حالة من الانشطار في الهوية الاجتماعية وإلى حالة من التمزق الوجداني الداخلي عند الإنسان العربي" [68].

ولا خلاف أن القومية العربية بشعاراتها الوحدوية صنعت وعيا كبيرا بأهمية التطامن والانتماء في تحقيق الوحدة والاستقلال، كرد فعل على المشروع الاستعماري الذي اعتمد إستراتيجية التجزئة والتفريق والاستيطان والتوسع. لكن هذا المشروع زال مع زوال المشروع الاستعماري الذي حل محله المشروع ما بعد الاستعماري.

ومن تبعات ذلك أن صار عصرنا نابذا للقوميات ولم تعد المجتمعات منغلقة على ما لديها من معارف وعلوم وفنون وآداب وفلكلور وإنتاج مادي وغير مادي؛ بل صار جزءا من رأسمال رمزي عليها أن تعيد إنتاجه من جديد بعمومية إنسانية ليس فيها تخصيص عرقي أو ديني أو تاريخي. وقد أخذ الإحساس بازدواج الهوية ينمو مع تراجع الإحساس بالقومية وتزايد الانغماس في العولمة ، فلم تعد الهوية تدلل على وحدوية الانتماء للوطن وحده والامتناع عن أية انتماءات أخرى أصغر أو أوسع كالانتماء للمكون العرقي أو الطائفي أو الانتماء للمناطق والأقاليم أو للتيارات والحركات. والذي ساعد في ذلك الفشل في السياسات الوطنية، وما جلبته من انكسارات اجتماعية وتحديات اقتصادية مثل الفقر والبطالة والجريمة والإرهاب والأمية والتصحر واضطهاد المرأة وغياب الديمقراطية..الخ.

ولهذا اللون من ازدواج الهوية تمثيلات مختلفة، منها ما نجده في كتابات كافكا الذي كان مزدوجا وهو يتطامن مع انتمائه الى الطائفة اليهودية وعدم انتمائه لها، في شكل ازدواج جدلي بين عالم الغربة وعالم الوعي بالغربة أو ما يسميه غارودي العندية والكينونة[69]، واصفا كافكا "انه يهودي منفصل عن الجماعة اليهودية يشعر بالحنين إليها وهو موزع النفس بين الإيمان باليهودية والتمرد عليها"[70]. ومن الروايات التي تمثل فيها هذا الشكل من ازدواج الهوية رواية (طيور الحذر) لإبراهيم نصر الله التي فيها يسترجع (خليل) حياته جنينا في رحم أمه، واجدا فيه ملاذه وهناءه "كان الرحم جميلا ودافئا وله رائحة غرفة غير مسكونة"[71]. ويتلبسه الشعور بأنه متطامن ومنتم كليا لهذا الرحم، فهو كبير وأمين ومريح، كترميز للبيت الكبير فلسطين الذي كان قبل الاحتلال ملاذا وملجأ "بيتنا لم يكن أكثر من غرفة واسعة جدا نصفها مغارة ونصفها الآخر مبني من الطين والقش"[72]؛ لكن ضياع البيت /فلسطين لا يعني ضياع الحضن/ الرحم "هذه الفترة اعتبرتها فترة ضائعة من عمري اعني فترة وجودي في الرحم حيث العالم مقفل ولا يربطني بالحياة سوى خيط لحمي تبا"[73] ، ليظل الانتماء كامنا في دواخل خليل فيستحضره خارجيا بالتخييل محققا لذاته توازنا فتزدوج هويته انتماء ولا انتماء.

وإذا كان خليل الطفل قد عبَّر عن هذه الازدواجية حين رسم خارطة الوطن بلا حدود "هو الذي قال: افهموا جيدا للإنسان بيت واحد هو بيته ووطن واحد هو وطنه ورسم خارطة فلسطين كما لم يرسمها معلم من قبل على سبورة وحين لم تتسع السبورة واصل الرسم على الحائط والطباشير الحمراء" [74]، فإن خليل الشاب صار مقاتلا يعادي الصهاينة بلا حذر كالطير يتسلل إلى يقظتهم وكالصخر ينهار عليهم وكالزوبعة يعاقبهم. وتكثر الحوارات القصيرة في الرواية بشكل ملحوظ عاكسة الشكل الفني الذي تتخذه الرواية في كونها ( ملهاة فلسطينية) وهو ما ثبته الكاتب عنوانا ثانويا للرواية التي عبرت على هذا الشكل السردي بعد أن ضمته في قالبها. ويشكل التطامن في رواية (خسوف برهان الكتبي) للطفية الدليمي هاجسا يفرض على البطل ازدوجا هوياتيا يفرض عليه أن يتراجع عن تهريب الآثار السومرية تارة وتارة أخرى يبرر له هذا الفعل بما هو عليه من العوز والفاقة والرغبة في البقاء على قيد الحياة.

وما بين التطامن واللاتطامن يصبح ازدواج الهوية بمثابة كابوس يقض على البطل مضجعه ويجعله يعيش حالتين حالة التلبس بالجريمة وحالة البراءة منها وقد تماهي مع الخيال "يرى في أول المنامات أن تمثال الملك السومري شولكي الذي لا يتعدى طوله مقدار كف ينام بينهما ثم يراه يقفز إلى خزانة زجاج وكان قد باعه مساء اليوم نفسه عبر وسيط عراقي يتاجر بالتحف إلى دبلوماسي أجنبي لكن الملك المقصى عن ملكوته عادا إليهما هاربا من مقتنيه"[75] ويظل الشعور المقلق باجتماع الخوف والأمان مرافقا له في يقظته وحلمه، غير أن الذي يرهبه أكثر هو أن ينسى واقعيا دوره المخرب ويعيش خياليا دوره الحالم فتهتز كينونته ومعها تنشرخ هويته وهو يترقب نهايته المؤلمة كنهاية الفراشة وهي تهيم مفتونة بجناحيها أمام النار" أنا خائف وأخشى أن تتبدد ذاكرتي واعرف أن الذاكرة هي التي تنقذ الإنسان من مصير الفراشة المحتوم وتحول دون تفسخ القلب إلى سماد"[76]، ولا يكون أمامه من بد سوى صنع يوتوبيا ليس فيها إلا الخير، فينعم بالأمان وقد ازدوجت هويته بانتماء متخيل للتاريخ ولا انتماء واقعي للحاضر. والرواية عابرة على نوع روائي هو الرواية القصيرة أو النوفيلا التي انصهرت حدودها وذابت في الرواية. 

وفي رواية (تاريخ العيون المطفأة) تكون مأساة البشر متجسدة في عدم التطامن بينهم، والرواية مقسمة إلى ثمانية وأربعين فصلا كل فصل اتخذ اسم عين. وكل عين هي بمثابة قصة قصيرة شكلت بمجموعها الرواية التي عبرت عليها وضمتها فيها.

وتزداد الصراعات على مستوى الدول الثلاث التي هي (كمبا وقمورين وشمس بر) والسبب ما كان بينها من حروب جعل كل دولة ضد الأخرى "حتى باتت من أكبر دمامل العالم ومن أكبر سخرياته"[77]، وتكون عدوى الإصابة بالعشو ثم العمى التي شاعت في هذه المدن الثلاث هي بمثابة الضارة النافعة، إذ بالعمى يتحصن البشر الانقياء من الخيانة ويواجهون الخداع والمكيدة.

وإذا ما عاد الشيخ حميد ماء العينين وزوجته فخر النساء ومليكة وغيرها من الشخصيات التي أصابها العمى قادرة على رؤية الوطن، فإنها تظل متطامنة مع الوطن ببصيرتها التي حملته في القلوب وقد انتمت إليه. والدكتور لطيف أصابه العمى مع انه بعيد عن الوطن والسبب تطامنه الصميم إليه فكان ازدواج هويته يتضح في ما يرسمه من لوحات مؤكدا أن الوطن ليس مجرد بقعة ارض يراها فيحسها بل هي كينونة متجسدة في ذاته " إنني لا ارسم عالمكم أو لا ارسمه وحده لا ارسمه تماما أنا لي عالمي كلنا نحن الذين تسموننا العميان لنا عوالمنا الخاصة طبعا فيها من عالمكم الكثير خصوصا من فقدوا البصر منا صغارا أو كبارا أنا لم اعرف عالمكم إلا بالصوت والرائحة وقليلا باللمس .. من كان مثلي ليس له من عالمكم إلا القليل وهذا ضروري لا أقول يمكنني أن استغني عنه لكنه لا يكفيني كفايتي تأتي من خيالي أنا أكثر حرية منكم مع أن قيودكم تقيدني أيضا" [78]

أما الشخصيات الناجية من العمى مثل مولود ومهيمن ومعاوية فستغدو متخاذلة وقد خسرت انتمائها للوطن الذي لم يعد متطامنا معهم. فحنا الرياش واحد من الشخصيات المتقلبة بلا هوية الذي أعماه تقلبه في الانتماء عن رؤية الوطن الذي وإن كان داخله لكنه عاجز عن رؤيته في قلبه فكانت هويته ممزقة بلا انتماء تتجاذبها الظروف يمينا وشمالا" أسعده أن يجد بينهم من يقاوم الحكومة كلها.. وانضم إلى جماعة أخرى حتى نودي فيها: إلى السلاح فخرج منها وانضم إلى جماعة أخرى حتى نودي فيها أيضا إلى السلاح فخرج منها معلنا انه مع جماعة أو مجموعة لا تأخذ بالعنف ومن سنة إلى سنة صار متخصصا في توزيع المنشورات في مختلف أرجاء المدينة"[79].

وتهتز شخصية البطل مولود بسبب كوابيس تقض عليه مضجعه وتجعله نهبا للقلق واللاستقرار الذي يجعله هويته ممزقة غير متطامنة "في الليلة الأولى حلم بان زلزلا قد ضرب كمبا فقلب عاليها سافلها ..بيت الأستاذ شعيب طار ولم يحط المقبرة قذفت بما في بطنها ما عدا السنديانة ظلت كما كانت عندما رآها آخر مرة لذلك لجا إليها. في الليلة الثانية حلم بان سريره يتحرك ثم تحركت الغرفة العمارة الشارع ثم رأى بر شمس كلها تتحرك حتى غرق في نوع عميق"[80]

والعمى في المجتمعات المتطامنة هو الأمان الذي يجعل العيون ليست بحاجة إلى المراقبة لان الضمير هو المراقب بعكس المجتمعات غير المتطامنة التي فيها العيون تراقب بينما الضمير ليس رقيبا. وشتان بين فكر بديل عن البصر وقوة بديلة عن الضمير. والحياة لا تصفو إلا إذا  تخلت عن القوة التي هي سبب صراعاتها وتجملت بالفكر الذي هو الوسيلة التي تحقق لها التوافق والتعايش ومعلوم أن غاية الفكر السعادة والسعادة لا تكون إلا في المجتمعات المدنية التي عافت العسكرة وتجملت بالاندماج الذي فيه تتعايش المكونات البشرية على اختلافها وقد تساوت في الحقوق وضمنت الحريات.

هذا الوعي بأهمية الفكر وفاعلية الضمير تجسده رواية ( تاريخ العيون المطفأة) التي فيها العمى شفرة تأويلية للهوية التي امتلكتها الشخصيات الخيرة التي تعلم أن الشيء الحقيقي ليس في مرآه متجسدا ومحسوسا وإنما في درجة الإحساس به وكذلك الوطن الذي لا يتجسد بالبصر وإنما هو يعرف بالبصيرة التي مكانها الفكر. والهوية التي بها نتطامن مع الوطن ليست مجرد ورقة نحصل عليها ونحرص ألا نفقدها بل هي ازدواج يجعل في الابتعاد قربا وفي الفقدان امتلاكا. وذاك القرب وهذا الامتلاك يدركان وجدانيا وليس عيانيا ومكانهما الهوية التي ليس مكانها المحفظة بل الفكر ومن ثم لا مجال لسحبها أو إلغائها بقرار أو مرسوم.

5) الازدواج اختلافا:
تعد الفلسفة الظاهراتية الهوية عابرة للتاريخ وشكلا من أشكال الاختلاف، وهو ما أكده بول ريكور الذي وجد أن الهوية والاختلاف يمتزجان معا على نحو لا يتيسر معه الفصل بينهما، رافضا عد الهوية نمطا أو بنية منطقية لا زمنية؛ وإنما هي التميز التخطيطي الذي يجعلها تكوينا نفسيا عبر تاريخي تراكمي مترسب. وهذا هو السبب في كون هذه الهوية عابرة ولا زمنية[81]. وبالعبر تاريخية يصبح ازدواج الهوية دليلا منطقيا على تجاوز حاجز التنميط في الحياة، بحثا عما هو جديد ومختلف. وكلما تضاءل المنظور الأحادي للهوية ازداد الشعور بالاختلاف الثقافي الذي فيه يتعزز الشعور بالغنى وتتلاشى الفوارق بين المتناقضات، فيتقلص الصراع بمختلف أنواعه الفكري والديني والطبقي، ويحل التهجين محل الصراع. وتزداد سيرورة الاندماج في الحركة الاجتماعية كما تغيب بوادر قهر ثقافة لثقافة أخرى أضعف منها وربما أدنى. وهو ما كان سائدا في العصور الاستعمارية، من ذلك ما مارسه المهاجرون الأوائل إلى القارة الأمريكية مع الهنود الحمر، وما قام به المهاجرون الأوربيون مع سكان استراليا الأصليين، بينما المثال الجلي على التهجين الثقافي في تقبل الآخر ثقافيا ما مارسته فرنسا مع المغاربة متنازلة عن ثقافة الهيمنة والغلبة. ولا ننسى بالطبع المثال المبكر للاختلاف الثقافي الذي مارسه الموريسكيون متحلين بهوية ازدواجية. وهو ما جسّده أيضا كثير من الآسيويين المقيمين في الغرب وبعض الطوائف الدينية والأقليات العرقية الذين تعايشوا مع الأغلبية المختلفة من دون أية تبعية ثقافية.  

وإذ يتأسس ازدواج الهوية على الاختلاف فذلك لأنه أي الاختلاف ناموس أو شريعة نظام اجتماعي ينفي عن الذات عجزها عن المسايرة من خلال مدها بالقوة التي تجعلها قادرة على التمرس مع مختلف الاحتمالات، على أساس أن الهوية "ليست ما يملكه المرء أو يعطى له .. وإنما هي ثمرة الجهد والمراس والاشتغال على المعطى الوجودي..أنها بنية يعاد بناؤها باستمرار خصوصا عند بلوغ الأزمات والوقوع في المآزق"[82]. والاختلاف الثقافي بحسب جيل دولوز "مفهوم تفكري يسمح في الواقع بالانتقال من الأنواع المتشابهة المتجاورة إلى هوية جنس يشتملها..في دفق سلسلة مستمرة حسية"[83]. وسواء أكان الاختلاف يصنع نفسه أم كنا نحن الذين نصنعه[84]، فإنه الدليل على قوة الذات التي تريد أن تكون مختلفة بالتوحد ومتوحدة بالاختلاف من خلال خطابها الثقافي المستقل والتشاركي الصانع لهويتها المزدوجة مطابقة وتكرارا. وما ذلك إلا لان الهوية "مكون أساسي بين مكونات المخيال الثقافي"[85]، به يتحقق التعايش السلمي ضمن فضاء كوني متسع وحي.

وتنعكس كينونة الذات التي تؤسس لاختلافها على طبيعة وجودها المكاني والزماني، فتنعم بالأمان بعيدا عن القلق، وتستجيب للتعددية بلا توجس. ويغدو الانتماء متحققا لا محالة، وشاملا لا ينحصر في "المقيمين أو حتى المولودين في الغرب من ذوي الانتماء العربي.. بل أن من أولئك مثقفين وعلماء ومفكرين من يفوق في صلته بالغرب وبثقافته بعض المقيمين فيه والعاملين فيه"[86]. وبانتفاء ثقافة الاختلاف تنتفي ازدواجية الهوية وتصبح أحادية فتتغاضى عن الآخر أو تقصيه، وتعلي ذاتها على غيرها وتستحقر من يخالفها. وهو ما شاع في بعض دراسات الاستشراق التي تغاضى أصحابها الغربيون عن الاعتراف بالفضل الذي قدمه لهم الشرق عموما والعرب المسلمون تخصيصا كونهم حلقة الوصل بين العقل الأوربي والثقافة اليونانية التي منها تبلورت بوادر النهضة التنويرية في الغرب.

وبالاختلاف نرى حقائق ذواتنا فلا يغرينا التنميط الثقافي بما هو مكرر وثابت من المعارف وتغدو المغايرة الفكرية بمثابة هجرة عن المعتاد بحثا عن المختلف. ومن ذلك (الهجرة نحو التاريخ) التي دعا إليها طه حسين، وفيها يتاح لنا أن "ننظر في أخبار تلك العصور القديمة سواء أصحت أم لم تصح، فهي إن صحت كانت لنا عزاء وهي إن لم تصح أتاحت لنا أن نحلم بجيل من الناس لا يكون الرجل فيه عبدا للمال ولا مرقوقا للثروة"[87]. ورفض علي شريعتي مسايرة المألوف مستهجنا عدم الرغبة في التفكر في الاختلاف واصفا الأمر بالاستحمار، داعيا إلى استنزاف الفكر بالنباهة الإنسانية. وأن ظاهرة وجود "العالم جاهلا وبقاء المثقف عاطلا من الشعور وإعطائه العناوين والألقاب البارزة كالدكتور والمهندس والبروفسور وأمثالهم لحالة مؤلمة جدا فيما إذا كان فاقدا للفهم والنباهة والشعور بالمسؤولية تجاه الزمان وحركة التاريخ التي تأخذه معها هو والمجتمع"[88].

وليس العلمي كالفكري، لان الأول ينحصر في ما هو معقول، بينما الثاني يسوح في ما هو غير معقول أيضا. وكلما كانت الحرية الفكرية للفرد مستقلة عن الحرية الاجتماعية كان الاختلاف سمة لازدواج الهوية. وهو ما ينبغي للمرأة أن تتمثل به ومعها كل الهوامش الاجتماعية الأخرى تمثيلا فكريا يحقق أهدافها ويؤكد أن الاختلاف متجسد في كينونتها كضرورة ثقافية وقيمية واجتماعية. فيتحقق التعايش الذي ليس فيه وصي وموصى به ولا وال وموال ولا تابع ومتبوع. أما المناداة بحقوق المرأة بهوية أحادية لا تعترف باختلافها، فلا طائل من ورائه سوى مزيد من التمويه العكسي الذي يريد بقاء المركزية الأبوية على حالها متسيدة مع الحؤول دون أن تتمكن المرأة من حل إشكاليات وجودها بنفسها.

ومن الروايات التي فيها تمثل ازدواج الهوية بالاختلاف (الآم السيد معروف) لغائب طعمة فرمان التي هي عبارة عن قصص قصيرة عبرت عليها الرواية. وفيها يتبتل البطل السيد معروف في عالمه الخاص مستقيما ونزيها يعيش حالة تماه مع الحياة التي يراها آيلة إلى الغروب. ويصبح مشهد الغروب عاملا مهما في إدامة تعايشه مع هذه الحياة وقد ازدوجت هويته ما بين حياة شاحبة متراجعة ومتقلصة تتراكض نحو هوة أفق غامض كالغروب وبين قرارة نفس ولهى تعشق الغروب وترى أن من اليأس أن يتعشق المرء الشروق. وإذ يشكل الغروب والشروق بالنسبة إلى البطل اختلافا يجعله ذا هوية مزدوجة بالأمل واليأس، والتفاؤل واليأس والغموض والوضوح والصخب والهدوء، فان هذا الاختلاف هو في الحقيقة ليس انفصاما كونه يجعل السيد معروف متعايشا مع ما حوله ايجابيا. وتمنحه هذه الايجابية كيانا مختلفا، فيسير مع الناس وهو مستقل عنهم " متفردا عنهم بسر الغروب الراحل تاركا رجليه تدبان إلى ما لا نهاية.. متوغلا فيه إلى نقطة."[89]

ويشعره عمله الوظيفي بالخصوصية وهو يحرر الكتب الرسمية مخلِّصا ألفاظها من رواسب الاستعمار العثماني ويصبح أكثر ايجابية "انفخ فيها نفثة من روح أوه كم يتعذب الذين يحبون أوطانهم في تفاصيل زائدة عن اللزوم كأن الغروب زائد عن اللزوم"[90]. ويتكرر هذا الشعور بالاختلاف كلما جلس أمام الآلة الطابعة، معملا تفكيره في الكلمات، متأملا أصلها اللغوي، مستعرضا فصاحته ومتباهيا بروتين الدائرة. وعلى الرغم من أن هذا الاعتداد بالذات وذاك الشعور بالاختلاف سينتكصان حين يتعرض معروف إلى الاهانة على يد مدير الدائرة؛ فإن ذلك يشعره بذاته أكثر، فيعود إلى البيت لائذا بالحضن الأصل تعويضا وتساميا " ذهب إلى أمه وشعر بالاطمئنان الأعم وهو يدخل إلى حجرتها كأنما يعود إلى طفولته حيث لا هموم ولا تفكير ولا تاريخ  ولا ماض ولا تهديد بالخروج من الدنيا"[91]، فيغدو الزمن زمنه، ويفكر "لو كان التاريخ هو تاريخ البشر حقا لكان تاريخي"[92].

ومن أمثلة ازدواج الهوية بالاختلاف أيضا رواية (أطياف العرش) لنبيل سليمان التي فيها الشخصيات مأخوذة بحالة انقسام بين عوالم صوفية فيها كرامات وأدعية ونذور وشيوخ وعوام، تقابلها عوالم واقعية فيها دجالين ومدعي نقاء وبراءة، ولن ينصلح هذا الحال إلا بظهور الخضر "غير أن الخضر لا يظهر إلا للصالحين"[93]. وتدور أحداث الرواية زمن الاحتلال الفرنسي الذي فيه يشيع الدجل فيكسب الشيخ بركات وصادق عروضي كثيرا من الأموال من جراء النذور وكشف البخت وقراءة المستور. ولا تنجو من هذا الواقع المنقسم والمتخلف سوى الشخصيات الواعية لأهمية الاختلاف، ومنها شخصية طاهر عوانة الذي اختلف عن الآخرين بامتلاكه صوفية خاصة جعلته مؤمنا أن الخلاص مبهم وعميم ومحتوم كاعتقاد راسخ مثل أي شاهد من الشواهد الأزلية القائمة في كل مكان. ولأن الخلاص وشيك ترتفع الرؤوس المحنية أمام المتجبرين من أهل البلد والمحتلين، وقد صار أمامها خياران أما الانتقام وأما الغفران.

وفي رواية (درج الليل درج النهار) للكاتب نفسه شخصيات تتبرم من الاعتياد وتبحث عن الاختلاف ولاسيما الشخصيات النسوية (رحاب وشهلة وجنان) "أنا لا أتحجب إلا إثناء العمل. بالحجاب استطيع أن ادخل إلى البيوت المحافظة والحجاب أيضا يوفر علي تطاول بعض البيوت."[94] وتتخذ الرواية التي تناقش مسألة الاختلاف الديني وأثره في الإحساس بازدواج الهوية صيغة التوالي في شكل قصص قصيرة تندمج في جنس الرواية لتكون رواية عابرة، فيها تكثر التناصات مع حكايات عن حواء وادم كما يهيمن أسلوب التداعي الحر باستعمال تقانة المناجاة.

وفي رواية (عالم بلا خرائط) يعيش البطل علاء حالة نفسية متأزمة بالسراب والكوابيس التي تجعله كثير التساؤلات، مختلفا عن الآخرين" أكاد أنكر أنني قلت ما قلت لان الأفكار التي تملأ راسي الآن تختلف كثيرا عن تلك الهلوسات الصغيرة الغارقة في الماضي"[95]. والرواية في الأصل هي رواية نفسية لكن التداخل ما بين السرد وعلم النفس يتعدى إلى العبور انصهارا في الرواية كجنس عابر.  وسر تأزم البطل قوة غامضة تلاحقه ككوابيس تقلق عيشه وتتركه نهبا للتشظي الفكري والتمزق النفسي مرة وهي تتهمه بقتل نجوى بتكرار جملة" اعترف.. أنت القاتل "[96] كلازمة لفظية تزيد من تعاسته. ومرة أخرى بعمورية المدينة الخيالية التي بحث عنها فوجدها على غير حالها يوم تركها قبل خمس وعشرين سنة مثل حورية البحر، بينما هي "الآن اكبر مدينة مشوهة في العالم، أنها تشبه كل المدن ولا تشبه أية مدينة"[97]. وتظل الاثنتان نجوى وعمورية تلاحقان البطل..فيختار الازدواج طريقا به يضع لنفسه متوهما وغير متوهم خارطة طريق لعالمه "داري ؟ هل هذه داري؟ أنت غريب هنا ولا تدري"[98].

وبالرغم من كل هذا التوهم والتشظي؛ فإنه يظل ماسكا زمام الأمور بيده متفكرا مستفهما بهوية تزدوج فيها المتضادات اختلافا "مهلا ثمة تفاصيل نسيتها فتخلخل الموضوع وتخلخلت الذكرى فلأحاول مرة ثانية وبدقة اكبر"[99]، فيكتشف أنه كان مريضا بالفراغ والبطالة بعد كتابة روايته النوارس، وأنه الآن كيان في كيانين أحدهما مختلف عن الآخر، "كنت في دخيلة نفسي أربي إنسانا لا يخشى التمرد في سبيل ما يرى أنه الحق ..كنت في الوقت نفسه أربي إنسانا يريد تسيير التاريخ بصحبة جماعيته.. ولكن ما مقدار ما اتفق هذان الإنسانان في؟ ..يكفي أن تتحرك جماعيا ..يكفي أن تتحرك كفرد"[100] فيعي حقيقة أنه ليس قاتلا بل هو مقتول والتي قتلته هي نجوى/ عمورية، ومع ذلك يحملهما معه أينما ذهب. ويالتساؤلات المتتالية تتوكد اختلافية هويته المزدوجة باللاتحديد في الزمان والمكان وبالتوزع بين اللحظات والمسافات حتى كأن كينونته في غيبوبة ولكنها غيبوبة واعية "كيف أصف هذا الحس المتناقض..هل هي رفرفات أجنحة الجنون تباغتني تعدني وتنذرني معا؟ .. أي حدود فضائية تلك؟ أي مرحلة من مراحل العمر أو الكينونة أو الولادة أو الموت؟"[101].

ختاما...

إذا كانت الهوية هي رديفة الكينونة التي بها تتحدد مواصفات الذات وتتشكل عناوينها الدالة عليها؛ فإن الازدواج هو السمة الثقافية التي بها تجتمع الأبعاد الذاتية النفسية والاجتماعية والسلوكية لكي تعبر عن فحوى الكيان الإنساني التوّاق إلى التعايش على مختلف المستويات الموضوعية والفنية انفتاحا وتداخلا وعبورا. وليس في الازدواج دلالة الاضطراب أو الارتباك والتبلبل؛ بل هو دليل حضاري يمنح الذات القدرة على التفاعل البناء مع الآخرين أفرادا ودولا. إن ازدواج الهوية مقتضى ثقافي من مقتضيات المرحلة ما بعد العولمية التي من متطلبات مواكبتها ومماشية أدبياتها الشعور الواعي بأهمية الاندماج الذي فيه يحقق الإنسان استقلاله، من دون أن يكون منغلقا، ويضمن لنفسه الحرية من دون أن يكون منفلتا أو متمردا، وبه يكسب الآخر تقبلا بلا مصادرة أو تعصب .. إلى غير ذلك من المتطلبات التي تجعل المواضعات الثيماتية للازدواج متجسدة في نواح متعددة منها الرواية كجنس أدبي يتمثل الحياة والإنسان سرديا موظفا تقانات زمانية ومكانية بها تتمكن الرواية من التعبير عن ازدواج الهوية بكل متاحاته الاجتماعية والنفسية. ولا بد لهذه الرواية أن تكون عابرة وقد اندمجت بنوع أو جنس سردي ثم تمكنت من صهره في قالبها عابرة عليه. وبالرواية العابرة للأجناس تكون أشكال ازدواج الهوية قد اتضحت آلياتها وتوكدت سماتها في مناح متعددة وعلى وفق موجبات محددة، وكالاتي :

  1. الازدواج تعددا وهو الازدواج الذي يتخذ صيغتي التعدد الثقافي والأمن اللغوي اللذين بهما تتمكن الذات من تجاوز التنميط، متفاعلة من ما حولها من موجودات بانفتاح ليس فيه تحفظ أو تردد.
  2. الازدواج تمركزا وفيه تمارس الذوات المهمشة أدوارا مركزية وقد عرفت مكمن قوتها وتمكنت من السيطرة على ما حولها.
  3. الازدواج مقاومة وهو الذي يعطي الذات قوة الإرادة التي بها تقلب اضطراباتها وتوتر علاقاتها إلى نوع من التوافق النفسي والثقافي فتسترد مكانتها متعايشة باطمئنان وأمان.
  4. الازدواج تطامنا الذي يتحقق عند من هو منفي داخليا عن ذاته أو منفي خارجيا عن وطنه، فتزول مظاهر الاستلاب والدونية وتبرز مشاعر الانتماء والايجابية ودا وتقبلا للذات وللآخرين.
  5. الازدواج اختلافا وفيه تدرك الذات أهمية الاختلاف عن الآخرين. هذا الاختلاف الذي يجعلها أكثر قربا منهم وأرسخ إمكانيات في توطيد علاقاتها بهم.

وبهذه المناحي الثيماتية التي تدلل على ايجابية الازدواج في الهوية تكون الرواية العابرة واحدة من أهم التمثيلات الأدبية التي بها تتحول فلسفات ما بعد الحداثة إلى ميادين عملية وإجراءات ميدانية، فيها نجد ما تصبو إليه ذواتنا، وما ينبغي أن تكون عليه هوياتنا.

 

[1] السرد والهوية، تحرير جينو بروكميير، ترجمة عبد المقصود عبد الكريم، المركز القومي الترجمة، القاهرة، ط1، 2015، ص220.

[2] الأزمنة السائلة العيش في زمن اللايقين، زيجمونت باومان، ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط1، 2017، ص 123.

[3] واقعية بلا ضفاف، روجيه جارودي، تقديم أراجون، ترجمة، حليم طوسون، مراجعة فؤاد حداد، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1968، ص19.

[4] الفلسفة في الجسد الذهن المتجسد وتحديه للفكر الغربي، جورج لاكوف ومارك جونسون، ترجمة وتقديم عبد المجيد جحفة،  دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ط1، 2016، ص2.

[5] المصدر السابق، ص39.

[6] ينظر:النظرية الثقافية والثقافة الشعبية، جون ستوزري، ترجمة د. صالح خليل أبو إصبع ود. فاروق منصور، مراجعة عمر الأيوبي، هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، ط1، 2014، ص276.

[7] علم النفس الثقافي، برتران تروادك، ترجمة حكمت خوري وجوزف بو رزق، دار الفارابي، بيروت، ط1، 2009، ص89.

[8] الحلزون العنيد رواية، رشيد بو جدرة، ترجمة هشام القروي، المؤسسة الوطنية للاتصال والنشر، الجزائر، ط2، 2002، ص35. وجدير بالذكر بأن بو جدرة كتب رواياته الأولى باللغة الفرنسية وهي الإنكار 1969 والاراثة 1975 والحلزون العنيد 1977 ولم يكتب بالعربية إلا العام 1982.

[9] الرواية، ص38.

[10] سواقي القلوب رواية، أنعام كجه جي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2005، ص36.

[11] الرواية، ص58.

[12] الرواية، ص99.

[13] الرواية، ص115.

[14] الرواية، ص23ـ24.

[15] الرواية، ص13.

[16] عراقي في باريس سيرة ذاتية روائية، صاموئيل شمعون، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ط1 2010، ص16.

[17] الرواية، ص35.

[18] الرواية، ص33.

[19] الرواية، ص44.

[20] ذاكرة مدينة منقرضة رواية، زهدي الداودي، مديرية الطبع والنشر، السليمانية، 2010، ص11.

[21] الرواية، ص14.

[22] الهويات القاتلة امين معلوف ترجمة نبيل محسن ورد للطباعة سورية ط1 1999،ص8.

[23] المصدر السابق، ص19.  

[24] نهاية الحداثة الفلسفات العدمية والتفسيرية في ثقافة ما بعد الحداثة، جياني فاتيمو، ترجمة فاطمة الجيوشي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1998، ص43.

[25] الهوية وقضاياها في الوعي العربي المعاصر، أحمد بعلبكي وآخرين، تقديم وتحرير رياض زكي قاسم، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2013 ، ص437.

[26] في حضرة العنقاء والخل الوفي رواية، اسماعيل فهد اسماعيل، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ط1، 2013، ص9.

[27] الرواية، ص10.

[28] الرواية، ص11.

[29] الرواية، ص14.

[30] الرواية، ص15.

[31] الرواية، ص19.

[32] الرواية، ص24.

[33] الرواية، ص67.

[34] الرواية، ص79.

[35] الرواية، ص56.

[36] الرواية، ص57.

[37] ولدت هناك ولدت هنا رواية، مريد البرغوثي، رياض الريس للنشر والتوزيع، بيروت، ط2، 2011، ص49.

[38] الرواية، ص49.

[39] الرواية، ص106.

[40] الرواية، ص217.

[41] ينظر: الهوية وقضاياها في الوعي العربي، ص72 نقلا عن بحث لعبد الرحمن منيف عنوانه "القومية والهوية والثورة العربية مجلة المستقبل العربي س9، ع 95، كانون الثاني يناير، 1987 ، ص65ـ101.

[42] ينظر: أدب أمريكا اللاتينية القسم الثاني، تنسيق وتقديم سيزار فرناندث مورينو، ترجمة احمد حسان عبد الواحد، مراجعة د. شاكر مصطفى، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1988، ص45.

[43] ينظر: نحو نظرية للثقافة نقد التمركز الأوربي والتمركز الأوربي المعكوس، سمير أمين، معهد الانماء العربي، بيروت، ط1 ، 1989.

[44] الوجود والزمان والسرد فلسفة بول ريكور، تحرير ديفيد وورد، ترجمة وتقديم سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 1999، ص55.

[45] بؤس العالم رغبة الإصلاح، الجزء الأول، ببيير بورديو، ترجمة محمد صبح، مراجعة وتقديم د. فيصل دراج، دار كنعان، دمشق، ط1 ، 2010، ص18..

[46] فلسفات النفي دراسات في النظرية النقدية، هربرت ماركوز، ترجمة مجاهد عبد المنعم، دار الحكمة، القاهرة، ط1، 2012، ص113.

[47] ينظر: أزمة الهويات تفسير تحول، كلود دوبار ترجمة رندة بعث، المكتبة الشرقية، بيروت، ط1، 2008، ص298.

[48] معجم بورديو، ستيفان شوفالييه وكرستيان شوفيري، ترجمة د. الزهرة إبراهيم، النايا للدراسات والنشر، سورية، ط1، 2013، ص164ـ165. ويتكون "الرأسمال الثقافي من مجموعة من الثروات الرمزية التي تحيل من جهة على المعارف المكتسبة التي تمثل في الحالة المدمجة على شكل استعدادات دائمة للبنية.. ومن جهة اخرى على انجازات مادية وراسمال في حالة موضوعية هو ميراث ثروات ثقافية" معجم بورديو، ص162.

[49] المصدر السابق، ص284.

[50] الغرف الأخرى رواية، جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1986، ص16.

[51] الرواية، ص84.

[52] الرواية، ص89.

[53] الرواية، ص26.

[54] الرواية، ص102.

[55] طشاري رواية، أنعام كجه جي، دار الجديد للكتاب، 2013، ص12.

[56] الرواية، ص24.

[57] الرواية، ص26.

[58] الرواية، ص26.

[59] الرواية،ص34ـ35.

[60] الرواية،ص38

[61] الرواية،ص38

[62] الرواية،ص65

[63] الرواية، ص67.

[64] الرواية،ص68

[65] الرواية، ص90.

[66] الرواية، ص152.

[67] الرواية، ص189.

[68] الهوية وقضاياها في الوعي العربي، ص153.

[69] واقعية بلا ضفاف، ص145.

[70] المصدر السابق، ص149.

[71] طيور الحذر الملهاة الفلسطينية رواية، إبراهيم نصر الله، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ط5، 2012، ص7. وجدير بالذكر أن الرواية جزء من مشروع إبراهيم نصر الله الذي عمل عليه منذ العام 1985 بمجموعة روايات وكل رواية مستقلة عن الأخرى لكنها ترسم صورة للحياة الفلسطينية منذ نهايات القرن السابع عشر حتى ما بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية.

[72] الرواية، ص8.

[73] الرواية، ص9.

[74] الرواية، ص233.

[75] خسوف برهان الكتبي رواية، لطفية الدليمي، بغداد، 1999، ص15.

[76] الرواية، ص18.

[77] تاريخ العيون المطفأة رواية، نبيل سليمان، دار ميم للنشر، الجزائر، ط1، 2019 ،ص8.

[78] الرواية، ص76.

[79] الرواية، ص15.

[80] الرواية، ص113.

[81] ينظر: الزمان والسرد التصوير في السرد القصصي، الجزء الثاني، بول ريكور، ترجمة فلاح رحيم، راجعه عن الفرنسية جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2006، ص47.

[82] حديث النهايات فتوحات العولمة ومأزق الهوية، علي حرب، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط2، 2004، ص23.

[83] الاختلاف والتكرار، جيل دولوز، ترجمة د. وفاء شعبان، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2009، ص105.

[84] ينظر: المصدر السابق، ص94.

[85] الهوية العربية والأمن اللغوي دراسة وتوثيق، د. عبد السلام المسدي، المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات، بيروت، ط1، 2014، ص21.

[86] قلق المعرفة اشكاليات فكرية وثقافية، سعد البازعي، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط1، 2010، ص90.

[87] المعذبون في الأرض، طه حسين، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012، ص108.

 

[88] النباهة والاستحمار، علي شريعتي، ترجمة هادي السيد ياسين، مراجعة حسين علي شعيب، دار الأمير، بيروت، ط1، 2004، ص64. ويعني بالاستحمار" تزييف ذهن الانسان ونباهته وشعوره وحرف مساره عن النباهة الانسانية والنباهة الاجتماعية فردا كان ام جماعة" ص100.

[89] الآم السيد معروف قصص، غائب طعمة فرمان، دار الفارابي، بيروت، ط1، 1982، ص14.

[90] الرواية، ص20.

[91] الرواية، ص115.

[92] الرواية، ص127.

[93] أطياف العرش رواية، رواية نبيل سليمان، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ط1، 2010، ص26.

[94] درج الليل درج النهار رواية، نبيل سليمان، دار الحوار، دمشق، ط1، 2004، ص19.

[95] الرواية، ص70.

[96] عالم بلا خرائط رواية، جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1992، ص15.

[97] الرواية، ص83.

[98] الرواية، ص13.

[99] الرواية، ص23.

[100] الرواية، ص92ـ93.

[101] الرواية، ص92.