يسعى الباحث العراقي هنا إلى إعادة البحث في بنية ومفهوم ووظيفة الخطاب الجناسي، وتجاوز مجمل نظريات الجِناسة التي عرفت وحددت المفهوم، لنفهم الجناسة باعتبارها قيّم تداولية تربط بين انواع من النصوص وبين أنواع من الأفعال الاجتماعية والمقاربات الاستطيقية والتأويلية لهذا المفهوم باعتباره "إشكالية بنيوية ونظرية".

ما بعد ابستمولوجيا الجِناسة الطبيعية

بحث في سيموطيقا النوع الثقافي/ البلاغي

حيـدر علي سلامة

 

تقديم:
يحاول هذا البحث تقديم مناقشة نقدية وابستمولوجية وتحليلية لمفهوم genre ليس بوصفه مجرد تعبير عن جنس أو نمط يمأسس بنية النصوص الأدبية واشكالها وانواعها وانظمتها السردية واللسانية، بل بوصفه نوع ثقافي/ بلاغي لا تتحدد منطقة اشتغاله على خرائط النصوص الأدبية فحسب، بل إنه يتسع ليتمفصل مع خرائط ومناهج البحث والدراسات الأدبية من جهة؛ والتنظير الفلسفي والابستمولوجي ما بعد الوضعية والبنيوية والنظريات الوظيفية والادراكية، والتي لطالما عملت على تحديد هذا المفهوم بمجموعة من المهام والوظائف النظرية الضيقة والمحددة، التي تكاد لا تتجاوز سلطة النص وايديولوجيا تشكيله وبناءه شكليا ونظريا وبنيويا، مما أدى، في نهاية المطاف، الى تجريد هذا المفهوم من أي دلالة فلسفية وثقافية جديدة، تأخذ على عاتقها تجسير الفجوة بين مفهوم النوع ؛ والنظرية الأدبية ؛ والنظرية الفلسفية؛ والبحث الابستمولوجي؛ ونقد المقاربات العلموية والاداركوية والانطولوجية الوضعية التي تمأسست هي الأخرى مع هذا المفهوم؛ ومع ما تم الترويج له في المؤلفات والأبحاث والمعاجم والقواميس الأدبية العربية السائدة والمعتمدة في مختلف الاختصاصات اللسانية والأدبية والبلاغية والسيمولوجية إضافة الى الأبحاث في حقول الفلسفة والدراسات الابستمولوجية والأخلاقية والسياسية. فالباحث المطلع والمتمعن في بنية هذه الاختصاصات وحراكها النظري والدلالي، سيجد كيف ان العمل على هذا المفهوم لم يشهد أي تحول فلسفي او انعراج ابستمولوجي او اونطو-لساني، بمعنى فلسفي آخر، ان طبيعة البحث في مفهوم "النوع الثقافي" حرصت ولا تزال على الامتناع عن ادراج هذا المفهوم ضمن مقاربات فلسفات الوجود والبحث السيموطيقي وفلسفات المعنى واللغة ونظريات النص والنقد الثقافي وما شابه. وبطبيعة الحال، فأن عملية الاستمرار في تأسيس تكنولوجيا المنع والعزل المفاهيمي والنظري لمفهوم "النوع الثقافي" في النقد والنقد الادبي والنظرية الأدبية واللسانية والسردية، سوف تؤدي بالضرورة الى عزل هذا المفهوم عن مفاهيم الانطولوجيا او الانطولوجيا السيموطيقية، وبالتالي الى انعزاله تماما عن مفهوم الوجود بشكل عام والوجود الإنساني في العالم بشكل خاص.

ومن هنا، ظل النظام العلائقي المتسع والمتشعب لمفهوم النوع الثقافي، ثابتا ومحددا بين اجناس أدبية وتاريخية المرويات السردية القديمة والجديدة، وقد انعكس هذا سلبا على طبيعة التعاطي من لدن المختصين والاكاديميين مع هذا المفهوم، حيث غلبت على معالجاتهم النزوع نحو اجراء مقاربات وضعية، وهي نتيجة طبيعية لسيطرة اشكال ابستمولوجية وفلسفية ضيقة، تولي أهمية كبيرة لسيادة الاتساق النظري للمفهوم من جهة، والانغلاق اللساني والدلالي والانطولوجي من جهة أخرى. لهذا السبب، نجد كيف إن تعريف مفهوم "النوع" لم يتجاوز أيديولوجيا الضم والدقة والصرامة والمعايير المطلقة، واللافت، ان هذه المفاهيم شكلت بمجملها جينالوجيا التفكير الفلسفي العربي السائد، الذي يبدأ بتصنيف الحقيقة بوصفها معايير عقلية مطلقة وصارمة، الامر الذي يعزلها تماما عن راهنية سياقاتها الثقافية والتاريخية واللسانية والانطو-ثقافية. بمعنى، ان عدم اتساع دوائر البحث النقدي لهذا المفهوم لا ينحصر فقط على المتخصصين في حقول اللغة والدراسات الأدبية واللسانية فحسب، بل انه ذو صلة وعلاقة اشكالية مع ظاهرة اخفاق البحث الفلسفي على مستوى الكتابة البحثية وإنتاج المؤلفات والموسوعات الفلسفية الكبرى. حيث نلاحظ كيف ان "النسيان الانطولوجي والسميوطيقي" السائد في الأبحاث الأدبية والحقول اللسانية والبلاغية، ظل هو نفسه يشكل بنية البحث في الفلسفة والدراسات الابستمولوجية التي غلب عليها جميعا سيطرة النزعة الوظيفية والتصنيفية والتنميطية لطبيعة الكتابة الفلسفية وإنتاج انساقها النظرية المعيارية/ التجريبية/العقلانية.

وربما تبدو لنا غلبة ذلك الطابع في "التصنيف المقولاتي/ النظري" على معظم مفاهيم وابحاث ونظريات الفكر الفلسفي واللغوي، واضحة بجلاء من خلال ابسط تعريف لمفهوم "النوع"، وذلك عندما يتم النظر اليه باعتباره: «مفهوم اصطلاحي ونقدي وثقافي يهدف الى تصنيف الابداعات الأدبية حسب مجموعة من المعايير والمقولات التنميطية، كالمضمون والأسلوب والسجل. فالجنس هو بمثابة عقد نصي او اتفاق خطابي بين المرسل والمرسل اليه او بين الكاتب المبدع والمتلقي المفترض. يبقى الجنس الادبي مبدأ تنظيميا للخطابات الأدبية، ومعيارا تصنيفيا للنصوص الأدبية، ومؤسسة تنظيرية ثابتة تسهر على ضبط النص والخطاب»1.

يتضح لنا من النص أعلاه، كيف اصبحت عملية تصنيف النصوص ومفهمتها نظريا ومعياريا ثابتا، تمثل، في واقع الامر، بنية ووظيفة مفهوم "النوع" سواء تعلق ذلك في حقول الدارسات الأدبية او اللسانية والفلسفية. ربما هذا ما يجعلنا نسعى في هذا البحث الى إعادة طرح مفهوم "النوع الثقافي" من خلال الاعتماد تشكيل مجموعة من المقاربات المنهجية- والبينمهنجية –، بالإضافة الى محاولة البحث الى إعادة تفعيل العلاقة الغائبة والمسكوت عنها دائما، والتي نعني بها هنا، العلاقة بين مفهوم النوع و"التحليل الانطولوجي"، عوضا عن الاعتماد على تقنيات التحليل اللساني/واللغوي ذو الاتجاه الامبريقي والنظري.

جدلية المعرفة الجِناسية والمعرفة الابستمولوجية:
ذكرنا سابقا، ان الهدف الأساسي من محاولتنا يكمن في إعادة البحث في بنية ومفهوم ووظيفة الخطاب الجناسي، وعندما نشير الى عملية البحث في بنية؛ ومفهوم ووظيفة الخطاب الجناسي، فأننا في الواقع نشير الى تجاوز مجمل نظريات الجِناسة التي عرفت وحددت مفهوم genre بكونه مجرد نمط للنص text type ونظام صُنعي/ ادراكي لتصنيف النصوص بوصفها اشكال ومقولات مجردة. وهذا يعني من الناحية الابستمولوجية ان مفهوم الجناسة يرتكز على مفهوم الشكل form ويشكل دلالته من خلاله. بمعنى آخر، ان الاشكال اصبحت هي من تمثل بنية المعرفة الابستمولوجية التي تقود صياغة وتكوين مجمل المقاربات والنظريات حول مفهوم الجناسة. وهنا لابد ان نوضح الفرق بين المعرفة الجِناسية والمعرفة الابستمولوجية، فالأولى، لا تحدد معنى ووظيفة الجِناسة بالشكل النظري والوصف الطبيعي/ الوضعي، وإنما تتجاوز مفهوم الشكلنة الجِناسية الحتمية، وهي بذلك معرفة تنظر الى «مفهوم الجناسة بوصفه اشكالا للمعرفة الثقافية cultural Knowledge التي تشكل الاطر المفاهيمية والوسيط الذي يساعدنا في كيفية الفهم والفاعلية الإنجازية النمطية ضمن مختلف الأوضاع والمواقف الاجتماعية. هذه المقاربة تفهم الجِناسة بإنها تعبر عن كل من الجانب التنظيمي/ الأيديولوجي، وعن توليد انوع مختلفة من النصوص وانتاج الافعال الاجتماعية، بطريقة معقدة ومركبة، وبالعلاقة الديناميكية مع بعضها البعض. مثل هذه المقاربة الديناميكية للجِناسة تدعونا لتدريس وتعلم مفهوم الجناسة بمعزل عن مفاعيلها الشكلية المجردة فقط .. تدعونا الى أن نفهم الكيفية والسبب الذي جعل هذه المفاعيل الشكلية للجناسة تنشأ في الوجود وما هي الطريقة التي قامت عليها، وكيف ولماذا تؤسس لإمكانية تشكيل أفعال اجتماعية ثابتة / وعلاقات معينة محددة دون أخرى. باختصار، إن هذه المقاربة تدعونا الى فهم المعرفة الجناسية باعتبارها لا تتضمن فقط على مفاعيل المعرفة الشكلية، ولكن أيضا لمعرفة لاماذائية وغرضية عمل مقاصد الجناسة»2.

مما سبق أعلاه، يتضح لنا انه من الأهمية بمكان التمييز بين مفهوم جناسة تعبر عن إضفاء طابع مقولاتي categorization لتنميط النصوص، وبين أن نفهم الجناسة باعتبارها قيّم تداولية تربط بين انواع من النصوص وبين أنواع من الأفعال الاجتماعية. وهذا ما يجعل من واقعية الفاعلية الاجتماعية لمفهوم الجناسة تعبر عن تمثلات مفهوم المعرفة الجناسية، التي هي في بنيتها العميقة تشكل معرفة بلاغية rhetorical Knowledge «فمنذ ان أصبح مفهوم الجناسة يعبر عن الفعل الاجتماعيsocial action فان هذا المفهوم يتميز كونه يعبر عن الأفعال البلاغية التي تتشكل في المواقف الاجتماعية المتكررة...جناسية الفعل تستعمل في المأسسة»3.

من هنا، فإن مفهوم المعرفة الجناسية، سوف يشكل قطيعة ابستمولوجية مع ابستمولوجيا النظرية الأدبية الشكلية؛ وابستمولوجيا اللغة واللسانيات التقليدية، «ذلك لان مفهوم الجناسة أصبح لا يشير الى ظاهرية تنظيم وتشكيل تقنيات تنميط النصوص بقدر ما يشير بشكل كبير الى الفاعلية الأيديولوجية ideological active، والتغيير التاريخي لتشكيل النصوص؛ والمعاني، والافعال الاجتماعية»4.

فلسفة الجناسة وسيموطيقا البلاغة الجديدة:
ذكرنا سابقا، كيف ان عملية إعادة التفكير في مفهوم الجناسة تقتضي بالضرورة إعادة تفكيك/ وتأويل مختلف مناهج البحث الفلسفي والاتجاهات اللسانية ونظريات النص ونظريات الابستمولوجيا والمعرفة وما شابه. وذلك لان طبيعة التفكير والبحث في هذا المفهوم تشكلت ضمن مجموعة كبيرة من الاشكال اللسانية التقليدية، او ما يطلق عليها بـ"مناهج التحليل اللساني الوضعي" التي عملت على مأسسة هذا المفهوم بمجموعة كبيرة من المبادئ البنيوية والنظرية التي نجد لها تطبيقات كبيرة فيما يعرف بعمليات اللسانيات الوظيفية المسستمة Systemic functional linguistic التي عملت على تحديد مفهوم الجناسة بالعناصر البنيوية للنص فقط. ويمكن ان نحدد الإشكالية الابستمولوجية لهذه المقاربة اللسانية الوظيفية، في انها تعمل على مأسسة العناصر البنيوية/ الشكلية للنص في السياقات الثقافية، وبما يجعل مفهوم "الجناسة" اشبه بالوسيط بين الأيديولوجيا والوظيفة والاستعمال البنيوي من قبل نظام تشكله خطابات الجماعات الثقافية/ النخبوية التي تعمل على تنميط الوجود الاجتماعي والثقافي بميكانيزمات السلطة/ والقوة بواسطة الجناسة. وعليه، يتمثل تعريف هذا المفهوم بحسب هذه المقاربة اللسانية بما يلي:

«أولا: مفهوم الاجناس عبارة عن وقائع تواصلية قابلة للإدراك، تتميز بسلسلة من أغراض تداولية يمكن تمييزها وفهمها بشكل متبادل من قبل أعضاء من المتخصصين او مجموعات اكاديمية حيث تحدث فيها هذه الوقائع بشكل منتظم.

ثانيا: مفهوم الاجناس مشيد، بدرجة عالية، بنيوياً حسب المتعارف عليه تقليدياً، وبقيود تحدد المساهمات المسموح بها، وهذا لا يكون فقط على مستوى الميول التي نود التعبير عنها والاشكال التي تتخذها في أحيان كثيرة، بل وكذلك على مستوى المصادر المعجمية-النحوية التي نستعملها بهدف أن نربط قيم خطابية بخواص شكلية.

ثالثا: سيكون لدى الأعضاء المشيدين لمجموعة متخصصة معينة، قدر من المعرفة والفهم الكبير في استعمال الاجناس والاستفادة منها أكثر من أولئك المبتدئين، والأعضاء الجدد او الغرباء.

رابعا: على الرغم من اعتبار الاجناس على إنها تراكيب مشيدة حسب المتعارف عليه تقليدياً conventionlised، فإن الأعضاء ذوي الخبرة في اختصاص او في مجموعات متخصصة عادة ما يستخدمون مصادر الاجناس الخطابية العامة من اجل التعبير ليس فقط عن ميول او مقاصد "خاصة" بل وتلك المنتظمة داخل تراكيب "ما تم الاعتراف به اجتماعياً على أنه ذو أغراض تداولية وتواصلية".

خامسا: الاجناس هي مجموعة انعكاسات لثقافات تم تنظيمها وضبطها، وبهذا المعنى، فهي تتمركز في الأفعال الاجتماعية المضمنة في ممارسات التنظيم الصارم؛ والممارسات التخصصية، والممارسات المؤسسية الأخرى.

سادسا: تتمتع جميع الاجناس التي نتجت عن طريق ممارسات نظامية صارمة، او تخصصية، بمبادئ أخلاقية معيارية كلية خاصة بكل واحدة منها، والتي غالباً ما يتم مطابقة هويتها وتعريفها بمركب من عناصر نصية وخطابية وسياقية»5.

يتضح لنا، مما سبق، كيف إن مفهوم "الجناسة" هو، أولا وقبل كل شيء، مفهوم ذو طابع إشكالي. ويهمنا هنا ان نشير الى ان مفهوم الإشكالية problematic يعبر – وبحسب ما أشار اليه التوسير- عن «بنية نظرية تعريفية للأطر المفاهيمية التي تعيّن هوية الاشكال التي يجب ان يتم طرح المشكلات بها، وما الذي ينظر اليه على إنه ذو صلة بالمشكلة ومناسب في معالجته»6.

النوع الثقافي/ البلاغي ما بعد الابستمولوجيا البنيوية:
ان البحث في طبيعة العلاقة الإشكالية بين مفهوم الجناسة والأطر المفاهيمية المسيطرة على تشكيل نظام ووظيفة هذا المفهوم، يقتضي بطبيعة الحال إعادة البحث في بنية الأطر النظرية التي تحولت الى تراكيب مطلقة / كلية. وبالتالي، فأن إشكالية مفهوم الجناسة هي إشكالية بنيوية structuralist problematic لا يمكن البحث فيها دون اجراء تحليل مورفولوجي Morphological Analysis بهدف قراءة وتأويل فينوميولوجيا النظام النظري لعمل الجناسة. وهذا يعود في احد اهم أسبابه الى ان طبيعة هذا المفهوم نفسه وخصائصه وبنية نظامه النظري جرى تشييدها تحت سيطرة منظومة ابستمولوجية من التعاريف التي رسخت لما ينبغي الاعتراف به حسب ما يدعى تقليدياً conventional. ونعتقد ان هذا المصطلح، هو نفسه في حاجة الى إعادة ترجمة وتدقيق جديد، فلا يمكن ان نكتفي بتحديده بما هو "تقليدي" فحسب، لان هذا التقليدي المستعمل في تعريف وتحديد مفهوم الجناسة، هو في الواقع، يمثل "الإشكالية البنيوية" للجناسة، إضافة الى إن ما هو تقليدي لا يمكن حصره فقط في التعريفات الاصطلاحية والقاموسية فقط، لا سيما وهو العنصر الأساسي الذي يشكل هوية وبنية ووظيفة مفهوم الجناسة، وسوف يعمل على تثبيت الاجناس ضمن أطر نظرية /شكلية ضيقة تحولها الى اشبه ما يكون بـ "رقيب أيديولوجي" ينظم ويتحكم بعمليات صياغة النصوص الأدبية، من جهة ومن جهة أخرى، بتكوين مفاهيم النظرية الأدبية التي عملت هي أيضا على تحويل الاجناس الى مجرد سلسلة من الاشكال المجردة والمستقلة، وبما يعمل على استمرار إعادة عملية التحكم والضبط بمجمل العلاقات التي يمكن لها أن تتشكل بين النص/ والكاتب، وعلى إنتاج المفهوم والمعنى والدلالة بوصفها تندرج جميعا ضمن تعريفات الجناسة "التقليدي". وبذلك، لم يتم التمييز بين ما تتخذه هذه المفاهيم من طابع تقليدي لازم نتيجة اعتماد تعريفات نمطية لمفهوم الجناسة؛ وبين ان يتم صياغتها وبنائها- أي تلك المفاهيم- بواسطة "ميتودولوجيا شكلية متجانسة". من هنا، فإن تحديد مفهوم "التقليدي" بوصفه مجرد أطر معيارية/ بنيوية يتم اعتمادها في إضفاء أسس ومبادئ ثابتة ومحددة لمفهوم الجناسة، هو، في الواقع، يدغم الابعاد اللسانية والابستمولوجية والبلاغية التي يتضمنا تعريف مفهوم الما هو تقليدي والذي لطالما تم التعامل معه على إنه فقط يشير ويحيل الى كل ما هو واضح بذاته/ متعارف على انه صحيح/ بوصفه معيار بذاته؛ ثابت ومحدد من حيث التعريف والاشتغال والوظيفة. في حين هذا ان المفهوم يشتمل بالأساس على جوانب بنيوية؛ واسلوبية وابستمولوجية ولسانية تمثل جميعها "النظام السيموطيقي" لتعريف مفهوم الجناسة، تتطلب الانتباه وعدم الركون بسهولة الى كليشيهات شكلية جاهزة تجرد مفهوم الجناسة من الابعاد الثقافية والبلاغية والممارسات الخطابية، وتحدده فقط ضمن ابستمولوجيا «منهج شكلي أصبحت، في اللحظة الراهنة، متموضعة داخل تراكيب مؤسسية، حتى إن تعيينها كمنهج شكلي، يقتضي التوصيف؛ وهو توصيف تاريخي، وليست مصطلح تعريفي. وما تتسم به نصوصنا هو ليس تلك النزعة الشكلانية بوصفها نظرية أدبية، ولا بإنها ميتودلوجيا بوصفها نظام مبادئ علمية مغلقة، بل فقط بسعينا الحثيث الى تشكيل تراكيب مؤسسية تستند على خصائص محددة للمواد الأدبية، ولعلم ادبي مستقل»7.

مما سبق، يتضح لنا كيف انه بقدر ما يتم اختزال "النزعة الشكلية" ضمن الإطار التعريفي/ الاصطلاحي لمفهومها فقط، بقدر ما تتحول الى "ممارسة تنميطية وتاريخية" لوجودنا في العالم وعلاقتنا بنسق المفاهيم النظرية التي يتم انتاجها في اللغة والنظريات اللسانية المختلفة. لهذا، فأنه من الصعوبة بمكان ان يتم التعامل مع مفهوم الجناسة – بحسب مبادئ النزعة الشكلية- باعتباره علم ادبي مستقل، وهذا ما تبين لنا من خلال مفهوم "الما ينبغي التعارف عليه تقليدي" الذي اعطى مفاهيم وانماط شكلية مأسست مفهوم "الجناسة" لتجعله علما مستقلا يعمل بأشكال ابستمولوجية حتمية او ابستمولوجية أحادية epistemology monism تمثل في واقع الأمر الإطار المفاهيمي لبنية الاجناس. بمعنى آخر، ان مفهوم الابستمولوجيا المتمثل في بنية الاجناس، لا يعبر هنا ابدا عن نظام عقلاني او رؤية علمية تعددية، بل على العكس من ذلك تماما، انها شكل من اشكال هيمنة هيكل شكلي معطى لعناصر جناسية ضمن هيراركية استاتيكية، انها هيمنة حتمية أساساتية او ما يعرف ب الهيمنة الاسلوبية Stylistic dominant.

من هنا، تقتضي عملية تعريف "الجناسة" انشاء جملة من المقاربات الاستطيقية والتأويلية لهذا المفهوم. خاصة واننا سوف نتعامل مع هذا المفهوم بوصفة يمثل "إشكالية بنيوية ونظرية" وهذا يتطلب البحث في العلاقات المنطقية بين كل من مفهوم التقليدي؛ والابستمولوجي؛ والشكلي التي ساهمت جميعها في تحويل الاجناس الى مجرد "قالب شكلي أيديولوجي رقابي/ تأديبي" يتوسط بين النص والكاتب وعمليات انتاج اللغة والدلالة.

انطولوجيا التقليدوي الماينبغي تصديقه: لسانياً؛ ادراكوياً، وتداولياً:

إن المطلع بتمعن جيد، في لغة القواميس والانسكلوبيديات الأدبية والثقافية والسردية العربية، سيجد كيف انها عملت على تبيئة واستقرار مداخل ومفاتيح اصطلاحية ونظرية لمفهوم الجِناسة تؤسس دائما لما هو تقليدي/ ابستمولوجي/ شكلي، لدرجة أن مؤلف كتاب (دليل الناقد الادبي) لم يفرد صفحة واحدة مخصصة لهذا المفهوم، بل انه مرّ عليه بالذكر من خلال مفهوم أخر وهو القدرة الأدبية/الكفاءة الأدبية. وقد حاول اظهار ان مفهوم الجِناسة على أنه اشبه بـ"ثكنة اسلوبية لسانية" سيما وانه اختزل الجِناسة بتحديده لها كـ "نوع ادبي" يصوغ ويشكل ممارسات اللغة والكتابة، فيخبرنا أن: «المرء لا يكتب الا من خلال نظام معين مثلما لا يتكلم الا من خلال نحو لغة محددة، وهذا النظام في الادب هو نظام النوع الادبي (Genre) الذي يكون للنص الفردي بمثابة السياق الذي يعزز نشاط الكتابة ويسبغ عليها هويتها، حتى لو كان الكاتب يتحدى ويسعى الى تقويض الأعراف والتقاليد المتبعة»8.

تأتي أهمية النص المذكور أعلاه، من كونه يعيد طرح معظم الإشكالات البنيوية /والنظرية والابستمولوجية والانطولوجية ذات الصلة بمفهوم الجناسة التي اتينا على ذكرها في بداية البحث. فقد تعامل النص مع مفهوم الجناسة على اعتباره يمثل علاقة جدلية بين مفهوم النزعة الشكلية ومفهوم convention، واذا ما بحثنا في اهم المفاهيم التي جسدها النص سوف نجد انها تتمحور وتتركز على مفهوم الكاتب/ الكتابة/ والنظام/ الأعراف والتقاليد المتبعة، وهذه جميعها تمثل البنية العميقة لجدلية العلاقة الإشكالية بين النزعة الشكلية وتكنولوجيا النزعة التقليدوية conventionism التي لا يتحدد عملها في نظام انتاج الأعراف والتقاليد فحسب، بل انها تشكل في واقع الامر الانطولوجيا الاساساتية للعلاقة الهرمونية/ الميتافيزيقية بين الكاتب والنص والمتلقي. بمعنى آخر، ان النزعة التقليدوية تسعى للمحافظة الدائمة على استمرار منطق عمليات تشكيل "الجناسة" بين فكرة اللازماني Timeless / والزماني Temporal، على الرغم من وجود طابع غير متجانس بين الزماني/ واللازماني. لكن، طبيعة تكنولوجيا النزعة التقليدوية تضم في بنيتها كل من عنصر اللازماني يمثله نظام موضوعاني يتألف من الاشكال غير الزمانية timeless forms، وتعابير زمانية تتوافق والتغييرات الحاصلة في بنية القيم الاجتماعية. وهذا ما يجعل «كل مجال من مجالات الفاعلية الإنسانية يشتمل على اشكال تقليدوية الى المستوى الذي يجعلها تعرف هويتها وتتشكل بالإحالة الى نظام نماذج نمطي يتألف من: اولاً- قواعد موضوعانية [تعبر عن انطولوجيا للقيم والأعراف التي لها وجود مستقل في العالم الخارجي عن الذهن الإنساني، ويطلق عليها بـ «الواقعية الموضوعانية» او الواقعية التجريبية التي ينتج عنها بالضرورة ابستمولوجيا تشكيل الوقائع في العالم وانماط/ واشكال من القيم المتفق عليها من قبل الجماعة التي تستعملها]، وثانيا- المعايير [وهي تشير إلى نماذج مثالية؛ أو تمثلات طبقية لمبادئ وثوقية متمأسسة مثاليا؛ أو مجموعات؛ أو أنواع، ومقولات]، ويرتبط جوهر هذه القواعد والمعايير ببعد اجتماعي مضمر. هذا السلوك الذي يصطلح عليه سلوك بين ذاتي intersubjective وعلى النقيض من ظاهرة طبيعية محضة، تستمد فيه الاشكال التقليدوية سلطة تشريعها الشبه-موضوعية وقوتها المعيارية اياً كانت من البعد الاجتماعي الكامن ورائها. وليس مفاجئاً، ان تصبح اللغة لبعض اشكال البين-ذاتوية intersubjectivity هي النموذج بامتياز، فاللغة لها جذورها في طبيعة النظام الشكلي نفسه، من جهة ومن جهة أخرى، في حسّ القبول المشترك التي تقوم عليها إمكانية جميع اشكال التواصل اياً كانت»9.

مما سبق، يتضح لنا كيف ان العلاقة البينية المتداخلة بين مفهوم الزمانية وغير الزمانية تكتسب شرعيتها وعملها بواسطة البنية العميقة للنزعة التقليدوية/ الماضوية في فلسفة الطبيعة او الابستمولوجيا الطبيعية وفلسفة القيم والأنظمة الأخلاقية، والتي هي، في واقع الأمر، تعبر عن نزعة تاريخانية تعكس قيم متخيلة واشكال مثالية لها انعكاس طبيعي في الفواعل الاجتماعية التي تجسد كينونتها بواسطة "اسلوبيات أيديولوجية دلالية". وبالتالي، فأن بنية الصراع الجدلي بين الزماني/ اللازماني، تنعكس في طبيعة مفهوم «النزعة التقليديوية الذي ينشط ويتفعّل عبر التوترات الجناسية generic tensions والعلاقة التفاعلية بين الابعاد «الموضوعانية» و«الاجتماعية» التي تنطوي عليها. وبالرغم من ذلك، فقد كانت تنبثق الاشكال التقليدوية، على مدار التاريخ، بوصفها مفهوماً ذو ملامح متميزة فقط حينما تكون تلك التوترات في قمة ذروتها، حيث تميل عناصر «الموضوعانية» و«الاجتماعية» للنظام إلى الاندفاع نحو القطب المعارض، لتجد الاشكال التقليدوية نفسها، بوصفها ظاهرة اجتماعية، متناقضة مع ما هو أكثر موضوعانية سواء كان كلياً أو متفردا. في الواقع، يعبر الكلي والمتفرد عن وسيلة مفهومية تتميز من خلالها السمة الاجتماعية غير المألوفة، عن «الطبيعة». فمن ناحية، نجد ان الكلي يتناقض مع التقليدوي بطريقة تنطوي على علاقات تفاعلية بين الزماني واللازماني، أي بين الطبيعي والثقافي اللذان يرتكزان على نظام معياري في الحياة الجماعية المشتركة»10.

من هنا، فإن الغاية الأساسية التي دعتنا الى ترجمة واستعراض المفاهيم والمصطلحات الفلسفية والثقافية ذات الصلة بمفهوم «النزعة التقليدوية»، هي من اجل التوضيح والتأكيد على إن استعمال مفهوم" النوع الادبي"، لم يعد كافيا لبيان وتوضيح الابعاد الثقافية والانطولوجية لمفهوم الجناسة، بل لم يعد بالإمكان التعامل مع هذا المفهوم بطريقة شكلية ولغة وضعية/ وصفية تعمل على عزله من العناصر التقليدوية والكلية والطبيعية، وبالتالي لا تميز بين الجناسة/ او الاجناس على اعتبارها مجرد اشكال وانماط مجردة، وبين النظر إلى الجِناسة على انها اشكال تنمِّط الممارسات الثقافية والأيديولوجية والبنيوية والتي تمثل في مجملها طوبولوجيا الخطاب السيموطيقي، وهذا بالضبط ما أشار اليه غريماس في قاموس لنظرية اللغة: «الجِناسة تشير إلى مفهوم يتم من خلاله تعيين فئة من الخطاب يمكن ادراكها والتعرف عليها من خلال نماذج ذات طبيعة معترف بها اجتماعياً على إنها سوية، وهي نماذج يمكن لها أن تنشأ إما عن تصنيفات هرمية ضمنية ترتكز، في المجتمعات ذات التقليد الشفوي، على تقسيمات فئوية خاصة للعالم تنحدر عن موروث فلسفي؛ لغوي؛ سيموطيقي؛ نحوي، ومنطقي، ويمكن أن تنشأ عن «نظرية للأجناس» تطرح نفسها للعديد من المجتمعات في شكل تصنيفات صريحة، ذو طبيعة غير علمية. ومثل هذه النظرية الخاضعة لنزعة نسبية ثقافية، وقائمة على مسلمات أيديولوجية ضمنية، لا تشترك في شيء مع طوبولوجيا الخطابات typologie (التي هي مجموعة من الأساليب التي تمكننا من التعرف وانشاء كل من: الروابط والعلاقات بين شيئين اثنين أو أكثر من الموضوعات السيموطيقية، ونتيجتها التي تتخذ شكل نظام روابط مركبة»11.

وعليه، فإن مفهوم الجِناسة بوصفه ممارسة اجتماعية وثقافية تعكس "الفعل السيموطيقي" في طوبولوجيا الخطاب، لم يعد يسمح لنا، على الاطلاق، أن نعرف الجِناسة بـ "النوع الادبي" على اعتبار انها (السياق الذي يعزز نشاط الكتابة ويسبغ عليها هويتها). وهذا تحديدا هو ما مثّل روح "الإشكالية النظرية" الأساسية التي انطلقنا منها في بداية هذا النص، والتي تتمثل في رصد مواضع "اللغة الوضعية" التي نعني بها تلك اللغة التي تعمل باستمرار على إدراج مفهوم الجناسة ضمن تراكيب وأنظمة مؤسسية بالاستناد إلى "أنظمة لسانية تقليدوية" عامة ومطلقة.

الهوامش

*باحث متخصص في فلسفة الدراسات الثقافية/وما بعدها- من العراق.

(1)http://jilrc.com/%D8%A5%D8%B4%D9%83%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AC%D9%86%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%82%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A/

(2) Anis S. Bawarshi & Mary Jo Reff: Gener, An Introduction to History, Theory, Research, And Pedagogy, Indiana, 2010, p 4.

(3) (Deborah Dean, Genre Theory, Teaching, Writing, and Being, USA 2008, p 8.

(4) Anis S. Bawarshi & Mary Jo Reff, p 4.

(5) Bhatia. V. K., Worlds of Written Discourse: A Genre-Based View, London: Continuum International, (2004). (Net)

(6(Mirian Glucksmann, Structuralist Analysis in contemporary Social Thought, Routledge, 1974, p3.

(7) peter Steiner, Russian Formalism A metapoeitc, Cornell university press 1984, p22.

(8) د. ميجان الرويلي، د. سعد البازعي: دليل الناقد الادبي، المركز الثقافي العربي-المغرب، ط3، 2002، ص 208.

(9) Lawrence Manley : Convention, Harvard,1980, p. 2.

(10) Ibid., pp. 2-3.

(11) A. J. Griemas & J. Courtés : Sémiotique… dictionnaire raisonné de la théorie du langage, Genre, Hachette Université, 1979, p. 164.