بات واضحًا أن القاصة المغربية، تواصل تقديم الواقع الصادم للعلاقة ما بين المرأة والرجل في حالة عرى، هنا والآن، فالعلاقات لا تخرج عن نطاق "استعمال" جسد الأنثى، سواء داخل نطاق الزواج أو خارجه، وبالقفز على هذه الحقائق، وحذف الحاجة الإنسانية للاحترام والتضامن، يمكن للحياة أن تستمر.

القفز

هـدى الشماسي

 

   لو كنت فقط قد تأكدت من إغلاق الباب. -

كان هذا ما قالته لنفسها قبل أن تغفو، ولا شك أيضا أنها قالته أثناء النوم. ظهر لها فجأة في حلمها من يقول لها: أعطنا خبزنا كفاف يومنا.

كان رجلا شاحبا، وهي لا تحب الرجال الشاحبين. دفع بابا لم تره يوما في حياتها، واندفع يقول لها: أعطنا خبزنا كفاف يومنا، وكان هذا مضحكا غير أنها أحست بالخوف.

أرادت أن تشرح له أنها ليست إلها أو شيئا من هذا القبيل، ولكن الكلام انحشر في حلقها. كان يقترب منها أكثر ويمد يده بالصلاة: خبزنا، خبزنا يا آنسة. وعندها استيقظت وعرفت أن ذلك مجرد حلم.

بالخارج كانت السماء تمطر. أمطرت خلال اليوم أيضا، وكادت تفسد حذاءها الأسود الجديد. فكرت بالرجل الشاحب في نومها وكلمته باستخفاف: أعطني رزقي كفاف يومي أنا الأخرى، وانتبهت إلى أنها تكاد تعرفه.

-إنه يبدو كشقيقي

 لو مات ثم قرر أن يعود

حسنا، إن هذه الأمور لا يصح أن نضحك منها ليلا. تتجمع قطرات المطر في الشرفة وقد تشاء أن تتسلل للمنزل حتى، ولكنها لا تملك الرغبة بالنهوض للتخلص منها، ومن أجل ذلك عليها أن تنتظر الصباح.

ترتب أعمالها في رأسها: أتخلص من المياه، أخرج حاوية القمامة، أتناول فطوري ثم أذهب للعمل.

إنه ما يحدث دائما عدا مسألة الأمطار الطارئة هذه، ولكنها مصابة بنوع من الوسواس الذي يجعلها تقلق من كل شيء قبل عمله. رأسها يمتلئ بتفاصيل كثيرة لا تنفع أحدا، وشقيقها كان يسمي هذه الحالة "إنهم يبولون داخل رأسي".

أو أنه كان يقصد شيئا آخر؟ إن الوقت قد فات بشأن التساؤل عن هذا، وهو قد عبر إلى الجهة الأخرى ولم يعد بوسعهما أن يكونا معا. قال لها آخر مرة رأته فيها: رأسك يكبر متحولا إلى قرنبيط.

أحضر الكلمة من مكان ما في عقله المغلف بألف حجاب وحشرها في الكلام فجأة. قرنبيط، وهي سألته لتجاريه: قرنبيط كبير؟

ولكنه لم يعد حينها مهتما بمواصلة الحديث. هذا ما يسمى بالعبور إلى الجهة الأخرى: أن يجلسا جنبا إلى جنب ويتحدثا عن أمور مختلفة.

- قل إنك ستبقى معنا حتى العيد يا أخي.

- أقول لك أنقذي القرنبيط على النار.

لقد انتقل رأسها إلى النار إذن. قال لها حبيبها: ليس من الضروري أن تجني مثل شقيقك

كان يتحدث بحرية عن ماضيها، مخترقا حاضرها ومستقبلها، وهذا ما يحدث عندما ينفق عليك شخص آخر. أمسك برأسها بين يديه وقبلها في فمها قبلة طويلة مبللة

- أنا أحبك

وهي قبلته حتى لا ترد بأي سخافات مماثلة، وبالنهاية فإن هذا هو الأمر. إنها حبيبته

عشيقته لو شئنا التدقيق، أما في المنزل فزوجته وأطفاله. قال لها في البداية: إنني أمر بأزمة كبيرة في زواجي، وقد يحدث الطلاق. ولكنه توقف فيما بعد عن قول مثل هذا النوع من الكذب، لأنه عرف أنها لا تهتم.

وما الذي يهمها هي على وجه التحديد؟ إنها هذه الأحلام التي تراودها. ما إن تغلق عينيها حتى تبدأ برؤية الأحلام. يبدو الأمر وكأن ثمة من يشغل فيلما ما إن تنطفئ الأنوار داخل رأسها، وهو يهتم كثيرا بأن يعرض لها أشياء مختلفة كل ليلة.

هذا الرجل الشاحب مثلا. أعطنا خبزنا كفاف يومنا. إنها لم تفكر حتى بشيء كهذا في يوم من الأيام، وعدا ذلك فهي مسلمة، ولا تؤدي أي نوع من الصلوات بالأساس، وطبعا فإن آخر ما تقلق بشأنه هو الخبز.

حبيبها وضع منذ أيام المال في جيب معطفها، وذلك طبعا قبل قبلته المبللة، وبعد حديثه عن شقيقها. كان يفعل هذا كل شهر تقريبا، وهي لم تكن تمنعه أو تشكره.

منعته طبعا في بداية الأمر. انتفخ عرق في جبينها، وقالت له: من أنت حتى تنفق علي. ولكن تلك الأيام ولت إلى غير رجعة. إن الإنسان يتغير على نحو رهيب، وهي عدا ذلك في حاجة ماسة إلى المال الذي يمنحه لها، فراتبها ينفذ وسط الشهر، ويكون عليها دائما أن ترسل المال لأسرتها.

البارحة مساء قالت لها أمها على الهاتف: لقد عاد شقيقك إلى المنزل عاريا تقريبا

وهذه دعوة مألوفة لطلب المال. قالت لأمها دون سبب: إنني أعرف أنه كان عاريا، ثم أغلقت الهاتف وذهبت للقاء حبيبها.

مسح على رأسها بحنان وقبل جبينها. قالت لنفسها أنها وسيلته ليؤكد لها أنها ليست عاهرة، قبلة الجبين، ولكنها لم تكن تريد الكذب على نفسها. مدت يديها وبدأت تفك أزرار بنطاله برشاقة.

- أنت مستعجلة

- اشتقت إليك

أما ما يأتي بعد ذلك فهو ما لا ينساه هو. يظل لأيام واقعا تحت سحر ما يحدث بينهما، وخلال تلك الأوقات يصبح سخيا كصنبور عملات نقدية.

- لقد جعلتني أحلق عاليا

- أرجو منك فقط أن تتمسك بالأرض خلال المرة المقبلة.

إنها تجيبه بأي كلمة تعن لها، وهي ليست مسئولة عن شرح كلماتها، كما أنه يعتبرها مجنونة قليلا، أو أنه ينتظر أن تصبح مجنونة.

- سوف أعتني بك حتى لو جننت.

وهذا نوع من المن الذي تكاد تتقيأ ما في بطنها بسببه ولكنها تصمت. أما في المنزل فتحك جسدها بالليفة والصابون حتى تكاد تقشره، وتستمع أثناء ذلك لأي عزف منفرد تصادفه على الإنترنت.

تفكر أثناء ذلك بملامح زوجته: أنا أعرف أنكما تنامان معا.

إنها تختار الكلمات الأفضل على الإطلاق. لا التفافات ولا انزياحات عن المعنى. أنتما تنامان معا وأنا أعرف، وهذا معنى أن تكونا امرأتين منحوستين معا ولا تريدان الشجار.

- والمطلوب؟

- لا شيء. أردت فقط أن أراك.

إنها جميلة. حدقت بها وعرفت أن هذا الوجه سيدخل أحلامها، أو أنها سترى بسببه أحلاما سيئة. قالت لها: أنت جميلة.

- لا تتملقيني حتى أسامحك.

بدت غير مهتمة تقريبا، أو أنها تمثل. وضع النادل بينهما فنجانين من القهوة، وانتشر بينهما دفء في غير محله.

- لقد فعل هذا مع كثيرات.

-أعرف.

- لا مشاكل في هذا؟

- لا مشاكل في هذا لك أنت؟

- الشجار معه أمر متعب. عدا ذلك، أنت جميلة. هذه المرة اختار فتاة جميلة على الأقل.

وطبعا فقد تبادلا قبلتين على الخدين قبل مغادرتها، ولم تعودا للحديث مرة أخرى.

في الليالي التي تلت ذلك حلمت بها، ليس بوجهها الجميل، ولكن بكلماتها: أنتما تنامان معا وأنا أعرف، ولكن كان يقولها أشخاص مختلفون كل مرة.

هذا الرجل الشاحب الذي رأته هذه الليلة مثلا كان قد كرر لها هذا في ليلة أخرى: أنتما تنامان معا. كان يخيط شباك صيد على الشاطئ وهي سارت على الرمل بخفة ثم وصلت إليه فتوقفت وقال لها هو الجملة الشهيرة.

إن هذا طبعا لا يعني أنها تحس بالذنب أو شيئا من هذا القبيل، إنها حائرة. يكون الرجل قد خان زوجته مئة مرة ثم تأتي لتقول لها: استمري في فعل ما تفعلينه.

إنها طبعا لم تقل لها هذا حرفيا، ولكنها لم تلمها أيضا. ودعتها بأدب وقالت لها: ها قد صرت أعرفك. إن الأمر كله يدور حول أن تعرفها إذن. أنت هنا وأنا هناك، ونحن نلعب نفس الدور القذر.

إن هذا يذكرها بلعبة تقريبا. لعبة من طفولتها حيث كانت الهزيمة تعني أن تتوقف عن القفز. استمري في القفز وأنا أعرف، أقفز هنا قبلك وأنت تعرفين، وغير ذلك تحل بك الهزيمة.

طبعا نسيت الأمر فيما بعد. ظلت تلتقي حبيبها وتجعله يحلق قليلا قبل أن يعود للأرض، وصارت تنتبه لنظافة ثيابه وتفكر بالأخرى.

قالت له ذات مرة: كيف ستبدو حياتك بدوني؟

وكانت تريد أن تتلقى منه كلاما عاطفيا عاديا ولكنه أجابها بحدة: لن أموت بالتأكيد

وحينها فهمت ما يحدث للمرء حين يحاول أن يتوقف عن القفز.

قبلها بأيام كانت قد شاهدت شقيقها حافيا وعاري الصدر كانت في طريقها للمستوصف حيث تعمل مع صديقاتها. أخرجت السائقة رأسها قليلا من السيارة ثم قالت لهن: أنظرن لذلك المجنون. وحينها التفت هي إلى الوراء وشاهدت شقيقها.

قفز إلى رأسها القرنبيط. ظهرت أمامها فجأة حبة قرنبيط كبيرة، وحشرت رأسها في جريدة كانت تحملها.

- أنا مبلبلة لأنني قد رأيت شقيقي.

- هنا؟

- نعم، وقد صار عاريا تقريبا.

يمكن للشفقة أن تنفع أحيانا أيضا. احتضنها بقوة وقبل رأسها.

- أنا أحبك.

- أنا أنكرت أنني أعرفه أمامهن.

شقيقها كان قد وصل إلى المكان حيث تعمل بوسيلة من الوسائل إذن، أما أمها فقد أخبرتها بعودته البارحة.

- عاريا تماما يا ابنتي.

وهي لذلك أرسلت مالا من أجل ثيابه. بالغت في كرمها قليلا، وعادت مشيا إلى بيتها رغم الجو الممطر وحذاءها الجديد. توقفت سيارة كبيرة بجانبها وأخرج رجل رأسه: هل تريدين توصيلة يا آنسة؟

وفكرت هي بأنه من نوعية الرجال الذين لا يمكن أن يقبلوا جبين عشيقتهم قبل مضاجعتها. كررت لنفسها وسط الشارع الخالي: لم يكن ليتعرفني حتى لو نزلت من السيارة.

كررتها خمس مرات لكنها لم تقتنع، أما الرجل الشاحب في حلمها هذه الليلة فقد صارت واثقة أنه شقيقها.

وضعت الغطاء السميك على رأسها، وابتسمت له في خيالها: والآن دع حبة القرنبيط وشأنها.

 

*كاتبة من المغرب