يطرح الكاتب المغربي هنا الفلسفة باعتبارها أحد أهم الأنشطة الإنسانية، في إضاءة الوعي وتحكيم العقل النقدي في أمور الفرد والمجتمع على السواء، في مواجهة سياسات السلطة والهيمنة والاحتواء وتقييد الحرية، إجهازا في نهاية الأمر على العدل الاجتماعي وجدارة العقل لصالح جدلية السيد والعبد الهيجلية في نهاية المطاف.

الفلسفة ضد سياسة التكييف

(جدلية العبد والسيد)

محمد بقـوح

 

تمهيد
ما هي علاقة المفاهيم الفلسفية ذات الطابع النظري، بآليات منطق العنف المادي والرمزي السائد في المجتمع، بقيادة الحاكم ودعم من السلطة الرسمية وحليفها الطبقي المُهيمن؟ بالسؤال أعلاه، نحاول صياغة إشكالية طرحنا لموضوع الصلة المتوترة بين الفلسفة كفكر حر تنويري، وسلطة الدولة كمؤسسة تابعة، تمارس السياسة التي تضمن لها البقاء والاستمرارية في الوجود. لهذا، كلما ارتفعت درجة القمع الاجتماعي في واقع الوضع البشري، ازداد معه منسوبُ الفكر المُقاوِم، متخذا عدة أشكال، أهمها شكل الاحتجاج، سعيا للتحرير. وبالتالي، يتقوى هنا، الفعل النقدي التفكيكي للعقل الفلسفي، ليس فقط كمادة تعليمية تربوية، ولكن أساسا كتفكير حقوقي ينتصر للهامش الاجتماعي المُهمَل، ضدّ ما هو رسمي طاغ ومُهيمِن.

هكذا، تحاول مقالتنا الحالية المراهنة على الواقع الممكن، المتغير ضدّ الواقع الكائن الثابت. أي، ربط التفكير الذي نراه صحيحا ومناسبا، عبر التحليل والتأمل، بين ما هو مفاهيمي نظري، بما هو واقعي مجتمعي وعمومي، ينفتح على تفاصيل الاصطدامات الاجتماعية السائدة، طارحا سؤال تغيير الواقع بفضح آلياته، وليس تبريره. بمعنى، أن هذا الوضع الاجتماعي القائم ليس وضعا نزل من السماء، بل هو من صنع القوى السائدة، التي تعمل جاهدة، من خلال سلطة الدولة كمؤسسة حاكمة مسؤولة، على فرض سياسة تكييف المرء الإجباري مع الواقع الكائن، وتكريس ثقافة التدجين الناعم، والتبعية الفضلى، وتأسيس ماهية الخضوع كاختيار أساسي باسم الوطنية، تحقيقا لخلق وجود المُهادنة المستدامة، الذي لابد أن يكون محور ارتكازه الإنسانُ الأدنى المنبطح والفارغ من إنسانيته. من هنا، جاء استعمالنا للتعابير من قبيل: الفلسفة المضادة – سياسة  التكييف – جدلية العبد والسيد.

فلماذا استخدام هذه التعابير النظرية كمفاهيم فلسفية شغوفة بالتغيير، مقابل الفرض المنهجي لواقع التقنين وانقلاب القيم في المجتمع الكائن من طرف سلطة الحاكم؟

1- الفلسفة المضادة كفكر نقدي يعري آليات السلطة بالتفكيك
تموقع الفلسفة نفسَها ضدّ خيانة العقل. ومن ثمّ، فعلاقة الفيلسوف النقدي، وليس الفيلسوف المُهادِن، مع أدوات السلطة المُهيمنة، سواء الأصيلة أو المصطنعة، هي علاقة النور بالظلام. باعتبار الفلسفة كفكر مضاد، في تاريخها الطويل، تنتصر دائما وأبدا، لاستعمال نور العقل البشري العادل والمنصف، بطريقة تحقق للإنسان حريته وكرامته وسعادته في الحياة. يعني أنها لا تحترم الغير، سوى حين يُحترم الإنسانُ، الذي يعتبر الوجه الآخر لاحترام الطبيعة وأنظمتها العديدة والمختلفة.

هكذا، تبدو لنا الفلسفة المضادة بمثابة التفكير العقلاني الإنساني القادر على رفع تحديات عصرنا المشبع بالتناقض حتى النخاع، وذلك بالكشف الدقيق عن خبث آليات اشتغال عقل السلطة، المتواري خلف أخلاق السياسي، وطيبة الديني، وحماسة النقابي، وتفاني الحقوقي. إنها لعبة تبادل المصالح العامة والخاصة بين سلطان الجلاد ومساعديه النبلاء الأوفياء.

1-1 المشهد الحزبي والنقابي والحقوقي: المؤسسات الخائنة
من منظور الموقف الفلسفي المضاد، يحق لنا كمواطنين ومجتمع مدني، التشكيك في نزاهة بعض مؤسساتنا المنتخبة، كأحزابنا السياسية المنبطحة، وهيئاتنا النقابية المتواطئة، وجمعياتنا الحقوقية الصامتة. بناء على ما يعكسه واقع اندماجها الوظيفي العكسي في المجتمع. إنها عبارة عن جثت تابعة للمركز، منفعلة، على شكل كائنات حية صورية، احتوتها السلطة بتدجينها، وترويضها التاريخي إلى حد الشلل الذي لا تتحرك معه أعضاء صاحبه، سوى لتبرير الوضع القائم، أو التعبير عن سكرات موته الديمقراطي الوشيك.

1-2 المثقف المرتزق: المثقف الخائن
إنه الشخص الذي ضحى بالمبدأ من أجل إرضاء السلطة السائدة.
لقد أصبح المثقف عندنا مجرد عبد مطيع، يتكلم بصوت سادة السلطة، طلبا للخلاص الذاتي، متنكرا لهويته النقدية ولتاريخه المُقاوم، مبررا أوضاع التخلف، والعنف، والقمع بكل أشكاله في البلاد. إنها الخيانة الفكرية والوطنية بالمعنى العميق للكلمة.

1-3 الفرد القلق: السؤال المؤجل
نقصد بالفرد، ذلك الشخص العادي الذي يعيش في مجتمعه، مسالما، منتظرا، حالما بالتغيير الذي يجب أن ينعكس إيجابا، على حياته الخاصة والعامة. غير أن أي شيء من هذا لم يتحقق.

لهذا، بات الفرد في مجتمعنا قلقا، بل يوجد في منعطف أقصى درجات القلق المختلفة المستويات والمظاهر، في مجتمع سريع التحولات، تلك المظاهر التي يعكسها سلوك الفرد اليومي المتشدد في علاقته، سواء بذاته أو بمحيطه الاجتماعي. من هنا، فإخضاع هذه الظاهرة النفسية والاجتماعية للتفكير النقدي والتحليل الفلسفي، لابد أن ينتج عنها واقع الاصطدام العنيف بين سياسة السيد – الجلاد، وضحيته الذي ما فتئ يقاوم وضعه، بحكمة الإنسان الذي ينصت قبل أن يفكر، وسلطة الحاكم الذي يفكر دون الإنصات إلى غيره.

2- علاقة التضاد بين الحكمة والحاكم
1-2 أنوار العقل ضد الظلام

هكذا، نكون هنا بصدد أنوار العقل الواضح، ضدّ أقنعة سياسة التقليد والظلام السائد، الشيء الذي يصبح معه إعادة التوازن الطبيعي إلى العلاقة بين الجانبين، رهين بسنّ سياسة اجتماعية مختلفة، تثور على التدجين والتقليد، لتخدم الكل من أجل الوطن والإنسان، وذلك بتفعيل ما هو معطل في هذا الوطن: دمقرطة العلاقة بين قمة السلطة وقاعدة المجتمع، من جهة، وبين العلاقات الاجتماعية الأفقية والعمودية بين المواطنين، من جهة أخرى.

2-2 الفكر المقاوم والتحرير الاجتماعي
إن التحرير الاجتماعي للوطن والمواطن، رهين بتبني النخبة المفكرة في المجتمع للفكر النقدي المُقاوم كفكر مصلح، من جهة، ونبذ سلطة الدولة، من جهة أخرى، لسياسة التقنين الأحادي الجانب، تغليبا لمنطق الفرض، والميز الجنسي والمجالي والثقافي، وتكريسا للطبقية الاجتماعية، بدل العدالة الاجتماعية، حفاظا على تراتبية النظام القائم. أي التدبير العملي على استعمال الشأن السياسي، ليس كخدمة وطنية تمارس في إطار ثقافة الحق والواجب، بل كأداة فعالة لتكييف المواطن وتدجينه قسريا، وترويضه غير المباشر، مع تراجيديا واقع الحال، بكل أعطابه الاجتماعية والسياسية، وإخفاقاته القيمية الإنسانية والكونية.

3- الحراك التعليمي بالمغرب الراهن كنموذج للتحليل: ظاهرة الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد
3-1 ضرب المكتسبات

في البدء، لابد من التأكيد على أن مسألة التعاقد في معناه العميق، وفق تحليلنا، هو تتويج لعلاقة العبد والسيد. أي رباط شؤم مخطط له بين سلطة الدولة وتحرير الشعب. لهذا، فالغاية من ذلك التعاقد هو إعادة خلط الأوراق، بسنّ استمرارية نظام تعسفي، يضرب المكتسبات، ويعمق شروخ الأحلام الضائعة، تحقيقا لفرض ثقافة الواجب، دون الحق في الحق الاجتماعي المستحق. إنه الوجه الآخر لديكتاتورية الحماية بمعناها الاجتماعي ذي الجذور الوطنية.

3-2 تكريس فكر التفاهة
في المقابل، ولمساعدة إنجاح خطة السلطة الخبيثة، يعمل الحاكم ومن معه، على محاربة المحكوم، بمقاومة الفكر الجاد المبدع بمعناه الوطني والكوني، وذلك بتكريس فكر التفاهة والسقوط الاجتماعي في جميع المجالات (الفن- السياسة- التعليم- الثقافة)، تعميقا للتناقضات في المجتمع، مع تقديم الأفكار التافهة والتافهين كقدوة للمجتمع، وكعناصر ناجحة في الحياة. إنها الصيغة المقلوبة لتراجيديا واقع القيم كما يجب أن يكون!!

3-3 تأسيس امبراطورية الاحتواء الأبدي
بهذا المعنى، يصبح العالم والمعلم في المجتمع المنحط شبيها بالمجرم الذي يجب أن يعاقب، لأنه مصدر النور، وصاحب حق، ومطالب بالإنصاف، بدعم رسمي من سلطة الحاكم، بدل أن يكون في موقع قمة الهرم الاجتماعي الذي هو موقعه الطبيعي، ليس تشريفا له، بل تأمينا لمستقبل الأوطان.

الخاتمة: المسؤولية التاريخية: المجتمع والسلطة
إن تطويع المجتمع بمحاولة ضرب المدرسة، واحتواء نخبه المفكرة بكل أنواعها، كنساء ورجال التعليم مثلا، ليس سوى مرحلة عابرة في التاريخ السياسي والاجتماعي البئيس لبلد ما، باعتبار أن الحق يعلى ولا يُعلى عليه. لهذا، فعبيد السلطة لابد ذات يوم أن يذوب جليدهم الصّلب، حين تشرق عليه شمسُ سادة الشعوب المتحررة بوعيها التعليمي والعلمي الكوني المتفتح على العالم.