الكتابة أداةٌ لإعادة بناء الماضي، عبر قوس زمني واسع، وجغرافيا على جانبي المتوسط، من ميناء "كارتاخينا" إلى "تونس"، من مطاردة الفاشيست "فرانكو" الوحشية للجمهوريين 1936، إلى هنا والآن، حيث تحقق "صوفيا" مصير الهارب "مانويل"؛ فالقطار حين يمضي لا يأخذ السكة معه، بفحصها يمكننا معرفة ما حدث.

حذاء أسباني

محـمد عيسى المؤدب

 

مَانْيَانَا.. مَانْيَانَا

قابلني رامون كعادته مُسندًا ظهره إلى كرسيّه الخشبيّ، سمعتُ خشخشة الرّاديو الصّغير الذي يظلُّ ملتصقًا بأذنيه في اللّيل، كان مرميًّا بجانبه، فوق منضدةٍ تكدّستْ عليها قواريرُ نبيذٍ وعلبُ تبغ ومرهمٌ ومطهّرُ جروح، لم يبرأ جرحه في فخذه بعدُ، ليس بالجرح الخطير كما قال، لكنّه يُسبّبُ له ألمًا عند النّوم. ضحك حين رآني ثمّ أغلق الرّاديو وهتف بي: «تعال يا مانويل، اجلسْ أمامي ».

حدّثَني عن آخر المستجدّات، فرغم خشخشة الرّاديو، استطاع التقاط الكثير من الأخبار، وقد كانت كلّ المحطّات تتسابقُ لتنقل ما يجري، مواجهات دامية في مدريد، قصف واشتعال نيران في مبانٍ رسميّة، اغتيال عسكريّين، فرانكو يتوعّد الجمهوريّين والشّيوعيّين، ملثّمون يرجمون القطارات بقطع الحديد، أطفال يهاجمون شاحنات المؤونة، طائرات هتلر تقصف الجسور، الأناركيّون يهرّبون المعتقلين من السّجون، اغتصاب موظّفات في مبنى حكوميّ، دخان يتعالى في منازل مسؤولين كبار، عصابات مجهولة تهرّبُ الأسلحة عبر البحر.

سألني بعد ذلك:

«متى ستخمدُ أصوات إطلاق النّار؟».

«لقد تعوّد النّاس على هذه الأصوات، الطّرقات والمنازل تعجُّ بالجثث والمصابين، ولا شيء غير الأنين والانتظار».

«الحياة جحيم، جحيم الجوع والسّرقة والخطف والتّهريب. ولا أحد سيدفع الثّمن غيرنا، نحن حطب الحرب».

«ماذا تنتظرُ من حرب احتشدتْ فيها دول كثيرة؟ لكنّي آمل صمود مدريد».

«وإن سقطتْ؟».

«سنسقطُ جميعًا، جميعًا يا رامون».

أزاح شعره عن عينيه وحرّك قهوته ثمّ تابع:

«في هذه الرّوائح العفنة علينا أن ننتظر الأسوأ. حسنًا، لنتحدّث في أمر آخر. عليك أن تحسم الأمر حتّى لا تتلقّى ضربةً على رأسك وأنت منكمشٌ في غرفتك. ما الذي يجعلك تتردّدُ، ها؟ تقدّمْ خطوة يا رجل، لوسيا تُحبّك، ألا تفهم؟ أنا أيضًا حسمتُ الأمر ولن أدع بريثيوسا تُخرج كيس القمامة، أجل، بريثيوسا شدّتْ ذراعي وهي تسألني: لماذا تكتفي بالتحديق في عينيّ، لماذا تكتفي بذلك يا عزيزي رامون؟».

حين عُدتُ إلى غُرفتي فكّرتُ طويلًا فيما طلبه منّي صديقي البحّار، ثمّ رسمتُ المشهد في خيالي، سأقفُ أمام لوسيا مُقطّب الجبين وبعد فراغ صبرها سأرفعُ يدي بالتحيّة ثمّ أنحني أمامها حتّى تُوافق على أن تكون زوجتي، وبعد ذلك سأقترح عليها مرافقتي في رحلة الفرار. أعرفُ أنّ قراري مجنون، لكنّه أراح رأسي على الأقلّ، ولن يكون أمام لوسيا وقت للتّفكير ولا للثّرثرة، يجب أن تقبل على الفور وتحزم أمتعةً خفيفةً وتستعدّ للسّفر في سويعاتٍ.

في اليوم التّالي وصلتُ إلى الوكالة قبل مغيب الشّمس ولم تستقبلني «بيتا» مثل عادتها، رأيتُ بعض القطط قرب صندوق القمامة، كانت تتصارعُ على بقايا سمك. لا أدري لماذا أحسستُ في خضمّ ذلك الصّراع المحموم أنّ في عينيها ومخالبها ذعرًا، ليس ذعر الجوع فحسب، كان ذعرًا آخر لم أفهمه. سمعتُ أنّ القطط والكلاب تتنبّأُ بما سيحدثُ فأشاع ما رأيتُه شعورًا بالرّعب في داخلي. اعترضني قطّ أسود في أسفل السلّم، كان مقرورًا، أمال رأسه نحوي وأنا أصعدُ الدّرجات ثمّ تسلّل إلى الخارج. لأوّل مرّة يُخيفني الصّمت الأخرس في السلّم الإسمنتيّ الضيّق، وفي الحقيقة كنت مشمئزًّا من فم القطّ المعوجّ. انتبهتُ إلى «بيتا» أمام شقّة لوسيا، لكنّها لم تقفزْ صوبي لتتمسّح بقدميّ، بل إنّها لم تتحرّكْ، اقتربتُ منها، كانت هامدةً وفروها مثقوب برصاصةٍ في مستوى الظّهر. خفق قلبي وأنا أتسلّلُ إلى شقّة لوسيا، بدا الصّالون الصّغير مُظلمًا، ومع ذلك استطعتُ رؤية لوسيا غارقةً في أريكتها الخشبيّة. كانت عارية تمامًا وليس من عادتها أن تفعل ذلك، ومن الخارج كانت تتسلّل بهرة ضوءٍ، فاستطعتُ أن ألمح عينيها المفتوحتين والجامدتين وسط الأثاث المبعثر. كانت آلة الخياطة مهشّمةً ومرميّةً قريبًا من غرفة النّوم، وعلى الأرضيّة كان كلّ شيء متناثرًا، أزرار، دبابيس، إبر، وكانت دمية القياس مرميّةً على طبق العدس. تعرّق جبيني وأنا أقتربُ منها، حدّقتُ في بقع الدم التي رسمتْ ممرًّا من غرفة الصّالون إلى غرفة النّوم. مسكتُ يد لوسيا، وجدتُها جامدةً وهي تُمسك بالصّليب الفضّيّ، الصّليب الذي كان يتلألأ على صدرها، كيف سقط؟ انتبهتُ إلى بقع دم صغيرة في أنفها وفمها، مسكتُها من ذراعيها فرأيت آثار الرّصاصة الّتي اخترقتْ جنبها الأيسر، وانتبهتُ إلى رصاصةٍ أخرى في الظّهر. كان جسد لوسيا باردًا، وعيناها الزّائغتان تحدّقان في الفراغ بكآبةٍ وذعرٍ.

هل كنتُ أبكي في تلك اللّحظات؟ أم كنتُ ألهثُ وأرتعش؟ لا أتذكّر، لا أتذكّر. ترنّحتْ غرفة الصّالون في عينيّ، أطلّ القطّ ذو الفم المعوجّ برأسه ثمّ اختفى، وحدستُ أنّ الأسوأ ينتظرني. كتمتُ أنفاسي وركضتُ صوب شقّة رامون، كانتْ مظلمةً هي أيضًا، خمّنتُ أنّه في البار مع رفاقه البحّارة كالعادة. لم يكن أمامي متّسعٌ من الوقت لأنجو، فتحتُ نافذة الصّالون على مصراعيها وقفزتُ على أحد الأسطح لأعبر إلى زقاق خلفيّ. في تلك اللّحظة انفتحتْ نافذة غرفتي وبدأت طلقات الرّصاص تضجّ في أذنيّ حتّى ظننتُ أنّ إحداها قد اخترقتْ ظهري، وفي التفاتتي الخاطفة لم أستطعْ التقاط ملامح الوجه الّذي كان يُصوّب مسدّسه نحوي.

ركضتُ بكلّ طاقتي وحذاء رامون في قدميّ مُثقل بالطّين، تناهى إليّ وقعُ خطواتٍ خلفي، كانوا يصرخون ويطلقون الرّصاص في الظّلام. تجاوزتُ رجلًا يدفعُ عربة أمامه ثمّ سمعته يئنُّ، «إنّه جوردي بائع الخضار والغلال»، قُلت في نفسي، ولم ألتفتْ. تخبّلتْ قدماي وأنا أجري في زقاق لم يرحمني طينه، ازدادتْ الأمطارُ غزارةً وغمرتْ كتل الضّباب كامل الزّقاق. ولكنّ ذلك لم يوقف لحظةً طلقاتِ الرّصاص التي كانت تُخرّب الجدران والأبواب، ولا وقع الأحذية الغليظة التي لم تكفّ عن مطاردتي، كانت ضرباتها تصلُ إليّ مثل ضربات مطارق، تُطاردني وتسحقُ الأرانب والدّجاج وتُخرّبُ كلّ ما يصادفها. مرّ شيخٌ بجواري ثمّ استمعتُ إلى طلقة وتبعها صراخ وأنين. لا أدري كيف تحمّلتُ، صرختُ في سرّي: «يا يسوع، يا يسوع»، تابعتُ الرّكض بصعوبةٍ، امتلأ حذائي بالطّين ولم أستطع التخلّص منه. في ذلك الذّعر تخيّلتُ الجدران والأشجار وحوشًا تستعدُّ للانقضاض عليّ ونهش لحمي في أيّ لحظةٍ، ولم أتوقّف عن الرّكض حتّى وصلتُ إلى الميناء ثمّ سقطتُ على الرّصيف.

استفقتُ في الخامسة صباحًا، فتحتُ عينيّ بعد كابوسٍ مُرعبٍ فاكتشفتُ أنّي في غرفة التّمريض. أزحتُ الغطاء وتحسّستُ قدميّ مثل ضريرٍ يتحسّس الحُفَر بعكّازه في الطريق، فلم أجد أثرًا للدماء. مرّرتُ أصابعي على ساقيّ المفجوعتين بتوجّسٍ، ثمّ بدأتُ أتفقّد أعضائي واحدًا واحدًا كما تتفقّد الأمّ أطفالها العائدين من الموت، فعرفتُ أنّهم نزعوا ملابسي وألبسوني قميصًا صوفيًّا أزرق وبنطلونًا قطنيًّا. ارتعشتُ وأنا أكتشفُ بنطلوني مبلّلًا، وحبستُ أنفاسي لمّا تأكّدتُ من أنّي تبوّلتُ أثناء النّوم.

أيّ كابوس يا يسوع نهش ساقيّ إلى هذا الحدّ!

بدمٍ باردٍ، سحلني جنديّان نحو قبوٍ مُظلمٍ ثمّ قيّدا يديَّ بسلسلةٍ حديديّة ووضعا خرقة سوداء على عينيّ، أجلساني بعد ذلك على مقعدٍ خشبيّ ووضعا قدميّ بين صفائح حديديّةٍ وغاص لحمي في أسنان مدبّبةٍ ثمّ تجمّعتْ الصفائح تدريجيًّا لتُكسّر عظام ساقيّ. تبوّلتُ في سروالي وكان بولي ساخنًا ينزّ من ثقب دامٍ، أحسستُ أنّ قدميّ أُلقيتا داخل الجحيم، فصرختُ بألمٍ ثمّ صرختُ بيأسٍ ولم أبكِ ولم أفقد الوعي.

- هل أعجبك الحذاء يا مانويل؟

- ............................

- سنرى ما إذا كنتَ تحتاج إلى ساقين من العاج لاحقًا.

- .........

- أنت قتلتَ جارتك، ما اسمها، ها؟

- لو...سـ ..يا.

- لماذا قتلتها؟

- لا... لا..

- وقتلت جوردي.

- لا..

- ما ذنب الشيّخ الذي أطلقتَ عليه رصاصةً من مسدّسك؟

- لـ.....ا...

- أين أخفيتَ مسدّسك؟

- ...........

- يحيا فرانكو، إلى الأمام إسبانيا.. هيّا، أيّها الحقير، ردّد ذلك بلا توقّفٍ.

- ...........

- سنُجهز عليك يا مانويل وستتعفّن كالكلب، هيّا اعترف.

- ............

في تلك الآونة كانت الحركة بالميناء غير عاديّةٍ، استمعتُ إلى صرخاتٍ وتعليماتٍ صارمةٍ وركضٍ ولهاثٍ وشخيرِ محرّكات وصافرات. كنت أعرفُ أنّ البارجة «أُولُوَا» (ULLOA) ستنطلقُ بنا نحو وجهةٍ مجهولةٍ، ولا أحد من البحّارة يعرفُ الوجهة الصّحيحة. بالأمس ردّدنا بشكلٍ سرّيٍّ «مَانْيَانَا.. مَانْيَانَا»[1] ثمّ رفعنا إشارات النّصر، إمّا المنفى وإمّا الموت، واختار قادتنا المنفى.

وقف أمامي الضّابط فرانسيسكو بويغ وسألني:

- هل أنت بخير يا مانويل؟

- ..............

- أزعجني صراخُك حقًّا، ولم أشأ أن أنتشلك من النّوم، هيّا أخبرني عن كابوسك.

- لقد كنتُ في غرفة التحقيق، بل في جحيم حذاء التّعذيب يا فرانسيسكو العزيز.

    ناولَني سيجارة ثمّ قال:

- أعتقد أنّها ستكون سيجارتنا الأخيرة في كارتاخينا، ولا أدري متى سنعود.

    صبيحة يوم 5 مارس كان ميناء كارتاخينا في حالة استنفار، احتشد الآلاف من البحّارة والعسكريّين والمدنيّين. رأيتُ الوجوه مثل سنابل جافّةٍ سيحصدها منجلٌ حادٌّ. وكان فرانكو ذاك المنجل. شرّد الشّيوخ والنّساء والأطفال في السّهول والوديان والجبال والغابات والمزارع. كانت القطارات والشّاحنات العسكريّة المكشوفة مكتظّةً بالفارّين، ولم يكن هناك متّسعٌ من الوقت والطّابورُ الخامس ينتشرُ ويوشكُ أن يكتسح كامل شوارع كارتاخينا. امتلأتْ السّفن والزّوارق بالرّؤوس المذعورة والمتطلّعة إلى السّماء، كنّا نخشى طائرات هتلر في السّماء وغوّاصات موسيليني في البحر. وكان الضبّاط يجرون ويلهثون وينقلون المعدّات، نقلنا إلى البارجة «أُولُوَا» أسلحةً خفيفةً ورشّاشات «موشكيتون» وقنابل يدويّةً وأحزمةً معبّأة بالرّصاص، نقلنا أيضًا أكياس الخبز وعلب السكّر والقهوة والدّقيق وقوارير الزّيت والماء.

وفي لحظةٍ مّا خلتُها خارجةً من كهفٍ سمعتُ هتاف رامون من بعيدٍ ملوّحًا بيديه: «مانويل.. مانويل.. أنا هنا». نزلتُ من البارجة بصعوبة وانتبهتُ في الأثناء إلى الملازم خوسيه كولمينا غارسيا وهو يُخاطبني: «لا تتأخّرْ يا مانويل، دقائق وننطلق». حضنني رامون بذراعين مبلّلتين، عزيزي تحدّى فرقة الحرس المدنيّ وجرى في شارع الموت ليودّعني. دمعتْ عيناه وهو يقول لي: «المجرمون اغتصبوا لوسيا ثمّ خرّبوا جسدها بالرّصاص، قتلوا «بيتا» أيضًا يا مانويل.. الأوغاد كانوا يبحثون عنك لتصفيتك». ثمّ فرك عينيه وهو يسلّمني حقيبة جلديّة اكتشفتُ لاحقًا أنّه حشر فيها صليب ماريا ومصباح الكيروسين وبعض ملابسي ووثائقي. قلتُ له بنبرة استعطافٍ: «هيّا يا رامون، انطلقْ معنا فالبحر متاحٌ في أماكن أخرى أكثر أمْنًا. هيّا يا رامون، هيّا، سننطلق الآن». فأجابني وهو يضغط على ذراعيّ: «لا أقدر، لا أقدر، لن أترك بريثيوسا، لن أتركها يا مانويل». غصّتْ عيناه بالدّموع ثمّ ضحك وعانقني، ضحكتُ أنا أيضًا وقبّلتُ رأسه ثمّ جريتُ نحو البارجة. وسرعان ما تعالتْ الصّافرات، وغطّى دخانٌ كثيفٌ سماء كارتاخينا.

في ذلك اليوم الذي لا يُنسى كنّا على يقين من أنّ الخوف الذي زرعه فرانكو في أوصالنا شبيهٌ بجثّةِ كلبٍ متحلّلة، وكانت أصواتُ الآلاف مُزلزلةً وسط البحر: «الموت لفرانكو، الحياة لإسبانيا». رفرفتْ الأعلام الجمهوريّة فوق رايات البارجة والسّفن، ولم يتوقّف البحّارة طيلة ساعاتٍ عن العزف على الآلات الموسيقيّة وترديد مقاطع عسكريّة حماسيّة.

قال خوسيه الذي كان قريبًا منّي: «ستتّجهُ بارجتُنا إلى ميناء بنزرت في تونس مع بعض السّفن والزوارق، وستتّجهُ بارجة وسفن وزوارق أخرى إلى الجزائر».

لم تنقطعْ هُتافاتنا طيلة ثلاثة أيّام، تحوّل الخوف الذي كان طاغيًا على وجوهنا إلى قتالٍ، صمدنا أمام الرّياح والأمطار والحمم ولم نتوقّف عن الهتاف: «إلى الأمام إسبانيا»، إسبانيا التي حطّمها فرانكو وحوّلها إلى حقلٍ من الرعب.

كان أحد الضبّاط، لا أعرف اسمه، يردّد قصائد لوركا، وكان صوته مزلزلًا:

«عندما أموتُ

أتركُ الشرفة مفتوحةً

الفتى الصغير يأكلُ البرتقال

أستطيعُ رؤيتَه عبر شرفتي

المُزارع يحصدُ القمح

أستطيعُ سماعه عبر شرفتي

عندما أموتُ

أتركُ الشرفة مفتوحةً»[2].

(4)

جلستْ صوفيا في البهو، لمحتُها ما إن دخلتُ إلى الفندق. كانت ترتدي فستانًا أزرق مُنسجمًا مع ألوان البحر، وقد رفعتْ نظّارتها السّوداء عن عينيها ووضعتها على شعرها المنساب. اختارتْ رُكنًا معزولًا في الجهة اليسرى لتتفادى الضّجيج ما أمكن، هكذا اعتقدتُ، كانت مُطرقةً وبصدد الكتابة في كنّش صغير. لم أجد السيّدة سارّة في مكانها المعتاد وراء مكتبها، ولم ألمح وداد قريبًا من السلّم مُستغرقةً في شُرودها كالعادة.

سرتُ باتّجاه الطّاولة الغارقة في الصّمت، وفي تلك الآونة رفعتْ صوفيا بصرها، اتّسعتْ ابتسامتها وهي تقفُ وتدعوني إلى الجلوس. نضح عطرها الأنثوي اللّذيذ وغمرتني رائحته، عرفتُ، دون شكّ، أنّه من عائلة عطور «جون غاليانو» الإسبانيّة، عطر مارسيلا المفضّل، ارتبكتُ عندما سحبتُ يدي من يدها مُنهيًا المصافحة.

قالت صوفيا مُغلقةً كنّشها:

-     اطمئنّ يا أنور، جرتْ الأمور كما أحبُّ. لقد وصلتُ مبكّرةً إلى كليبيا على متن حافلة مكيّفة، ولا بدّ أن أحيّي السيّدة السّمراء التي أحسنتْ استقبالي. فهمتُ أنّك أوصيتها لتفعل ذلك، فقد كانت لطيفة معي رغم أنّها لا تحسنُ الفرنسيّة.

-     انتظرتُ مكالمة منكِ في أيّ وقت، أو رسالة قصيرة على الأقلّ.

-     تجنّبتُ ذلك وأنت تدرّسُ تلاميذك، الدّرس مقدّسٌ يا أستاذ. كُنتُ أعرف أنّك ستأتي إلى الفندق حالما تُنهي التزاماتك.

ناديتُ أداما ليُحضر فنجانَي قهوة وقنّينة ماء، كنتُ في حاجة إلى قهوة «إسبريسو» لأزيح عن رأسي إرهاق يوم من التّدريس، فهذه المهنة الشاقّة تزداد شقاءً كلّما تقدّم بنا العمر، سأكتفي برشفة أو رشفتين، لا أكثر. شاركتني صوفيا الطلبَ نفسَه رغم أنّ فنجان قهوتها لا يزال ممتلئًا، رائحةُ القهوة تمنحنا إحساسًا بالهدوء والتّركيز، هكذا فكّرتُ وأنا أستنشقُ رائحة «الإسبريسو» من الفنجان الصّغير.

تناهى إليّ ضجيجٌ مُنبعثٌ من المطبخ، التفتُّ إلى بابه المُوارب، دقّقتُ النّظر في شقّ الباب وتفطّنتُ إلى عينين تتلصّصان علينا، لم أكترث بالأمر وقد عرفتُ صاحبة العينين الضّيقتين، لا أدري لماذا تُحافظُ وداد على تلك العادة السيّئة؟ لن تتمكّن من الاستماع لما يدور بيني وبين صوفيا وهو ما خفّف من امتعاضي، ومع ذلك، تسمّرتْ عيناي عند شقّ الباب عمدًا وسرعان ما اختفتْ العينان وانغلق الباب.

قالتْ صوفيا:

- منذ دقائق عدتُ من «البُرْط» يا أنور (نطقتْ كلمة بُرْط بالدّارجة التونسيّة)، هكذا تُسمّون الميناء هنا، «بُرْط»؟ لقد أمضيتُ أمسيةً رائعة. تابعتُ حركة المراكب والتقطتُ صورًا كثيرةً مع البحّارة. كانوا يبتسمون لي رغم الإرهاق البادي على وجوههم، أحد البحّارة، آه، تذكّرتُ، اسمه «داوود»، ألحّ كي أتسلّم منه كيس سمك. لا أعرفُ أسماء السّمك عندكم هنا، وأعرفُ أنّ شبيهه موجود عندنا في «كارتاخينا». لقد سلّمتُ الكيس بطبيعة الحال للشّاب ذي البشرة السوداء حتّى يُعِدّوا لنا عشاءً فاخرًا يا حضرة الأستاذ.

ضحكتُ مُتأمّلًا وجهها المنشرح:

-     سمك المتوسّط متشابهٌ، والتّسميات تختلفُ من بلدٍ إلى آخر بسبب عوامل ثقافيّة. أنت لا تعرفين حركة «البُرْط» في الصّباح الباكر عندما تعود المراكب محمّلةً بالسّمك الأزرق، تلك الأجواء مدهشة حقًّا.

-     طبعًا، طبعًا، أعرفُ تلك الأجواء في «كارتاخينا».

-     أخبرنا بحّار اسمه أحمد زنينة أنّ هذا «البُرط» حديث العهد، أمّا «البُرط» القديم الذي وصل إليه السيّد مانويل سنة 1939 فكان قريبًا من الجهة التي يوجد بها نزل «المامونيّة» الآن، سأُعرّفك على النّزل لاحقًا. لقد دمّرتهُ طائرات الحلفاء أيّام الحرب العالميّة الثّانية كما دمّرتْ زوارق ألمانيّة كانت ترسُو هناك.

-     حسنًا، هذه معلومات مُهمّة، أخبرُك أيضًا أنّي أُصبتُ البارحة بخيبة أملٍ في السّفارة. كُنتُ حريصةً على معرفة حقيقة ما وقع للإسبان الذين وصلوا إلى ميناء بنزرت يوم 7 مارس 1939. لقد وزّعتهم القوّات الفرنسيّة حسب علمي على عددٍ من المناطق الدّاخليّة وأهمّها القصرين، بعضهم فرّ إلى مناطق مجهولةٍ، وبعضهم حالفه الحظّ مثل العزيز مانويل قريقوري. هل تُصدّق يا أنور؟ ليس في سجلّات السّفارة بياناتٌ دقيقة لأربعة آلاف إسبانيّ، صدّقني، لقد خاب أملي فعلًا، وهذا الإهمال مؤسفٌ جدًّا. أفهم لماذا وقع تغييبهم مدّةَ 36 عامًا في عهد فرانكو، ولكن كان على السّفارة أن تتدارك الأمر فيما بعد. لم أعثر إلّا على سجلّ بأسماء الموتى منذ أواخر سنة 1975 دون أيّ تفاصيل تُذكر، ووجدتُ اسم مانويل في ذاك السّجل مع التّنصيص على تاريخَي الولادة والوفاة لا غير.

-     فعلًا، فعلًا، لا بدّ من إنصاف ضحايا تلك الحقبة السّوداء، ومع ذلك لا بدّ من كلمة حقّ في شأن الملك خوان كارلوس. لقد كانت أمامه ملفّات حارقة أهمّها الخروج بإسبانيا من نفق الدكتاتوريّة.

انفتح باب المطبخ وظهرتْ وداد أخيرًا وهي تحملُ كُوبيْن من العصير على طبق، كان يمكن أن يأتي أداما بالكوبين، لكنّ وداد فعلتْ ذلك لتتدارك حركتها السّخيفة من وراء الباب، لن ترتاح إلّا بعد معرفة سرّ هذه المرأة الشّقراء التي تجلس أمامي. لقد ازداد حاجباها كثافةً بسبب حالة الإهمال واللّامبالاة، وتهدّم فمها بالكامل، ورغم ذلك لم تحجب ضحكتها وهي تقترحُ علينا كوبي العصير:

-     اشتقنا إليك أستاذ، لم نرك منذ موت المرحومة.

-     الموت يجعلنا أكثر عزلة، فبعد موت السيّد مانويل ومارسيلا فقدتُ الكثير من العادات والرّغبات. أنت تلاحظين حالة الفندق، ألا ترين أنّ وضعه يزداد سوءًا على مرّ الأيّام؟

-     رحلتْ أيّام فلوريدا مع السيّد مانويل، لن تُصدّق أنّي أبكيه إلى حدّ اليوم.

-     أفهم كلّ ذلك يا وداد، حسنًا، الصّحفيّة صوفيا مارتينيز قالاردو ستُجري بحثًا عن السّياحة في قليبية وبإمكاننا أن نُقدّم لها المساعدة اللّازمة.

رفعتْ صوفيا بصرها نحوي ثمّ خفضته، ولعلّها فهمتْ أنّي تكتّمتُ على بحثنا حول العزيز مانويل. قلتُ لصوفيا بعد انصراف وداد:

-     لم يكن مكتب الاستقبال بهذا الشّكل في عهد المرحوم، انظري إلى الأتربة والفوضى التي أفسدت خلفيّته. لم تكتف السيّدة سارّة بإزالة الصّورة التي مثّلتْ منعرجًا حاسمًا في حياة الضّابط، بل أزالتْ أيضًا قنّينات باستيس فارغة كانت معروضةً فوق تلك الألواح الخشبيّة التي لفظها البحر. 

-     آه، يا يسوع، هذا اعتداء على ذاكرة الرجل.

-     المرحوم كان صاحب ذوق رفيع وثقافة عالية.

-     تمامًا، اكتشفتُ وأنا أترجمُ ما دوّنهُ أنّه كتب مذكّراته بحسٍّ مُرهفٍ وأسلوب شاعريّ.

-     السيّد مانويل كان يقرأ باستمرار، وكان مُدمنًا على قصائد لوركا. حدّثنا في مناسبات كثيرة عن مسرحيّته  «عرس الدم»، وكان يعشق خوان غويتيسولو الروائيّ الكبير والمعارض الشّرس لفرانكو. مكتبه كان مزدحمًا بالكتب، ولولا تعرّضه للاحتراق في إحدى ليالي الصيف على أيدي متشدّدين دينيّين لكانت مذكّراته أمامنا الآن. ومن حسن الحظّ أنّ الوثائق التي تسلّمتِها من مانويليتو لم تكن موجودة بالمكتب آنذاك.

في تلك الآونة أنهى أداما إعداد طاولة العشاء في البار، فاقترحتُ على صوفيا أن ننتقل إليها، وددتُ أن يكون العشاء الأوّل شبيهًا بما كان العزيز مانويل يفعله مع ضيوفه الإسبان. في الحقيقة، لم يكن العشاء عنده مأدبة أكل وتخمة بقدر ما كان احتفاليّة جميلة مُحاطة بالشّموع والموسيقى. نشر أداما زهرات الأوركيد على الطّاولة، وزّعها على زاويتين وترك بقيّة المساحة للأكل وقنّينة النبيذ والكؤوس. شعرتُ بمرارة وأنا أتابعُ حركات النّادل، لم أحافظ على عادة مارسيلا، فزهرات الأوركيد لم تكن تغيب عن الشّرفة بألوانها البرّاقة القويّة أو الهادئة، وأنا أفضّل البنفسجيّ الدّاكن والأبيض والذّهبيّ وهي ألوان مارسيلا الحميمة.

أشعل أداما شمعتيْن ووضعهما وسط آنية فخاريّة رماديّة ثمّ عاد إلى المطبخ. تابعتْ صوفيا حركاته باندهاشٍ، ولعلّها تساءلتْ: «من أين يأتي بتلك الخفّة في المشي والحركات المتناسقة والرّشيقة؟». كانت من حين إلى آخر تُطلق آهةَ إعجابٍ بالأنوار المتكسّرة على سطح البحر أو الأنوار الخافتة المنبعثة من الميناء، وكان الجوّ حميمًا إلى درجة تجعل كلّ من يرى طاولتنا في تلك اللّحظات يعتقد أنّها طاولة عاشقين يحتفلان بميلاد قصّة حبٍّ.

-     رائع هذا السّمك، يا لحظّكِ صوفيا. هذا يُسمّى عندنا «قاروص»، وهذا «مرجان»، وهذه «كحلة» وهذه «تريلية حجر».

-     ما أجمل عالم البحّارة البسطاء!

أحضر أداما طبقًا آخر به شرائح لحمٍ ثمّ وقف أمامنا مُنتظرًا بقيّة طلباتنا.

سألتُ صوفيا:  

-     هل تشاركينني قنّينة «الماغون» أم تفضّلين «الباستيس»؟

-     في هذا العشاء الملكيّ لا يُمكن إلّا مشاركتك كلّ شيء يا حضرة الأستاذ.

حدّثتها عن سهراتي مع مارسيلا، وحدّثتني عن زوجها أنطونيو الّذي رحل فجأةً على إثر حادث مرور. كانت تروي لي حكايتها والدموع تحتشدُ في عينيها وتتلألأ على ضوء الشمعتين، فهمتُ من تغيّر ملامحها أنّها لا تزال في حالة حزن وكآبة بعد فقدانها أنطونيو.

فتحتْ كنّشها الصّغير وراحتْ تُقلّبُ صفحاته:

-     لنؤجّل الآن الخوض في أحزاننا ونشرع في العمل. حسنًا، لقد أجريتُ بحثًا حول ما حدث في كارتاخينا سنة 1939 وما بعدها. عُدتُ إلى كتاب «نفي البحّارة الجمهوريّين» للباحثة الإسبانيّة فكتوريا فرنانديز دياز[3] وعُدتُ إلى جرائد كثيرةٍ ودقّقتُ في مقالاتٍ مهمّةٍ، وأمكن لي جمع بعض الشّهادات.

-     كنتُ واثقًا بأنّك ستعثرين على معلومات مفيدة.

-     في اليوم التّالي لاحتلال كارتاخينا يوم 31 مارس 1939، أي بعد ثلاثة أسابيع تقريبًا من هروب مانويل ورفاقه أطلقت قوّات فرانكو آلة القمع الوحشيّة في شوارع المدينة. انتشرتْ المدافع البخاريّة، ثمّ انتشر الجنود الملثّمون والحرس المدنيّ برشّاشاتهم وبنادقهم وخناجرهم. ما حدث كان فظيعًا، سحقوا الجمهوريّين وكلّ من كانت له علاقة بهم، ثمّ اغتصبوا الكثير من نسائهم وبناتهم وعذّبوا أطفالهم. الكثير من البحّارة الجمهوريّين الذين اضطُرّوا إلى البقاء في ميناء كارتاخينا أُعدموا في الفترة الممتدّة بين 29 أفريل 1939 و13 جانفي 1945. لقد أعدَمُوا 180 فردًا وكان آخرهم توماس مارتينيز روبيو، لن تصدّق يا أنور ما فعلوه بهم. كانوا يجبرونهم على الهتاف: «يحيا فرانكو، إلى الأمام إسبانيا»، ثمّ يصوّبون رشّاشاتهم نحو رؤوسهم ويُسقطونهم كالذّباب. كانوا يهجمون عليهم بعد ذلك وينكّلون بجثثهم ويُلقون بها في قبرٍ مشتركٍ يُسمّى الآن «المؤامرة X».

هل تُتابعني يا أنور؟ طيّب.. في ذلك الوقت لم تتوقّف رحلات الهروب من إسبانيا إلى سواحل شمال إفريقيا سواء عبر السفن أو قوارب الصيد، وقد عاش كلّ اللّاجئين بتونس والجزائر فظائع وحشيّة، وكأنّ قدرَهم أن يسيروا على الحبل المشدود بين هاوتيْن، هاوية فرانكو وهاوية المستعمِرين. لقد تعرّضوا للسّجن والتعذيب وتعذّبوا بكلّ الأعمال الشاقّة. فبعد أيّامٍ قليلةٍ من وصولهم إلى ميناء بنزرت نقلوهم إلى منطقة القصرين في ظروف قاسية ومُهينة. كانوا بلا حقائب، بلا مال ولا أكل، وقد كان مانويل محظوظًا حقًّا عندما فرّ من هذا الجحيم. اضطرّ اللّاجئون إلى الإقامة في كهوف تقع على ضفاف وادي الدّرب تحت مراقبة مشدّدة من قبل العسكريّين. فقد جُنّد الإسبان في ذلك الوقت بأمرٍ من المقيم العام الفرنسيّ إريك لابون لإنشاء مركز استعماريّ في جهة القصرين. وفي تلك السّنوات مات أكثر من عشرين بحّارًا جمهوريًّا ودُفنوا في الخلاء وتشرّد آخرون في مدن تونسيّة. كانوا يظنّون أنّ فرنسا المُعادية لفرانكو ستستقبلهم في مستعمراتها بأذرع مفتوحة. وفعلاً استقبَلَتْهم بأذرعٍ مفتوحة، لكنّها مشدودة بالسياط، ففي الحرب يتحوّل كلّ شيء إلى أداة بما في ذلك الإنسان.

أنهتْ صوفيا كلماتها، ظلّتْ تنتفضُ وعيناها تحدّقان في الفراغ، أحسستُ بأنّ الحزن المُتدفّق داخلها أخذها إلى ماضٍ بعيد. تساءلتُ وأنا أستمعُ إليها: «ألا يُمكن أن يخفي حزنها أسرارًا تُصرُّ على إخفائها؟»، لقد كانت متوتّرةً وهي تُزيح التّراب العالق بصفحات دامية شاء القدر أن تُقاوم لتخرج من النّسيان.

قالت بعد أن استعادتْ ابتسامتها:

-     آسفة، آسفة حقّا يا أنور، ما جرى في سنوات الحرب أقوى من التحمّل، ولكن لا بأس، لا بأس، القطار يمرّ سريعًا لكنّه لا يحمل معه سكّة الحديد، وبإمكاننا أن نفحص سكّة الحديد جيّدًا لنعرف الحقيقة.

 ركّزتْ نظرها على الشّمعتين وتابعتْ:

-     ما رأيك في كأسَيْ «باستيس؟».

-     سنشربهما على نخب العزيز مانويل.

وما كدتُ أنطق اسم العزيز مانويل، حتّى رأيت أداما يركض نحوي ثمّ يمسكني من يدي:

-     عذرًا على الإزعاج سيّدي، أحتاجُ إلى مساعدتك. أرجوك أستاذ، زوجتي أنجيلا في حالة إغماء ولم أجد أحدًا في الفندق أعوّل عليه. لقد داهمها المخاض وعليّ إنقاذها.

استأذنتُ من صوفيا لأُرافق أداما، كان عليّ مساعدة الوجه الغارق في دموعه وعَرَقِه، ففاجأتني وهي ترتدي معطفها على عجلٍ وتتشبّثُ بيدي مُلحّةً على مرافقتنا.

اتّجهنا إلى «الحومة الحمراء» وسرنا في زقاقٍ ضيّق ومُظلمٍ إلى أن أشار أداما بيده لكي أُوقف السيّارة. تسارعتْ خطواته أمامنا وهو يشير إلى البيت، ثمّ وقف أمام دكّان وفتح الباب، بدا لي شبيهًا برغوة صابون، لم يكن قادرًا على فعل شيء. وصلني أنينٌ ممزّق ينبعثُ من الدّاخل، سمحتُ لصوفيا بالدّخول، لم تقدر على مقاومة رغبتها في مُساعدة المرأة، تنفّستْ بقوّةٍ، ثمّ وضعَتْ يدها على فمها مُتّجهةً نحو الصّرخات الموجوعة.

وسرعان ما عادت لاهثةً:

- أسرع يا أنور، أسرع، لا بدّ من سيّارة إسعاف لنقل أنجيلا إلى المستشفى، فحالتها سيّئة جدًّا.

كنت أعرفُ أنّ سيّارة الإسعاف في مثل تلك السّاعة المتأخّرة من اللّيل لن تأتي إلّا بمعجزة، ففضّلتُ الاستنجاد بالحماية المدنيّة وأمليتُ العنوان بدقّةٍ على مخاطبي الذي كان يُعاني من نوبة سُعالٍ، ثمّ غرقنا جميعًا في حالةِ ترقّبٍ مُرعبةٍ حتّى سمعتُ مُنبّه سيّارة الحماية وهو يقترب. وبعد دقائق خلتُها زمنًا طويلًا التصقتْ بي صوفيا وهي تُتابع أنين أنجيلا المخيف على السرّير النقّال:

- يا عذراء، يا عذراء ارحمي هذه المسكينة.

استقبلتنا إحدى الممرّضات بوجهها المتعجرف، خمّنتُ أنّها استفاقتْ الساعةَ من النّوم، بحْلَقتْ في وجوهنا ثمّ صوّبتْ عينيها نحو أداما المنتصب كتمثال أسود:

- نحن لا نستقبل أجانب هنا، وإن حدث ذلك في ظروف استثنائيّة فلا بدّ من وثائق الإقامة للأمّ والأب فضلًا عن عقد الزّواج.. هيّا، ابحثوا عن مكان آخر لمصيبتكم.

وحين نقلتُ إلى صوفيا ما قالته راحت تفركُ شعرها ثمّ صاحتْ:

-     هذا إجرام، الامتناع عن إنقاذ مريضٍ جريمةٌ ولاسيّما إذا تعلّق الأمر بحالة ولادة.

انشغلتْ الممرّضة بجدال مع إحدى المريضات، ومن حظّ أداما وأنجيلا أنّ الدّكتور المهيري كان موجودًا حينئذ في قسم الولادات، ابتسم وهو يراني ثمّ أشار إليّ بيده، ففهمتُ أنّه سيباشرُ الحالة واطمأنّ قلبي. الدّكتور المهيري أحد أصدقاء مارسيلا أيّام اشتغالها ممرّضةً بالمستشفى، لا يزال يحافظ على ابتسامته ونظرته الهادئة من خلف نظّارته الطبّيّة. زارني في المعهد، منذ شهر على ما أعتقد، ليسألني عن ابنته إشراق التي ترغبُ في التوجّه إلى شعبة الآداب. نصحتُه يومها بأن يدعم رغبتها ويُراجع قناعته بأنّ الآداب شعبة الفقراء ثمّ سلّمته قائمة كتب وقلتُ: «نحن نحتاج إلى تلاميذ مميّزين يحبّون الآداب. وأنا على يقين يا دكتور من أنّ هذه الكتب ستُساعد إشراق على تنمية حسّها النّقديّ».

تطلّعتُ إلى أداما، بدا منقبضًا، لا يستطيع التخلّي عن هيئة التّمثال المرعوب، وكأنّه يقفُ على مسامير، تبلّلتْ ياقةُ سترته وأصبح فمه جافًّا تمامًا. سحبتُه من يده ووقفنا في المدخل، أشعلتُ سيجارة ثمّ مرّرتُ واحدة له وأخرى لصوفيا.

-     سأظلّ مدينًا لكما.

همس بصوتٍ منخفضٍ ثمّ تابع:

-     لولا جارتنا فادية لماتتْ أنجيلا، قدَرُها أن تُكافح معي وتشقى وتتألّم في انتظار أن تتحقّق معجزة مّا. تزوّجنا منذ سنة لنتوّج قصّةَ حبّنا، لا تتخيّل يا أستاذ كيف يمكن أن يجمع القدر بين طالبٍ ماليٍّ هرب من الصّحراء ومن الفقر والجوع ليواصل دراسته في تونس وطالبةٍ فقدتْ أسرتها في إدلب ففرّت من القصف ومن شبح الموت لتُقاتل من أجل دراستها. التقينا في كليّة الحقوق والعلوم السياسيّة بتونس، وعشنا الظّروف نفسها تقريبًا، ندرس ونشتغل. اشتغلتُ نادلًا في المساء بإحدى المقاهي في باب سعدون واشتغلتْ أنجيلا منظّفةً بروضة السّنافر في أريانة، كانت ظروفنا قاسية، لكنّ الحبّ انتشلنا من الغربة. رغم اختلافنا في الدّيانة، فأنا مسلم وأنجيلا مسيحيّة، لم نختلف في مسائل جوهريّة، بل كُنّا نتشابهُ في الأفكار والقناعات. وبعد إنهاء الدّراسة انشغلنا بالمستقبل، لن يكون بإمكاننا الاشتغال في المحاماة بتونس، فلا أعتقدُ أنّ القوانين ستسمح لنا بذلك ولا أفق أمامنا هنا.

تسارعتْ أنفاس أداما، بدا متوتّرًا وهو يحكي، سلّمته صوفيا قارورة ماء صغيرة كانت داخل حقيبتها، فتجرّع منها ثمّ استأنف:

-     فكّرنا في الهجرة السرّيّة إلى إيطاليا وجمعنا مبلغًا من المال من أجل ذلك، وفي الأثناء حلمنا يا سيّدتي وشيّدنا مشاريعنا، وكم كان الخيال رحيمًا بنا! لكنّ منظّم رحلات الهجرة السرّيّة لم يكن رحيمًا، كان اسمه «سيف»، اتّفقنا معه على كلّ شيء في إحدى المقاهي بباب سعدون. وبعد أن تسلّم منّا الأموال اختفى كشبحٍ. حضرنا قرابة العشرين فردًا إلى «شاطئ الزّهراء» القريب من قليبية ولبثنا ننتظر إلى حدّ اليأس، ثمّ التجأنا إلى قليبية في انتظار ما سيحدث لنا. قدّرتُ أنّ العودة إلى تونس ليستْ الحلّ الأمثل، بحثتُ عن عملٍ في إحدى المقاهي أو أحد الفنادق، ومن حظّي عثرتُ على فرصتي في فندق فلوريدا. الأجرة لا تُناسب جهدي ولا ساعات العمل، ماذا أفعل؟ ذلك أفضل من البطالة والجوع. ولكن، لا معنى لكلّ ذلك الآن، المهمّ أن تنجو أنجيلا.

قالتْ صوفيا ماسحةً دموعها:

-     اطمئنّ يا أداما، اطمئنّ، ستنجو أنجيلا، لكما قلبان جميلان والربّ سيحميكما.

منذ ثلاثين سنةً وقفتُ أمام الباب الخلفيّ للمستشفى المؤدّي إلى قسم الولادات، ولم أكن متوتّرًا ومرعوبًا مثل أداما. كنتُ قلقًا، يغمرني إحساسٌ غامضٌ، لبثتُ أنتظرُ بلهفةٍ قدوم الممرّضة لتُعلمني بأنّ مارسيلا وضعت مولودها. تعانقتْ أطيافٌ من المشاعر في داخلي، وتشوّش ذهني بذاك المزيج من الشّوق والانتظار والارتباك. تذكّرتُ وجه أمّي الضّاحك وآخر كلماتها لي وتذكّرتُ أبي وهو يحضنني ويفرك شعر رأسي، تذكّرتُ عمّي وللّا صالحة زوجة عمّي وأيّام الدراسة في الدّندان وخزندار وكلّيّة الآداب بمنّوبة، تذكّرت أصدقاء عرفتهم ومرّوا مع مرور الأيّام، تذكّرتُ زيارتي لقبرَي أبي وأمّي في الكاف يوم تخرّجي، تذكّرتُ لقائي الغريب بالسيّد مانويل ويوم لقائي بمارسيلا في فندق فلوريدا وكلّ الأماكن التي زرناها في فالنسيا ومدريد ثمّ الميناء والبرج وكركوان والهوّارية وتونس العاصمة، لقد انثالتْ عليّ الصّور دفعةً واحدةً ومن غير ترتيبٍ.

ظلّت مارسيلا مُنشغلةً بالحقيبة التي ستُرافقها إلى المستشفى، كانتْ تُرتّبُ القطع الصّغيرة بشغفٍ، تبتسم لها وتُحاورها إلى حدّ الثّرثرة أحيانًا. وكلّما اقتنت قطعةً جديدةً، جوربًا ملوّنا أو منشفةً قطنيّةً أو حذاءً من الفرو تُعيد ترتيب الحقيبة، تُفرغها أوّلًا ثمّ تطوي قِطَعَها الصّغيرة وتُعطّرها وتقبّلها كأنّها تقبّل مولودها بذاك الإحساس الغامر، إحساس الأمومة العظيم. في الطّريق بين الفيلا والمستشفى ظلّت تتأمّل الأطفال وتحيّيهم بيديها وترسل إليهم قبلات في الهواء وكأنّها توزّع عليهم الحلوى. كانت منشرحةً يومها وهي تحضنُ حقيبتها. وبعد ساعتين أو أكثر من وصولنا إلى المستشفى، لا أتذكّر بالتّحديد، انطلقتْ صرخة شادي الأولى، صرخة الحياة، هكذا روتْ لي مارسيلا. حملتْ الطّبيبة قطعة اللّحم الصّغيرة، ثمّ قصّتْ الحبل السرّي وانطلقت الصّرخة التي انبعثت في باطني أيضًا، فهزّتْ روحي، ودغدغتْ كامل جسدي. وضعتْ الطبيبة قطعة اللّحم السّاخنة على صدر مارسيلا فأحاطتها بيديها دامعةً وضمّتها إليها. في تلك اللّحظات الأولى نظر شادي إلى أمّه وكأنّه يعرفها منذ مئات السّنين، بل منذ خُلق الإنسان ودبّ على وجه الأرض. كان يُغلق عينَيه ثمّ يفتحهما من جديدٍ، يصرخ ثمّ يهدأ ولا ينزل عينَيه من وجه مارسيلا. ولمّا وقفتُ أمامه مشدوهًا وحضنته دقائق لبث يبحثُ عن عينَي أمّه.

تغيّرتْ ملامح الممرّضة ونبرتها وهي تُخاطبني:

-     آسف أستاذ على كلّ ما حدث، الدّكتور المهيري في انتظارك بمكتبه.

جريتُ في الرّواق ولحق بي أداما متوتّرًا، الممرّضة التي تخلّتْ عن عجرفتها لم تقل شيئًا ولم تبتسم في مثل هذه الحالات. ارتبكتُ وأنا أمسكُ بمقبض المزلاج وأفتحُ الباب، وكاد أداما يسقط خلفي من شدّة التوتّر. ابتسم الدّكتور المهيري وهو يُتابع المشهد، هدّأتْ تلك الابتسامة من روعي وحدستُ أنّ الدّكتور لن يصدمني بخبر سيّء:

-     الحمد لله أستاذ أنور، الولادة كانت عسيرة وأمكن لنا أيضًا إنقاذ الأمّ.

تكلّم الدّكتور المهيري بالفرنسيّة، وفي تلك اللّحظة انسابتْ الدموع من عيني أداما، حضنني بلهفة ثمّ تمتم ببعض كلمات ورفع راحتيه نحو السماء.

-     بقي أن نحتفظ بالأمّ والمولودة ثلاثة أيّام على الأقلّ تحت الرّعاية الطبيّة، وذاك إجراء ضروريّ.

أمكن لنا ليلتها رؤية أنجيلا وقطعة اللّحم الصغيرة النائمة بجوارها، كانت بنتًا جميلةً بعينين ضيّقتين وفم صغير. ولم يكن بوسع أداما مقاومة لهفته، قبّل أنجيلا من جبينها ثمّ أمطر المولودة بقبل حارّة وهو لا يتوقّف عن الارتعاش.

بعد خروجنا من الغرفة قالت صوفيا لأداما بنبرةٍ مرحة:

-     الآن وقد اطمأنّ قلبك اخترْ اسمًا للمولودة.

قال ضاحكًا وكاشفًا عن أسنانه البيضاء:

-     فلوريدا، أجل سيكون اسمها فلوريدا، لقد حسمتُ الأمر.

هتفتْ صوفيا متحمّسةً:

-     فلوريدا اسم رائع وهو ذو أصول إسبانيّة ويعني أرض الزّهور والأرض المليئة بالمساحات الخضراء. مَن تحمل اسم فلوريدا تتّصفُ بحبّها للحياة، وتكون شخصيّتها مرحة وبسيطة.

أثناء عودتنا، أنا وصوفيا، إلى الفندق فتحتُ مذياع السيّارة فاستمعتُ إلى صوت الهادي الجويني:

«تحت الياسمينة في اللّيل

نسمة والورد محـاذيني

الأغصـان عليّا تـــميل

تِمسحْـلي في دمعة عيني

تحت اليـاسمينة اتّكـيت

                            عدّلت العـود وغنّيت»[4]

لم تفهم صوفيا كلمات الأغنية، تفاعلتْ مع الأنغام مُحرّكةً رأسها بزهوٍ، انثال شعرها على كتفيها وفاضت حدقتاها بوميض السّعادة. أنزلَتْ زجاج النّافذة وظلّت تُتابع الأرصفة الهادئة في تلك السّاعة المتأخّرة من اللّيل، كانت كلّ المحلّات مُغلقةً في شارع «ابن خلدون» وشارع «الدّكتور إبراهيم الغربي» باستثناء مقهًى على يمين المفترق القريب من سوق الخضار. هزّنا إيقاع الأغنية، مقام الكرد وإيقاع الفالس، وهو نفسه الذي غنّتْ عليه ليلى مراد «أنا قلبي دليلي». فغرقنا في نشوة الفنّ.

عندما توقّفتْ السيّارة أمام فلوريدا قالتْ صوفيا وهي تفتحُ باب السيّارة:

-     عليك أن تُرتّب ذاكرتك يا أنور لتروي حكايات مانويل قريقوري، أُحبُّ كلّ التّفاصيل كما وثّقها المرحوم في كُنّشه الذي حدّثتني عنه.

 

*المصدر: رواية "حذاء إسباني" بإذن من المؤلف/ محمد عيسى المؤدب. مسكيلياني للنّشر والتّوزيع 2020، تونس.

 

[1]     مانيانا: غدًا.

[2]     قصيدة لفيديريكو غارسيا لوركا.

[3]     VictoriaFernándezDíaz,ElexiliodelosmarinosRepublicanos.

[4] مقطع من أغنية «تحت الياسمينة في اللّيل» للفنّان التونسي الهادي الجويني.