نحن-ربما-إزاء بوح متعدد المستويات، بوح المريض بما يعانيه وبوح الزوجة بما تعرفه. من الجائز أيضا أنها لعبة تبادل المواقع ما بين الجلاد والضحية، فشخصية "الواشي" ذات أبعاد معقدة ومدوخة، فهو عميل الأنظمة القمعية، يقوم عمله على كتابة التقارير الأمنية حتى في أقرب المقربين إليه.

بـوح

فـراس ميهـوب

 

- ما تقوله جيد، على الأقل أنت تبوح ما بنفسك، أؤكد لك، سترتاح تماما عندما تُخرج منها كل ما يزعجكَ في هذه الحياة.

حدثني عن طفولتك، وعقد مراهقتك، حتَّى حاضرك.

حثَّ الدكتور باسم مريضه الذي ما انفك يعبث بأصابعه حينا، ويدوُّر عنقه في زوايا العيادة أحيانا أخرى، انشغل عن تشجيع الطبيب ليركِّز نظره على الأصيص الأسود الذي يضُّم نبات الزينة الصناعي المُثَّبت بحصى بيض متراصة، لم يفته أن يذكَّره بمهنته:

-مهندس معماري، جئتك قاصدا الشفاء، قطعتُ أربعين كيلومترا من "مصياف" دون توقف حتى وصلتُ إلى عيادتك.

ما أن استلقى جوهر على كرسي الاعتراف المريح حتى انهمرتْ جملُه كلمات طائرة كطلقات مسدس سريع، رشق سيرة حياته كاملة دون تردد على مسامع الطبيب.

- طفلا، ضربني أبي دون رحمة ولا شفقة، كان يمسكُ رأسي ويرطمه بالحائط، كم أطاح بجسدي النحيل على الأرض القاسية، أذكره في ليلة من شتاء قارس، جرَّني من يدي وأخرجني إلى العراء، كدت أتجمد من البرد يا حكيم.

كان مدمنا على الكحول، لا يكاد يستفيق من نومه إلا ليغطَّ في سكره العميق.

- وماذا كانت تفعل والدتك؟

- رحمها الله، كانت تحاول دون جدوى، لم يسعفها بلاء جسدها في دفع أذاه عني، وفوق ذلك توفيت وتركتني وأنا دون الخامسة عشرة مع أبي المجرم وزوجته الثانية قاسية القلب.

أسلمني أخيرا للشارع، وتركني لمصيري.

- كيف عشتَ بعد ذلك، أين تربيت، وكيف أكملت دراستك، من ساعدك؟

- بالحقيقة، كنتُ محظوظا رغم كل شيء، تبناني خالي، أخذني إلى بيته، تغيَّرت حياتي للأحسن، تعلمتُ، تخرجتُ من الجامعة، نجحت في مهنتي، والحمد لله.

- طيب، لمَ القلق والتوتر الدائم، ولمَ لا يفارقك الحزن، أهي ذكريات الطفولة، تخرجُ من ماضيك لتضرم النار في هشيم حاضرك؟

أطرقَ المريضُ، لمَّ جسده النحيل داخل ثيابه، انزوى، أشاح نظره عن الطبيب.

غرقَ المكان بصمت شاحب، استجمع الطبيب جوانب القصة المحزنة، توجَّه بحنو إلى جوهر:

- يا عزيزي، أفرغ جعبتك، لا تجعل روحك مدفنا لمتاعبك، لستَ وحدك من يتألم في هذا العالم، أذب جليدَ قلبك، انطق، كلمة قد تجرحك، وأخرى تشفيك، قل، لا تخشَ لوما.

- استدار جوهر نحو الطبيب، تردَّد، تلعثم ببضع كلمات:

- اس..أل، اسألني يا دكتور، سأجي..بك؟

-الحبُّ، هل صدمَك أيضا؟

- للأسف، حبُّ حياتي الوحيد كان من طرف واحد، عشقتها بجنون، تجاهلتني بصلف، تعذبت، تجاوزت الخامسة والثلاثين عاما، ومازلتُ عازبا.

- حاول من جديد، افتح قلبَك لحب آخر.

- فقدتُ الثقة بنفسي، لا أملكُ الجرأة للاقتراب من أيِّ امرأة، لديَّ رهابُ الرفض.

- هذا أمرٌّ طبيعيٌ، وقابل للعلاج، سنقومُ لاحقا بالتدرب السلوكي، وسترى التحسن بوضوح.

- أنا موافق، رغم أنِّي غير واثق من شفاء جروح نفسي، فهي عميقة جدا.

- لا تفقدْ الأمل.

قاربت جلسة اليوم على نهايتها، هل لديك تساؤل أو شيء تريد قوله؟

- الخوفُ، يتمثل لي رجلا في هيئة مسؤول الفرقة الحزبيَّة في الحيِّ.

- لمَ تخافه؟

-لا يكلُّ ولا يملٌّ، يكتبُ تقارير كيديَّة عن الجميع، صحيح أنَّي أمشي بجانب الحائط، لكن من يدري، من سلم بالأمس فقد يقع اليوم أو غدا في المصيِّدة؟!

كان الطبيب باسم، رغم ثقل الجلسة مع مريضه المتعب، مسرورا بانفتاحه وبكلامه الصريح، المشكلة التي تواجه أغلب المرضى هي التكتم الشديد، والانطواء على النفس، ورفض البوح، لكن المهندس جوهر تحدث وتحدث، استفاض، صار كتابا مفتوحا، لم يبق إلا بدء العلاج السلوكي، ولا لزوم للأدوية الكيماوية لمريض متعاون.

 

2

اتصال من امرأة مجهولة قبل أن تعرف بنفسها:

- نوال حاتم، زوجة الحارس الليلي الذي زارك مريضا بالأمس.

أرغبُ بسؤالك عن حالة زوجي النفسيَّة.

- حارس ليليّ؟!

أولا، لا أعطي أسرار مرضاي لمجهولين على الهاتف، ثانيا، لا أذكر شيئا يخصُّ حارسا ليليا، بكل الأحوال تفضلي إلى العيادة، إن شئتِ نتحدثُ.

 

3

في الموعد المحدد، جاءت السيدة، بادرتِ الطبيب بإظهار بطاقة عمل زوجها، لفرط دهشة الطبيب، لم تكن الصورة المثبتة عليها إلا " للمهندس " ذاته، جوهر عبدالحفيظ حسون، حارس، يظهر تاريخ ميلاده عمرا يقارب الستة والثلاثين عاما.

وسط حيرة الدكتور باسم، أقسمت السيدة نوال:

- جوهر حسّون، زوجي، ووالد أطفالي، في محفظتي كل الوثائق الرسميَّة التي تثبتُ صدق كلامي.

سأحدثك عن مأساتي معه، إنَّه مصابٌ بداء الكذب، يروي قصصا خيالية لكل من يراه، نصحته بزيارتك لتجد له حلا، أردت مرافقته، رفض وأصرَّ على المجيء لوحده.

- ماذا تعرفين عن طفولته المعذَّبة؟

- أيِّ طفولة معذَّبة؟

والداه يواصلان رعايته حتى الآن برموش العيون، ويتحملان معي كذبه المستمر.

- وماذا عن تعرضه للاضطهاد السياسي من كتبة التقارير؟

- يا سيدي الطبيب، هو من يكتب التقارير عن زملائه وجيراننا، وهذا سرّ خلافي معه، طلبت منه أن يتوقف عن الكذب، الأدهى من ذلك أنَّه يستمتع بأذى الناس.

استعاد الطبيب حديثه مع جوهر، وتوقف عند قوله" من يدري، من سلم بالأمس فقد يقع اليوم أو غدا في المصيِّدة؟! "

 

*كاتب من سوريا