يدرس الكاتب المغربي تباين صورة البحر في الرواية التي كتبها كتاب آسفي تلك المدينة المغربية التي تتمدد على شاطئ المحيط حتى حدود موانئ الفوسفات ومصانع تعليب السردين، وكيف يرى كثير منهم البحر بعيون سلبية، بينما يهيم بعضهم به، وخاصة كاتبات المدينة اللواتي يدركن كيف أثرى مطبخها الفريد بفواكهه.

تباين الرؤى: الرواية والمدينة والبحر

كيف يصور كتاب آسفي علاقة مدينتهم بالبحر

الكبير الداديسي

 

إذا كانت مدينة آسفي قد تناولتها أمهات المصادر التاريخية من كتب التاريخ، الرحلات، التصوف، الدين، الاقتصاد، الجغرافيا... وورد اسمها في كتب من تأليف كتاب سمعوا عنها، مروا بها أو أقاموا فيها، فإننا اليوم نفتح نافذة على أرض عذراء، في بحث لم يطأه باحث من قبل، وموضوع غير مسبوق، من خلال المساءلة عن علاقة هذه المدينة بالبحر في ما كتبه روائيو آسفي عن مدينتهم، وفي النفس صور لمدن عشقناها من خلال الروايات والأفلام. لنتساءل كيف صور ابناء المدينة تلك العلاقة، وهو ما ستتناقله الأجيال القادمة إن كتب لهذه الروايات الخلود، مثلما نتناقل نحن ما كتبه ابن خلدون، ابن الخطيب، ليون الإفريقي، البكري، الإدريسي، ياقوت الحموي، ابن الزيات، ابن قنفذ، الحميري، والناصري وغيرهم ممن أرخوا لهذه المدينة، خاصة وأن الرواية أضحت ديوان العرب المعاصر الناقل لأيامهم، أخبارهم وأحوالهم ... مبتعدين أشد ما يكون البعد عن اجترار ما قالته المصادر القديمة، ودون إغراق في التنظير والتعريفات المتداولة عن البحر والمدينة والعلاقة بينهما، لتكون الدراسة ميدانيةً تغوص في الروايات التي تناولت آسفي، إما في إشارات عابرة، أو جعلت المدينة مسرحا لأحداثها.

ولن يهمُّنا منها في هذه الدراسة إلا النصوص التي رصد فيها مخيال أصحابها تفاعل المدينة بالبحر، منذ أول رواية آسفية؛ رواية "الهاربة" لمحمد سعيد الرجراجي[1] إلى اليوم، مقتصرين على عدد من الروايات – لأبناء المدينة منشأ أو مسكنا – تداخلت فيها صور متناقضة لعلاقة آسفي بالبحر. وكل نسج سردي يمتزج فيه التاريخي بالأسطوري، والواقعي بالخيالي، والقديم بالحديث، الحقيقي بالمزيف، الموضوعي بالذاتي الانطباعي ... ولا كتابة بيضاء بريئة، وكل كتابة تورط جديد، سواء عادت بالقارئ إلى عوالم غابرة في التاريخ، أو صورت الآني اللحظي.

وإذا كانت الدراسات القديمة قد اعتبرت مدينة آسفي هبة البحر، وأشارت إلى أن البحر لعب دورا هاما في معرفة المدينة والتّعريف بها، فإنِّي لما خطر ببالي موضوع "آسفي والبحر في الرواية" وضعت أمام عيني فرضية احتمال إشارة كل رواية اختارت أن تدور أحداثها بآسفي إلى علاقة المدينة بالبحر، وإبراز أهميته ودوره في تطوير الأحداث، وأن كتاب الرواية الآسفيين سيهيمون بالقراء في حكايات خيالية أو واقعية بحرية، يكثرون الكلام فيها عن البحر. لما للبحر من علاقة قوية بالمدينة، وبالإنسان عامة، واعتباره مأوى الحيران، مقصد الولهان، مشبع الجوعان، كاتم الأسرار وإليه يحج أبناء المدينة في كل حين، وآن لغسل الأجساد والقلوب، وإمتاع العيون، يبثونه همومهم وأحزانهم، يرتبط به أكلهم، عاداتهم وتقاليدهم وكل تفاصيل حياتهم ... لكنْ سرعان ما خاب أفق انتظاري، بوجود روايات لا ذكر للبحر فيها، وبعضها يذكره باحتشام. ومن ذكره منها فأغلبهم قدَّمه في صورة سالبة، وعلاقة متشنجة بالمدينة؛ فمن رآه سبب تعاسة المدينة وسبب شقائها، حامي المدينة ومُقدِّمها للأعداء، بل منهم من تنبأ بأن يكون البحر سبب هلاكها كما هلك تيغالين بجانب آسفي من قبل، دون أن يمنع ذلك من وجود إشارات في بعض الروايات إلى العلاقة الحميمية بين المدينة والبحر، ليجد القارئ نفسه أمام صورة لعلاقة بوجهين متناقضين، لخصهما سارد رواية "خبز سمك وحشيش" في قوله " آسفي هبة البحر على ساحله نشأت وترعرعت ونمت، كان البحر جحيمها ونعيمها، سعادتها وشقاءها."[2]

علاقة آسفي بالبحر صورة بوجهين متناقضين: وجه لعلاقة حميمية نفعية تتكامل فيها مدينة مع بحر يغدق عليها خيراته يحضنها ويحميها. وصورة كالحة صبغها ساردو بعض الروايات بالسواد، فلم يروا في البحر سوى سبب تعاسة المدينة وسكانها، وهي الصورة الطاغية للأسف. مما فرض أسئلة من قبيل ما خصائص كل صورة؟ ولماذا طغت الصورة السالبة على الموجبة في علاقة بالبحر بمدينة آسفي بشكل ربما لا تخطر على بال أي مقبل على دراسة تيمة المدينة والبحر؟

1 – الوجه السالب في علاقة آسفي بالبحر:
معظم ما كُتب عن مدينة آسفي في كتب التاريخ لأناس ليسوا من أبناء المدينة، ومعظم ما تضمنه الرواية المعاصرة عن آسفي كتبه أبناء المدينة، والطبيعي أن تتحكم في مثل هذه الكتابات معايير النوستالجيا، والعصبية المحلية فتنبري أقلام الروائيين للدفاع عن المدينة وبحرها، وتقديمهما للعالم متكاملين في أبهى صورة، لكن الغريب هو أن يتعمد معظم روائيي المدينة إلى تقديمَ صورة سوداء عن هذه العلاقة، فجعل سارد "درب كناوة" البحر سبب كل بلاء حل بالمدينة، محيلا البحر على امتداده واتساعه لمجرد سورِ سجنٍ يحاصر المدينة ويجثو على صدرها، وكلٌّ يتحين الفرصة للهروب والتخلص من هذه المدينة المثقلة بالأوزار الحاطَّة من الكرامة الإنسانية نحو الضفة الأخرى لأنه " حين يصل الإنسان إلى الضفة الأخرى يمارس بحقٍّ إنسانيَّته، يجد خِفَّة في جسده، سيلانُ الزمان هناك يمنح حركيَّةً مغايرةً تجعلُ الإنسان يحمل جسداً شابّاً كما لو أنه تحرر من عبء ووزرٍ ثقيل، يستعيد كرامته التي طالما طُمست وجُرجرت في الوحل"[3]

وهي نفس الصورة التي رسمها سارد رواية "سيرة الصمت" لما صوّر المدينة محاصرة ، تأكل أولادها، مستباحة للجميع، بل تبحث عن قواد يقدمها فريسة للغرباء، يقول: "كانت مدينة آسفي تشبهني محاصرة ببحر بدل أن يكون سبب عزها أصبح سبب ذلها، لم ينلها منه سوى الغزاة الآتين منه والقادمين نحوه. آسفي مدينة الظِلال في الليل تأكل كالقطة الأصيلة أبناءها خوفا وحبّاً، كالعناكب تسلم نفسها لفلذات كبدها يتقاتلون على جسدها كي يعيشوا ويكبروا ويلهيهم الأمل، تدفع ضريبة التخلي عن رفيق دربها، وصباحا تبحث عن قوَّاد كي يقدمها فريسة على فراش الغرباء."[4] أي صورة سوداء هذه عن علاقة مدينة ببحر كلاهما ينبض بالحياة والعطاء والجمال، أهي غيرة، تشف أم انتقام من مدينة لا ينقصها شيء، مدينة فيها ما لا يوجد في غيرها من المدن من المؤهلات؟؟ أم هل هو قول غير الحق وذم بما يشبه المدح لغرض في نفس الروائيين؟

وتعمم رواية "درب كناوة" اعتبار البحر حصارا وسيَّاجا يحاصر بلدا بكامله فيعبِّر ساردها عن أمنية غريبة لو تحققت لكانت نتائجها أغرب عندما يقول: "لو جف البحر المتوسط لهاجر السكان كلهم كبيرهم وصغيرهم مشيا على الأقدام، سعيا إلى القارة الفردوس التي تذر اللبن والعسل، لن يقعد أحد عن السعي... حتى كسيح الأطراف ومن بهم إعاقات سيذوبون ويجرُّون أجسادهم ليصلوا."[5] ولتحقيق أمنية الهروب من المدينة التي يحاصرها البحر ألفينا بطل الرواية يتحيًّن الفرصة: "كلَّ ليلةٍ يسهر مترقبا حتّى الفجر في محاولات عديدة متكرّرة لا يملّ ولا يكلّ همّه الوحيد القفز على ظهر باخرة الحلم والمكوثُ بلا حركة بين الحاويات لترسوَ به في أرض الأحلام"[6]

و الميناء الذي ظل على امتداد التاريخ مفخرة المدينة، أشهر من نار على علم، وأبعد نقطة يمكن أن يصلها مركب. قال فيه الحميري: "وهو آخر مرسى تبلغه المراكب من الأندلس إلى غاية القبلة، وليس بعده للمراكب مَذْهب"[7]. وشكَّل الميناءَ الرَّسميَ والدبلوماسي للمغرب في مراحل متعددة، فإن روائيي آسفي تفننوا في الانتقام منه، وتشويهه عن سبق إصرار وترصد، فلا ترى فيه رواية "درب كناوة" إلا فضاءً أجرد كئيباً مُخرِّباً ينشر الخوف والهلع في الأهالي لما قال السارد:" يضحي أجرد كئيبا، تحوم في سمائه طيور النورس مصخبة المكان بصياحها من يجرؤ على الوقوف أمام أمواج عاتية تقفز فوق الحاجز الواقي لتتكسر بقوة في الحوض تلحق الضرر بالقوارب الصغيرة تكسر ألواح قوارب الصيد وتخلق الهلع كأن ماردا جنيا يحرك القاع بعصا."[8]

ومن لم يكرس هذه الصورة السلبية اكتفى بالبكاء على المجد التليد والماضي الضائع، ليقدم الروائيون صورة مأساوية للمدينة في علاقتها بالبحر، مُجمِعون على أن المدينة اليوم تعاني النسيان والتهميش ووحدهم الأقدمون من كانوا يقدرونها حق قدرها: "آسفي المدينة الغفل الغارقة في الليل، المنسية على سواحل التاريخ، البعيدة قسرا عن خطوط الطول والعرض والتماس، فلا تضبطها المراصد ولا تحددها ولا تعبُرها المسالك، وحدهم الأقدمون عرفوا قدرها"[9]. وهي مدينة توالت عليها المصائب والأرزاء، و"أنهكتها المجاعات والأوبئة والفتن والدسائس والخيانات فرحل عنها علماء وفقهاء وعاش فيها الصعاليك والأوباش والأوغاد حتى قيل عن أهلها "إنهم أناس لا تربية لهم ولا أخلاق ولا حضارة""[10].

ولم يقتصر الروائيون على تقديم ميناء المدينة في هذه الصورة السلبية الممقوتة، بل نفى عنها بعضهم كل سمات التحضر، وأن عراقتها لم تعد سوى ذكريات بين بعض أبنائها الأصليين يقول سارد "سيرة صمت": "آسفي حاضرة المحيط لم يعد بها حضارة إلا تلك التي يتنفسها أصيل أبنائها بين دروب الزمن فيجودون علينا بنسمات الذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد"[11]. وضد التاريخ وضد الجغرافيا وضد الواقع، سعى إلى فصلها عن البحر وعن الشاطئ، يؤكد نفس السارد أن آسفي لا بحر لها ولا شاطئ لها، وأن خيراتها من الأسماك التي تميزها عن غيرها من المدن المغربية والعالمية لا يستفيد منها إلا الغرباء والمهربون حين قال: "آسفي ليس بها شواطئ غير تلك التي تسرق رمالها في واضحة النهار، ليس فيها بحر غير ذلك الذي تلوثه مركبات الفوسفات بمخلفاتها، ليس فيها سمك غير ذلك الذي تختطفه السفن الأجنبية وسماسرة التهريب القانوني قبل أن يصل إلى جوع أبنائها."[12] وهي ذات الصورة التي يكررها السيد "س" في نصوص عبد الله إكرمن حين قال "مدينتي كانت ذات زمن عاصمة سمك ، ولم تعد. ولكنها كانت ولا تزال وستستمر مدينة الغريب. – هاد آسفي شحال كتعطي لبراني ... جملة يرددونها."[13]

ولإتمام هذه الصورة السالبة آثرت بعض الروايات اعتبار الميناءَ المسؤولَ عن فساد أخلاق أبناء المدينة؛ يَدخُله الشاب مهذبا وقورا، وفي وقت وجيز يحيله طائشا فاقدا للأمل، ولنتأمل كيف تحولت أخلاق وشخصية الكوشي بهذه السرعة لما اشتغل في مرسى المدينة: "خلال الشهور الثلاثة التي قضاها بالشغل في المرسى بدأ يتحول من إنسان مهذب دمث إلى آخر لا يعرفه أبدا. ضاع إلى الأبد الشاب المليء بالأمل، المفعم بالأماني، انمحت في داخله صور الفضيلة والأخلاق والشرف، ليحل مكانها شيء آخر، مائع مُهترئ. أين ذهب الوقار والنقاء والإيمان بالصالحين (...) فقد طاشت ألفاظه، تغير سلوكه، خشنت تصرفاته، غدا تمثالا تنوح بداخله رياح اليأس، والإحباط، انعكست على مرآة روحه آلام البحارة وبؤسهم."[14]

وحتى ما تراه المدن الأخرى مِنَّةً من البحر، وهبةً تُحْسَد عليها مدينة آسفي في علاقتها بالبحر، فضل بعض الروائيين – من خلال حب جلد الذات وتحقير كل ما هو موجود بالمدينة – تكريسَ الصورة السالبة عن العمل في معامل التصبير. واحتقار كل من يشتغل في أعمال مرتبطةٍ بالبحر، واعتباره بطَّالا بدون شغل، وإن كان عاملا مشتغلا، فنجد في مفارقة غريبة بحارا يعمل بالميناء يُنظر إليه "وهو يشتغل شغله أنه بطَّال بدون شغل."[15] وأن معامل تصبير السمك – رغم دورها الاقتصادي والاجتماعي – ليست سوى: "فخاخ ابتكرها السَّادةُ ليجعلوا من البشر عبيدا. تحت اسم مشوه معنويا هو العمل. والراتب الشهري طعمٌ يخدر ضعاف النفوس ليبقيهم أجراءً يبيعون أيامهم المعطاة من الله بالتقسيط لنخاسي الأعمار وتجار عرق الوجوه."[16] لدرجة أن صفة "عاملة في الفبركات" أضحت صفة للحط من قيمة المرأة، وسبة لها بين النساء.

وبدل الدعوة إلى تقنين استغلال رمال البحر، واعتبار رمال البحار كنزا، اكتفت بعض الروايات بالإشارة إلى ظاهرة تهريب الرمال، وما يثيره مهرِّبوه من هلع وسط السكان فقد توقف بطل رواية " النادل والصحف" خائفا بالليل من اللصوص، لكن ازدادت مخاوفه لما "فطن إلى أن الشاحنة من ذوات الهيكل الخاص بحمل الرمال، فزاد ذلك من مخاوفه، لكثرة ما يحكى عن مهربي الرمال من ارتكاب حوادث يشيب لها الولدان."[17] وبدل التركيز على عمل الصيادين وصراعهم من أجل تأمين لقمة العيش، تقدمهم إحدى الروايات: "يقضون أوقات الصيد في تدخين قاذفات اللهب أو "السبسي.""[18]

أي نظَّارة سوداء ارتداها هؤلاء الروائيون فغدوا لا يرون في المدينة إلا السواد، ويحيلون كل شيء جميل فيها – بما فيه البحر – قبيحاً، بل منهم من يتوغل إلى قلوب الناس ليراها سوداء، فلنستمع كيف ينظر هذا السارد إلى ممارسي رياضة ركوب الأمواج التي بدأت تنتشر في السنوات الأخيرة بالمدينة، لما قال: "يمارسون رياضة ركوب الأمواج التي تشتهر بها المدينة، وهم يرتدون زيّاً أسود يقيهم من البرد، أرى أنا الأمواج دنيا الناس، والزبد سواد الإنسان من الداخل."[19] وعلى نفس المنوال لما فكر شاب في مقتبل العمر في كتابة أول رواية له "أوراق عبرية"[20] اختار عائلة "كبيرهم من أفقر عائلة بآسفي." وتحدث عن المدينة في أسوء مراحلها، مما جعل أبطالها من "من" الهاربين من الجفاف والطاعون الذي ضرب مدن الساحل."[21] حتى ليتساءل المرء ماذا ترك هؤلاء الروائيين لمدينة آسفي إذا اجتثوها عن البحر والخزف، وأكدوا عدم استفادة المدينة من بحرها وخزفها: "آسفي مدينة الخزف الذي يعطى للعالم تحفا فنية ولا ينال حرفيوه غير لهيب الأفران المتقدة."[22]

ولم تقتصر هذه النظرة السوداوية على الماضي والحاضر فقط، بل وجدنا روائيين يتنبؤون بمستقبل أكثر سوادا، ويرون أن المدينة تسير إلى الخلف في عالم يتطور سريعا، وأنها مدينة تفقد بالتدريج معالمها وما كان يصنع الفرجة فيها، وأن أنشطتها ومؤسساتها الاجتماعية يتم إبعادها عن البحر مما يئد أحلام الشباب؛ فقد كان كورنيش المدينة واجهتَها ووِجْهةَ سكانها، وساحة الفرح والفرجة فيها، وكانت به "دار الشباب العتيدة أيام الستينيات والسبعينيات قبل أن تجهز عليها الجرافات فتهد كل أحلام الشباب."[23] وهو ما أكدته رواية "سيرة صمت" حين تحن إلى أيام الفرجة التي اختفت عن كورنيش المدينة بالتدريج، فقد كانت "في الكورنيش حلقة من حلقات الفرجة التي بدأت تختفي شيئا فشيئا، ألعاب سحرية ورقصات غريبة تؤديها كلبة على نغمات قرد طبال."[24] دون أن تنتبه رواية واحدة لما يُبنى من معالم جديدة بالمدينة، ولما تشهده من توسع عمراني، وتزايد سكاني.

هذه أمثلة وغيرها كثير تفرض على الباحث عدة أسئلة حول سبب هذه الصورة السالبة عن علاقة مدينة آسفي بالبحر، وكره أبناء المدينة لمدينتهم، وشغفهم بجلد الذات والقصد في تغييب فضل البحر على مدينة يجمعها به عشق أبدي.

تحولات في صورة المدينة والبحر:
بعد أن رصدنا فيه النظر السوداوية لمدينة آسفي في كتابات روائييها، ونوعا من جلد الذات بالتلذذ في إبراز عيوب المدينة وتقديمها في صورة كالحة، نحاول في هذا الجزء إبراز بعض الإشارات المشحونة بدلالات موجبة في الكتابات الروائية التي استطعنا قراءتها. فمن الروايات ما رأت أنه لولا البحر لما كان للمدينة وجود، ولَمَا قصدها التائهون وأهل الله، فقد "كان البحر بدءاً وكانت آسفي، استوت على الجرف العالي، واستوى الفلك على الجودي، صاعدة من قلب الطوفان، جوهرة ومنارة وحضناً للتائهين والحيارى وعابري المحيط والمؤلفة قلوبهم على الخير والصلاح والواصلين من أهل الله."[25]

هكذا كانت أسفي عاشقة البحر ومعشوقته، بينهما عناق أبدي، حتى لتبدوَ المدينة من قمة سيدي بوزيد "في عناق حميمي خالد مع البحر فكأنها تخرج من بين ذراعيه، أو هو ينسل من بين أحضانها، أو كأنهما في اللحظة الأخيرة للانفصال عن بعضهما، أو هما في اللحظة الأولى للعناق والالتحام والضم."[26] هذا العشق يفرض التضحية من أجل العشيق، والحب عطاء مستمر بدون انقطاع، ومن أحب يعش من أجل الحبيب: "أحب البحر هذه المدينة، وأحبت آسفي هذا البحر، عاشت من أجله، وعاش من أجلها، أغدق عليها خيراته وعطاياه فسكنت إلى جواره بنت بيوتها البدائية على شواطئه."[27]

لقد جعل البحر من آسفي نهاية العالم، وأبعد ما يمكن أن تصله المراكب والحضارة يوما ما، من وسط البحر تتراءى المدينة نقطةَ ضوءٍ تلوح فيقصدها التائهون في البحار وعلى ساحل بحرها وقفت: "سنابك جياد عقبة بن نافع كآخر نقطة للعالم المتحضر، نهاية العالم المتحضر، فلا فتح ولا عمران بعد آسفي. وآسفي آخر منارة قصدها الفتية المغررون أنقذتهم من التيه والضلال، كانت منتهى رحلتهم وغاية مجراهم، لقد اتجهوا نحو الضياء والشهاب والقبس "أسافو."[28]

ظل البحر، ولا زال، يغدق خيراته على المدينة وكان سببا في أن بوأها مكانة عالمية في الصناعة الغذائية، وجعلها عاصمة السردين العالمية، فساهمت خيرات البحر في إنشاء "معامل تصبير السمك الممتدة على طول الساحل ابتداء من حي تراب الصيني وانتهاء بالشاطئ الجنوبي للمدينة يفوق عددها خمسين معملا يرتبط نشاطها بالإنتاج البحري."[29] هذه الخيرات والمعامل خلقت فرصا للشغل، وما ضاقت الحياة بامرأة من أبناء المدينة إلا ووجدتْ ضالتها في تلك المعامل، هكذا لمَّا "ترمَّلت رحمة أم إزَّة خرجتْ للعمل في معامل تصبير السردين، الملاذ الوحيد لمن ضاقت به سبل العيش وصفعته الأيام القاسية."[30] ولم يجد المستثمرون لما فكَّـروا في بناء مشاريع استثمارية سوى الواجهة البحرية لبناء تلك المعامل، فشيدوها "على امتداد الساحل الجنوبي للمدينة: ارتفاع صخري يشغل مساحة هامة من حيز طبيعي يطل مباشرة على البحر بأجرافه العالية"[31] ليكون البحر مصدر الخير، مطهِّر الأجساد والأرواح ومستقبل النفايات لذلك بُنِيَتْ المعامل على مشارفه، "مما يسهل رمي النفايات والتخلص من بقايا مخلفات السردين"[32] بالبحر.

وبالإضافة إلى تأثير البحر على اقتصاد المدينة، فقد بينت بعض الروايات أثره على ساكنة المدينة وتطبعهم بطباع كائناته البحرية ، فليظهر بطل إحدى الروايات تعلقه بمحبوبته قال: "كسكان آسفي أصبحت آكل السردين باستمرار، فحملت كثيرا من خصائصه، السردين وَفِـيٌّ لأرضه، يقطع ألاف الأميال ليعود لمسقط رأسه ليضع فيه نسله، لا يمنعه من الوصل سوى الموت، وأنا وَفِيٌّ مثل السردين، أحِنُّ لأرضي، وأنت يا سكينة أرضي، سأموت ما دمت لم أستطع الوصول إليك."[33] هكذا يكون البحر قد سكن أفئدة أبناء المدينة ليظل منقوشا في ذاكرتهم ووجدانهم حتى وإن غادروا المدينة، فلم تجد "السيدة كركم" إلا أن تمتع شريكها بما كان البحر قد متعها به في صغرها بآسفي فتقول له: "سأجلبُ لكَ جراد البحر الشّائك، وكذا حبّاره وأخطبوطه ومحاره وبلحَه الأحمر، لن أتركَ شيئا كان اللهُ يرزقني إياه على مائدة طفولتي."[34] فظل البحر، ولا زال، يسكنها لا يفارقها طيفه، لدرجة أن أول ما تنسمته في صدر حبيبها عطر البحر الذي ذكرها بمدينتها آسفي تقول: "وتتذكّر جيّدا كيف ظهرتَ لي حينما وضعتُ رأسي على الوسادة في أوّل ليلة أقضيها بها (صقلية)، كنت لا أعرف أيْني حقيقة، أمازلتُ هناك في المغرب أم أنني في أرض أخرى غيره؟ كيف لا وقد كان أوّل ما تنسّمتُه عطرَ البحر في صدركَ فتذكّرتُ محيط المدينة التي رأيتُ فيها النّور، واليوم وأنتَ تظهَرُ لي من جديد في السّوق بالقرب من بائع السّمكِ، فإنّ أول سفر ستقوم به ذاكرتي سيكون في ملكوت السّمك."[35] وكلما رأت البحر أو مدينة بحرية إلا لاح طيف آسفي التي ارتبطت بالبحر، تقول وهي في صقلية:  صقليّة تذكّرني بكلّ شي،ء وبحرها يجذبني إلى بحري، وسوقها تجذبني إلى أسواق وطني."[36]

لقد شكل البحر على الدوام مصدر متعة وإمتاع، في قصده أبناء المدينة للراحة والاستجمام، وتفريغ ما يختلج صدورهم، وكلما اغتم أحدهم، أو ضاق ذرعا بالحياة أمَّ البحرَ يشكوه همومه لأن البحر يحيط بالآلام، ويرسم ويتقبَّل الآمال الممنوعة. "مدينة آسفي كنت أستمتع قرب بحرها المحيط الذي كان يحيط بآلامي ويتقبل آمالي الممنوعة"[37]. وكان سارد رواية "النادل والصحف" لا تحلو له جلسات المساء إلا في شرفة شقته يستمتع بجمال زرقة البحر يقول: (كثيرا ما كان يحلو لي الجلوس بهذا الفضاء أحتسي ما أعده من قهوة المساء، منتشيا بزرقة البحر على مرمى البصر من على الطبقة الثالثة من العمارة، وهي عمارة، تعتبر من نتاج الحرب العالمية الثانية مثلي، ما زالتْ إلى الآن على اسم مشيديها من الأوروبيين تحمل اسم العمارة الأوروبية)[38].

وكذلك كان الطيبي الجزولي الطفل الكسيح في "سيرة صمت" يحب الجلوس في الكورنيش ومراقبة البحر: «كنت أحب أن أجلس في الكورنيش أراقب البحر الهائج والصيادين الذين يرمون بقصباتهم المصنّرة خيوطها نحو الماء طلبا للأسماك."[39]  وأحيانا كثيرة، كان البحر يجود بفواكهه دون تعب، فيلتقطها الأطفال من على رمال الشاطئ، تصف بطلة رواية السيد كركم كيف كان الأطفال يتناولون فواكه البحر من الشاطئ دون أن يدركوا قيمتها الغذائية فتقول: "وفوق الرمال المبلّلة كنّا نجلس معاً ونفرش إزارَنا الأبيض، ونبدأ في أكل خيرات البحر نيّئةً، بينما والدي يشرحُ لي كيف أفتحها بالكُلاّب أو أكسرها بالمطرقة الصّغيرة، وكنتُ سعيدة بذلك أيّما سعادة وأنا سّأشربُ ماء القنفذ وألتهمُ بيضَه، أو وأنا أتلذّذ بمذاق بلح أو محار البحر النيّئين والمالحين والمفعمين بكلّ العناصر المغذّية للجسد، والمولّدة للطّاقة فيه. وما كنتُ أعلمُ أنّني كنتُ ألتهمُ الحياة الحقّة في شكلها الخام وكلّ عناصرها التخليقية إلا حينما كبرتُ وبدأتُ أعيد النّظر في كتاب الوجود، وأستوعب كيف أنّ البحر نفسه كان ولم يزل معلّمي الكبير، وكيف لا يكون كذلك وفي حضَرتِه عثرتُ على بيضة الكون، ومعه وبه شربتُ سرّهَا، ومددتُ كلّ خليّة في جسدي بنُسغها، وأنا في رفقة السلطعون النّاسك والسرطان الأحمر والأسود والأزرق، وحيوانات أخرى لا حدّ لها ولا حصر."[40]

هو البحر مصدر تغذية ومفرِّج الكُرَب والهموم، فلما ضاقت الدنيا بفاطمة – بطلة رواية "انتقام يناير" - وقررت الانتحار بعدما كاد يغمى عليها وسط زحام شارع الرباط بالمدينة، لم تجد سوى البحرَ متنفساً وبلسماً يشفي جراحاتها تقول: "تمكنت من سحب هامتي من الازدحام نحو كورنيش المدينة المطل على البحر من على ظهر جرف هاو، بدت لي الشمس بعيدة تستعد لتغطس في قاع البحر، وتغتسل من تعب النهار، فكرت في إلقاء نفسي في الجرف السحيق، عسى الارتطام يطهر النفس من أردان الزمن الموبوء، ضباب سنوات الدراسة الطويلة تلاشى، وألق الوعود بدده قرار رئيس يدعي تمثيل الشعب: لماذا لا أنتحر أُريح وأستريح؟؟(...) نفخ نسيم البحر رذاذه على وجهي فكانت انتعاشته بلسماً."[41] بل استفادت من إصرار الموج على نطح صخور الكورنيش دون ملل، ومن مقاومة الصخور للموج على مر الزمان، تقول "وضعت صدري النصف مكتنز على الحاجز، وغرقت أتأمل الجرف العنيد يقاوم تتابع هجمات الأمواج، فتتكسر تباعا، لا هي تعبت، ولا هو استسلم، ردَّدتْ قول الشاعر بترنم:

ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر       تنبو الحوادث عنه وهو ملموم

فَلأكن كهذه الصخور لن أستسلم سأتسربل المشاكل، وإن أصابتني مشاكل أخرى تكسرت المشاكل على المشاكل."[42]

نِعَمُ البحر على المدينة لا تعدُّ ولا تُحصى، فهو مصدر غذاء، ووسيلة راحة، سبيل حذاقة إنسان المدينة وفطنته، لقدرته على تعليم الصيَّادين أسرارَ الطبيعة، فرأت فيه إحدى البطلات المعلم الكبير: "البحر نفسه كان ولم يزل معلّمي الكبير"[43]. والبَحَّارُ الذي استأنس بالبحر وعرف أسراره "يُكثِر الحديث عن الصدفيات والرخويات والقشريات فيعرف المصايد واحداً واحداً، وأيُّها أوفر سمكاً، وأيُّ ريحٍ أنسب للصيد، وأي طعم يمكن استعماله في أوقات معينة تستهوي الأسماك مما يجعل الصيد وفيرا وعن حركات المد والجزر وارتباطهما بالقمر."[44] بل إن البحر يُكسب البحَّار درايةً وخِبرةً فتصبح له "القدرة على معرفة الأسماك الموجودة في كل جهة من البحر بحاسة الشم فقط، يشم ريح المنطقة ويأمر" ارموا الصنانير هنا يوجد سمك موسى بالأطنان."[45]

ومنه كانت بطلة رواية "سيدة الكركم" تستلهم معارفها فبقدر الرهبة التي كانت تشعر بها كلما وقفت بجانب البحر، كانت استفادتها منه تقول لعشيقها: "دعني أحدّثك عن البحر، فمنذ طفولتي البعيدة، كنتُ كلّما وقفتُ أمامه شعرتُ برهبةٍ كبيرة، كان أبي يعلّمني كلّ أسماء أهل البحر من القشريّات والصدفيات، راسماً في يديّ خريطة الصّخور كي أعرف أين يسكن سرطان البحر مثلاً، أو الرّبيان الملكيّ، وكنتُ أجد في ذلك متعةً كبيرة وأنا أطّلع على الكهوف والثقوب الصّخرية الكبيرة."[46] ومن الكائنات البحرية التي تتأملها على الشاطئ كونت معرفتها بالكون والوجود، تقول:  حينما كنتُ أمسكُ قنفذ البحر بين يديّ فكان أوّل ما يصلني منه من رسائل عرفانيّة هو خطابه الدّفاعيّ المتمثّل بكثرة أشواكه، ضف إلى ذلك رائحته التي كانت تحتفل بالحياة بكلّ معانيها، ولون بيضه البرتقاليّ كان يقول لي إنّه منّي تبدأ الحياة وبها تنتهي. سرطانُ البحر له أيضا خطابات من هذا القبيل لكنّ شكل قوقعته كان يذكّرني دائماً بشكل القوقعة البشريّة أيْ بجمجمة الإنسان التي تحتضنُ الدّماغ بكلّ عنايةٍ ومحبّة، هذا الدّماغ الّذي يشبه في تشعّباته ولزوجته كثيرا المادّة الحيّة التي توجد في داخل قوقعة السرطان.[47]"

وتستمر تلك العلاقة الوجدانية والحب العفيف الطاهر، بين البحر وسكان مدينة آسفي حتى بعد الممات، في علاقة تشبه ما عبر عنه جميل بن معمر لمحبوبته بثينة لما قال فيها:

يهواكِ ما عشتُ الفؤاد وإن أمُتْ    يتبعْ صدايَ صداك بين الأقبرِ

لذلك كانوا يختارون لموتاهم مقابر تطل على البحر، حتى يظلوا مستمتعين بجماله بعد موتهم، ورد في روايةٍ لعبد الرحيم لحبيبي: "حفر أهل آسفي قبور موتاهم ومقابرهم على جنبات البحر، شمالا ووسطا وجنوبا، على منخفض حي آشبار المطل على الشاطئ والميناء، كانت هناك مقبرة كبيرة يشرف منها الموتى وهم في العالم الآخر على الرمال الذهبية. وعلى هضبة لالة هنية الحمرية، ومن تحت أقدام الجهة الجنوبية للسور كانت هناك مقبرة ، تحتها آثار مدينة قديمة مطمورة. في كل مكان على جنبات البحر مقابر صغيرة وكبيرة حتى في ضواحي المدينة باديتها المجاورة للبحر هناك مقابر ساحلية بحرية."[48] فظل البحر عبر التاريخ يُمْتِع المدينة، يستمع إليها ويحكي حكاياتها "هذا البحر يحكي قصتنا نحن في آسفي"[49] .

وللروائية الاسفية لمستها الروائية ونظرتها الخاصة للبحر، هكذا وجدنا الروائية أسماء غريب تضفي مسحة نسائية على علاقة البحر بأسفي فتفتح في كتاباتها الروائية المطبخ المغربي على البحر لتقدم ألذ الأطباق لشريك حياتها تقول بطلة "السيدة كركم": "بعد المشروب السّاخن دعني أقدّم لك الجزء الثاني من أطباق البحر: سأبدأ بسمك القدّ، وقد طبختُه لك بالبخار في كسكاس من الخيزران ولا شيء معه غير بضع قطرات من زيت الزيتون وبصلة لتمتصّ روائح الخشب والسّمك، بعد هذا سأطهو لك بيديّ هاتين أطباقاً متنوعّة من سمك السردين."[50] ولنر كيف تتفنن في تقديم تلك الأطباق، وكيف وسم البحر الطبخ المغربي ليقدم للعالم طريقة تحضير وجبات السمك لما تقول لحبيبها: "سنشعل نارا ألسنتها من خلٍّ عَطِر صنعتُه من التّفاح، وآخر من الليّمون الحامض وقشرته، وسأنقع فيهما معاً قطعاً رفيعة من سمك السّلمون والسّيف الفضّي، ثم أُزْهِرُهما بعروش من البقدونس الطريّ المقطّع بشكل دقيق جدّاً، ولن أضع ذرة واحدة من الملح. أمّا عن الأفوكادو والإجّاص، فإني سأصنع لك منهما طبقاً منعشاً ممزوجاً بحفنة، وبضع من حبات ياقوت الرمان ووريقات النّعناع الزكي وبضع قطرات من عصير الليمون."[51] وأكثر من الأكل كان البحر قادراً على أن يقدم إكسير حياة، وقادرا على تجديد الخلايا الإنسانية، وتطهير الأبدان والنفوس فتدعو حبيبها إلى شراب صنعته بيدها من ماء البحر: "هذه مائدتنا الرّابعة أيها الفتى الزكّي، سأفتح إزارها في الصّباح الباكر، ونشرب معا قبل كلّ شيء إكسيرا صنعته لك بيديّ من ماء البحر وجلستُ أنتظركَ. سترى كيف أنّه لم يعد مالحاً، نريد أن نجدّد به خلايانا، ونطهّرها من كل العوالق والرواسب. فهو كما تعلم سرّ من أسرار العرفاء الأوائل."[52]

هكذا كانت المدينة هِبَة البحر، وكان البحر مصدر رزقها ووجودها، وحق لأبناء المدينة أن يفخروا بهذه العلاقة بين المدينة والبحر ويكفيهم فخرا وقوف عقبة بنافع على شاطئها يقول سارد باب الشعبة مخاطبا سكان المدينة: "حق لكم أن تفخروا يا أهل آسفي ... فوق هذه الشطآن تكسرت أمواج البحر على ركائب الفرسان، هناك رفع عقبة بن نافع يا سادة إلى الباري عز وجل أكف الضراعة وصاح عبر الزمان! اللهم لو كنت أعلم أن وراء هذا البحر أرضا لخضت جهادا في سبيلك."[53] وكيف لا يفخرون والبحر يتعاطف مع المدينة في السراء والضراء فثارت ثائرته غضبا، وتجاوزت أمواجه الحواجز لتلامس الأسوار، وبكت السماء مطرا مدرارا ، وقصف الرعد منذرا بالخطر المحدق بالمدينة، ليلة قدوم السفن البرتغالية غازية: "لم يكد ينتصف الليل حتى ارتفعت أمواج البحر فلامست السور المواجه لها كما أخاف الرعد والمطر الغزير السكان."[54]

ما يشبه الخاتمة:
يستنتج إذن من خلال مقاربة تيمة آسفي والبحر في الرواية المعاصرة اختلاف وجهات نظر روائيي آسفي إلى علاقة المدينة بالبحر، ورغم ذلك الاختلاف فالنظرة عموما محكومة بنوستالجيا وحنين جارف للماضي مقابل حنق وغصة في الحلق على ما آلت إليه المدينة. فعلى الرغم من كون بحر آسفي اليوم يلعب وظائف متنوعة، يؤمن وظائف وقوت عدد كبير من أبناء المدينة، ويساهم بنسبة هامة في الاقتصاد المحلي، الجهوي والوطني، فإن الكِتابة الروائية وهي تحن إلى الماضي إنما تحاول خلق طريقة للتأقلم مع الحاضر ورصد مخاوف المستقبل. وتتضح هذه النوستالجيا أكثر عندما تقارن بعض الروايات بين واقع البحر الآن وحاله في الماضي، فقد روى بطل رواية "باب الشعبة - الذي طالما أثث الصورة السلبية روايته- قائلا: "كان الصيد وفيرا وكان الميناء رغم صغره يضج بالحيوية والنشاط وكان من عادة الصيادين رفع أصواتهم بالصلاة على رسول الله عند إنزال ما اصطادوه من قواربهم."[55] ليتبين بالملموس أن المسألة متعلقة بالأحاسيس، وبتطور الحدث الروائي، أكثر من تعلقها بالواقع، فما يصطاده صيادو أسفي اليوم أكيد أضعاف مضاعفة مما كان يصطاد قبيل الغزو البرتغالي. وحركية الميناء وقيمة ما يروج فيه، وتقنيات وآليات الصيد لا يمكن مقارنتها بما كانت عليه آنئذٍ ... وليبرر السارد إحساسه اضطر إلى العزف على وتر الدين "وكان من عادة الصيادين رفع أصواتهم بالصلاة على رسول الله عند إنزال ما اصطادوه من قواربهم."

ولتبين بعض الروايات أهمية النشاط التجاري للميناء ذكرت ذات الرواية أن الميناء كان يربط بين آزمور وجزر الكناري والبرتغال تقول: "نشطت حركة التجارة وازدهرت سوق السفن الرابطة بين ميناء آسفي وأزمور وموانئ جزر الكناري وأصيلا والمملكة البرتغالية.[56] ولسنا في حاجة لنبين الجهات التي يتعامل معها ميناء مدينة آسفي كل يوم في الوقت الراهن من جميع القارات.

والحنين والنوستالجيا للماضي ليس عيبا، ولكن لا ينبغي بخس الحاضر حقه، وإصدار أحكام قيمة مطلقة قد يتداولها الخلف، مثلما نتداول رأي الأسد الأفريقي في آسفي وأخلاق أهلها، وقد انطلق من تجربة ذاتية ليعممها على المدينة، فالحاضر سيصبح غدا من الماضي، ومن يعيش بيننا صبيا قد يحن هو الآخر لهذا الواقع الذي يحلو لبعض الروائيين تقديمه مأزوما. فمن حق الرواية انتقاد الواقع، لكن الرواية الفضلى هي التي تتجاوز الواقعية الانتقادية إلى الرواية التي يثور فيها البطل الإشكالي على واقعه ويغيره لينشر الأمل ... و مدينة آسفي حباها الله بمؤهلات طبيعية كثيرة، ولعل من أهم تلك النعم أن ارتبطت في تاريخها ببحر كان وسيستمر مصدر الخيرات، وليس عبثا اختيار العرب البحر رمزا للتعبير عن الكرم والجود.

إن البحر جزء من آسفي، وآسفي جزء من البحر، وخصائص البحر تشكل جزءا من هوية ابن المدينة، بتسللها لكل شيء فيه، فأثَّرت على سحنته وشخصيته، وارتسمت على ملابسه وجلده، فهذا "عطانة السمك امتزجت بملابسه وعلقت بجلده".[57] وذلك تسللت إلى فراش نومه فأضحى فراشه "تفوح منه رائحة الرطوبة الممتزجة بملح البحر." [58] ومن المؤسف أن نجد معظم الروايات تربط بحر المدينة بالغزاة، ونهب الثروات وتهريب الرمال، والأشغال الدونية المحتقرة سواء في الميناء، في البحر أو في معامل السردين. ولا رواية ذكورية أشارت لما يلعبه البحر في تلطيف الجو، ولما يجود به على المدينة من أسماك، ولما ميز مطبخ المدينة من أطباق شهية لها تفردها في المطبخ العالمي.

ولعل الغرابة أن تجد بطل رواية يعيش في مدينة يحيط بها البحر ولا يذكر البحر إلا عند زيارته لمدن أخرى، فلما أراد بطل رواية "أناس عرفتهم" الإشارة إلى نسيم البحر العليل سافر بالبطل "الطيب" من آسفي إلى رؤية صديقه حسن يقول: "تذكر صديقه حسن فقرر السفر لرؤيته، حسن يقطن بمنطقة مطلة على البحر، منطقة هادئة يشعر معها الطيب بطراوة البحر ، وبنسيم البحر العليل."[59] وكأن مدينته لا بحر فيها، وفي بيت صديقه فقط "وككل زيارة يجلس الطيب للحظات طويلة في شرفة الغرفة ... كي يراقص النوارس بعينيه."[60] وهو القادم من مدينة النوارس بامتياز، ولما تزوج لم تتمكن زوجته من الاستمتاع بالبحر إلا بعد سفرهما إلى طنجة." على رمال البحر الأبيض المتوسط، مرغت العالية جسدها لأول مرة بالرمال. كانت العالية تتمرغ بالرمال والماء، تتمرغ لدرجة أثارت استغراب الطيب لقد كانت متعتها الأولى."[61] فيما لا يربطه ببحر آسفي غير المآسي ووأد أحلام الطفولة، ولم يشر إليه إلا عندما "كان يرافق أصدقاءه نحو الشاطئ، على سوره رسم بيت حبيبته ومكان وقوفها ... طريقة لتأكيد أحقية حلمه في الوجود ... فاجأه حارس الميناء بالقبض عليه من الخلف ... ليسمع هدير الفاركونيت على مقربة منهم، استعطفهم الطيب، لم يمهلوه الوقت الكافي للكلام، حملوه ورموه دفعة واحدة للداخل، اتجهوا به مباشرة إلى مركز الشرطة."[62]

صحيح إن البحر في الثقافة الإنسانية عالم المتناقضات: مد وجزر، هدوء وعاصفة، لين وقسوة، أمان وخوف، غدر ووفاء ... لكن معظم روائيي آسفي آثروا ألا يروا سوى الصورة السالبة. وصعب جدا على مدينة ضاربة في جذور التاريخ أن تؤول حروفها هذا التأويل: "آسفي: أربعة حروف وملايين الأوجاع؛ ألفها استبدلت الألفة إفلاتاً وتفلتاً، سينها استبدلت السناء سكونا وسكّيناً غائرا في الجراح متغوِّلاً على الجسد، فاؤها فراغ لا نهائي ينخر الأرواح والأحياء والنفوس، فيحولها إلى غيران لا تصلح إلا سكنا للوطاويط من مصاصي الدماء."[63] إلا إذا كانت رغبته قول عكس ما يحس به تجاه مدينته.

 

الروايات المعتمدة في هذه الدراسة:

لأنجاز هذا العمل عدنا لعدد هام من الروايات والإشارة هنا إلى الروايات التي المقتبسة منها بعض الاستشهادات وهي :

  1. عبد الرحيم لحبيبي: خبز سمك وحشيش، إفريقيا الشرق ط1 الدار البيضاء
  2. عبد الرحيم لحبيبي: تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء،
  3. أحمد السبقي: باب الشعبة ج1 مطبعة طوب بريس الرباط 2011
  4. ياسين كني: سيرة صمت، دار راشد للنشر ط1، الإمارات 2019
  5. ياسين كني: تيغالين حلم العودة، ط1 ، المكتبة العربية للنشر والتوزيع القاهرة 2017
  6. عبد الرحمان الفائز: النادل والصحف، ط1، المطبعة والوراقة الوطنية ، مراكش 2019
  7. حسن رياض: أوراق عبرية ، مطبعة المعرف الجديدة ط1 الرباط 1997
  8. محمد أفار: درب كناوة، ط1 مطبعة سفي غراف آسفي 2013
  9.  عبد الله إكرامن: السيد "س" ط1 مطبعة الكتاب آسفي 2013
  10.  المصطفى حاكا: أناس عرفتهم ط1 ، دار وليلي للطباعة والنشر، مراكش 2017
  11. الكبير الداديسي: انتقام يناير، مؤسسة الرحاب الحديثة، ط1، بيروت 2020
  12. أسماء غريب: السيدة كركم، دار الفرات للثقافة والإعلام ط1 العراق 2019
 

([1]) – محمد سعيد الرجراجي: الهاربة، ط1 مطبعة الأندلس، الدار البيضاء 1973

([2]) – خبز سمك حشيش، ص5

([3]) – محمد أفار: درب كناوة، ص284                                                                   

([4] ) ياسين كني: سيرة صمت، ص96

([5]) - محمد أفار: درب كناوة ص284

([6])-المرحع نفسه، ص287

([7] ) – محمد عبد المنعم الحميري: الروض المعطار في خبر الأقطار ص57

([8]) - محمد افار: درب كناوة، ص107

([9]) – عبد الرحيم لحبيبي: خبز سمك وحشيش، ص5/6

([10])–المرحع نفسه، ص6

([11]) ياسين كني: سيرة صمت ص96

([12])المرحع نفسه، ص96

([13]) عبد الله إكرامن: السيد "س" ص110

([14]) – محمد أفار: درب كناوة، ص243

(28) – المرحع نفسه، ص244

(29) – محمد أفار: درب كناوة، ص 244

([17]) - عبد الرحمان الفائز:النادل والصحف، ص53

([18] ) سيرة صمت ، ص27

([19]) ياسين كني: سيرة صمت،ص 102

([20]) رواية لحسن رياض فائزة بجائزة اتحاد كتاب المغرب الأدباء الشباب 1997

([21]) حسن رياض: أوراق عبرية، ص7

)- ياسين كني: سيرة صمت ص 97[22](

([23]) – عبد الرحيم لحبيبي: تغريبة العبدي ، ص5

([24]) - ياسين كني: سيرة صمت، ص 70

([25]) – عبد الرحيم لحبيبي: خبز سمك وحشيش، ص5

([26]) - خبز سمك وحشيش ص 5

([27]) – المرحع نفسه، ص6

([28]) - المرحع نفسه، ص 5

([29]) – محمد أفار: باب كناوة ص 15

([30]) – المرحع نفسه، ص35

([31]) - المرحع نفسه، ص 35 

([32]) - المرحع نفسه، ص35

([33] ) ياسن كني: سيرة صمت ، ص77

([34] ) - أسماء غريب: السيد كركم، ص70

([35]) - المرجع نفسه، ص66

([36])- المرجع نفسه، ص66

([37] ) – ياسين كني: سيرة صمت ص32

([38]) - عبد الرحمان الفائز: النادل والصحف ص87

([39]) - ياسن كني: سيرة صمت ص29

([40] ) - أسماء غريب: السيد كركم، ص 75

([41]) الكبير الداديسي: انتقام يناير ، مؤسسة الرحاب الحديثة ط1 بيروت 2020 ص 353

([42]) المرجع نفسه، الصفحة ص 354

([43]) – أسماء غريب: السيد كركم، ص 75

([44])- محمد أفار: درب كناوة ص246

([45])- المرحع نفسه، ص247

([46] ) - أسماء غريب: السيد كركم، ص 74

([47] ) - أسماء غريب: السيد كركم، ص 76

([48]) – عبد الرحيم لحبيبي: خبز سمك وحشيش ص7

([49]) – أحمد السبقي: باب الشعبة ص44

([50]) - - أسماء غريب: السيد كركم، ص 80

([51]) - أسماء غريب: السيد كركم، ص 98

([52] ) - أسماء غريب: السيد كركم، ص 101

([53]) – المرحع نفسه، ص33

([54]) – المرحع نفسه، ص47

([55]) - المرحع نفسه، ص15

([56]) – أحمد السبقي: باب الشعبة، ص 160

([57]) ياسين كني: سيرة صمت ، ص 27

([58]) المرجع نفسه ، ص97

([59] ) – المصطفى حاكا: أناس عرفتهم، ص 61

([60]) – المصطفى حاكا: أناس عرفتهم، ص62

([61]) – المرجع نفسه ، ص 68

([62]) – المرجع نفسه ص 19

([63]) - ياسين كني: سيرة صمت، ص 97