يستعيد الناقد المصري – بمناسبة ذكرى رحيل توفيق الحكيم في شهر يوليو – في هذه الدراسة رؤاه في ميادين الفكر المختلفة وفي عدد من قضايا الثقافة الأساسية، كطبيعة الفن والأسلوب واللغة والأدب الشعبي والعلاقة الإشكالية بين آدابنا وآداب الغرب ومدى تغلغلها في أعماله وخطابه السيرذاتي.

ميادين الفكر

ما وراء رسائل توفيق الحكيم

ممدوح فراج النابي

 

لا خلاف على القيمة الأدبيّة والفكريّة التي يمثّلها توفيق الحكيم (1898 - 1987) في حياتنا الثقافيّة، فإسهاماته الإبداعيّة لم تتوقف عند فن بعينه، وإنما توزّعت على معظم الفنون الإبداعيّة، وهو في كل هذا غير مُقلدٍ أو منتمٍ إلى مدرسة سابقة عليه، بل مُجدِّد ومبتكّر في كثير من الأشكال (كالمسرح الذهني، والرواية، وأيضًا فن المقال)، بل كان له رؤيته الرائدة والثاقبة في حوارية النصوص، أو ما أطلق عليه فيما بعد التناصية، وإنتاجية النصوص كما عند جوليا كريستيفا، فهو يقرُّ بتناص وتداخل النُّصوص فيما بينها، وهو ما يعنى أنه ضدّ فكرة نقاء الأنواع التي ردّدها البعض على استحياء، فالنصُّ عنده أشبه بما يقوله رولان بارت  بأنه "نسيج لأقوال ناتجة عن ألف بؤرة من بؤر الثقافة" (هسهسة اللغة، ص80).

 فالحكيم - في كتابه "فن الأدب" (1952) - يشير إلى ذات المعاني، دون تسمية صريحة، أو صك لمصطلحات على غرار التي شاعت - لاحقًا - في الدراسات اللسانيّة الحديثة مثل: الحوارية (باختين)، التناص (جوليا كريستيفا)؛ عندما يقول ليس الابتكار في الأدب والفن أن تطرق موضوعًا لم يسبقك إليه أحد من قبل، ولا أن تعثر على فكرة لم تخطر على بال الآخرين، وإنما الابتكار الأدبي والفني هو "أن تتناول الفكرة التي قد تكون مألوفة للناس، فتسكب فيها من أدبك وفنك ما يجعلها تنقلب خلقًا جديدًا يُبهر العين ويُدهش العقل" ومنه أيضًا معالجة الموضوعات القديمة في سياق جديد. فالفن في الثوب الجديد الذي يلبسه الفنان للهيكل القديم" (فن الأدب، ص12)، وهو في هذا كله يعوِّل على الصوت الخاص، أي أن يكون الفنان ذاته/ شخصيته، فبروز الشخصية هو "معجزة الفنان" التي تستوجب الكثير من الجهد لإبرازها، فهي الخالدة.

لذا نراه عندما أراد كتابة روايته "عودة الروح" (1933)، بَحَثَ عن هذا الصوت أو تلك الشخصية، فإذا كان محمد المويلحي (1858 - 1930) في "حديث عيسى بن هشام" (1907) التمس بنية الفن الروائي في مقامات بديع الزمان الهمذاني، وبالمثل استعار محمد حسين هيكل بنية روايته "زينب" (1913) من الرواية الغربية، فإن توفيق الحكيم في روايته "عودة الروح" (1933) - كما يقول صبري حافظ - جعل منها "حوارًا نصيًّا ناضجًا مع بنية الحكاية الشعبيّة، والأسطورة المصريّة القديمة على السواء". (صبري حافظ: توفيق الحكيم: تجسيد حيّ لرحلة الثقافة المصريّة، مجلة الدوحة، ع (164) يونيه 2021، ص 109) وكأنّه قام بتمصيرها وردّ بنيتها إلى بيئتها المصريّة.

وبالمثل نراه في كتابته لسيرته الذاتيّة كما تجلّت في كتابي (زهرة العمر (1943)، وسجن العمر (1964))، قد نحا منحى التجديد والمغايرة، فلم يتمثّل لشكل التراجم في كُتب التراجم والطبقات الذاخرة بسير الأعلام والمحدِّثين، كما لم يُجارِ طه حسين في كتابه "الأيّام" (1929)، وإنما وزّع سيرته على أعماله الروائيّة تارة، وصاغها في قالبٍ غربيّ على نهج السير الغربيّة تارة أخرى كما في "سجن العمر"، إضافة إلى ابتداعه شكلاً جديدًا تمثّل في صبها في قالب الرسائل كما في "زهرة العمر"، هكذا كان الحكيم مبتكّرًا ومجدِّدًا ومؤسِّسًا - في الوقت ذاته - لبعض الفنون النثريّة كالمسرح الذهني.

كتابة الذات
مثلت كتابة الذات - في الفترة الأخيرة - شاغلاً مهمًّا ومحوريًّا في حقل الدراسات الأدبيّة، سواء على مستوى الاشتغال النقدي؛ حيث الاهتمام بصياغة المقولات الخاصّة بها، أو ما يتعلّق بوضعية الصدق والكذب، ومنها ما يتعلّق بغاياتها وعلاقاتها بالواقع والآخرين، ومنها ما يَخصُّ انتماؤها إلى جنس أدبيّ معيّن، أو على مستوى الممارسات الإبداعيّة حيث تعدّدت الأشكال الكتابيّة التي تندرج تحت إهابها، من قبيل سير ذاتيّة ومذكرات ويوميات، ورواية سيرة، وسيرة فكريّة ورسائل، وغيرها من المحكيات التي تركز على الهُوية؛ أي على محو المسافة بين الذَّات الكاتبة والرّاوي أو السّارد والشّخصيّة، وهو ما يشير إلى تطابق الهُويات الثلاث، كما أقرّ منظرو السيرة الذاتية كشرط لانتماء النّص إلى النّصوص السّيريّة الخالصة.

وقد زاد الاهتمام بهذه الكتابات لاعتبارات أخرى، تتمثّل في البحث عن الأنساق المضمرة التي تتجاوز تقديم حياة أو اقتطاعات لأجزاء من حياة كاتبها [أو كاتبتها]، إلى الكشف عمّا وراء هذه الحكاية، وما يحيط بها من قضايا مسكوت عنها في المجتمع، إضافة إلى الكشف عن الجانب الخفي في حياة المؤلف الحقيقي [الرجل أو المرأة]، لا المتعلق بالأسرار والخبايا، وإنما ما هو متعلّق بمصادر التكوين، والآراء التي تمرَّر دون أن تُخْضع للجهاز المعرفي الذي يقوم بدور الرقيب، فيُصادر ما لا يتوافق مع السياق العام، أو يكون مخالفًا لرأي الجماعة الأدبيّة المهيمنة في ذلك الوقت.

ومع هذا، فقد اتخذ نُقاد الأدب من الاعترافات والسِّير الذّاتيّة، آلية للتعرُّف على حياة الكاتب، وعلاقاته وأحيانًا أسراره الخفيّة، وذلك لأن السيرة قائمة على تعاقد (ضمني وصريح) مع القارئ لقول "كل الحقائق" عن حياة كاتبها من خلال لحظات مميزة. لكن غاب عنهم أن معظم كتابات السيرة الذاتيّة - مع اعتراف كُتَّابها بقول الصدق - خالية من الحقيقة إلا فيما ندر، على نحو ما تؤكد مقولة بول فاليري "من يعترف يكذب"، وهذا يعود لعوامل عديدة، منها على سبيل المثال عوامل السن وضعف الذاكرة، والانتقاء والاختيار؛ إذ أن السيرة - كما يقول بول ريكور- "ليست سوى حكاية ذات بُعْد انتقائي" (بول ريكور: "بعد طول تأمّل"، ترجمة: فؤاد مليت، منشورات الاختلاف، المركز الثقافي العربي، ط1، 2006، ص: 23)، إضافة إلى ما تتعرض له الذات من محاذير مجتمعيّة (دينيّة، وأخلاقيّة، وأعراف اجتماعيّة، وتقاليد)، وما تفرضه ثقافة «الستر والحجب» من شروط تَحِدّ من البوح والتعريّة، لأنّنا - في الأول والأخير  - مجتمع إسلامي يُشهر قاعدة "لا يجب كشف ما ستره الله".

مرآة القلب:
قد يكون كاتب السّيرة أو المذكرات أو الاعترافات وغيرها من أشكال كتابة الذات، مُهَيِّأً ذاته للوقوع تحت سلطة القسم/ اليمين السيري، لقول الصدق أو الحقيقة، ومع هذا فتأتي الاعترافات منقوصة، أو ثمّة حقائق تمّ إسقاطها سواء عن عمد أو غير عمد. لكن لو تأمّلنا الرسائل الشخصيّة، لاكتشفنا أنّ الذات واقعة تحت سُلْطة البوح دون أن تخضع لسلطة القسم أو اليمين السيري كما هو عند فيليب لوجون وجورج ماي.

الذات - هنا - تجترُّ أناتها بكل أريحيّة، ودون قيود أو سقف يحِدُّ من استرسالها في البوح، بل الذات وهي في مواجهة أناتها، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك آخرَ متخيّلاً يتوجّهُ إليه الخطاب، فالآخر يُعادِل المرآة التي ترى فيها الذات أناتها، ومن ثمّ تطالعنا الرسائل التي كتبها الكُتًّاب (والكاتبات) على صورة أخرى نقيضة لتلك التي رسمتها كتاباتهم التخيلييّة، وإن كان سعيد يقطين يرى أنه من الصعوبة بمكان أن تخلو أيّة كتابة - كيفما كان جنسها أو نوعها - من ذاتية صاحبها" وإن كان ثمّة مراتب ومراق لهذه الذاتيّة يحكمها "الخطاب الذي تنتجه، ويُبِين عنها ما يسمح به لتجليها وتحقّقها بصورة ما" (سعيد يقطين: "كتابة الذات"، 09 مايو 2017، القدس العربي)؛ لذا فصورة الأدباء في الرسائل الشخصيّة هي صورة أرضية بالدرجة الأولى، غير تلك الصُّورة القُدْسيّة التي بدوا عليها في أعمالهم الأدبيّة، أو تلك التي أعدُّوها لتكون مُعبِّرةً عن ذواتهم في سيرهم الذاتيّة.

الرسائل هي صورة الإنسان في أخطائه وعثراته ونزواته، وليست صورة مرسومة بأناقة وبحساب حتى لو كانت - في أصلها - خاضعة لمراقبة الآخر المتوجهة إليه (المـُرسل إليه)، والسبب يعود - ربما - لأن الرسائل كما يقول شيشرون – "مستودع مُقدّس، يضع فيه الناس أسرارهم وهم واثقون من أنهم قد أَلْقُوا بها في مكان أمين، وأن ما حوته من الأسرار لن يطّلع عليه إلا المـُرسَلة إليهم". وقد تكون الرسائل أشبه بالمرآة المصقلة أو "مرآة القلب الصّادقة التي ينعكس عليها ما يدور بخُلْد الإنسان وما يخفِيه في قرارة نفسه."

وقد تكون الرسائل أو - بتعبير المؤرخ البريطاني سيمون سيباغ مونتيفيوري - «التاريخ المكتوب» بمثابة "وثيقة حيّة تُسجّل الحياة العقليّة لكاتبها، وتُعين على تحليل غرائزه وعواطفه، والأُسس الحقيقيّة التي تقوم عليها أعماله". علاوة على أنها تُبرز أدوارًا جديدة (ومتناقضة) لكاتبها، فالفارس الشجاع في ميدان المعركة، ضعيف جبان في ميدان الحب والعشق، والشخصية الجادّة في حياتها العمليّة، مرحة ومتحرّرة من القيود والرسميّات في رسائل الهيام والعشق.

وهناك من الرسائل ما يعتني بتفاصيل الحياة الشخصيّة (راجع مثلاً رسائل "سيلفيا بلاث" (1932 -1963) نموذج واضح لليوميات والممارسات الحياتية، وبالمثل "فرانز كافكا" (1883- 1924) في "رسائل إلى ميلينا")، وهناك رسائل تميل إلى التكوين الفكري للشخصية، وهو ما يؤول بالرسائل لأن تكون أشبه بسيرة فكرية موجزة لصاحبها، على نحو رسائل توفيق الحكيم (1898- 1987) في كتابه "زهرة العمر" (1943)، وهي مجموعة من الرسائل أرسلها الحكيم إلى صديقه الفرنسي أندريه، وعندما التقى به الحكيم مرة ثانية عام 1936 في باريس أخذها منه، وقام بترجمتها، ونشرها دون أن يلتزم ترتيبًا دقيقًا من حيث تاريخها. فقد واجهته مشكلة أن كثيرًا من الرسائل لم يكن مؤرَّخًا، ومن ثمّ لجأ إلى ترتيبها حسب الحوادث لا التواريخ.

لم تكن رسائل "زهرة العمر" هي التجربة الأولى لدى الحكيم في كتابة الرسائل، فقد سبق وأنْ ضمّن نصه "عصفور من الشرق" (1938) بالكثير من الرسائل المتبادلة بينه وبين صديقه أندريه (الذي يعود إليه ويخصُّه بالرسائل وحده في زهرة العمر) من جانب، ومحبوبته سوزي من جانب آخر. رسائله إلى أندريه - في مجملها - ترصد تطورات الحب بينه وبين سوزي عاملة شباك التذاكر، راصدًا حالته إزاء سماع صوتها وهي تغني، آتيًّا إليه من النافذة، أما رسائله إلى سوزان فقد كانت عِتابًا ولومًا على ما حدث من تغيّر في علاقتهما بعد رؤيتها لهنري (مديرها) في المطعم، وتبدُّل حالها، ثم ما يعيشه من ألمٍ جرّاء هذا التحوّل؛ مُفصحًا عن حالة عاشق يائس من نفسه، فيشبّه نفسه وقد طُرد من قصر الحب، بآدم بعد أن طُرد من الجنّة، وتارة أخرى يُقارن بينها وبين راقصة المعبد التي هبط إليها الإله (ماهادوفا) حسب ما تروي الأساطير الهندية، وكيف أنها ألقت بنفسها في أتون النار عندما أحرقوه، فيأخذها ويصعدا معًا إلى السّماء، مُستنكِرًا أن تفعل هذا الفتاة الأوروبيّة الآن.

رسائله تشفُّ عن مُحِبٍّ مكتوٍّ بنارِ الحُبّ، يبحثُ عن تبرير لما حدث، دون أن يجدَ الجواب الشافي. أما رسائلها فكانتْ أسفًا وندمًا على ما سبّبته له من ألمٍ، وخجلها من أن تقابله وجهًا لوجه، وإن كانت هي تَستهدي به كي يُرشدها بما يجعلها تنال الصفح والرضا.

التخييل الذاتي:
يعتبر غالي شكري في كتابيه - ثورة المعتزل (1966)، ومذكرات ثقافة تحتضر (1970) - أنّ نصيْ زهرة العمر (1943) وسجن العمر (1964)، كلاهما ترجمة ذاتيّة مباشرة لمرحلتين هامتيْن من مراحل عمر الحكيم، هما الطفولة أو الصبا، والشباب؛ فيكشف فيهما - كما يقول تحديدًا في ثورة المعتزل - لنا "عن أدق شعيرات تكوينه الأول منذ كان طفلاً إلى أن يصبح شابًا في مقتبل حياته العمليّة".

والحكيم نفسه يعترف في كثير من حواراته بأن هاتين التجربتيْن بالفعل تُعبّران عن هاتين المرحلتيْن المهمتيْن في حياته، ففي حواره مع لوسى يعقوب، تسأله: هل تمثّل هذه الرواية - وتقصد عودة الروح - بالفعل تاريخ حياة توفيق الحكيم؟ فيجيب الحكيم قائلاً: "بلا شك. فالتأثُّر والتأثير واضحان. وشخصية حامد بك العطيفي، هي شخصية والدي. ثمّ شخصية "محسن" فهي تمثلني، وفيما بعد كانت زوجتي تناديني دائمًا، وتحب أن تناديني باسم (محسن)". (لوسى يعقوب: "عصفور الشرق توفيق الحكيم في حوار حول أفكاره"، الدار المصرية اللبنانية، ط أولي، 1994، ص 15).

قد يكون من المفيد مبدئيًّا، القول بأن أعمال الحكيم الروائيّة تندرج تحت مصطلح "التخييل الذاتي"؛ لأن عناصر التخييل تتضافر مع العناصر المرجعية في نصوصه، فيأتي حضور أناته متدثّرًا بغلائل التخييل، وهذا واضح في عودة الروح (1933)، ويوميات نائب في الأرياف (1937)، وعصفور من الشرق (1938)، وراقصة المعبد (1939)، والرباط المقدس (1944)، وفي المقابل فإن الذاتي/ أو المرجعي في النصوص السّيريّة لا يخلو من التخييل "الذي يزيل الحواجز بين الواقعي واللاواقعي" (محمد برادة: التخييل الذاتي عند توفيق الحكيم، مجلة نزوي، عدد 87، 2016، ص 30)، لأن الأنا وهي تسترجع مسيرتها لا تستغني عن التخييل.

ومع وضوح هذا الجانب (الذاتي) - بصفة عامة - في كتابات توفيق الحكيم؛ حيث تُعْنى الذات بتجسير [أو ردم] الهِوّة بين الذات الحقيقيّة والكتابة، أو بين فعل التخييل والمرجع، إلا أن "سجن العمر" تعتبر سيرة ذاتيّة خالصة عن التكوين الاجتماعي، وهذا واضح من تَتَّبُعِ المسار الشّخصيّ/ البيوجرافي منذ الطفولة حتى الشباب، وتطرُّقه للنشأة والعائلة والدراسة وغيرها من تفاصيل حياتيّة/ شخصيّة، فحسب قوله "لنبدأ إذن من البداية: من يوم وجدت على هذه الأرض، كما يوجد كل مخلوق حي، بالميلاد من أب وأم" (سجن العمر: ص (7

إلى جانب تطابق الهُويات الثلاث (المؤلف/ الراوي/ البطل) وفق شروط "فيليب لوجون"؛ لتحقّق شروط السيرة الذاتيّة؛ حيث عائدية الضمير الأنا المهيمن على السّرد، تعود إلى المؤلف الخارجي للنص. كما أن الاسم الشخصي يظهر صراحة في النص عندما يسعى الأب إلى تغيير الاسم الذي سُمّي به "حسين توفيق الحكيم" بالطرق القانونية بعدما لم يَرُقْ له ما سمّته به زوجته التي فوّضها في اختيار الاسم. ومرة ثانية في إشارة العقاد عندما تمّ تعيين توفيق الحكيم عضوًا في مجمع اللغة العربية في كرسي عبد العزيز فهمي فيقول: "هذه فكرة تأتي في أوانها بعد استقبال زميلنا توفيق الحكيم بالمجمع اللغوي، وبعد استقباله في مكان عبد العزيز فهمي – رحمه الله – لم يكن يدور بخلد الأديب الفقيد الكبير أن يُقدِّمَ خليفته في المجمع حين حدثتي ساعة عن توفيق الحكيم وإسماعيل الحكيم، قال: الله يرحم والده كان مثل ابنه صاحب تواليف" (سجن العمر: ص 29). وغيرها من إشارات عن تردد أصداء التاريخ الشخصيّ لذات المؤلف.

في حين "زهرة العمر" تراوح بين الرسائل الشخصيّة والسيرة الفكريّة، فمراجعة الذّات هنا، تقف عند حدود وعيها ومصادر تشكُّلِهَا، ومن ثمّ فهي أقرب إلى مرحلة تكوين الذّات فكريًّا وليس اجتماعيًّا كما في "سجن العمر".

صدر كتاب "سجن العمر" عام 1964، بعد صدور "زهرة العمر" (1943) بعشرين عامًا تقريبًا، لكن البداية التي بدأ بها الحكيم سجن العمر، تعدّ مدخلاً مهمًّا لفهم الرسائل وطبيعتها، إذْ فارقت محتواها المتعارف عليه، من الحديث عن الجوانب الحياتيّة والشخصيّة، إلى محتوى فني يكشف عن أفكار ورؤى الحكيم في الكثير من القضايا التي ما زالت غير محسومة، بل تتجدّد إشكالياتها، لغياب الحل الجذري والذي كان مقترحًا ربما من أيام كتاب طه حسين (1889- 1973)" في الأدب الجاهلي" (1927) دون أن يأخذ به أحد أو حتى يلتفت إلى القضايا التي آثارها آنذاك.

يقول الحكيم في مدخل سجن العمر: "هذه الصفحات ليست مجرد سرد وتأريخ. إنها تعليل وتفسير لحياة، إني أرفع فيها الغطاء عن جهازي الآدمي لأفحص تركيب ذلك المحرك الذي نسميه الطبيعة أو الطبع. هذا المحرك المتحكم في قدرتي، الموجه لمصيري". ثم يتساءل أسئلة وجودية هكذا:" من أي شيء صُنع؟... من أي الأجزاء شُكّل وركّب؟" (سجن العمر: طبعة دار الشروق، الطبعة الثانية، 2008،  ص 7 (

وفي "زهرة العمر" يقول: "هذه رسائل حقيقيّة كُتبت بالفرنسيّة في ذلك العهد الذي يسمونه "زهرة العمر". وهي موجهة إلى مسيو "أندريه ..." الذي جاء وصفه في كتابي "عصفور من الشرق". وقد بدأنا نتراسل بعد مغادرة "باريس" للعمل في مصانع "ليل" بشمال فرنسا. ولبثنا على ذلك إلى ما بعد عودتي إلى مصر والتحاقي بالسلك القضائي. ثمّ انقطعتْ بيننا الرسائل والأخبار. وانتهى كل شيء. وجرفنا تيار الحياة كل في واديه ... فلم نلتقِ بعد ذلك إلا في عام 1936، إذْ سافرت لتمضيّة الصيف في فرنسا ... وكنتُ قد تركتُ القضاء، وصرتُ مديرًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ونشرتُ في الأدب عدة كتب ... فوجدتُ أندريه قد أصبح رجلاً مهمًّا ذا مركز مستقر في الصناعة الفرنسية. ووجدتُ زوجته "جرمين" على عهدي بها. لم ينل الزمن كثيرًا من سالف جمالها....إلخ." (زهرة العمر: مكتبة الأسرة،  1998، ص ص: 9، 10(

على الرغم من أن الحكيم يشير إلى مرجعية الرسائل؛ المرْسِل (توفيق الحكيم) والمرْسَل إليه (أندريه)، وأماكن الإرسال (باريس، الإسكندرية، طنطا، دسوق)، وهو ما يُقرِّبها أو يشدُّها - بشكل واضح - إلى السّرد الذَّاتي الذي يُفصح عن مكونات النفس وخوالجها في طَوْر الشّباب، إلا أنّ ما ذكره في مقدمة "سجن العمر" - لاحقًا - يكاد ينطبق على هذه الرسائل، فمع كونها رسائل حقيقيّة تضيء جوانب الذات المعتمة، إلا أنها أيضًا - في أحد جوانبها المهمّة - تعليل وتفسير ليس للحياة ومواقفه منها فحسب، وإنما لآرائه وكتاباته المتعدِّدة، بمعنى أصح إضاءة لموقفه الفكري في كثير من الإشكاليات الثقافيّة، وهو الأمر الذي يدعو للتساؤل والعجب في آنٍ:

-     ما علاقة أندريه الصديق الفرنسي العامل بمصانع ليل، باللغة العربية والأدب العربي ومشاكل التدريس في مصر، ونشأة الأدب الشعبي، وقضايا الفن عمومًا؟!

-     لماذا لم نرَ رسائل أندريه للحكيم؟ وماذا كانت تحتوي؟

-     هل تجاوب معه أندريه وشاركه انشغالاته، أو على الأقل أكّد له مواطن القوة في الأدب الفرنسي التي ذكرها الحكيم؟ أو حتى دعمه بنماذج ترجّح ما ذهب إليه من افتراضات؟

أقنعة الحكيم:
هذه التساؤلات قد تؤكد - لي وحدي على الأقل - استنتاجاتي بأن أندريه مع التأكيد على مرجعيته كشخص التقاه الحكيم وعاش مع أسرته كما صوّر لنا في "عصفور من الشرق"، إلا أنه في ظني كان بمثابة القناع الذي صنعه الحكيم لنفسه كي يستعرض هذه الآراء المهمّة. فأندريه في وظيفته الفنيّة (شخصية روائية)، لا يختلف عن العامل الروسي إيفان في "عصفور من الشرق"، الذي هو الآخر كان قناعًا للحكيم، خاصة أنّنا لو عرفنا أن أندريه في "عصفور من الشرق" لم يكن له أيّة اهتمامات فكريّة أو حتى مناقشات عميقة تجمعه مع "محسن." فكل ما كان يشغله هو أمور حياتيّة، مُتعلِّقة بعمله، وتدبير مصاريف بديلة لإرسال ابنه إلى المدرسة، ولم تجرِ بينه وبين "محسن" بطل الرواية، محاورات فكريّة، وأدبيّة باستثناء مشورته في علاقته بسوزي، فكان يُقدِّم له نصائح عامّة، مصدرها تجربة حياتيّة معيشة وليست بناءً على وعي معرفي.

الشيء الثاني الذي يؤكّد زعمي، أن فكرة المراسلة بالمعنى البسيط (القول والرد عليه) لهي أمر متداول بشكل كلاسيكي في مجال التراسل، إن لم يكن في مجال العلاقات العامة، وهو ما يشير إليه فرويد في رسالته التحذيرية إلى خطيبته: "سأتوقف فورًا عن الكتابة إليك إذا لم تجيبيني." حوارات الحكيم هنا في "زهرة العمر" أشبه بحوارات أحادية، على عكس ما هو موجود في "عصفور من الشرق" التي تأتي على النقيض فالحوارات/ الرسائل متبادلة بين محسن وسوزي. فأندريه نادرًا ما كان يرد على رسائل الحكيم في "زهرة العمر"، لنتأكد من مدى فهمه لهذه الحوارات والمناقشات واستيعابه لما يدور في عقل الحكيم، وهو ما كان يُسبّب ضيقًا للحكيم، وهو ما ظهر في كثير من رسائله على هيئة عبارات استنكار على عدم الرد أو التأخر في الرد. أما القليل الذي كان يصل الحكيم، فلم يكن ردًّا على ما أثاره الحكيم من قضايا تشغل فكره، وإنما كان مُتعلّقًا - بشكل أساسي - بعمله وزوجته جرمين وابنه جانو.

الشيء الثالث - وهو الأهم- ماذا يعني ورود متن رسالة من رسائله إلى أندريه، ضمن كتاب "فن الأدب"، ولكن ليس في صيغة رسالة على نحو ما جاءت في "زهرة العمر" وإنما على هيئة مقالة تُعالج موضوعًا مُتعلِّقًا بالأدب العربي وتجدّده، على نحو ما سيرد لاحقًا؟ الرسالة تحضر ضمن نصوص الكتاب في صيغة مقالة نقدية، دون أدني إشارة إلى ورودها - سابقًا -  ضمن رسائل "زهرة العمر" التي كتبت في الربع الأول من الثلاثينيات، وضمها كتاب - كما هو  معلوم - في عام 1943، في حين أن كتاب "فن الأدب" نشر عام 1952، أي بعد أقل من عشر سنوات تقريبًا من نشر الكتاب الأول.

في ظني أن توفيق الحكيم في الكثير من أعمال الإبداعيّة يُقدِّم مطارحات فكرية، وآراء غاية في الأهمية؛ حيث تتوجه الذات إلى تأمّل نفسها عبر القرين أو القناع، لمجادلة أفكارها وهواجسها سعيًّا إلى الفهم والإدراك. لذا أرى – من وجهة نظري الشخصية - أن شخصية العامل الروسي إيفانفوفيتش في "عصفور من الشرق" هي قناع لشخصية الحكيم وأفكاره التي مرّرها على لسان هذا العامل الهارب من الثورة الروسيّة، ويعيش حياة بائسة في أحياء باريس، فأفكار الحكيم التي جاءت على لسان إيفان تكشف عن إيمانه بقضايا وطنه الذي ينتمي إليه وانحيازه إليه، على الرغم ما بدا  عكس ذلك في شخصية محسن المنحاز للغرب، في مقابل إيفان المنحاز للشرق، إذْ يعتبر أن أنبياء الشرق استطاعوا أن يوازنوا بين الدنيا والآخرة، ففهموا أن "المساواة لا يمكن أن تقام في مملكة الأرض بين الأغنياء والفقراء، فأدخلوا في القسمة مملكة السماء" (عصفور من الشرق: ص 86)، أما أنبياء الغرب فلم ينتبهوا لذلك وأوقعوا تلك المجتمعات في صراع طبقي يتهافت عليه أصحاب الأرض.

تكشف هذه الحوارات وعيًّا مُبكّرًا لمشكلة الصّراع بين الشرق (الروحي) والغرب (المادي)، فعلاوة على ما ناقشاه (الاثنان: محسن وإيفان) من خلال لقاءاتهما التي بدأت في مطعم العمّالِ، وتواصلت في غرفة إيفان بعدما هجر محسن فندق "زهرة الأكاسيا" بعد خلافه مع سوزي؛ فإنها تدور حول أفكار ماركس عن توزيع الثروات وصراع الطبقات، وهناك آراء تناقش سلطة رجال الدين، بل وتحمِّلهم المآسي التي تعيشها الشعوب، وحالة القلق الوجودي من التناقض بين حالة التصوُّف التي يدعون الناس للانغماس فيها، وحالة الترف التي يعيشون فيها، ومن ثمّ يتحامل على رجال الدين (المسلمين والمسيحيين)، فهم في نظره "المسؤولون عن انهيار مملكة السماء" فحسب رأي إيفان كان ينبغي أن "يتجردوا من كل متاع الأرض، ويظهروا في زهدهم بمظهر المنتظر حقا لنعيم آخر في السماء" (عصفور من الشرق: ص 171)، علاوة على انتقاده النظام الصناعي الذي قتل فتنة الإبداع.

الغريب أن هذا الوعي المبكر بالتراث الإبداعي (شرقه وغربه) الذي ظهر في الحوارات عبر الاستشهادات باقتباسات من مأثورات متعدّدة؛ كالجاحظ وإسحاق الموصلي وحافظ الشيرازي وأنا كريون وعمر الخيام وبيتهوفن وديهاميل وهكسلي والقرآن والمسيح ... إلخ من اقتباسات متناثرة في مواقف عديدة سواء عن الحب وغيرها؛ يعتبرها غالي شكري عيبًا كبيرًا، فكما يقول "إن الدلالة الأولى لهذا العدد الوافر من الاقتباسات، أن تجربة الكاتب من الافتعال والزيف لا يمكنها الوقوف علي قدميها بغير عكاكيز"، فمن وجهة نظره أن "تجربة الحب تجربة ذاتيّة في التفرُّد، خاصّة إذا كان حبًّا رومانسيًّا" (غالي شكري: "ثورة المعتزل": ص 148(

بغض النظر عن التحامل الذي يُبديه غالي شكري على الرواية، إذْ يعتبر القصة الرومانسيّة فيها "نكسة في حياة الرومانتيكيّة المصريّة"، أما المحاورات التي جرت بين محسن وإيفان، فهي بمثابة "رجعية فكريّة ساذجة"، فإننا نأخذ منه فقط إشارته "بأن هذا العمل يسقط فنيًّا في هاوية الفكر المجرد" (ثورة المعتزل: ص 151). والغرض من الاستشهاد هو التأكيد على أن الحكيم يمرّر في أعماله حتى التخيلييّة الكثير من الأفكار التي من الممكن أن تثقل النص على نحو ما بدا الجزء الأخير من "عصفور من الشرق" وهو ما نراه بوضوح في رسائل "زهرة العمرة"، إذ تثير الكثير من القضايا الفكرية والنقدية الشاغلة، على نحو ما سنرى.

باريس سنوات التكوين الفكري:
تنقسم الرسائل في "زهرة العمر" إلى أربعة أجزاء يختلف فيها مكان الإرسال، الذي يتنوّع بين فرنسا والإسكندرية وطنطا ومدينة دسوق، وإن كان المرسِل والمرسَل إليه ثابتيْن. كما يختلف عدد الرسائل في كل جزء عن الآخر. تكشف الرسائل - في مجملها - عن التكوين الفكري للحكيم، وآرئه في الكثير من الكتابات التي اضطلع عليها، وأيضًا رأيه في المرأة كـ"شرقي متوحش" على حد تعبيره.

الجزء الأول منها يتكوّن من 14 رسالة، تطرّق فيها الحكيم لحياته في فرنسا وما ينتابه من وحدة وأحزان تصل به إلى حدّ الضعف، وهو ما جعله ينهزم أمام الحياة وحوادثها. وسرد فيها لمحطات فشله في الحياة وفي الحب، ورسوبه في الامتحان، لكن في أحد جوانبها تكشف عن ولع الحكيم بالموسيقى والفنون، ورؤيته العميقة لفن التصوير وقراءته الفاحصة للكثير من اللوحات وأسباب انبهاره بها، فالفنان عنده هو "ذلك الكائن العجيب الذي يلخص الطبيعة بمادتها وروحها في ذاته الضئيلة المحدودة"، أي يعيش في داخله "الحيوان والإله جنبًا إلى جنب". كما يطالعنا فيها باهتماماته وشغفه بالعلوم والفنون (الموسيقى والتصوير)، والمعارف والأفكار، وضيقه من ضآلة الفكر ومحدوديته، بل يعقد مقارنات بين الأدب الإنجليزي الذي عنده أدب مغامرات بأوسع معانيها وأجملها وأشرفها، وبين الأدب الفرنسي الذي هو أدب الشكل في جماله الساحر، فهو "أدب المحادثات اللبقة النبيلة، أدب التفكير الرائق الهادئ".

يَحكي لأندريه أنه في باريس لم يضع وقته فكان "يقرأ ويقرأ، يقرأ في كل شيء، في كل المعارف" فلديه قناعة بأن الأديب يجب أن يكون موسوعيًّا، فلم يترك شيئًا مما أنتجته العبقرية البشرية إلا وأحاط به، كالهندسة والطبيعة والرياضيات والفلك بدأ بنيوتن وصولاً إلى أنشتاين، وعلم الأحياء، فقرأ داروين ولامارك، وغيرها من علوم كعلم النفس والعلوم الروحية" (زهرة العمر: ص 192). قرأ في كل شيء بما في ذلك علم الكهرباء. ولا ينسى أن يذكر شيئًا عن عاداته في الكتابة، ومخطوطاته التي مزقها، وكأنه يقدّم صورة من حَيرة الفنان إزاء اكتمال عمله.

يشمل الجزء الثاني على 25 رسالة، وهي الرسائل التي أرسلها الحكيم بعد مغادرة باريس وإقامته في الإسكندرية، وفيها تعاوده الأحزان من جديد، إذ تسيطر عليه الوحدة، فحياته تلخّصها كلمة واحدة هي "الوحدة ! الوحدة! في أكمل معانيها"، بعد مفارقته الأدب والفن والحياة الفكريّة، ودخول الحكيم في مرحلة الألم الحادّ نتيجة التناقض بين ما يحياه ظاهريًّا؛ حيث ضجره من وظيفة وكيل النائب العام، وما تفرضه عليه من متطلبات هو عاجز عن تحقيقها، وبين حياة الباطن التي يؤمن بها حيث عقائده وأفكاره، وحبّه للفن والأدب.

يحتوى الجزء الثالث من الرسائل على سبع رسائل بعثها إلى صديقه من طنطا، خلال عمله وكيلاً للنائب العام، وفي هذا الجزء ينصرف الحكيم كليّة عن مناقشات الفكر والأدب، إلى الانشغال بحياته الجديدة، وما يشعر به من سأم وفتور بسبب مهنته، فعمله أبعد ما يكون عن الأدب والكتابة، بل صار لا يجرؤ على ذكر اهتمامه بالأدب؛ بسبب الجوّ المسيطر فالويل كل الويل "لرجل القضاء الذي يستكشف فيه زملاؤه أنه الأديب" وكأن كلمة أديب صارت في مجتمعهم سُبّة حتى إنهم إذا شعروا بينهم "أن من بين الجالسين أديبًا سخروا منه، وصاحوا: اتركوه إنه أديب ... سامحوه ... هذا فيلسوف"، ولذا نراه على سبيل السخرية والتهكم يتوجه إلى أندريه قائلا: "إني الآن من أعضاء الأسرة القضائية، المشهود لهم بحُسْن السمعة، فإياك أن تلصق بي كلمة أدب أو كلمة فن، أو حتى كلمة فلسفة." (زهرة العمر: ص 296)، وفي هذه الفترة انصرف عن الاهتمام بالأدب إلى الانشغال بالقضايا والأحكام والتشريح، وإن كانت مشاهداته للتشريح قد أضفتْ عليه طابعًا مهمًّا في نظرته للأشياء، ومنها استوحى فكرة التوازن بين المادة والروح والتي يُناقشها باستفاضة، ثم يعود لها في كتابه التعادليّة.

الجزء الأخير من الرسائل، يحتوى على رسالة واحدة من مدينة دسوق، واستفاض فيها بالحديث عن المهام الجسام الملقاة على عاتقه، حتى صار المسؤول الأوحد في المدينة، وإن كان تطرّق فيها لملامح الحياة السّرية التي يعيشها رجال القضاء، وقد أبدى تخوفه من المستقبل لانقطاعه عن الأدب والفن.

ميادين الفكر:
إلى جانب ما يُمرّره الحكيم من ملامح ذاتيّة عن حياته في باريس وبعد عودته إلى مصر في الإسكندرية وطنطا ودسوق، والمقارنة التي تنسحب لصالح الفترة التي قضاها في باريس، حيث تشبّعت روحه بالفن بكافة صنوفه، في مقابل عزوفة عن القراءة والأدب، لإحباطات العمل الذي لا يُساعده جوه على القراءة والاطلاع والتفكير، أو لنظرة السخرية التي يُعامل بها كل من يمتهن الأدب؛ فإن الرسائل أشبه بميادين تتصارع فيها الأفكار والرؤى يتعرض لقضايا فكريّة وأدبيّة مهمّة، نوجزها في التالي:
     قضايا الفن.
     فلسفة الأسلوب.
     اللغة العربيّة ووسائل تطورها.
     الأدب العربي ومقارنتة بالآداب الغربيّة.
     نشأة الأدب الشعبي.

أولاً: قضايا الفن:
الرّسائل فيها تركيز شديد من قبل الحكيم على الفن بكافة أشكاله (الموسيقى، التصوير، والمسرح)، بل نرى عينيه تبدو كعيني خبير وهو يقف أمام اللوحات في اللوفر، مُدققًا في ألوانها، وسرّ اختيار هذه الألوان دون غيرها، فيرى أن كلَّ لوحة "ليس إلا قصة تمثيليّة داخل إطار، لا داخل مسرح، تقوم فيها الألوان مقام الحوار" (زهرة العمر: ص 48).

وقد كان لوجوده في فرنسا في هذه الفترة - فترة الحرب العالمية - وهي تشهد الموجة العاصفة من "المودرنزم" حسب تعبيره، أثره البالغ، فهو واقع - لا محالة - تحت تأثيرها دون رغبة منه، ومن ثمَّ فهو يواجه ذاته "بالتريّث حتى تهدأ عاصفة هذا الفن الحديث" (زهرة العمر: ص 36.) ويناقش مشكلة الفن في ضوء نظريات المودرنزم. وهذه المتابعة لتطورات الحركات النقدية الحديثة، تضع الحكيم في بؤرة حدث مهم لانشغاله هو شخصيًّا بالفن الذي آثره على الدراسة، فسّبب له أزمة مع أبيه، وكانت فرصة التخلُّص منه وإقصاءه عن مصر لصرفه عن تعلُّقِهِ بالفن، وها هو يرتمي داخل أتون الفن لا فقط بما يُشاهده من مسارح ومتاحف، وإنما أيضًا في داخل معركة الفن، والثورة على القديم. فطبيعته كفنان تجعله لا ينأى عن الثورة، وإن كانت بيئته (كشرقي جاء ليرى ثقافة الغرب من أصولها) جعلته يشعر بأنه موزّع بين "الكلاسيك والمودرن"، ومع هذا فلا ينحاز لطرف دون الآخر، فهو "مع أولئك وهؤلاء.

لا يستقبل المودرنزم بحفاوة وإنما بتحفُّظ، حتى إنه يُبدي بعض الملاحظات على مذهبهم، فكما يقول إن الفكرة المسيطرة على أصحاب المذهب هي "الفطرة والبساطة" وإن كانوا يذهبون في البساطة إلى حدّ التركيز والمغالاة، لدرجة المناداة بفصل كل عنصر عن الآخر فصلاً تامًا. ويضرب مثالاً على هذا بأن "التصوير وهو فن الألوان يجب أن يستغني عن الموضوع؛ لأن الموضوع من عناصر القصة" وهكذا على كل فن أن يستغني عن عنصر أساسي من عناصره؛ فالشعر يستغني عن العقل الواعي، والموسيقى تستغنى عن الشعور، والنحت يجب أن يستغني عن الأفكار ... إلخ. ومع هذا التحفُّظ إلا أنه لم يخالفهم الرأي، فالفن عنده "خلق إنساني جميل لا أكثر ولا أقل". ومع اعترافه بأن المودرنزم له بعض جماله، إلا أن هذا الجمال لا يجعله يسقط من حسابه الكلاسيكي، لذا فهو "مع أولئك وهؤلاء".

عمق إحساسه بالفن، وهو عاشق للموسيقى الحديثة والرقص الحديث، جعله وهو يستمع لمختلف أنواع الموسيقى أن يعرف الفروق جيدًا، والتأثيرات التي يقع فيها مؤلفو السيمفونيات، فمثلاً وهو يستمع إلى موسيقى فاجنر، يستلمح أثر نيتشه عليه، فيقول إن استخدام فاجنر لنغمة واحدة يُطلقها رمزًا لكل بطل من أبطال رواياته، هذا يذكّر بـ"العود الأبديّ" عند نيتشه حيث: "هناك حالة مُتكرِّرة تعوده من آنٍ إلى آنٍ في حياة كل إنسانٍ"، وعندما يستمع لمقطوعة أخرى من الفنان التركي جمال راشد، يأخذ عليه إسرافه في تقليد الموسيقى الروسيّة.

يمكن القول بأن مقياسه للفن، هو الذي جعله يُخضع الأدب العربي إلى مراجعة وفقًا لتصوره للفن، الذي - بطبيعة الحال - بعيد عن مجرد العرض اللغويّ، وحرصه على أن يكون الأديب المنشئ في الفن "محيطًا بكل الفنون الأخرى من موسيقى وباليه ونحت إلخ..."وهو ما يرجع تفسيره إلى نشأته في بيئة دنيا العوالم والممثلين والمطربين والملحنين. فهو ذو شخصية خُلقت "لتقرأ ما تريد وقتما تريد، لتحيط علمًا بكل شيء، وتسعى إلى تأمّل كل شيء وتستبقي في الذاكرة ما تشاء وتنسى ما تشاء" (زهرة العمر: ص 31).

ثانيًّا: فلسفة الأسلوب:
قرن البلاغيون (قديمًا وحديثًا) بين الأسلوب والوضوح، مع اختلاف آليات تحقّق هذا الوضوح في الصياغة، وعلاقته بطرق أداء المعنى (ابن قتيبة)، وهناك - كابن الأثير - من ربط بين الأسلوب وشخصية الشاعر ومقدرته الفنيّة في عرض الفكرة في أسلوب متميّز وطريقة متفرِّدة، ومن ثمّ جاء تعريف البلاغة بأنها "مطابقة الكلام لمقتضى الحال". والحكيم جدَّ في البحث عن الأسلوب الخاص به، فقد كان للإخفاقات التي لازمت تجاربه الأولى في الكتابة بالفرنسيّة، والمآخذ التي أُخذت عليه من قبل صديقه مسيو هاب، وآخر لا تربطه به أيَّة علاقة، وقد حصراها في "تكلُّف الأسلوب" فعلى حدّ تعبيرهما أن "عباراته لا يفوح منها أي عطر آخاذ ... إنما هي عبارات محفوظة في كتب البلاغة ..."؛ الأثر الكبير في البحث عن الأسلوب، أو صوته الخاصة، ويعترف أن اهتمامه بالأسلوب أوقعه في التقليد.

من هذه النقطة التي تُمثّل إخفاقًا في مسيرته الكتابيّة، يستفيض الحكيم في معالجة الأسلوب، وطبيعته، فيتساءل موجهًّا أسئلته لأندريه "... الأسلوب ... الأسلوب. لطالما شغلتُكَ معي بالحديث عن الأسلوب الفني الذي أبحث عنه. أين أجده أخيرًا؟ ومع هذا في وهمي أنه قد يكون على مقربة مني دون أن أشعر. لم لا يكون هو ذلك الحوار الذي أنفقت في ممارسته وقتًا طويلاً؟ (...) لم لا تقول إن "الحوار" هو أسلوبي الذي أتحرق بحثًا عنه؟" (زهرة العمر: ص 238) ومرّة ثانيّة يتساءل في حيرة: "أيُّهما أجدى بالنسبة له [أي الكاتب] هل الالتزام بالأسلوب الذي هو بمثابة الآلة الصناعيّة التي نتوسّل بها للوصول إلى الحقيقة أو التحرّر منه للوصول إلى الحقيقة؟". بل يأخذ على المسرفين في استخدامه ويرى أن الأسلوب يشير إلى "أدب أولئك الذين لا يحملون في جعبتهم ما ينفع الناس". في حين يرى أن الحقيقة سيكون لها شأن مهمٌّ لو "تفجّرت وحدها من القلب الصّادق في كلمات بسيطة". وبذلك يكون الأسلوب - عنده - هو الحيلة أو "المظهر الخادع الذي يخفي به كتاب اليوم جهلهم المطبق بروح الشعوب التي يزعمون النفوذ إلى صميمها في مدى رحلة شهرين بالقطار والباخرة". (ص 201).

وبسبب الأسلوب نراه ينتقد أسلوب الحريري في المقامات، وعبد الحميد الكاتب، وكذلك ابن المقفع في ترجمته لكليلة ودمنة، فيأخذ على الأخير تصنُّعه في الأسلوب هكذا: "هذا كاتب تصنَّع في أسلوبه هو الآخر، ولكن بخفة ومهارة، وطلاه وجمّله ولكن بذوق وكياسة، فلم تَبْدُ عليه سَماجة التكلُّف، ولا ثقل الصناعة، إنه ذلك الحاوي البارع" (زهرة العمر: ص  217). في المقابل أنزل الجاحظ منزلة عظيمة، فهو عنده الكاتب الماهر الذي نزل إلى العامة، والتقطَ المعاني، ومن ثمّ أبدى أسفه وحزنه على غياب نصوصه في المدارس؛ لأنه "كاتب مُتعدِّد النواحي، له باع طويل في الجد والهزل... بسيط الأسلوب نافع لنا في الحياة" (زهرة العمر: ص ص: 219، 220).

وبعد هذه الرحلة في تتبُّع الأسلوب وانتقاد ما يَشِذُّون عن الأسلوب البسيط وينهجون التكلّف والصنعة، فيتباهون بالثروة اللفظيّة والمهارة اللغوية، يصل الحكيم إلى أنه لا يخلق الأسلوب الحق "إلا الكاتب الصادق في شعوره وتفكيره (ومن ثم) فالبلاغة الحقيقيّة هي الفكرة النبيلة في الثوب البسيط، هي التواضع في الزي والتسامي في الفكر" (زهرة العمر: ص 203 ).

وفي غمرة معالجته لقضايا أدبيّة وفكريّة، يتساءل في إحدى رسائله لأندريه (وهي رسالته من طنطا بعد استلامه لعمله كوكيل للنيابة) عن رسالة الأدب، فالواقع الذي رأه عندما عاين بنفسه التشريح، جعله يُعيد تأمُّل المفاهيم بعيدًا عن النظريات المجردة، وإنما في ضوء واقعها، فيقول في نبرة عِتاب إن النّاس درجوا على نصرة الروح على حساب المادة. بل إن المفكرين اعتادوا تحقير المادة للرفع من شأن الروح، لكن الحكيم بعد استقراء للملموس والمحسوس يُقِرُّ بأنّ الاثنين الروح والمادة على حدٍّ سواء لهما أهميتهما؛ حيث للمادة صوفيتها أيضًا، فالحواس تستخلص من المادة أجمل ما فيها.

ومن هذه النقطة تحديدًا يشيد بمنجز الأدب العربي الذي "لم يطرح من حسابه الإشادة بالسعادة التي تبعثها الحواس الماديّة، إلى جانب إشادته بالمتعة الذهنيّة التي تصدر عن قوانا المفكرة" فحسب تأكيده أن "أغلب كُتب الأدب العربي تجد فصولاً طوالاً عن مباهج الأكل والشرب والطعام والخمر والمسك والريحان، ومتع الملبس وحتى متع الجسد أو ما يسمونه "الباه"، فهم يسجلون هذا جنبًا إلى جنب لذائذ العقل وطرائف البيان". (زهرة العمر: 265). لذا يرى أن رسالة الأدب ليست نصرة الروح على المادة أو نصرة المادة على الروح، إنما رسالته في إقرار التوازن بينهما بإنماء هذه (الحيوية) في كل منها. فالمعرفة البشرية لا تدخل علينا - على حدّ قوله - من "باب العقل وحده، وإنما تتسرب إلينا من كل مسام جلدنا وجسدنا وذهننا وروحنا ووعينا الظاهر والباطن".

الغريب أن فكرة التعادليّة التي تُستشف من حديثه عن "أهمية الروح والمادة"، عاد إليها من جديد - باستفاضة - في كتابه "التعادليّة" (1955)، وهذه المرة جعلها بين قوة العقل ونشاط القلب، أي بين نشاط التفكير ونشاط الإيمان"، وإن كان هذا النظام قد اختل "بسبب انتصار العلم العقلي، واستمرار جمود الجانب الديني"، وهذا الاختلال في ميزان التعادل، ترتّب عليه القلق السّائد في النفوس. التعادلية التي يقصدها الحكيم تسري على كافة جوانب العلاقات في الحياة، فالخير والشر كلاهما ضروري، ليعادل أحدهما الآخر. فالتعادل كما يراه هو قانون الطبيعة، وقانون الإنسان معًا. وعنده أن الثقافة شيء والكلام عنها شيء آخر. فمن وجهة نظره أن المطلوب للثقافة ليس المعرفة وإنما الإحساس، والتذوق والتغذي بمختلف الفنون.

ثالثًا: اللغة العربية ووسائل تطورها:
في الجزء الثاني من رسائله (رسائل الإسكندريّة) نرى الحكيم يشرع في مقارنات بين الآداب العالمية من جهة والأدب العربي واللغة العربيّة من جهة أخرى، وتبرمه من أوضاع الدراسة والمدرسين، لجهلهم معنى اللغة، كما انتقد أسلوب التدريس المعتمد على القديم، وغير الصالح للحديث، مقارنة بالمدارس الفرنسيّة وأسلوبها الذي اشتمل على كل نواحي التعبير.

وفي هذه النقطة يلتقي مع سلامة موسى في كتابه "البلاغة العصريّة واللغة العربيّة" بأن على مُدرِّس اللغة العربيّة في مدارسنا الابتدائيّة والثانويّة أن يكون موسوعي المعارف، يستطيع الشرح للموضوعات الاجتماعيّة والبيولوجيّة والسيكولوجيّة والتاريخيّة والفلكيّة، وعليه أيضًا أن يعرف على الأقل لغة أجنبيّة أو لغتيْن، كي يقارن بين العربيّة وبينها. ويجدّد في لغتنا بمقدار انتفاعه من الجديد فيهما، وأنه لزهو مضحك أن يعتقد أحدنا أن لغتنا تستطيع أن تعيش مستكفيّة، لا تستمدّ التعبير الحَسَن من الإنجليزيّة أو الفرنسيّة، وأن عليها أن تجتر نفسها دون أن تتزوّد من المعارف العصريّة، وهذا الاعتقاد من أكبر الأسباب للفاقة الثقافيّة التي نعانيها في وقتنا" (سلامة موسى: ص 138)

يأتي تطرُّق الحكيم لدراسة اللغة العربيّة لإيمانه الشديد بأهمية هذه اللغة، وبما امتلكه من ثقافة باطلاعه على آداب الغرب، تمكُّنه من التدقيق والتأمُّل، والحكم. ساعيًّا لاكتشاف أسرارها والوقوف على مواطن الضعف والقوّة. ويرجع توفيق الحكيم عِلّة التقليل من شأن اللغة - عند البعض - واعتبارها عاجزة عن التعبير في شتى ضروب العلوم والفلسفة والتفكير العالي، أي أنها ليست لغة تفكير، وإنما لغة بهرج وتنميق، يعود هذا إلى مناهج التعليم، فكما يقول "كانت كتبًا غثّة متكلِّفة المبنى" ففي المدرسة يُعلِّمُونا لغة بعيدة كل البعد عن مناحي الحياة، فحسب قوله "إذا استعملناها في الحياة ضحك منا الناس" (زهرة العمر: ص 215).

وهي القضية ذاتها التي عالجها طه حسين في الطبعة الثانية من كتاب "في الشعر الجاهلي" (1926) بعد أن صار "في الأدب الجاهلي" (1927) حيث تطرّق - في المبحث الأول المعنون بـ"درس الأدب في مصر"، ضمن الكتاب الأول (الأدب وتاريخه)" - إلى مناهج تدريس الأدب في المدارس والأزهر ودار العلوم والجامعات، وأشار إلى أنها مناهج لا تُهذِّب النفوس ولا تُسهم في خلق الابتكار، لأنها نصوص جافة، كما أرجع السبب في ذلك إلى ضعف مدرسي اللغة العربيّة، الذين هم عند الحكيم لا يجهلون معنى اللغة وحدها "بل معنى اللغة على الإطلاق" (زهرة العمر: ص 215).

وها هو الحكيم يعود إلى ذات النقطة وإن كان من زاوية أخرى، زاوية لماذا لم تعد اللغة العربيّة - كما توهّم البعض - لغة تفكير؟ فاللغة عنده أسمى وأكبر من أن تكون "وسيلة لهو وأداة براعة كفنون المغنيين وألعاب الحواة" وإنما هي وسيلة يسيرة لنقل الأفكار النبيلة، فالتكلُّف أبرز عيون الفن. فكما ذكر لاحقًا في "التعادلية" أن "قوة التعبير يجب أن تقترن في الأدب والفن بقوة التفسير." والدليل عنده على أن اللغة ضاعت بسبب التكلُّف في البلاغة والأسلوب، أن هناك نماذجَ كثيرةً تدل على جلال اللغة في بساطتها وسيرها قُدما نحو الغرض، مثل ما تركه الفلاسفة والمؤرخون العرب من تراث يؤكد جمال اللغة وبساطة الأسلوب وبعده عن العبث اللفظي والطلاء السطحي. فهم "يحدثوننا في شؤون فكرية واجتماعية وأخلاقيّة ودينيّة في لغة سهلة مستقيمة لا لعب فيها ولا لهو ولا ادعاء" (زهرة العمر: ص218). ومن ثمّ يستنكر في عجب كيف لأمثال ابن خلدون والطبري وابن رشد والغزالي، لم تعرض نماذج كتاباتهم في سنى دراسته للأدب العربي في المدارس.

والجواب ماثل في سؤال: "كيف نعرف لغة بدون أن نطالع فلاسفتها ومؤرخيها؟ فيتوجه إلى أندريه ويقول له "أنتم يا معشر الفرنسيين فعلتم ذلك في تدريس الأدب الفرنسي ... فما من كتاب مدرسي صغر أو كبر لا يذكر فيه نماذج من أسلوب مونتاني الفلسفي، وأسلوب روسو الاجتماعي، وبوسويه الديني، وفولتير التاريخي ... بل حتى أسلوب موليير الفكاهي أحيانًا إلى حد التهريج"، والسبب عنده أن المدارس الفرنسية "أدركت أن تدريس اللغة يجب أن يشمل كل نواحي التعبير بها ... أما قصر تعليمها على نماذج البلاغة اللفظيّة الجوفاء، فهو امتهان لكرامة اللغة وانتقاص من قدرتها على الأداء" (زهرة العمر: ص 219).

حالة الامتهان وتجريد اللغة من كل النصوص التي تظهر بلاغتها وجمالها دون تكلُّف أو إسراف، لم تقتصر في مناهج الدراسة على غياب نصوص الفلاسفة والأدباء والمفكرين، وإنما أيضًا شملت - كما يقول الحكيم - الشعر الذي هو مفخرة اللغة العربيّة، فقد انتخبوا من نصوصه "قصائد المواعظ والحكم"، كما أن هذه المختارات من قصائد البحتري وابن الرومي "لم تكن من خير آثارهما"؛ فالشعر الحق عنده "هو شيء أبعد كثيرًا من مجرد إصابة الأهداف الظاهرة، أو تحقيق الأغراض المباشرة"، وإنما هو "قد يتوسّل بهذه الأشياء لبلوغ مأرب أسمى: هو الارتفاع بالناس إلى سُحب لا تبلغ، والرحيل بهم إلى عوالم لا تنظر [بالاختصار] ذلك السحر الذي يوسّع ذاتية الناس فيرون أبعد مما ترى عيونهم ويسمعون أكثر مما تسمع آذانهم، ويعون أعمق مما تعي عقولهم، هذا هو الشعر، وهذا هو المقصود من كلمة الشعر في إطلاقها على كافة الفنون."

رابعًا: الأدب العربي والآداب العالمية:
ومن اللغة العربيّة وقصور مناهجها يتطرق إلى مسألة أخرى تتعلّق بالأدب العربي كله. فيقول إن الأدب العربي ناقص التكوين، والسبب عنده يعود إلى أن الآداب القديمة كلها عاصرتها فنون كبرى؛ فالمعابد العظيمة والتماثيل الرائعة خليقة بأن يُعاصرها أدب يُضارعها في قوّة البناء ودقة التركيب وروعة الفن (الملاحم والتمثيل والقصص)، أما الأدب العربي فكان عكس هذا تمامًا، فلقد نشأت لغة نضرة زاهرة في بيئة قحلاء وسط الصحراء، فأقصى ما عاصر لغة امرؤ القيس أو لبيد أو زهير من مظاهر الفنون الأخرى تلك "المسوخ والتهاويل لآلهة من الحجر"، وهذه التماثيل - كما يرى - لا يمكن لأحد أن يجرؤ وينسبها إلى الفن في قليل أو كثير.

ومن ثمّ ينتهى إلى إقرار بمسلّمة وإن كان يُغلِّفها بتعجُّب، فيقرُّ بأن "الشعر زَهْرٌ قد ينبت في الخلاء، أما النثر فيحتاج في نموه إلى العمران". أما التعجُّب فمصدره إلى أن "العمران جاء بعد ذلك بظهور الإسلام، وقد تكوّنت حضارة إسلاميّة واسعة الأرجاء، فأقيمت المساجد الجميلة على أنقاض الهياكل القديمة، وتقدمت الصنائع وازدهرت الفنون، وابتلعت المدينة الإسلامية في جوفها كثيرًا من المدنيات، ومع هذا، فإن الأدب العربي لم يحاول أن يزيد في قوالب نثره، أو أن يساير تلك الفنون المعاصرة" (زهرة العمر: ص 225).

ويرى أنه من مثار الدهشة أن الباحث في تاريخ الأدب، يرى حضارة إسلامية عظيمة ذات فنون وعلوم راقية ولا يجد في أدبها أثرًا إنشائيًّا مثل: "الشاهنامة، أو الرامايانة، أو الإلياذة أو كليلة ودمنة ... إلخ"، وهو الأمر الذي يوصم العقليّة العربيّة الإسلاميّة بالعقم، ولكن الأدب الشعبيّ الإسلاميّ جاء وصحّح الوضع أمام التاريخ العلمي، وأثبت أن الحضارة الإسلامية سارت في مجراها الطبيعي. اللافت أن في الحضارات الأخرى كالهنديّة أو الفارسيّة والإغريقيّة "كان الشعراء والأدباء هم الخالقين لتلك الآثار، أما في حضارة الإسلام فقد تخلَّى الخاصّة عن بعض هذه المهمة لعامة أدباء الشعب وشعرائه، ووقفوا بعيدين عن كل تغيير أو ابتكار." (زهرة العمر: ص 228). الشيء الآخر الذي يأخذه الحكيم على الخاصة أنهم لم يجدوا في القرآن إلا نموذجًا لغويًّا، دون أن يروا فيه النموذج الفني، وعلى الجملة فالأدب العربي لم يرد أن يتحرك لا إلى أعلى أو إلى أسفل ... لا نحو القرآن ولا نحو الشعب، وإن كان ثمة استثناء واحد هو الجاحظ. اللافت أن الحكيم في شمس الفكر يعود إلى مثل هذه النقطة ويأخذ على الذين ينحازون للأدب القديم على حساب الأدب الحديث، ويرى أن الأدب العربي "كائن حي: يتطوّر ويتغيّر، ويتلوّن ويتأثّر باختلاف الفصول والعصور" ( شمس الفكر: ص 98).

فتبَاهِي أدباء العربيّة بالثَّرْوَة اللفظيّة والمهارة اللغويّة كاد يقتل النثر الفني نفسه، ولم ينقذه من هذا المصير غير طائفة الفلاسفة وفقهاء الدين والمؤرخين وما ناظرهم من الباحثين الجادين. كما يشيد بمؤرخي الأدب ورواته، حيث كان لهم أعظم الفضل في تيسير اللغة العربية وإلباسها حلّة نَضرة دون التجاء إلى التصنُّع الممجوج على نحو ما هو موجود في الأغاني والعقد الفريد ونهاية الأرب والأمالي والنواد والبيان والتبيين إلخ.

ومن هذا المنطلق يُعرّج إلى نقطة حاسمة متصلة بنشأة الفن القصصي، ويرى الحكيم أن هذه الصنعة هي صنعة عربية، فليس الروس هم أساتذة فن القصة ولا الإنجليز ولا الفرنسيون بل العرب "بما يمتلكون من قرآن عَرف القصص، وما خلقه الأدباء من أشباه عنترة وألف ليلة وليلة، وما أبرزته المقامة التي تعدُّ أساسًا لفن الأقصوصة، كل هذا كان كفيلاً لأن نكون نحن العرب أساتذة هذا الفن الروائي، لكن ضاع كل هذا بسبب الجمود أو هؤلاء الجامدين الذين وقفوا حيث هم وتركوا لغيرهم تلك الكنوز يغترفون منها ويربون عليها". (زهرة العمر: ص 232)، وهنا تظهر غَيرة الأديب على تراث قومه الضائع، وبناء على هذا أن الأدب العربي الإنشائي قد عُني باللفظ أكثر مما يجب.

خامسًا: نشأة الأدب الشعبي:
اللافت أن الحكيم يلجأ إلى تفسير عبقري لنشأة الأدب الشعبي، فيقول إن "الشعب كان يطمح في لون من الأدب مستمد من إحساسه هو بالحياة الجديدة المتطوّرة المتغيّرة، أدب جديد قائم على فن مشابه ومساير للفنون الزاهرة المعاصرة، التي يراها بعينه ويهيم في مراميها بخياله". ولمّا لم يجد ما التمسه عند أدباء الفصحى، لجأ إلى "أدباء من بينهم لا يملكون أداة اللغة ولا جمال الشكل، ولكن يملكون السّليقة الفنيّة وروح الخلق". وهذا الأمر يتسق مع تسمية الجاحظ له بأنه أدب العامة أو العوام؛ لأن مصدره الفئات المغمورة اجتماعيًّا من العمّال والفلاحين.

فظهور الأدب الشعبي - في تصوّره - علامة على قصور أو تقصير في الأدب الرسمي، وبالأحرى "هو صرخة احتجاج على جمود الفصحاء." (زهرة العمر: ص 226). وبذلك ظهرت ألف ليلة وليلة، بل "نَبَتَ في كل شعب من شعوب الإسلام قصصه الذي يطبعه بطابع عصره، فكان في مصر قصة "أبي زيد الهلالي" وسيف بن ذي يزين والظاهر بيبرس إلخ". كما أن المتتبع للتصميم الفني أو البناء الروائي لهذا الأدب الشعبي، يجده من حيث الفن لا اللغة هو السائر في الطريق الصحيح محاديًّا تلك الفنون الجديدة التي قامت بقيام الحضارة الجديدة.

كما يحكي عن مصادر إبداعه، فمسرحية أهل الكهف، أو التمثيلية القصصيّة كما يسميها، فيذكر لأندريه أن ليس مصدرها فقط سورة أهل الكهف التي يردّدها الناس في يوم الجمعة، وإنما كان أثناء كتابتها واقع تحت تأثير مصر القديمة إلى جانب القرآن، فحسب قوله: "لقد كنتُ قرأت الكُتب الدينيّة: كتاب الموتى والتوارة والأناجيل الأربعة والقرآن" وبالأحرى "إن مصر القديمة كلها كانت واقعة تحت سلطان كلمة واحدة ملكت عليها فكرها وعقائدها ومشاعرها: البعث. وهي كلمة ذات أربعة أوجه كالهرم، وجهها الأول: الموت، ووجها الثاني: الزمن، ووجها الثالث: القلب، ووجها الرابع: الخلود.

اهتمامه بالأدب الشعبي وما أنتجه من آثار خالدة، مثل ألف ليلة وليلة، وما أحدثته من تأثيرات عالمية، من حيث هي "فن وخلق" بغض النظر عن "انعدام الروعة اللغوية فيها، وضياع الجانب الشكلي اللفظي"، هذا الاهتمام جعله ينتقد الأدباء [أو بتعبيره "أولئك الجامدون"] الذين لم يعترفوا بها، وبنوا سدًّا "بين الجامدين والمجددين"، وتركوا لغيرهم "تلك الكنوز يغترفون منها ويربون عليها" (زهرة العمر: ص 232).

أليس من العجيب أن نرى (متن) هذه الرسالة التي أرسلها لأندريه، ضمن فصل من فصول الباب الثاني المعنوّن بـ"الأدب العربي وتجدده" من كتابه "فن الأدب" (1952)، تحت عنوان "أثواب الأدب العربي" ص 23 ومابعدها). في رسالته - ضمن كتاب "زهرة العمر" - إلى أندريه وهي مرسلة من الإسكندرية يبدأها هكذا: "عزيزي أندريه/ إمعاني في بحوث الأدب اليوم يجعلني غير صالح للحديث في شيء آخر. وقد فرغت من مسألة اللغة، فإذا مشكلة أخرى تقوم أمامي. هي أن الأدب العربي ذاته من حيث هو خلق فني يبدو لي ناقص التكوين. والسبب في ذلك بسيط أيضًا: إذا تأملت الآداب القديمة كلها وجدتها أنها قد عاصرتها فنون كبرى." (زهرة العمر: ص 223).

ويبدأ المبحث الأول "أثواب الأدب العربي" في كتاب "فن الأدب" هكذا: "طالما قلت : إننا لو تأملنا الآداب القديمة لوجدنا أنها قد عاصرتها فنون كبرى، فمصر القديمة والهند والإغريق والرومان ... إلخ، كانت المعابد العظيمة، والتماثيل الرائعة فيها خليقة أن يعاصرها أدب يضارعها في قوة البناء ودقة التركيب، وروعة الفن: (الملاحم، والقصص، والتمثيل) ولكن الذي حدث في الأدب العربي، كان غير ذلك..." (فن الأدب: ص 23).

لو قارنا بين الرسالة (في زهرة العمر) والمقالة (في فن الأدب) لما وجدنا اختلافًا في شيء، سوى في بعض صيغ الأفعال، على نحو ضمير المخاطب المفرد [تأمّلت، وجدتها]، التي كانت تتناسب مع خطاب لمرسل إليه/ أندريه، وتحوله إلى صيغة الخطاب بالجمع : [تأملنا، وجدنا]، في إشارة لخطاب عموم القرّاء وليس شخصًا مفردًا، كما أنه يشير بقوله "طالما قلت" تأكيدًا على أن الحديث مكرّر، لكن دون أن يشير إلى أين ومتى كرّرها.

هكذا فارقت الرسائل وظيفتها المتعارف عليها بما تحمله من دلالة التوجيه التي يتضمنها معناها المعجمي، إلى دلالة إظهار التكوين الفكريّ للحكيم؛ حيث عكست هواجسه واشتغالاته النقدية بقضايا جوهرية في الفن والأدب، وهو ما يعني أن هذه القضايا لم تفارق الحكيم حتى في بوحه ورسائله، وإنما طاردته في كتاباته الخاصة، وأخذت تلحّ عليه إلحاحًا شديدًا، فلم يجد سبيلاً غير الإفصاح عنها حتى مع مَن يجهلها، على اعتبار أن شخصية أندريه حقيقيّة، كما صرَّح هو في مقدمة الرسائل، إلّا أن حقيقتها لا تنفي أنه جعل منها قِناعًا لذاته في بعض المواضع؛ ليمرِّر ما يريد تمريره، وهو الأمر الذي كرّره في أعمال كثيرة تالية.