يرى الناقد المصري أنه لكي تتحول الاستعارة لتصبح موضوعًا مجاوزًا لحقل البلاغة وتغدو آلية من آليات التفكير الإنساني، جديرة بأن تُدرَس للكشف عن آليات عمله، فقد كان لا بد لها من توفر شروط معينة تتجاوز سطوة البلاغة، أو موت البلاغة بمعناها التقليدي لكي تُبعث من رمادها، وبعيدًا عن مركزيتها.

الاستعارة التصورية: قراءة في الأدبيات المعرفية

طارق النعـمان

 

مدخل:
يحدثنا بول ريكور في مفتتح كتابه سطوة الاستعارة بأن المفارقة التاريخية لمشكل الاستعارة هي أنها تصل إلينا من خلال مجال معرفي مات قرابة منتصف القرن التاسع عشر، حين كف عن أن يكون جزءًا من مقررات الدراسة الجامعية بالكليات. وأن هذا الارتباط بين الاستعارة ومجال ميت هو مصدر ارتباك شديد: أليست عودة المفكرين المعاصرين إلى مشكل الاستعارة تلزمهم بمشروع ميئوس منه لبعث البلاغة من رمادها؟ ويضيف ريكور أننا لا ‘‘نتلقى نظرية المجاز من مجال ميت فحسب، وإنما أيضًا مقطَّع الأوصال’’. (Ricoeur, 1977, p 8)  

إن هذا التوصيف من قبل ريكور ينطوي على تصور يقرن بين الاستعارة والبلاغة بوصفها الحقل الجامع للخطابة والشعرية على النحو الذي تلقيناها به من أرسطو. وقد ظلت الاستعارة لما يربو عن ألفيتين تُعاين، في أغلب أحوالها انطلاقًا من هذا المنظور فيما عدا استثناءات بالغة المحدودية. استثناءات يمكن أن نلمحها لدى فيلسوف استثنائي مثل نيتشه، أو بلاغي عبقري مثل عبد القاهر الجرجاني. أما أن تتحول الاستعارة لتصبح موضوعًا مجاوزًا لحقل البلاغة واللغة وتغدو آلية من آليات التفكير الإنساني جديرة بأن تُدرَس من أجل الكشف عن آليات عمل هذا الأخير، فقد كان لا بد لها من توفر شروط معينة تتجاوز سطوة البلاغة، وكأنه إذا ما كان لنا أن نعود إلى اقتباس ريكور، فقد كان لا بد لها من موت البلاغة بمعناها التقليدي لكي ما يمكن لها أن تُبعث من رمادها، وبعيدًا عن مركزيتها. وهو ما يمكن القول إنه قد بدأ يتحقق مع مولد العلم المعرفي، وتولد اللغويات المعرفية، والدلاليات المعرفية معهما.

من الموضوعية إلى المعرفية
لم تتجاوز اللغويات المعرفية عقدها الرابع بعد، ومع ذلك فإن الآثار التي ترتَّبت عليها تبدو مهولة، إذ إنها أخذت تتحدى العديد من الثنائيات والفرضيات التي هيمنت طويلاً على الوعي الإنساني، مثل ثنائية العقل والجسد، واللغة الحرفية واللغة المجازية، والاستعاري في مقابل الكنائي، والمفهومي في مقابل الخيالي، والموضوعية في مقابل الذاتية وسواها. إن مارك جونسون في كتابه الجسد في العقل يوجز لنا هذا المشهد الذي ينفصل ويستقل فيه العقل عن الجسد، والخيال عن الإدراك والفهم والتفكير، أو معالجة الدلالة والذي ظل سائدًا ومهيمنًا على أغلب النظريات والمقاربات اللغوية، إذ يرى أن الغياب الكامل لدراسة وافية عن الخيال في أكثر نظرياتنا فعالية عن المعنى والبنية الذهنية لهو عرض لمشكل عميق في رؤانا الراهنة للإدراك الإنساني. والإشكال، من منظوره، ليس مجرد نوع من الغفلة؛ بحيث إننا قد نسد الفجوة ببساطة بإضافة فصل هنا أو هناك عن الخيال في نظرياتنا عن العقل واللغة والمعرفة. بل إن المشكل أكثر إزعاجٍا بكثير، لأنه يتعلق بتوجهنا الكامل إزاء هذه القضايا، وكأنه توجه مؤسَّس على مجموعة من الافتراضات المسبقة المشتركة على نطاق عريض، افتراضات تنكر أن للخيال دورًا مركزيًا في تكوين العقلانية. (Johnson,1987,p ix) كما يرى أن التصور الخاص بالموضوعية وبهذه الحزمة من الفروض المباطنة لها هي التي قادت إلى هذا العمى إزاء الخيال.

وقد اتسع هذا التصور بصور معقدة إلى حد كبير لدى فلاسفة ولغويين وسيكولوجيين، وعلماء كومبيوتر على نحو عام. بيد أن الموضوعية ليست مجرد مشروع عويص لفيلسوف، بل إنها تلعب دوراً مهماً في كل حيواتنا. ففي تجليها غير المعقد، وكمجموعة من التصورات المشتركة في ثقافتنا تتخذ الشكل العام التالي: إن العالم يتكون من موضوعات ذات خصائص وهي تقف في علاقات متنوعة مستقلة عن الفهم الإنساني. فالعالم كما هو ولا أهمية لما يتصادف لأى شخص أن يعتقده حوله، وثمة "رؤية عين الله" الوحيدة الصحيحة حول الصورة التي يوجد عليها العالم فعلًا. بعبارة أخرى ثمة بنية منطقية للواقع مستقلة عن معتقدات أية جماعة إنسانية معينة، والعقل السليم يعكس هذه البنية. ولكي نصف واقعًا موضوعيًا من هذا النوع، فإننا نحتاج اللغة التي تعبِّر عن المفاهيم التي تستطيع أن ترسِّم الموضوعات والعلاقات بأسلوب حرفي، وأحادي المعنى، ومنفصل عن السياق. وفي ظل هذا فإنه يُنظر إلى البنية العقلية بوصفها مستقلة تمامًا عن الجسد. وبالطبع ما من شيء يُذكر حول الكائنات الإنسانية في أي موضع من مواضع هذا الطرح ـــ فلا قدرتهم على أن يفهموا، ولا نشاطهم الخيالي، ولا طبيعتهم ككائنات فاعلة، ولا أي شيء آخر يخصهم، ولا شك أن كل هذا يتم باسم العلم وتحت شعارات المنهج والمنهجية. وحتى في النسخ الأحدث من الموضوعية، ما من إشارة إلى التجسدن الإنساني، وإنما ينظر إلى العقل وإلى البنى العقلية بوصفها مجاوزة للخبرة الجسدية، كما يُنظر إلى المعنى بوصفه موضوعيًا، لأنه يتمثَّل فحسب في العلاقة بين رموز مجرَّدة، وأشياء (لها خصائصها وعلاقاتها) في العالم. ووفقًا لهذه الرؤية، فإن الكيفية التي يفهم بها البشر الأشياء من حولهم، والكيفية التي يفهمون بها خبرتهم في العالم، بوصفها دالة وذات معنى لا تعدو كونها عرضية بالنسبة لطبيعة التفكير والعقل الدالين. وقد تم اعتناق هذه الرؤية الخاصة بالطبيعة الموضوعية للمعنى والعقلانية لقرون من قبل الغالبية من فلاسفة التراث الغربي، كما قُدِّر لها أن تحدِّد برامج البحث المهيمنة في عدد من المجالات المعرفية المرتبطة بالموضوع. إذ نجد أنه قد تم تشغيل هذه الدلاليات الموضوعية في الفلسفة، واللغويات، وعلم النفس، وعلوم الحاسوب، وفي مجالات معرفية أخرى عديدة داخل الحقل الجديد لـ ‘‘العلم المعرفي’’ بأسلوب تقني للغاية وصارم منطقيًا.

 إلا أن هذا المشهد قد أخذ يتقلقل بداية من منتصف السبعينيات، وبدأت تطرح تساؤلات جادة وعميقة على هذه الرؤية الموضوعية للمعنى والعقلانية، عبر النشاط المتنامي والمتراكم للأبحاث المعرفية، كما أخذت تتوالى الأدلة الإمبريقية لتكشف أن العديد من الظواهر تتحدى هذه الرؤية، ومن بين الظواهر الأكثر أهمية التي تم استكشافها، بوصفها متحدية للفروض الموضوعية، الظواهر التالية: التفيئة، وتأطير المفاهيم، والتعدد الدلالي، والاستعارة، والكناية، وسواها. وفي هذا السياق بدأت تتكشف بعض مغالطات عصر التنوير المزمنة، مثل معرفية العقل في مقابل لا معرفية الجسد؛ ومن ثم بدأنا نجد كتبًا من قبيل كتاب مارك جونسون الجسد في العقل ليعيد وصل ما فصله التنويريون، أو على حد عبارته يعيد الجسد إلى العقل، أو كتاب الفلسفة في الجسد لجورج ليكوف ومارك جونسون، أو كتاب مارك جونسون معنى الجسد، وسواها من الدراسات والكتب التي تؤكِّد من خلال الأدلة الأمبريقية الدامغة على معرفية الجسد ودور الخيال الإنساني في فهم وبناء الخبرة والمعنى الإنساني: ذلك أنه  ‘‘بدون الخيال ما من شيء في العالم يمكن أن يكون له معنى. كما أنه بدون الخيال لا يمكن لنا على الإطلاق أن يكون لدينا معنى عن خبرتنا. مثلما أنه بدون الخيال لا يمكن لنا على الإطلاق أن نعقل معرفة الواقع’’ (Johnson,1987,p ix). وبقدر هذا الدور المعرفي الفاعل والخلَّاق للخيال في تشكيل الفهم الإنساني يحدثنا جونسون أيضًا عن محورية وعمق الجسد والخبرات الجسدية في تشكيل المعاني الإنسانية، ذلك أننا، على حد قوله، ‘‘نولد في العالم ككائنات من لحم، ومن خلال إدراكاتنا وحركاتنا، وانفعالاتنا، ومشاعرنا الجسدية يصبح المعنى ممكنًا ويتخذ الأشكال التي يتخذها. إذ إن شكلنا المحدَّد من التجسدن، منذ اليوم الذي نوجد فيه، ونحن نرفس ونصرخ في هذا العالم، هو ما يشكِّل أي شيء حافلاً بالمعنى أو كيف يمكن له أن يكون حافلاً بالمعنى’’. (Johnson,2007,p iiiix). وهكذا وفي ظل إعادة الاعتبار للجسد والخيال والخبرة الإنسانية، بدأ يعاد النظر في معاينة الاستعارة، ضمن كوكبة أخرى من الظواهر المعرفية، ومساءلة العديد من الفرضيات السائدة من قبيل اللغة الحرفية واللغة المجازية، وانحراف الاستعارة. وسواها.

المقاربة المعرفية للاستعارة:
تمثِّل النظرية المعرفية للاستعارة والكناية مكونًا مفصليًا من مشروع الدلاليات المعرفية المندرج ضمن نطاق ما صار يُعرَف منذ النصف الثاني من السبعينيات باللغويات المعرفية. وقد كان كتاب جورج ليكوف ومارك جونسون الاستعارات التي نحيا بها، على صغر حجمه النسبي، هو فاتحة هذا الاختراق النوعي في مقاربة كل من الاستعارة والكناية. ذلك أن الاستعارة، على مدار تاريخها، ومنذ أرسطو، ظلت تُدرَس بوصفها ظاهرة أدبية بالأساس، ظاهرة تنتمي إلى مجالي الشعر والخطابة، على النحو الذي كرَّسها به أرسطو. ومن ثم، انفردت بها البلاغة أو كادت تنفرد على مدار تاريخها، فيما عدا استثناءات قليلة هنا أو هناك. وقد كان من ناتج ذلك أن ظل يُنظر إلى الاستعارة بوصفها مجرد ظاهرة لغوية، ظاهرة لغوية مجالها الحيوي هو الأعمال الشعرية والأدبية. ولذا، لم يُلتفت إلى حضورها الطاغي في اللغة اليومية، أو في المجالات النوعية الأخرى الخارجة عن نطاق الأدب. وقد استقر هذا المنظور على مدار القرون، واستقر معه وصف أرسطو لها بأنها علامة العبقرية وأن البراعة فيها هي الشي الوحيد الذي لا يمكن تعلمه من الآخرين، بحيث لم يعد يُنظَر إلا إلى استعارية الاستعارات الطازجة والجديدة. ومع ذلك فقد تم اختزالها في أنها مجرَّد مجاز مشابهة، وأنها ‘‘تكمن في إعطاء الشيء اسم ينتمي إلى شيء آخر.’’ و‘‘هذا التحويل إما أن يكون من جنس إلى نوع أو من نوع إلى جنس، أو من نوع إلى نوع، أو على خلفية التماثل’’ (Derrida, 1986,p 213). إن هذا التعريف كما يصفه دريدا، في الميثولوجيا البيضاء، يمثِّل فرضية فلسفية عن الاستعارة. وهو أيضًا خطاب فلسفي سطحه كله مشغَّل بمنظومة استعارية. (Derrida, 1986,p 232) كما يرى أن هذه الفرضية الفلسفية تنتمي إلى نسق تأويل يربط معًا الاستعارة، والمحاكاة، واللوجوس، والطبيعة. ولكيما يمكن للمرء أن يستعيد حركة هذه السلسلة عليه أن ينتبه لموضوع المناقشات الخاصة بالاستعارة في الشعرية وفي الكتاب الثالث من الخطابة بدرجة واحدة. وهو يرى أنها في كلا الكتابين تنتمي إلى نظرية اللغة، فهو في الشعرية يقول ‘‘بما أنه قد تمت مناقشة الحبكة، والشخصيات، يبقى تناول الأسلوب والفكر’’، كما توجد إشارة مماثلة في بداية الكتاب الثالث من الخطابة. وكما يلاحظ دريدا، فإنه على الرغم من أن ‘‘الفكر’’ قد ذُكِر فحسب؛ فإنه لا يُغطى إلا مدى ما هو مُعطَى للغة أو ما هو مُعطَى للمرء ليفكِّر فيه عبر اللغة، بوصفه سببًا، أو نتيجة، أو محتوى للغة، لكن ليس بوصفه فعل اللغة ذاتها. والاختلاف بين الفكر وأجزاء القول راجع إلى أن الفكر لا يكون جليًا بذاته. (Derrida, 1986 ,p 232) وهكذا ينتمي الخطاب الخاص بالاستعارة إلى المقالة الخاصة بمكونات القول. إذ توجد مكونات للقول وداخلها الاستعارة في المدى الذي لا يكون الفكر فيه جليًا بذاته، أي في المدى الذي لا يكون فيه معنى القول أو الفكر ظاهرة لذاته. فالفكر وفق ذلك، وكما يرى دريدا، ليس مرتبطًا بعد بالاستعارة، بحيث توجد الاستعارة فقط في المدى المفترض أن يصبح فيه الشخص جليًا بواسطة العبارة، إذ تبقى فكرة معينة غير ظاهرة، أو خفية، أو كامنة بالنسبة لذاتها. فالفكر يعثر على الاستعارة مصادفة، أو الاستعارة تتاح للفكر في اللحظة التي يحاول فيها المعنى أن ينبثق من ذاته لكيما يكون معلنًا، منطوقًا معرَّضًا لضوء اللغة. (Derrida,1982 ,p 233)

 في ظل هذا، يمكننا أن نفهم كيف أن الاستعارة لدى الأب المؤسِّس لدراسة الاستعارة، أرسطو، اُخْتُزِلت في بُعدها اللغوي، أو بالأحرى في بُعدها الاسمي، ليُختَم على هذا النحو، كما يرى ريكور، قدر الاستعارة لقرون قادمة، ولتصبح منذ تلك اللحظة فصاعدًا مقترنة بالشعر والخطابة، لا على مستوى الخطاب، وإنما على مستوى قسم من أقسام الخطاب، الاسم أو صيغة الاسم  (Ricoeur,1977,p 14) ولتصبح مجرَّد مسألة كلمات، وتحويل ملكية اسم من شيء إلى شيء آخر. هذا فضلاً عن التصورات اللاحقة التي أخذت تختزل الاستعارة وتقلِّصها في أنها مجرد حلية أو تزيين للمعنى على نحو ما نجد لدى شيشرون في الخطابة، حيث يرى أن الاستعارة اِخْتُرِعت في البداية نتاج الفقر، و أن الاستعارة (‘‘بزغت من الضرورة العائدة إلى وطأة الفقر’’)  إلا أنها أصبحت مع وفرة ونضج اللغة تزينية ونبيلة: إذ ‘‘مثل الملابس التي اِخْتُرِعت في البداية لتحمينا من البرد، ثم ما لبثت بعد ذلك أن أخذت تُستخدَم من أجل التأنق والكرامة، كذلك الاستخدام الاستعاري للكلمات بدأ بسبب الفقر، لكنه مع الاستخدام الجماهيري أصبح يُستخدَم من أجل التسلية’’ Kittay, 1987, p 1) ).

 وهكذا، على حد ما يقول ليكوف، لقد أصبح مسلَّمًا تسليمًا كليًا بالنظرية الكلاسيكية للاستعارة على مر القرون إلى حد أن كثيرين لم يدركوا أنها مجرَّد نظرية. بل لم تؤخذ النظرية الكلاسيكية على أنها ‘‘حقيقية’’ فحسب، وإنما تم تناولها بوصفها تعريفية؛ وظلت تُحدَّد كلمة ‘‘الاستعارة’’ ''metaphor'' بوصفها تعبيرًا لغويًا جديدًا أو شعريًا تُستخدَم فيه كلمة أو أكثر من كلمة لمفهوم خارج معناها العرفي المعتاد لتعبِّر عن ‘‘مفهوم مشابه’’.  ويتساءل ليكوف عما هي التعميمات الحاكمة للتعبيرات اللغوية المشار إليها كلاسيكيًا على أنها ‘‘استعارات شعرية’’؟ ويجيب بأننا حين نجيب عن هذا السؤال جوابًا دقيقًا يتبدى أن النظرية الكلاسيكية زائفة. ذلك أن التعميمات الحاكمة للتعبيرات الشعرية ليست في اللغة وإنما في الفكر: إذ إنها ترسيمات عامة general mappings عبر مجالات تصورية conceptual domains. وعلاوة على ذلك، فإن هذه المبادئ العامة التي تتخذ شكل ترسيمات تصورية لا تنطبق فحسب على التعبيرات الشعرية الجديدة بل على الكثير من اللغة اليومية المعتادة.   (Lakoff, 1993, p 203)

وفي هذا الإطار ذاته نجد ريموند جيبس في كتابه شعرية العقل ينطلق لدراسة الجوانب المجازية للغة من أجل الكشف عن البنية الشعرية للعقل. وهو يرى أن معظم النقاشات الخاصة بالتفكير واللغة المجازيين تتعلق بتأويل الأدب والشعر. إذ تُرَى النصوص الأدبية بوصفها المجال الأكثر ملاءمة  للمخاطرة المحسوبة الماثلة في التحدث بشكل مجازي. وتقر سيلفيا بلاث Sylvia Plath ضمنيًا بهذا في قصيدة بعنوان ‘‘استعارات’’:

 إنني أحجيةٌ من تسعةِ مقاطع،

فيلٌ، بيتٌ مُثقل،

بطيخةٌ متنقلةٌ على تعريشتين.

يا لها من فاكهٍة حمراءَ، عاجٍ، أخشابٍ رائقة!

هذا الرغيفُ كبيرٌ بخميرتِهِ النافشة.

عملةٌ جديدةٌ مسكوكةٌ في هذا الكيسِ المُنتفِخ.

إنني وسيلةٌ، خشبةُ مسرح، بقرةٌ في عجل.

التهمتُ حقيبةً من التفاحِ الأخضر،

اعتليتُ قطارًا لا مخرجَ منه.    

إن هذه القصيدة تسخر من الربط المألوف بين الحالة الفيزيقية للحمل وفن التماثل art of analogy لدى الشعراء. وتشدِّد الاستعارات العديدة المتحولة سريعًا على جوانب مختلفة من حجم، وشكل، وخصوبة، وقيمة امرأة حامل، وحتمية مصيرها. كما أن هذه الاستعارات، على مستوى آخر، لا تنبئ فحسب بالولادة الوشيكة لطفل، وإنما أيضًا بانبثاق الصوت الشعري الخاص لبلاث، مع ملاحظة أن الجسد الأنثوي ذو أهمية أدبية بوصفه يولِّد باستمرار علاقات جديدة بين الأشياء في العالم وأنا القصيدة the I of the poem. وتشكِّل الاستعارات مع بعضها البعض في هذه القصيدة أحجية للقارئ عليه أن يؤولها ويقدِّرها. بيد أن الخطر بالنسبة للشاعر أو لأي منتج للغة المجازية يتمثل في أن الجمهور يمكن ألا يكون قادرًا على أن يتعرف على ما هو المقصود مما يقال. لكن حين تكون القصيدة قابلة للفهم، حين توصِّل استبصارات شعرية جديدة حول الخبرة الإنسانية، فإننا ننعت مؤلفها بأنه يمتلك مواهب ذهنية خاصة. إذ نثني على كُتَّاب وكاتبات مثل بلاث بسبب ما يمتلكون من عبقرية إبداعية في التفكير والتعبير عن أنفسهم وأنفسهن مجازيًا. ومع ذلك، فإنه من الخطأ اعتقاد أن استخدام اللغة المجازية يتطلب قدرة معرفية خاصة أو أننا لا نواجه مثل هذه اللغة إلا في النصوص الأدبية. ذلك أن اللغة المجازية، المنظور إليها تقليديًا كأداة للشعراء والسياسيين، لا توجد فقط على صفحات الأدب، وإنما أيضًا على امتداد الكلام والكتابة العاديين. صحيح أن لغة الشعراء العظام أكثر إبداعية، أو شعرية،  بشكل واضح من تلك التي يوظِّفها معظم المتكلمين العاديين، إلا أن كلاً من الشعراء والبشر العاديين يوظفِّون نفس خطاطات التفكير المجازية في قول ما يقولونه. بل إن الكثير من أحاديثنا اليومية تعكس قدرة البشر على أن يفكِّروا بطرائق تتجاوز الحرفي. 

لقد ثار جدل شديد منذ زمن اليونانيين القدماء حول فضائل التفكير المجازي واللغة المجازية. وعلى الرغم من أن دراسة التفكير المجازي واللغة المجازية تمثِّل الآن موضوعًا متميزًا في الإنسانيات، والفنون، والعلوم المعرفية، إلا أنه مازال يوجد لدى الكثير من الدارسين انعدام ثقة جذري وعميق تجاه كل ما هو مجازي، وهو ما يمكن أن يُطْلَق عليه (’’رُهَاب المجاز‘‘ ''tropophobia''، أو الخوف من المجازات). فالعلماء، والفلاسة، والمعلمون، وعلماء النفس، قد وجَّهوا جل قواهم ضد الشرور الافتراضية للتفكير المجازي واللغة المجازية. على سبيل المثال، إن بعض الكتب الدراسية المعاصرة حول الكتابة والبلاغة تحذِّر من أن اللغة المجازية تتعارض مع الوضوح والتفكير الحرفي؛ ومن ثم يجب أن تُقمَع لصالح جعل المعنى شفافًا وجليًا. وكما ينص أحد الكتب الجامعية:

إن اللغة المجازية ... خادعة بقدر ما هي مفيدة. ولذلك يجب عليك، حين تقصد إلى معنى مجرَّد، أن تتأكد من أن تكون استعاراتك جيدة وميتة. وحين ترغب في أن تكون مجازيًا، عليك أن تتأكد من أنك تحقق الحيوية والاتساق. أما إذا لم يتحقق هذا، فعليك أن تعود إلى التعبير الحرفي؛ لأنه من الأفضل أن تجعل تعبيرك واضحًا من أن تكسو مشهدك اللفظي بتلك الأجسام الغريبة. (Gibbs , 1994, pp 2-3) (وانظر أيضا : Lakoff , 1980 , pp 189-192)

إن مثل هذه التحذيرات حول إساءة استخدام اللغة المجازية قد تبدو معقولة إذا ما كانت تتعلق بالاستعارات المختلطة والمجازات الملتوية التي ‘‘تُغطِّي’’ الكتابة والكلام. ومع ذلك فإن مشكل الاستعارات المختلطة والمجازات الملتوية ليس هو السبب الرئيس في أن الكثير من المعلمين يحذِّرون من استخدام الكلام المجازي في الخطاب اليومي والأكاديمي. إذ ثمة أسباب أخرى مهمة مُتجذِّرة بعمق فيما يتعلق بلماذا توجد مثل هذه النظرة الارتيابية في التفكير المجازي واللغة المجازية على امتداد التاريخ. وهذه الأسباب تنبع من الفرضية المزمنة، التي مازالت حاضرة في مجالات عديدة من العلوم المعرفية، والتي ترى أن اللغة مستقلة عن المعرفة وأن اللغة المجازية ليست سوى مجرد تزيين للغة الحرفية العادية مع القليل من القيمة المعرفية المحدودة الخاصة بها. إن هذه المعتقدات تظهر جلية في التزامين فلسفيين مركزيين (Gibbs , 1994 , p 4).

الالتزام الأول هو الالتزام الموضوعي: وهو الالتزام الذي يرى أن الواقع مؤلَّف موضوعيًا من كيانات محدَّدة ذات خصائص وعلاقات قائمة بين تلك الكيانات في كل حالة.

والالتزام الثاني هو الالتزام الفريجي (نسبة إلى فريجه، 1892/1952): وهو التزام يفهم المعنى، انطلاقًا من الالتزام الموضوعي، بناء على المرجع والحقيقة. إن الدلاليات، وفق هذا المنظور، تتألف من العلاقة بين الرموز والعالم الموضوعي المستقل عن عقول أي شخص من الأشخاص. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الالتزام الفريجي يرى الدلاليات بوصفها مستقلة عن التدواليات. بمعنى أن الدلاليات (أي العلاقة بين الرموز والأشياء في العالم) محدَّدة بحيث لا تضع في اعتبارها كيف يمكن أن تُستخدَم الرموز وتأويلاتها من قبل مستخدميها. بينما يُنظَر إلى التداوليات (أي العلاقات بين العلامات ومستخدميها) بوصفها دراسة المعنى في السياق. إن الالتزامين الموضوعي والفريجي يباطنان الفكرة التي ترى أن المعنى الحرفي يعكس على أفضل ما يكون العالم الخارجي المحدَّد موضوعيًا وأنه الأسلوب الأساس لوصف الحقيقة. ولهذا السبب، ظل يُنظر إلى الدلاليات ضمن اللغويات، والمنطق، والفلسفة بوصفها دراسة المعنى الحرفي، في حين تم تخفيض المعنى المجازي ليصبح ’’سلة مهملات‘‘ التداوليات.

إن التفكير في اللغة المجازية بوصفها ظاهرة تداولية يديم الرؤية التقليدية الخاصة بأن هذه النوعية من الكلام منحرفة أو، على الأقل، تزينية. كما أن الطروح التداولية تشير إلى أن فهم اللغة المجازية منفصل عن المعالجة اللغوية ‘‘العادية’’ أو‘‘المعتادة’’ بسبب اعتمادها الشديد على المعرفة الواقعية بالعالم. إلا أنه قد أصبح الآن هناك الكثير من الأبحاث التي تُظهِر أن نسقنا اللغوي، حتى ذلك المسئول عما نتصور أنه اللغة الحرفية، مرتبط بشكل لا مناص منه ببقية نسقنا الفيزيقي والمعرفي. كما تظهر التطورات الحديثة في اللغويات المعرفية، والفلسفة، والأنثروبولوجيا، والسيكولوجيا أنه ليس فقط الكثير من لغتنا مبني استعاريًا، بل إن الكثير أيضًا من معرفتنا وإدراكنا مبنيا استعاريًا. إن الناس يمفهمون خبراتهم بألفاظ مجازية بواسطة الاستعارة، والكناية، والمفارقة، والتنافي الدلالي oxymoron، وما إليها، وهذه المبادئ تباطن الكيفية التي نفكِّر، ونستدل، ونتخيل بها. (Gibbs,1994, pp 3-5)

 إلا أن الرؤية التقليدية للمجاز والاستعارة ما كان لها أن تعي هذا لأسباب معقدة وربما متناقضة، منها أن مثل هذا الطرح قد يفقد الشعراء والكتاب تميزهم وعبقريتهم؛ إذ يشركهم مع سواهم من عامة الناس في فضيلة المجاز، مثلما يمكن أن يهدِّد هذا الطرح ذاته اليقين في حقيقية الحقيقة وموضوعية العالم، فضلا عما يمكن أن ينجر عنه من زلزلة لليقينيات الدينية والعقائدية بكل ما تنطوي عليه من قداسة. ولعله يمكن القول إن هذه الرؤية تشترك فيها الثقافة العربية مع الثقافة الغربية بدرجات متفاوتة، بغض النظر عما بينهما من اختلافات. لكن أيًا ما كانت الاختلافات بين الثقافتين، تظل هناك عناصر جامعة لما يمكن أن نطلق عليه الرؤية التقليدية للغة والمجاز.

معرفية الاستعارة
إن الاستعارة هي الآلية المعرفية التي يتم بموجبها أن يكون مجال من الخبرة "مُرسَّمًا" "mapped" أي مُسْقَطًا projected على مجال آخر من الخبرة، بحيث يُفهَم المجال الثاني جزئيًا بناء على المجال الأول. ويُدعى المجال المُرسَّم مجال الانطلاق أو المجال المانح the source or donor domain، ويُدعى المجال المُرسَّم عليه مجال الانطلاق مجال الوصول أو المجال المُستقبِل the target or recipient domain. ويجب أن ينتمي كل مجال من المجالين إلى مجال مختلف مستقل بذاته superordinate. وهذا أساسًا هو مفهوم الاستعارة الذي طرحه جورج ليكوف ومارك جونسون، ومارك تيرنر، ولغويون معرفيون آخرون ممن ظلوا يبحثون في الحقل على مدار العقود الثلاثة الماضية.

ففي الاستعارة الشهيرة الحب رحلة (Lakoff and Johnson, 1980, pp 140-141)  مجال الرحلات، الذي هو ذاته مجال فرعي من مجال الحركة، مُرسَّم، أي تمت مراكبته أو فرضه superimposed، على مجال الحب الذي هو ذاته مجال فرعي من مجال المشاعر.

انظر إلى أي مدى مضينا بعيدين

علاقتنا خارج المسار

إن عجلاتنا تدور في الفراغ

إن هذا الترسيم يحوِّل عددًا كبيرًا من الجوانب (خصائص، وكيانات، وقضايا propositions) من المجال الخِبْرَوي للرحلات إلى المجال الخِبْرَوي للمشاعر، وبشكل محدَّد إلى مجال الحب (Lakoff, 1993, pp 206-209). ويمكننا أن نُبرز التماثلات التالية:

- العاشقان يماثلان المسافرين.

- علاقة الحب تماثل المركَبة في الرحلة.

- أهداف العاشقين المشتركة تماثل المحطات المشتركة في الرحلة.

- الصعوبات في العلاقة تماثل العوائق في السفر.

إن هذه ترسيمات فرعية أو تماثلات أنطولوجية: أي أن الكيانات (الأشخاص، والموضوعات، الخ)، أو الأفعال، أو الحالات الواقعة في مجال الانطلاق تكون مرسَّمة على نظائرها في مجال الوصول. وهناك أيضًا  الترسيمات الفرعية / التماثلات الخاصة بالمعرفة (أو الإبستيمي epistemic). على سبيل المثال، فإن موقف الرحلة الذي تتعطل فيه المركبة ويحاول المسافرون أن يعيدوها للحركة مرة أخرى،  سواء بإصلاحها أو بجعلها تتجاوز العوائق التي تمنعها من التقدم، تماثل  موقف الحب الذي تصبح العلاقة فيه غير مُرضِية ويحاول العاشقان أن يجعلاها مُرضِية مرة أخرى سواء بتحسينها أو بحل المشكلات التي تمنعها من العمل بشكل ملائم. (Barcelona, 2003,pp 3-4)

وثمة جانب مهم من الاستعارة يتمثَّل في أن توسيعها مفتوح النهاية بشكل نموذجي .(Lakoff and Turner, 1989 , pp 106-110)  ويمكن أن يتم توظيفه في النصوص الإبداعية والمحادثات.

وعلى حد ما يرى جيبس، فإن العديد من الاستخدامات الإبداعية للغة التي نتحدث بها حول مفهوم مثل الحب، ومفاهيم أخرى صعبة، هي ذاتها مبنية على مجموعة من النماذج المعرفية التي تقيِّد الكيفية التي يفكِّر بها الأفراد في خبراتهم ويعبِّرون بها عنها، ولنعاين بعض التعبيرات التي يعبِّر بها الأمريكيون عن الحب: لقد كان يشتعل بالحب. إنني مجنون بها. لقد أمدني حبها بطاقة. لقد تلاشى السحر. لا تدعني أمضي. لقد طاردته بلا رحمة.

إن كل هذه التعبيرات تعكس طرائق معينة للتفكير في الحب. هذا في حين أن تعبيرات مثل لقد أمدني حبها بطاقة، أو إنني أغتذي بالحب، أو الحب زادي، أو إنني متعطش لرؤياها، أو إنها أطعم ما في حياتي الخ تعكس التصور الاستعاري للحب بوصفه غذاءً وزادًا. وهكذا، فإن الاستعارة التصورية الحب غذاء تتمثل وظيفتها الأساسية في فهم مفهوم هو (الحب) بناءً على مفهوم آخر هو (الأغذية). إن الاستعارات التصورية تنشأ حين نحاول أن نفهم مفاهيم صعبة، أو معقدة، أو مجرَّدة، أو أقل تحديدًا، مثل الحب انطلاقًا من مفاهيم أو أفكار أخرى مألوفة أو أكثر ألفة وشيوعًا، هذا بشكل إجمالي. (Gibbs, 1994, p 6)

الاستعارة التصورية في مقابل الاستعارة اللغوية

  تتحدد الاستعارة التصورية، إذًا، في اللغويات المعرفية بوصفها فهم مجال تصوري ما بناء على مجال تصوري آخر، مثل الحديث عن الحياة انطلاقًا من الرحلات، وعن الجدل انطلاقًا من الحرب، وعن الحب انطلاقًا أيضًا من الرحلات، وعن النظريات انطلاقًا من الأبنية، وعن الأفكار انطلاقًا من الأطعمة، وعن المؤسسات الاجتماعية انطلاقًا من النباتات، وسوى ذلك من الأمثلة. وهو ما يمكن تجريده في أن المجال التصوري أ هو المجال التصوري ب، وهو ما يُدْعَى بالاستعارة التصورية. إن الاستعارة التصورية تتشكل من مجالين تصوريين يُفهَم فيها مجال بناءً على الآخر، أو انطلاقًا من الآخر. والمجال التصوري هو أي تنظيم متماسك من الخبرة. وبناء عليه، فإن لدينا، على سبيل المثال، معرفة منظَّمة بشكل متماسك عن الرحلات نعتمد عليها في فهمنا للحياة.

إلا أننا نريد أن نميز الاستعارة التصورية من التعبيرات اللغوية الاستعارية. فالأخيرة هي عبارة عن كلمات أو تعبيرات لغوية أخرى تأتي من اللغة أو مفردات مجال تصوري أكثر مادية وملموسية (أي المجال ب).ووفقًا لهذا، فإن كل التعبيرات السابقة المرتبطة بالحياة والتي تأتي من مجال الرحلات هي عبارة عن تعبيرات لغوية استعارية، في حين أن الاستعارة التصورية المناظرة التي تجعل هذه التعبيرات تتجلى هي الحياة رحلة.
ولكل مجال من المجالين اللذين يؤلفان الاستعارة التصورية اسم خاص به؛ إذ يطلق على المجال التصوري الذي تؤخذ منه التعبيرات الاستعارية لفهم مجال آخر مجال الانطلاق، في حين يطلق على المجال التصوري المفهوم اسم مجال الوصول. وهكذا، فإن الحياة، الجدل، الحب، النظرية، الأفكار، المؤسسات الاجتماعية، وسواها هي عبارة عن مجالات وصول، في حين أن الرحلات، الحرب، الأبنية، الأطعمة، النباتات، وسواها هي مجالات انطلاق. بعبارة أخرى، إن مجال الوصول هو المجال الذي نحاول أن نفهمه من خلال استخدام مجال الانطلاق.

لكن بالطبع، فإننا يجب أن نكون قادرين على تمييز الاستعارات اللغوية من العناصر اللغوية غير الاستعارية (الحرفية). (Kovecses,2010, p 4)

بعض الأمثلة على الاستعارة التصورية  

كي نرى أننا نتحدث بالفعل حول مجالات الوصول هذه من خلال توظيف واستخدام مجالات انطلاق معينة مثل الحرب، والرحلات، والأطعمة، دعونا نعاين بعض الأمثلة الكلاسيكية لها لدى كل من ليكوف وجونسون في الاستعارات التي نحيا بها: الحب رحلة

انظر إلى أي مدى وصلنا.

إننا في مفترق طرق.

لعله يجب على كل منا أن يمضي في طريقه.

إننا في مرحلة اللا عودة الآن.

لا أعتقد أن هذه العلاقة ستمضي بنا إلى أي وجهة، أين نحن الآن؟

إننا مغروزون.

إننا ندير عجلاتنا في الفراغ.

لقد أصبحت علاقتنا خارج المسار.

إن هذه تعبيرات يومية معتادة. وهي ليست شعرية، وليست بالضرورة مستخدمة من أجل تأثير بلاغي خاص. فتعبيرات مثل «انظر إلى أي مدى وصلنا» التي ليست بالضرورة حول الحب، يمكن أن يتم فهمها بسهولة بوصفها عن الحب. إن ليكوف يطرح هنا سؤالين، الأول هو: هل ثمة مبدأ عام يحكم كيف تكون هذه التعبيرات اللغوية حول الرحلات مستخدمة لتشخِّص الحب؟ والثاني هو: هل ثمة مبدأ عام يحكم كيف تكون نماذج الاستدلال حول الرحلات مستخدمة لتستدل حول الحب حين تكون تعبيرات من هذا النوع مستخدمة؟

إن الجواب عن كلا السؤالين هو نعم. حقاً، ثمة مبدأ عام مُفرد يجيب على كلا السؤالين، إلا أنه مبدأ عام لا هو جزء من النحو ولا من المعجم. وإنما هو جزء من النسق التصوري المباطن للغة الإنجليزية. إنه مبدأ لفهم مجال الحب وفقًا لمجال الرحلات. ويمكن صياغة المبدأ دون تكلف على أنه سيناريو استعاري: الحبيبان مسافران في رحلة معًا، وأهداف حياتهما المشتركة مرئية بوصفها محطات يجب الوصول إليها. والعلاقة هي مركبتهما التي تمكِّنهما من أن يتابعا تلك الأهداف المشتركة معًا. ويُنظَر إلى العلاقة بوصفها منجزة لغرضها ما دامت تمكِّنهما من أن يحرزا تقدمًا نحو أغراضهما المشتركة، والرحلة ليست سهلة، إذ ثمة عوائق وثمة مواضع (هي مفترق طرق) يجب فيها أن يُتخَذ قرار حول أي السبل يجب السير فيها، وإذا ما كان يجب مواصلة السفر معًا أم لا.

إن الاستعارة تتضمن فهم مجال ما من الخبرة، هو الحب، وفقًا لمجال مختلف جدًا من الخبرة هو الرحلات. بشكل أكثر تقنية، يمكن فهم الاستعارة بوصفها ترسيمًا Mapping (بالمعنى الرياضي من مجال انطلاق (في هذه الحالة، هو الرحلات) إلى مجال وصول (في هذه الحالة، هو الحب). والترسيم مبني بإحكام. إذ ثمة تناظرات أنطولوجية Ontological correspondences وفقاً لها تتناظر كيانات في مجال الحب (مثل الحبيبين، أهدافهما المشتركة، صعوباتهما، علاقة الحب إلخ) بشكل منتظم مع كيانات في مجال الرحلة (المسافرين، وسيلة المواصلات، محطات الوصول إلخ).

ولجعل مسألة تذكر أي من الترسيمات هي التي تكون موجودة في النسق التصوري أسهل، تبنى ليكوف وجونسون، في الاستعارات التي نحيا بها استراتيجية لتسمية مثل هذه الترسيمات، مستخدمينِ مفاتيح تذكيرية Mnemonics توحي بالترسيم. وهي أسماء تذكيرية Mnemonic names تتخذ نمطيًا (وإن لم يكن بشكل دائم) الشكل: مجال الوصول هو مجال الانطلاق Target domain is source domain أو بدلاً من ذلك، مجال الوصول بوصفه مجال الانطلاق. وفي هذه الحالة اسم الترسيم هو الحب رحلة وهكذا حين يتم الحديث عن استعارة الحب رحلة يُستخدَم مفتاح تذكيري لمجموعة من التناظرات الأنطولوجية التي تشخص ترسيمًا، أي:

الحب بوصفه رحلة.

الحبيبان يناظران المسافرين.

علاقة الحب تناظر المركبة.

أهداف الحبيبين المشتركة تناظر محطات وصولهما المشتركة في الرحلة.

الصعوبات في العلاقة تناظر عقبات السفر.

إن ليكوف يؤكِّد على أهمية هذه التفرقة، وضرورة عدم الخلط بين   اسم الترسيم The name of mapping الحب رحلة، والترسيم نفسه. فالترسيم هو مجموعة التناظرات. وبالتالي فحينما أشير إلى استعارة بمفتاح تذكيري مثل الحب رحلة، فإنني أكون مشيراً إلى مثل هذه المجموعة من التناظرات.

ذلك أنه لو تم خلط الترسيمات بأسماء الترسيمات، فإن ثمة إساءة فهم أخرى يمكن أن تنشأ. إن أسماء الترسيمات يكون لها عموماً شكل قضوي Propositional، على سبيل المثال الحب رحلة. لكن الترسيمات ذاتها ليست قضايا Propositions. ولذا إذا تم خلط الترسيمات بأسماء الترسيمات، فإنه قد يظن المرء خطأ أن الاستعارات، في هذه النظرية، قضوية. هذا في حين أن الاستعارات يمكن أن تكون أي شيء آخر عدا ذلك: إن الاستعارات ترسيمات Mappings، أي مجموعات من التناظرات التصورية.

إن ترسيم الحب رحلة هو مجموعة من التناظرات الأنطولوجية التي تشخص تناظرات إبستيمية من خلال ترسيم المعرفة حول الرحلات على المعرفة حول الحب. ومثل هذه التناظرات تتيح لنا أن نستدل حول الحب مستخدمين المعرفة التي نستخدمها لنستدل حول الرحلات. إذ في مثال مثل «لقد غرزنا»  

 يقوله أحد الحبيبين للآخر حول علاقتهما. كيف يكون لهذا التعبير الخاص بالسفر أن يُفهَم بوصفه حول علاقتهما؟

«لقد غرزنا» يمكن أن يكون مستخدمًا للسفر، وحين يكون كذلك فإنه يثير معرفة خاصة بالسفر. إن المعرفة الدقيقة يمكن أن تتفاوت من شخص إلى آخر، لكنه هنا مثال نموذجي لنوع المعرفة المثارة.

مسافران في مركبة، يسافران إلى محطات وصول مشتركة. تواجه المركبة عقبة ما وتنغرز فيها، أي تصبح معطلة، ولو لم يفعل المسافران شيئاً، فلن يصلا إلى محطاتهما. وثمة عدد محدود من الخيارات للفعل.

إذ يمكنهما أن يحاولا أن يجعلا المركبة تتحرك ثانية، إما بإصلاحها أو جعلها تتخطى العقبة التي أوقفتها.

كما يمكنهما أن يظلا في المركبة المعطلة ويتخليا عن بلوغ محطاتهما.

مثلما يمكنهما التخلي عن المركبة.

إن خيار البقاء في المركبة المعطلة يكلِّف أقل جهد، إلا أنه لا يشبع رغبة أن يبلغا محطاتهما.

إن التناظرات الأنطولوجية التي تؤلف استعارة الحب رحلة ترسِّم أنطولوجيا السفر على أنطولوجيا الحب. وبإجراء ذلك، فإنها (أي هذه التناظرات) ترسِّم هذا السيناريو الخاص بالسفر على سيناريو الحب المناظر الذي تكون عبره الخيارات المناظرة للفعل مرئية. وهنا يكون سيناريو الحب المناظر الذي ينتج عن تطبيق التناظرات على بنية هذه المعرفة.

حبيبان في علاقة حب، يتتبعان أهداف حياة مشتركة: العلاقة تواجه صعوبة ما، وهو ما يجعلها عاطلة، وإن لم يفعلا شيئاً، فلن يكونا قادرين على أن يحققا أهداف حياتهما. وثمة عدد محدود من الخيارات للفعل: يمكنهما أن يحاولا أن يجعلاها تتحرك مرة أخرى، إما بإصلاحها أو بجعلها تتجاوز الصعوبة.

  • يمكنهما أن يظلا في العلاقة العاطلة ويتخليا عن تحقيق أهداف حياتهما.
  • يمكنهما أن يتخليا عن العلاقة.

إن خيار البقاء في العلاقة العاطلة يكلِّف الجهد الأقل، إلا أنه لا يشبع رغبة تحقيق أهداف الحياة. إن هذا مثال على نموذج استدلال مرسَّم من مجال إلى آخر. إننا بواسطة مثل هذه الترسيمات نطبق المعرفة الخاصة بالسفر على علاقات الحب. (Lakoff,1993 , pp 2.6-2.8)

الاستعارات ليست مجرد كلمات
إن ما يؤلف استعارة الحب رحلة ليس أية كلمات خاصة أو تعبير خاص. إنه الترسيم الأنطولوجي عبر المجالات التصورية، من مجال الانطلاق الخاص بالرحلات إلى مجال الوصول الخاص بالحب. فالاستعارة ليست مجرد مسألة لغة، وإنما مسألة فكر وعقل، أما اللغة فهي ثانوية. هذا في حين أن الترسيم أساسي: بما أنه يُجيز استخدام لغة مجال الانطلاق ونماذج الاستدلال لمفاهيم مجال الوصول. كما أن الترسيم عرفي، أي أنه جزء راسخ من نسقنا التصوري. طريقة من طرقنا العرفية لمفهمة علاقات الحب. إن هذه الرؤية لعلى خلاف كامل مع رؤية أن الاستعارة مجرَّد تعبيرات لغوية، إذ لو كانت الاستعارات ليست إلا تعبيرات لغوية لكان علينا أن نتوقع أن تكون التعبيرات اللغوية المختلفة استعارات مختلفة. وبناء على ذلك، كان يفترض أن تشكِّل «إننا وصلنا إلى طريق مسدود» استعارة قائمة بذاتها، في حين تشكل «إننا لا نستطيع أن نعود الآن» استعارة أخرى مختلفة كلية، ولكان تعبير «إن زواجهم على حافة السقوط» يشتمل كذلك على استعارة مختلفة. وهكذا بالنسبة لعشرات الأمثلة. ومع ذلك فلا يبدو أن لدينا عشرات الاستعارات المختلفة هنا. وإنما لدينا استعارة واحدة، الحب مُمَفْهَم فيها بوصفه رحلة. وينبئنا الترسيم بدقة كيف يكون الحب مُمَفْهَمًا كرحلة. وهذه الكيفية الموَّحدة في مفهمة الحب استعاريًا متحققة في العديد من التعبيرات اللغوية المختلفة.

تمديد الاستعارات العرفية
يرى ليكوف مسألة أن ترسيم الحب رحلة هو جزء راسخ من نسقنا التصوري يفسِّر السبب الذي لأجله يمكن للاستخدامات الجديدة والخيالية للترسيم أن تكون مفهومة على الفور إذا ما أخذت في الحسبان التناظرات الأنطولوجية والمعرفة الأخرى الخاصة بالرحلات. لنأخذ الأغنية العاطفية «إننا نقود في الحارة السريعة على الطريق المفتوح للحب».We're driving in the fast lane on the freeway of love

إن معرفة السفر المستدعاة هي هذه: حين تقود في الحارة السريعة، فإنك تقطع طريقًا طويلاً في وقت قصير ويمكن أن يكون مثيرًا وخطرًا. إن الترسيم الاستعاري العام يرسِّم هذه المعرفة الخاصة بالقيادة على المعرفة الخاصة بعلاقات الحب. إذ يمكن أن يكون الخطر بالنسبة للمركبة (حيث يمكن ألا تستمر العلاقة) أو بالنسبة للركاب (حيث يمكن أن ينجرح الحبيبان عاطفيًا). أما بعد الإثارة في رحلة الحب فهو بعد جنسي. إن فهمنا للأغنية العاطفية هو نتاج للتناظرات الاستعارية الموجود سلفًا لاستعارة الحب رحلة. فالأغنية العاطفية قابلة للفهم مباشرة للناطقين بالإنجليزية، لأن تلك التناظرات الاستعارية هي فعلاً جزء من نسقنا التصوري. وبالطبع.

الاستعارة التصورية وخطاطات الصورة
إن إحدى أهم الدعاوى اللافتة للدلاليات المعرفية هي أن التفكير المجرَّد له أساس جسدي. وقد جادل ليكوف وجونسون ، في دراستهما المؤثرة عن الاستعارات التصورية عام 198. ، بأن البنية التصورية هي في جانب منها منظَّمة وفقًا لنسق الاستعارة المميز بمجموعات مترابطة من الترابطات العرفية أو الترسيمات بين مجالات ملموسة ومجرَّدة. والمجال في نظرية الاستعارة التصورية هو عبارة عن جسد من المعرفة التي تنظِّم مفاهيم مترابطة. وتتمثَّل أهمية خطاطات الصورة في أنها يمكن أن تقدِّم الأساس المادي للترسيمات الاستعارية. ( Evans & Green, 2006 ,p 19.)

   إن تصور خطاطة الصورة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بفرضية تجسدن المعرفة التي طرحها الباحثون الأوائل في الدلاليات المعرفية، خصوصًا جورج ليكوف ومارك جونسون. وأحد الأسئلة المركزية التي طرحها ليكوف وجونسون في كتابهما الاستعارات التي نحيا بها عام 198. يمكن النص عليه على النحو التالي: من أين يأتي التعقيد المرتبط بتمثيلنا التصوري؟ وقد كان الجواب الذي قدَّماه هو أن هذا التعقيد (Evans & Green, 2006 ,p 177). يعود، إلى حد كبير، إلى التلازم الوثيق بين أنواع المفاهيم التي يقدر البشر على صياغتها وطبيعة الأجساد الفيزيقية التي لديهم. ومن هذا المنظور، يكون تجسدننا هو المسئول مباشرة عن بناء المفاهيم.

 وعلى سبيل المثال، فإن خُطاطة الصورة الخاصة بـ الوعاء تنتج من خبراتنا المتكرِّرة والكلية الوجود مع الأوعية كما يكشفها هذا الاقتباس من كتاب جونسون الجسد في العقل الذي يصف بداية يوم اعتيادي:

ها أنت تستيقظ خارجًا من نوم عميق، وتُخرج رأسك من تحت الأغطية ناظرًا في أرجاء حجرتك. وتفيق تدريجيًا خارجًا من نعاسك، وتشد نفسك خارجًا من تحت الأغطية، لتدخل في دثارك، وتتمطع وأنت تشد أطرافك إلى الخارج، وتمشي في دوار خفيف خارجًا من حجرة النوم داخلاً إلى الحمام. ثم تنظر في المرآة لترى وجهك خارجًا يحدِّق إليك. وتمد يدك في خزانة الأدوية لتخرج منها فرشاة الأسنان، وتضغط على أنبوبة معجون الأسنان لتخرج منها بعض المعجون، وتضع فرشاة الأسنان داخل فمك، وتدعك أسنانك في عجلة، وتشطف فمك من الداخل. (Johnson, 1987, p 30-31)

وكما يكشف هذا المثال من خلال الاستخدام المتكرِّر لتعبيرات مثل في وخارجداخل وتخرج]، فإن عددًا كبيرًا من الموضوعات والخبرات اليومية مُفيَّئة categorized بوصفها حالات محدَّدة للمفهوم الخُطاطي لـ الوعاء: ليس فقط الأوعية الواضحة مثل خزانة الحمام، وأنبوب المعجون، أو ’أوعية‘ أقل وضوحًا مثل أغطية الفراش، والملابس، والغرف، بل أيضًا حالات مثل النوم، والنعاس، والدوار، مما يعني أننا نسقط خطاطة الوعاء على موضوعات وحالات ليس لها داخل وخارج وحد، على نحو ما هي مكونات خطاطة الوعاء، أي مما يعني أن خطاطة الوعاء تتحول إلى استعارة تصورية.

وطبقًا لجونسون، فإن خُطاطات الصورة، مثل خُطاطة الوعاء، راسخة رسوخًا مباشرًا في الخبرة المُجَسْدَنة: إنها ترتبط بالخبرة الحسية وتُستمد منها. وهذا يعني أنها ما قبل مفهومية pre-conceptual في الأصل، وأنها تنشأ من الخبرات الحسية في المراحل الباكرة من التطور الإنساني التي تسبق تشكل المفاهيم. ومع ذلك، فإنه بمجرد ما أن تُسْتَخْلص وتُخَزَّن أنماط المعرفة الحسية المتكرِّرة كخُطاطة صورة، حتى تولِّد الخبرة الحسية تمثيلاً تصوريًا a conceptual representation. وهذا يعني أن خُطاطات الصورة هي عبارة عن مفاهيم، لكنها مفاهيم من نوع خاص: إنها تمثِّل أسس النسق التصوري؛ لأنها أول المفاهيم التي تنبثق في العقل الإنساني، وبدقة لأنها ترتبط بالخبرة الإدراكية-الحسية، فإنها تعد خُطاطية بشكل خاص. وأحيانًا يكون من الأصعب جدًا إدراك فكرة مفهوم خُطاطي الصورة من إدراك فكرة مفهوم مُحدَّد جدًا مثل مفهوم القط أو الكتاب. والسبب في حدوث هذا هو أن هذه المفاهيم المُحدَّدة ترتبط بأفكار نكون واعين بـ ‘معرفتها’. وفي المقابل، تعد خُطاطات الصورة أساسية للغاية لكيفية تفكيرنا التي لا نكون منتبهين بشكل واعٍ بها: ذلك أننا نأخذ وعينا بما يعنيه موضوع فيزيقي في العالم الفيزيقي إلى حد كبير جدًا على أنه مسلَّم به لأننا نكتسب هذه المعرفة في مرحلة مبكِّرة جدًا من الحياة، بالتأكيد قبل بزوغ اللغة. (Evans & Green, 2006 ,p 18.)

إلا أنه ينبغي لنا أن ندرك أن خطاطات الصورة ليست قاصرة على العلاقات الفضائية ‘‘داخل – خارج’’. بل إن ثمة خطاطات أخرى عديدة تلعب دورًا محوريًا في فهمنا الاستعاري للعالم. وهذه الخطاطات تستمد من تفاعلاتنا مع العالم: ذلك أننا نستكشف الأشياء الفيزيقية بملامستها؛ كما أننا نتحرك في هذا العالم؛ ومن ثم نعايش قوى فيزيقية تؤثِّر علينا، وكذلك نحاول أن نقاوم هذه القوى، كما هو حين نسير عكس الريح. إن تفاعلات من هذا النوع تقع بشكل متكرر في الخبرة الإنسانية. وهذه الخبرات الفيزيقية تولِّد ما يدعى خطاطات الصورة، وهكذا تبني خطاطات الصورة العديد من مفاهيمنا المجرَّدة استعاريًا. (Kovecses,2010, p 42)

ويقدِّم مارك جونسون تحليلاً بالغ الثراء للتدليل على كيف أن خطاطات الصورة تتغلغل في خطابات يومية عادية، وأنه لا يمكن التقاط منطق حجاج المتكلم داخل النص دون فهم البنية الاستعارية الأساسية غير القابلة للتخفيض، والتي تسبك مكوناته معًا. والقطعة التي سيتم تحليلها مأخوذة من

 ‘‘بشر مغتصبون’’ لتيم بينيك Tim Beneke's Men on Rape، وهي عبارة عن مجموعة مثيرة من المقابلات مع أطباء، ومحامين، ومُغتصِبين، ووكلاء نيابة، وأزواج عشاق، وضحايا الاغتصاب، وأناس من مهن أخرى متعلقة برؤاهم للاغتصاب. والمتكلم هو موظف متواضع في القطاع المالي لسان فرنسيسكو.

(‘‘دعونا نقول إنني أرى امرأة وأنها تبدو جميلة فعلًا، وأنها فعلًا رائقة ومثيرة جنسيًا، وأنها تتفجر بالأنوثة والإيقاعات الجنسية. أعتقد ‘‘يا للهول أنني سأحب أن أمارس الجنس معها’’ إلا إنني أعرف أنها غير مبالية حقًا. إنها إغاظة. فكثيرًا من الأحيان ما تعلم امرأة أنها ستبدو حقًا رائقة وتستخدم ذلك وتتباهى به، وتجعلني أشعر أنها تسخر مني وأشعر أنني منتقص من قدري، أتحول تمامًا. أتوقف عن أن أكون إنسانًا لأنني لو كان لي أن أمضي مع مشاعري الإنسانية فإنني سأرغب في أن أضع ذراعي حولها أو أن أقبِّلها، وإن فعلتُ ذلك سيكون غير مقبول. وأنا لا أحب الشعور المفترض فيه أن أقف هناك وأسلِّم وألا أكون قادرًا على أن أضمَّها أو أقبِّلها؛ لذلك فإنني أحوِّل مشاعري تمامًا. إنه شعور بالمهانة، لأن المرأة أجبرتني أن أحول مشاعري وأن أسلك بطريقة لا أريد فعلًا أن أسلك بها. ولو كنت فعليًا يائسًا بما يكفي لأن أغتصب إنسانة ما، فسيكون نتاج رغبة الشخص، إلا أنه سيكون أيضًا شيئًا مثيرًا للنقمة، مجرَّد أن أكون قادرًا أن أقول، ‘‘إنني أملك السيطرة عليك وأستطيع أن أفعل أي شيء أريده معك’’؛ لأنني أشعر فعلًا أنهن يملكن السيطرة عليَّ بمجرد حضورهن فحسب، فبمجرد حقيقة أنهن يستطعن أن يتوصلن إلي و يذيبنني تمامًا ويجعلنني أشعر أنني مثلي مثل المُغفَّل يجعلني أريد الانتقام. أنهن يملكن السيطرة عليَّ ولذا فإنني أريد السيطرة عليهن’’).

إن هذه القطعة من المقابلة تقدِّم بيانًا واضحًا ومؤثرًا لرؤية فرد ما للدوافع الممكنة لاغتصاب مُتخيَّل وليس متحققًا. إن القطعة مباشرة تمامًا بوصفها تفسيرات ترد، ولذا فمن السهل نسبيًا أن نفهم ما يحاول المتكلم أن يعبِّر عنه. ووفقًا لتفسير موضوعي النزعة، فإن معنى ما يثبته يمكن مبدئيًا، أن يكون مَّصرحًا به في سلسلة من المفاهيم والقضايا الحرفية. مُنحيين جانبًا التوجهات والحالات المزاجية أو العواطف المعبَّر عنها من قبل الموظف، ثمة فكرة لا بد من أن تكون خلاصة لمعنى ممكن الولوج إليه جماهيريًا، قابل للتخفيض إلى تلك المفاهيم والقضايا الحرفية، مع وظائف متنوعة أو أفعال كلام مؤداة على تلك القضايا. وأي شيء آخر قد يلعب دورًا في فهمنا لهذا النص فإنه متجاهل بوصفه غير متضمن في معنى ما يقوله.

لكن هذه الرؤية تعوق كلية فهمنا للمعنى الفعلى للخطاب. إنني أريد أن أقدِّم إعادة صياغة للمنطق المتضمن في تفسير الموظف لرؤيته للاغتصاب، لكي نعرض الزيادة في فهمنا الذي يصبح ممكنًا بمجاوزة الطروح المعيارية للمعنى. دعونا نستكشف بعض الصلات التي يجب أن نعقدها، أو نفترضها مسبقًا، لكي نلتقط هذه القطعة بوصفها كلًا ذا معنى، أعني أن نفهم ما يعنيه المتكلم. تتمثل هذه الصلات جزئيًا في فهمنا للإسقاطات الاستعارية المشتركة، جزئيًا في نماذج "شعبية" توفِّرها ثقافتنا لجوانب متنوعة من الواقع وجزئيًا في مدى عريض من البنى الخطاطية التي تنمو في خبرتنا غير القضوية المجسدنة. وهذه جميعًا جزء من فهمنا للقطعة موضع التناول – إنها من معناها. إنها ليست مجرد شروط لازمة للفهم (من قبيل ضرورة كوني مستيقظًا، قادرًا أن أقرأ، أو كوني لست تحت تأثير مخدرات مغيِّرة لحالتي العقلية). على سبيل المثال، قد تكون البنية الاستعارية المهيمنة العاملة في هذه القطعة هي أن الظهور الفيزيقي قوة فيزيقة، وهو مايتضمن إسقاط بنية من خبرتنا بتفاعلات الموضوعات الفيزيقية على خبرتنا بالدافعية والنشاط الجنسيين والتفاعل السببي. إن لدينا استعارة هنا، لأن ثمة ترسيمًا لبنية من (مجال انطلاق) (القوى الفيزيقية) على المجال المستهدف (مجال الوصول) (الظهور الفيزيقي). إن قضية "الظهور الفيزيقي قوة فيزيقية" يجب أن تعد كمجرَّد اسم لشبكة معقَّدة من الصلات في خبرتنا وفهمنا مُشكِّلة بهذا الترسيم عبر مجالات الخبرة.  بعبارة أخرى، إن الاستعارة نفسها ليست قابلة للتقليص إلى القضية التي نستخدمها لنسميها.

المظهر الفيزيقي قوة فيزيقية

          إنها مدمِّرة

          إنه وسيم بشدة.

          ستطرحك أرضًا.

          إنها مُشعة.

          أجده جذَّابٍا للغاية.

          إنها قنبلة.

         لقد كان مأسورًا بها.

في قطعة الاغتصاب استعارة المظهر الفيزيقي قوة فيزيقية متجلية في التعبيرات التالية:

... تتفجر بالأنوثة والإيقاعات الجنسية.

... من المفترض أن أقف وأسلِّم.

... أجبرتني المرأة أن أحوِّل مشاعري وأسلك.

... إنهن يملكن السيطرة عليَّ بمجرد حضورهن

مجرد حقيقة أنهن تستطعن أن تصبنني وتذبنني تمامًا...

والآن، في ظل خبرتنا وفهمنا لـلمظهر الفيزيقي كقوة فيزيقية، فإننا نستطيع أن نبدأ في أن نعمل عبر نموذج تفكير يجعل هذه القطعة سردًا قابلًا للفهم. إن الاستعارة تتضمن فهمنا للمظهر كقوة فيزيقية يمكنها أن تنتج تأثيرات سببية في العالم. فالمتكلم يفترض أن:

  • المرأة مسئولة عن مظهرها الفيزيقي
  • ويقرن هذا بالاستعارة
  • المظهر الفيزيقي قوة فيزيقية

ليحصل على:

  • المرأة مسئولة عن القوة التي تمارسها على الرجال

إننا نرى هذا في افتراضه أنها، حين تبدو مثيرة جنسيًا ("متفجرة بالأنوثة والإيقاعات الجنسية") تستخدم مظهرها الجنسي كقوة عليه. ("المرأة تعرف أنها تبدو حقًا رائقة وستستخدم ذلك و تتباهى به").

إن القوة الجنسية التي تمارسها المرأة تعد، وفقًا لنموذج شعبي للجنسية في ثقافتنا، بوصفها مُولِّدة لردود فعل طبيعية معينة في أولئك المتأثرين بتلك القوة. وبالتالي فإننا نحصل على الصلة:

  • العواطف الجنسية هي الاستجابة الطبيعية المتأثرة بقوة جنسية

زائد

-   أى أحد مستخدم لقوة مسئول عن تأثيرات تلك القوة

وهو ما يقود إلى

  • المرأة ذات المظهر الجنسي مسئولة عن استثارة مشاعر الرجل الجنسية.

كما يتحسر، "... أنهن يملكن سيطرة عليَّ بمجرد حضورهن". فإلى أين تقود هذه الإثارة الجنسية؟ إن الجواب حاضر بقبول المتكلم لنموذج شعبي آخر في ثقافتنا حول العلاقة بين العاطفة الجنسية والفعل أو رد الفعل اللاحق:

إن العاطفة الجنسية تسفر بشكل طبيعي عن نشاط جنسي.

 ("لأنني إذا ما مضيت مع مشاعري الإنسانية فإنني سأرغب أن أضع ذراعي حولها وأن أقبِّلها..."). وهذا يطرح مشكلة خطيرة له؛ لأنه يشاركنا التزامنا الأخلاقي الماثل في أن:

  • الفعل الجنسي ضد إرادة الشخص غير جائز.

(إنه يقر أنه إن سلك وفق رغبته في أن يقبِّلها "لن يكون مقبولًا")، وهو يستخلص من هذه المقدمة الأخلاقية أنه في مثل هذه الحالة: كيما يسلك بشكل أخلاقي، فلا بد له من أن يتحاشى النشاط الجنسي.

بيد أننا نعرف من نموذجنا الشعبي المرصود سلفًا عن الإثارة والاستجابة الجنسية أن النتيجة الطبيعية للعواطف الجنسية المثارة هي شكل ما من النشاط الجنسي، لذلك فإن الموظف يخلص بشكل معقول تمامًا إلى أن استجابته الأخلاقية الوحيدة يجب أن تتمثل في أن يقمع العواطف المتجاوزة التي قد تقود إلى نشاط جنسى غير أخلاقي، أو أن تجنب نشاط جنسى غير جائز يقتضي كبح العواطف الجنسية (كما يقول، "إنني لا أحب شعور أنه من المفترض أن أقف هناك وأسلِّم، وألا أكون قادرًا على أن أضمَّها أوأقبِّلها، لذا فإنني أحوّل مشاعري").

ونتاجًا لهذا، فإن المرأة التي تبدو مثيرة جنسيًا مسئولة عن إثارة مشاعره الجنسية (بآليات طبيعية)، وبسبب ذلك تضعه في وضع يجب عليه فيه أن يكبح هذه المشاعر إذا ما كان له أن يسلك بشكل أخلاقي. وهو يشرح، "إنه شعور بالمهانة؛ لأن المرأة أجبرتني أن أحول مشاعري وأسلك بطريقة لا أريد فعلًا أن أسلك بها"). إن المهانة التي يشعر بها الآن هي جزء من هذا الإحساس بأنه أصبح أقل إنسانية ("... أشعر إنني منتقص القدر...أشعر أيضًا أنني مجرَّد من إنسانيتى...أتوقف عن أن أكون إنسانًا"). هذا كله له معنى انطلاقًا من الافتراض السابق بأن العواطف الجنسية جزء من الطبيعة الإنسانية؛ بحيث إن كبح العواطف الجنسية يجعل المرء ناقص الإنسانية بشكل كامل. فعلى أساس هذه المعقولية (الأساس العقلي) يستطيع الموظف فعليًا أن يصل إلى أن يتأمل إمكانية الاغتصاب. فكما يستنتج بالفعل، المرأة ذات المظهر المثير جنسيًا تجعل الرجل الذي يسلك بشكل أخلاقي يصبح أقل من إنسان.

و هذا يُدرَك بوصفه جُرحًا مهدِّدًا لإنسانيته الكاملة، انتقاصًا غير مقبول لقدره. فنفس فكرة أن الاغتصاب من الممكن أن يكون مُبرَّرًا تستغله النظرية الشعبية للعين بالعين الخاصة بالعدالة العقابية المطروحة في الكتاب المقدس: فقط جرح مساوٍ في القدر ومساوٍ في النوع يمكن أن يعيد للعدالة التوازن. ونظرًا لأن الجرح المزعوم تضمن استخدام القوة الجنسية، فإنه يرى الاغتصاب كإمكانية للإنصاف الملائم:

ولو كنتُ فعليًا يائسًا بما يكفي لأن أغتصب إنسانة ما، فإنه سيكون من رغبة الشخص، إلا أنه سيكون أيضًا شيئًا مثيرًا للنقمة، كوني فحسب قادرًا أن أقول "إنني أملك السيطرة عليك، وأستطيع أن أفعل أي شيء أريده معكِ"؛ لأنني أشعر فعلًا أنهن يملكن السيطرة عليَّ بمجرد حضورهن فحسب. فبمجرد حقيقة أنهن تستطعن أن يتوصلن إلى و يذيبنني تمامًا ويجعلنني أشعر أنني مثلي مثل المُغفَّل تجعلني أريد الانتقام. إنهن يملكن السيطرة عليَّ، ولذا فإنني أريد السيطرة عليهن.(Johnson,1987,pp 5-9)

لا شك أن هذا التحليل يكشف كم يكون فهمنا الاستعاري غنيًا حين نعطي معنى حتى لأكثر الخطابات اعتيادية. وكيف تُشكِّل الاستعارات التصورية المباطنة، حتى إن كانت خطاطية، المنطق الحجاجي للخطاب. وهكذا، فإن نظرية الاستعارة التصورية تعتقد أن المفاهيم المجرَّدة يمكن ردها، على الأقل بشكل جزئي إلى خطاطات الصورة. (Evans & Green, 2..6 ,p 3.1)

مبدأ الثبات
إن مبدأ الثبات يعني في نظرية الاستعارة التصورية محافظة الترسيمات الاستعارية على الطوبولوجيا المعرفية (أي على بنية خطاطة الصورة) لمجال الانطلاق بصورة تتوافق مع البنية الملازمة لمجال الوصول.  إن ما يفعله (مبدأ الثبات) هو ضمان أنه بالنسبة لخطاطات الوعاء سيتم ترسيم الدواخل على الدواخل، والخوارج على الخوارج، والحدود على الحدود، كما أنه بالنسبة لخطاطات الطريق سيتم ترسيم نقاط الانطلاق على نقاط الانطلاق، والأهداف على الأهداف، والمسارات على المسارات وهكذا. ولكيما يفهم مبدأ الثبات فهمًا صحيحًا، من المهم ألا يتم تصور الترسيمات بوصفها عمليات حسابية Algorithmic processes «تبدأ» ببنية مجال الانطلاق وتنتهي ببنية مجال الوصول. أما مثل هذا الفهم المغلوط للترسيمات فسيفضي إلى فهم مغلوط لمبدأ الثبات، بمعنى أن المرء يلتقط أولاً كل البنية الخطاطية للصورة الخاصة بمجال الانطلاق، ثم يطبعها على مجال الوصول ما لم يتداخل مجال الوصول.

بل يفترض بدلاً من ذلك أن يفكر المرء في مبدأ الثبات من حيث هو قيود على تناظرات ثابتة: إذا نظر المرء إلى التناظرات القائمة سيرى أن مبدأ الثبات ينطبق: دواخل مجال الانطلاق تناظر دواخل مجال الوصول، وخوارج مجال الانطلاق تناظر خوارج مجال الوصول، وهكذا. وكنتاج لهذا، سيتكشف أن بنية الصورة الخطاطية لمجال الوصول لا يمكن أن تكون منتهكة: إذ لا يمكن للمرء أن يجد حالات يكون فيها داخل مجال انطلاق ما مُرسَّمًا على خارج مجال وصول ما، أو خارج مجال انطلاق ما مُرسَّمًا على مسار مجال وصول. فهذا ببساطة لا يحدث.

هيمنة مجال الوصول

إن النتيجة اللازمة عن مبدأ الثبات هي أن بنية خطاطة الصورة الملازمة في مجال الوصول لا يمكن أن يتم انتهاكها، وأن بنية مجال الوصول الملازمة تحد الإمكانيات الخاصة بالترسيمات أوتوماتيكيًا. إن هذا المبدأ العام يفسِّر عددًا كبيرًا من التحديدات المُبْهَمة من قبل عن الترسيمات الاستعارية. على سبيل المثال، إنه يفسِّر لماذا يمكنك أن تعطي شخصًا ما ركلة، حتى وإن كان ذلك الشخص لا يحتفظ بها فيما بعد، ولماذا يمكنك أن تعطي شخصًا ما معلومات حتى وإن كنتَ لا تفقدها. فهذا نتاج كون أن بنية مجال الوصول الملازمة تحد أوتوماتيكيًا ما يمكن أن يكون مُرسَّمًا. وعلى سبيل المثال، تأمل ذلك الجزء من معرفتك المتأصلة بالأفعال الذي يقول إن الأفعال انتقالات Actions are transfers المُمَفْهَمة فيها الأفعال بوصفها أشياء منقولة من فاعل An agent إلى متحمل A patient، كما هو عندما يعطي المرء شخصًا ما ركلة، أو لكمة. إننا نعلم (كجزء من معرفة مجال الوصول) أن فعلاً ما لا يوجد بعد أن يقع. وفي مجال الانطلاق، حيث ثمة إعطاء، يمتلك المتلقي The recipient الشيء المُعطَى بعد الإعطاء. لكن لا يمكن أن يتم ترسيم هذا على مجال الوصول بما أن البنية الملازمة لمجال الوصول تقول إنه لا شيء من هذا القبيل يوجد بعد أن ينتهي الفعل. إن هيمنة مجال الوصول داخل مبدأ الثبات تفسِّر لماذا يمكنك أن تعطي شخصًا ما ركلة دون احتفاظه بها فيما بعد. (Lakoff , 1993 , pp 215-216)

الإخفاء والإبراز

من ضمن مفاهيم نظرية الاستعارة التصورية ما يُعرف بمفهوم الإخفاء والإبراز، وهو مفهوم قائم على عملية تفاعلية يتكامل طرفاها، إذ يمكن القول إنه لا تكاد توجد استعارة يمكن أن يتم فيها إبراز كل مكونات المجال أو إخفاؤها. فالإبراز يقتضي بالضرورة الإخفاء؛ ومن ثم فإنهما يمضيان معًا جنبًا إلى جنب. وينطبق الإبراز على مجال الوصول، بينما ينطبق ما يطلق عليه كوفيكسز ‘‘التوظيف الاستعاري’’ على مجال الانطلاق. إذ تتسم المفاهيم عمومًا (الانطلاق والوصول على حد سواء) بعدد من الجوانب المختلفة. ومن ثم؛ فإنه حين يُرسَّم مجال انطلاق ما على مجال وصول ما، تكون فقط بعض (وليس كل) جوانب مجال الوصول هي المدفوعة للبروز. وهو ما يعني أنه حين تُبرِز الاستعارة جانبًا أوجانبين أو ثلاثة من مفهوم ما، تتواري وتختفي الجوانب الأخرى من المفهوم. ومن ثم، وكما سبق أن قلنا، فإن الإبراز والإخفاء يقتضي أحدهما الآخر. ولنتأمل بعض استعارات الحِجاج أو الجدل:

الحجة وعاء: حجتك مليئة بالمحتوى.

ما هو لب حجته؟

الحجاج رحلة: سنمضي بأسلوب الخطوة خطوة.

لقد قطعنا شوطًا طويلاً.

الحجاج حرب: لقد كسب الجدل. لم أستطع أن أدافع عن هذه النقطة.

الحجاج بناء: لقد بنت حجة صلبة. لقد وضعنا أساسًا قويًا للحجة.

إن هذه الاستعارات تُبرز عددًا من جوانب مفهوم الحِجاج أو الجدل. فهي تتناول قضية محتوى الحجة، وأساسية الدعاوى أو القضايا، والتقدم المتحقق، ومن يسيطر على الحجاج، وبنائه، وقوته. وفي ظل هذه الأمثلة يمكن القول إن:

 استعارة الوعاء تبرز محتوى الحجة وأساسيته.

استعارة الرحلة تركِّز على التقدم والمحتوى.

استعارة الحرب تركِّز على قضية السيطرة على الحجة.

استعارة البناء تركِّز على جوانب بناء الحجة وقوتها.

وكما يمكن أن نرى، فإن هذه الاستعارات أبرزت جوانب مُعيَّنة من الحجة في الوقت الذي أخفت فيه جوانب أخرى. على سبيل المثال، فإن استعارة الوعاء وهي تبرز قضية المحتوى وأساسيته، تخفي جوانب أخرى مثل التقدم، والسيطرة، والبناء، والقوة. وهكذا بالنسبة لبقية الاستعارات فيما تبرزه وتخفيه. (Kovecses,2010, pp 91-92)

أحادية الاتجاه ونظرية التفاعل
ووفقًا للنظرية التصورية القياسية للاستعارة، فإن الترسيم دومًا، على نحو ما يقول برشلونة، يكون أحادي الاتجاه unidirectional: حيث يكون مجال الانطلاق مُسقطًا على مجال الوصول، بينما لا يكون مُرسَّمًا في الوقت ذاته على مجال الانطلاق. ولهذا السبب، لا توجد إسقاطات استعارية متزامنة ثنائية الاتجاه طبقًا لهذه النظرية. وهذا يمثِّل اختلافًا مهمًا بين النظرية التصورية للاستعارة ونظريات أخرى مثل نظرية التفاعل لدى بلاك (Barcelona, 2003, pp 6-7). وفي هذا السياق يعلِّق ليكوف وتيرنر على نظرية التفاعل بأنها نشأت من ملاحظة صحيحة. فلتفترض أن مجال الانطلاق ومجال الوصول مرتبطان باستعارة عرفية. وأن الحديث عن مجال الانطلاق وحده يمكن أن يستدعي إلى الذهن مجال الوصول. إذ يمكن، على سبيل المثال، أن يقود نقاش طويل عن رحلة ما المرء إلى أن يتأمل مسار حياته. إلا أنه في ظل النظرية التصورية للاستعارة لا يعد هذا غريبًا على الإطلاق: إذ حين تصبح العلاقات الاستعارية عرفية، فإنها يمكن أن تصبح نشطة عبر نقاش مجال الوصول وحده. ومن ثم فإن النقاش عن رحلة مُعيَّنة يمكن أن يُنشِّط أو يحفِّز استعارة الحياة رحلة، مُسفرًا عن ترسيم لا واعٍ دونما جهد لجوانب الرحلة موضع النقاش على جوانب حياة المرء.

وللأسف، وفق ما يرى ليكوف وتيرنر، فإن هذه الظاهرة الحقيقية جدًا تم تحليلها تحليلاً خاطئًا على النحو التالي: إن مجال الوصول موصوف بوصفه ‘‘يحتوي’’ مجال الانطلاق، ومن ثم يتم الزعم بأن الاستعارة ثنائية الاتجاه ـــــــــــــ من مجال الوصول إلى مجال الانطلاق، وكذلك من مجال الانطلاق إلى مجال الوصول. إلا أنه، وفق هذه النظرية، لا يوجد انطلاق أو وصول. وإنما توجد فقط صلة عبر المجالات، من خلال رؤية أحد المفهومين عبر مرشِّح أو مصفاة الآخر. وهذا هو الخطأ في هذا التحليل كما يرى ليكوف وتيرنر.

إذ إننا حين نفهم أن الحياة رحلة نبني الحياة بناء على الرحلة، ونرسِّم على مجال الحياة البنية الاستدلالية المرتبطة بالرحلات. إلا أننا لا نرسِّم على مجال الرحلات البنية الاستدلالية المرتبطة بمجال الحياة. على سبيل المثال، إننا لا نفهم بموجب ذلك أن الرحلات لها أعضاء تستيقظ وتنام، كما يفعل الأحياء. كما أننا لا نستنتج أنه، مثلما أننا لا نستطيع أن نخوض سوى حياة واحدة، أن المسافر كذلك لا يمكنه سوى أن يقوم برحلة واحدة. إننا نرسِّم في اتجاه واحد فقط، من مجال الانطلاق الخاص بالرحلات على مجال الوصول الخاص بالحياة. إن نظرية التفاعل تفترض أننا في قولنا إن الحياة رحلة، نقارن فحسب المجالين في كلا الاتجاهين ونلتقط التشابهات. ويُعلِّق ليكوف وتيرنر، بأنه إذا كان الأمر على هذا النحو، فإنه ينبغي أن تمضي لغتنا هي الأخرى على نفس النهج، أي أن تمضي في كلا الاتجاهين كذلك. إذ ينبغي أن نتحدث عن الرحلات عرفيًا بلغة الحياة، فندعو حينئذٍ الصعود على ظهر السفينة ‘‘ميلادًا’’، والرحيل أو المغادرة ‘‘موتًا’’. بمعنى أننا قد نتصور أنه يمكننا حين نقوم برحلة أن يقول المرء شيئًا من قبيل ‘‘لقد ولِدت’’، قاصدين بذلك أنه قد ‘‘بدأ رحلته’’. وبما أن الترسيم الاستعاري دائمًا ما يكون جزئيًا، فإننا لا نتوقع بالضرورة تغطية كل هذه الجوانب، وإنما نتوقع بعضًا منها فحسب.

وقد تشترك استعارتان مختلفتان في مجالين لكنهما تختلفان في أي منهما يكون مجال الانطلاق ومجال الوصول، كما تختلفان فيما هي الجوانب التي يتم ترسيمها على الأخرى. ويمكن أن نلمس هذا في حالات مثل البشر آلات، كما هو لدى إليوت في الأرض الخراب:

 في ساعة الغسق، حين ترتفع العينان والظهر

عن المكتب، حين تنتظر الآلة البشرية

كسيارة أجرة ينبض محرِّكها وهو ينتظر

(Lakoff & Turner , 1989 , pp 131-132)

إذ نجد هنا الآلة مستعارة للإنسان، والإنسان مستعار للآلة.

وكما يرى ليكوف وتيرنر، إننا نستطيع أن نتخيل بسهولة، على سبيل المثال، قصيدة حول علاقة إنسان بحاسوبه، يُمثَّل فيها الإنسان استعاريًا انطلاقًا من آلته، وتُمثَّل فيها الآلة استعاريًا انطلاقًا من مُستخدِمها الإنساني. إلا أننا سنكون هنا إزاء استخدام لاستعارتين تصوريتين مختلفتين تشغِّلان ترسيمات مختلفة. (Lakoff & Turner , 1989 , p 133) ومن ثم؛ فإننا لا نكون هنا إزاء ترسيم ثنائي الاتجاه وإنما إزاء ترسيمين مختلفين على مستوى الانطلاق والوصول وعلى مستوى العناصر التي يتم ترسيمها. وللمزيد من الإيضاح، فلنعاين بعض التعبيرات الرائجة في العامية المصرية، على كل من استعارة:

الآلات بشر

الكومبيوتر ده حد مسلَّطه علي

العربية ديه بتشتغل بمزاجها

العربيه مزرجنه، مش عايزه تدور

حيث من الواضح هنا أننا إزاء إسقاط واضح وترسيم لخصائص إنسانية ــــــــــ تتضمن الإرادة، والوعي، والتآمر ــــــــــ على الآلة، بمعنى أن مجال الانطلاق لفهم أداء الآلة هنا هو الإنسان، مما يؤكِّد هنا أننا إزاء استعارة هي الآلات بشر.

واستعارة البشر آلات

مصطفى عبده ده ماله، ده المجري (في إشارة إلى قطار مجري الصنع)

علي ده صاروخ

مخه كومبيوتر

إننا في هذه الأمثلة نجد العكس، إذ نجد أن بعض خصائص الآلات مثل السرعة، والقوة، والعمل، والدقة هي المُسقَطة والمُرسَّمة على البشر.

وفي هذا السياق، تعلق إيفانز و جرين، بأنه على الرغم من أن هاتين الاستعارتين تبدوانِ وكأنهما صورة مرآوية معكوسة لبعضهما البعض، فإن الفحص الدقيق يكشف أن كل استعارة منهما تتضمن ترسيمات متمايزة؛ ذلك أننا في استعارة الآلات بشر، نجد فكرة الرغبة والمشيئة هي المرسَّمة على الآلة، في حين أنه في استعارة البشر آلات نجد الخصائص الآلية والوظيفية المرتبطة بالحواسيب ترسِّم على البشر، مثل السرعة، والكفاءة، والبنية الكلية لأجزائها. وهو ما يظهر أنه حتى حين تشترك استعارتان في المجالين ذاتهما، تكون كل استعارة منهما متمايزة في طبيعتها لأنها تتكيء على ترسيمات مختلفة. (Evans & Green, 2006 , p 297)

ومع ذلك، وعلى الرغم من تماسك نقد ليكوف وتيرنر لنظرية التفاعل، فإننا نجد لغويين معرفيين آخرين يرون أن ثمة حالات يكون فيها الترسيم ثنائي الاتجاه، وإن كان من منطلقات لا علاقة لها على الإطلاق بنظرية التفاعل، وإنما ترتبط باتجاه حديث ضمن اللغويات المعرفية يصنِّف الاستعارة والكناية بوصفهما حالتين خاصتين من آليات الترسيم الذهني الأعم، وهو ما يتمثَّل في نظرية ‘‘التوليف’’ the theory of "blending'' أو الدمج التصوري conceptual integration التي هي عبارة عن توسيع وتمديد لعمل فوكونير المبكر حول الفضاءات الذهنية، والتي قام بتطويرها هو ومارك تيرنر. وبصورة موجزة، فإن هذه النظرية الجديدة تحاول أن تفسِّر كيف يحافظ المتكلمون والسامعون على مسار القيم المرجعية ويبنون استدلالات جديدة على امتداد الخطاب، وغالبًا بواسطة بناء مجالات أو ‘‘توليفات’’ تصورية مؤقتة. وفي الحقيقة، فإن هذه المقاربة الجديدة ليست متوافقة مع نظرية المجالين القياسيين للاستعارة التي تم رسم معالمها أعلاه؛ لأنها تفترضها سلفًا. ومع ذلك، فيبدو أنها تفسِّر بشكل أكثر دقة توظيف الاستعارة والكناية في الخطاب. وتزعم هذه المقاربة بشكل أساس أنه في الترسيم التصوري، كما يجري في الخطاب، يتم ترسيم مجالي الانطلاق والوصول (أو فضاءات المُدخَلات"، كما تُدعَى) على "فضاء توليفي" a "blended space"، أو "توليف" "blend" لا تُعد بنيته التصورية مشتقة بشكل كامل من كلا فضائي المُدخَلات. كما يوجد أيضًا "فضاء جامع" رابع a fourth "generic space"، يحوي بنية تصورية هيكلية مأخوذة لتُطبَّق على كل من مجالي الانطلاق والوصول. إن نظرية التوليف أو "نموذج الفضاءات المتعددة"، كما تُدعَى أيضًا، مُصمَّمة لتفسِّر، ليس فقط الاستعارة والكناية، لكن أيضًا المفارقة والعديد من الظواهر الأخرى.

إن عمل تيرنر وفوكونير يضع في منظور جديد الدعوى المُشترَكة داخل النظرية التصورية للاستعارة والكناية  القائلة إن الترسيمات الاستعارية أحادية الاتجاه، أي أنهما يتحركان فقط من مجال الانطلاق إلى مجال الوصول، ويشيران إلى وجود الإسقاطات المتعدَّدة. كما أن تيرنر وفوكونير لا يدافعان عن عودة نظريات التفاعل الخاصة بالاستعارة. وعلى الرغم من أن الإسقاطات تمضي من كلا المُدخَلين إلى التوليف، إلا أنها تُسقِط من التوليف على مجال الوصول، وليس على مجال الانطلاق. ومن المؤكَّد أن ثمة إمكانيات تنشأ لإسقاط بعض الاستدلالات العائدة إلى مجال الانطلاق، إلا أنها تمثِّل حالات خاصة. ولذلك، كلما تناولت نظرية الدمج الاستعارة، فإنها تعرض نسخة منقَّحة من فرضية أحادية الاتجاه في النظرية القياسية للاستعارة والكناية. (Barcelona2003,pp 7-8))

نظرية الاستعارة الميتة
إن أحد أسباب عدم قبول بعض المنظرين أن اللغة اليومية العادية استعارية بامتياز، هو أنهم يعتقدون أن كل الاستعارات التصورية (العرفية) ليست سوى استعارات ‘‘ميتة’’، أي أنها لم تعد استعارات، هذا على الرغم من أنها كانت فيما مضى استعارات. ويشكِّل هذا الموقف، الذي يفشل في أن يميز بين الاستعارات التصورية (العرفية) التي هي جزء لا يتجزأ من نسقنا التصوري الحي، والاستعارات التاريخية التي مضى على موتها زمن بعيد، موقف نظرية الاستعارة الميتة.

ولنفترض أننا إزاء كلمة مثل ‘‘ذهب’’ في تعبير مثل ‘‘تقريبًا ذهب’’، مُستخدَمة حول شخص يحتضر. إن أنصار نظرية الاستعارة الميتة سيزعمون أن ‘‘ذهب’’  ليست الآن استعارة، مع أنها كانت كذلك فيما مضى.إلا أن أحد معاني ‘‘ذهب’’ ببساطة هو أنه قد أصبح ‘‘ميتًا’’.

إن الخطأ يأتي من خلط أساس: يفترض أن تلك الأشياء التي تكون حية وناشطة في نسقنا المعرفي لا بد من أن تكون واعية. هذا في حين أن الواقع على العكس من ذلك تمامًا، إذ إن تلك الأشياء التي تكون أكثر حيوية ورسوخًا، وفعالية، وقوة هي تلك التي تكون آلية جدًا إلى حد أنها تبدو لا واعية وتلقائية للغاية. ففهمنا للحياة بوصفها رحلة نشط وواسع الانتشار، إلا أنه تلقائي ولا واعٍ. وأحد الأدلة على وجود الاستعارات التصورية بصورة حية وفعالة في نسقنا المعرفي هو شيوعها في الإبداعات الأدبية الشعرية والروائية. ذلك أنه لو لم تكن تلك الاستعارات توجد أصلاً في أنساقنا التصورية، لما كان يمكننا أن نفهم اللغة الشعرية والروائية غير العرفية التي توظِّفها.

ومع ذلك، فإن ما يجعل نظرية الاستعارة الميتة قابلة للتصديق لدى البعض هو أنه توجد بالفعل تعبيرات كانت استعارية فيما مضى ولم تعد كذلك اليوم. إن كلمة ''pedigree'' ‘‘شجرة النسب’’، على سبيل المثال، أتت من الكلمة الفرنسية ''pied de grue'' التي تعني ‘‘قدم الغرنوق’’. لقد كانت قائمة على استعارة صورة image-metaphor رسَّمت صورة قدم الغرنوق على شكل شجرة العائلة. إن استعارة الصورة تلك لم تعد موجودة في المستوى التصوري، وفي المستوى اللغوي لا نستخدم ‘‘شجرة النسب’’ ''pedigree'' لتعني ‘‘قدم الغرنوق’’ . إن هذه الكلمة تمثِّل بالفعل استعارة ميتة على كلا المستويين: التصوري، واللغوي.

هذا في حين أنه يمكن أن توجد استعارات أخرى ميتة في مستوى واحد فقط. ولنقارن على سبيل المثال كلمتي ''comprehend'' ‘‘يستوعب’’، و''grasp" ‘‘يلقط’’. وسنجد أن ثمة استعارة تصورية مازالت حيَّة إلى اليوم، يُنظَر فيها إلى الفهم على أنه التقاط، وأننا نستخدم كلمة ‘‘يلقط’’ بمعنى يفهم. وتوجد الاستعارة التصورية ذاتها في اللاتينية، حيث كان يُقصد بكلمة ''comprehendere'' في الأساس يلقط، ومن خلال التمديد الاستعاري أصبحت تعني يفهم. وقد أصبحت تُستخدَم الآن فقط بدلالتها الاستعارية؛ بينما أصبحت دلالتها المركزية السابقة بالنسبة إلينا ميتة. لكن الاستعارة التصورية القديمة مازالت حيَّة، مع أنها غير مُستخدَمة في هذه الكلمة.

إلا أن تحديد إذا ما كانت استعارة مُعيَّنة ميتة أو أنها فحسب عرفية على نحو لا واعٍ لا يكون دومًا مسألة سهلة. إذ إنه قد يقتضي، ضمن أشياء أخرى، البحث عن تجليها النسقي في اللغة ككل، وفي أنماط تفكيرنا اليومية. ومع ذلك، فإنه توجد كثرة وافرة من الحالات الواضحة للاستعارات التصورية العرفية الحية، مئات الحالات التي تكفي بالتأكيد للتدليل على أن كونها عرفية وثابتة لا يتطلب ولا يقتضي أن تكون ميتة.

وأما سبب انتشار نظرية الاستعارة الميتة على هذا النحو العريض فيفسِّره ليكوف وتيرنر بأنه نتاج شيوع واستقرار نظرية المعنى الحرفي. إذ وفق نظرية المعنى الحرفي، لا يمكن للتعبيرات العرفية الاعتيادية أن تكون استعارية. ولذا، إذا بدا تعبير ما وكأنه استعارة في حين أنه جزء من اللغة العرفية المعتادة، فإنه لا يمكن أن يكون استعارة، نظرًا لكون اللغة العرفية المعتادة كلها حرفية. إلا أن هذا لا يستبعد إمكانية أنه كان ذات يوم استعارة ثم أصبح حرفيًا. إن هذا هو التفسير الوحيد الممكن لدى نظرية المعنى الحرفي لتعليل لماذا يمكن أن يبدو تعبير حرفي وكأنه استعارة. ومن يسلِّم بالطبع بنظرية المعنى الحرفي، لا بد له من أن يسلِّم أيضًا بنظرية الاستعارة الميتة بوصفها لازمة عنها ومترتبة عليها. (Lakoff & Turner , 1989 , pp 128-13.)

الاستعارة التصورية واللاوعي المعرفي
إن أحد الاكتشافات التي لعبت دورًا مهمًا في دراسة الاستعارات التصورية يتمثَّل فيما كشفه العلم المعرفي من الجيل الثاني للدور الفعال للاوعي المعرفي في عمل واشتغال استعاراتنا التصورية.

إذ يخبرنا ليكوف أن العلم المعرفي، أو علم العقل قد رفع الغطاء عن مساحة شاسعة من التفكير اللا واعي، وأن 98 في المائة من تفكيرنا تؤديها أمخاخنا دون أن تكون منتبهة لما تقوم به. ومع ذلك، فإن معظمنا، كما يقول، قد ورث نظرية للعقل ترتد على أقل تقدير إلى عصر التنوير. إن نظرية العقل التنويري هذه ترى أن العقل واعٍ، وحرفي، ومنطقي، وغير انفعالي، وغير مُجَسْدَن، وكلي، ويعمل لكي يخدم مصالحنا. إلا أن ما يكشفه لنا العلم المعرفي اليومي هو أن هذه النظرية للعقل الإنساني زائفة في كل تفصيلة من تفصيلاتها، إلا أنها، مع ذلك مازالت مستمرة. (Lakoff , 2008, p 3) إلا أن المشكل يتمثَّل في أننا لا نستطيع أن نملك انتباهًا واعيًا مباشرًا لمعظم ما يدور في أذهاننا، حتى بما في ذلك الاستبطان الفينومينولوجي، ولذا فإن التفكير الواعي ليس سوى الرأس لجبل الجليد المهول المتمثل في اللاوعي المعرفي. وهكذا، فإن اللاوعي المعرفي، كما يرى ليكوف وجونسون، واسع النطاق ومبني بناءً معقدًا. ذلك أنه لا يشمل فقط كل عملياتنا المعرفية الآلية، وإنما أيضًا معرفتنا الضمنية. بل إن جميع معرفتنا ومعتقداتنا مؤطَّرة بناءً على نسقنا التصوري الذي يقطن في معظمه اللاوعي المعرفي.

إن نسقنا التصوري اللاواعي يعمل مثل ‘‘يد خفية’’ تشكِّل كيف نُمَفْهِم كل جوانب خبرتنا. وهذه اليد الخفية هي التي تعطي الشكل للميتافيزيقا التي تكون مبنية في أنساقنا التصورية العادية. وهي التي تخلق الكيانات التي تقطن اللاوعي المعرفي، أي تلك الكيانات المجرَّدة مثل الصداقة، والحب، والصفقات، والإخفقات، والأكاذيب التي نستخدمها في التفكير اللاواعي الاعتيادي. وبالتالي، فإنها تشكِّل كيف نستوعب أوتوماتيكيًا وبشكل لا واعٍ ما نَخْبُره. إنها بكلمة واحدة هي ما يشكِّل حسنا العام المتسرع.

إن هذا يتجلى في العديد من الخبرات، وكمثال على ذلك، دعونا نعاين فهمنا المشترك للذات، وكيف أنه مبني من خلال استعارات تصورية. إذ كثيرًا ما نُمَفْهم ذاتنا انطلاقًا من منظور الصراع بين جزئين منفصلين، أو أكثر من جزء، من ذاتنا، لكل منها قيمه المختلفة. وأحيانًا نتصور ذاتنا ‘‘الأعلى’’ (الأخلاقية والعاقلة) وهي تصارع لكي تسيطر على ذاتنا ‘‘الأدنى’’ (اللا عاقلة واللا أخلاقية).

إن تصورنا للذات في مثل هذه الحالات استعاري بصورة أساسية. إذ إننا نُمَفْهِم ذواتنا بوصفها منقسمة إلى كيانين منفصلين يمكن أن يكونا في حرب، ومنخرطين في صراع للسيطرة على سلوكنا الجسدي. إن هذا التصور الاستعاري متجذر تجذرًا عميقًا في أنساقنا التصورية اللاواعية، وبدرجة كبيرة جدًا إلى حد أنه يتطلب جهدًا أو استبصارًا لافتًا لرؤية كيف يعمل كأساس لتفكيرنا في ذواتنا.

وكذلك، فإننا حين نحاول أن نجد ‘‘ذاتنا الحقيقية’’، عادة ما نستخدم مَفْهَمة استعارية أخرى لاواعية. وهناك عشرات ومئات الأمثلة على هذه التصورات الاستعارية وما يصاحبها من استعارت تصورية. فحين نفكِّر في كيف لنا أن نتحكم في ذواتنا، أو كيف لنا أن نحمي ‘‘ذاتنا الداخلية’’ الهشة، أو كيف لنا أن نجد ‘‘ذاتنا الحقيقية’’، فإن اليد الخفية للنسق التصوري اللا واعي هي ما يجعل مثل هذا التفكير ‘‘حسًا مشتركًا’’، ويجعله ممكنًا. (Lakoff & Johnson , 1999, pp 12-13)

قيمة وخطورة الاستعارة
لكن إلى أي مدى تعد الاستعارة مهمة وذات قيمة في حياتنا، وإلى أي مدى تعد دراستها مهمة؟

إن أفضل جواب على هذا السؤال، على نحو ما ينبئنا كوفيكسز يمكن أن نجده في أسطورة أوديب:

  إن أوديب يصل إلى طيبة حيث يجد وحشًا يُدعى سفنكس يحمي الطريق إلى المدينة، يطرح ألغازه على كل العابرين إلى طيبة ويلتهم كل من لا يستطيع أن يحل اللغز. وإلى أن أتى أوديب كان قد التهم كل من مروا عليه لفشلهم في حل اللغز. ويأتي أوديب ويسأله سفنكس: من هو الحيوان الذي له أربع أقدام في الصباح، واثنان في الظهيرة، وثلاثة في المساء؟ ودونما تردد، يجيبه أوديب: إنه الإنسان، الذي يحبو على أربع وهو رضيع، والذي يمشي منتصبًا حين يكتمل نموه، والذي يستند على عصا في شيخوخته. وهنا يُهزَم سفنكس ويقتل نفسه. ويصبح أوديب ملكًا على طيبة. والسؤال هنا كيف استطاع أن يجيب على الأقل بسبب معرفته بالاستعارة التصورية. ذلك أنه توجد استعارتان هنا تعملان في حل اللغز. الأولى استعارة حياة الإنسان يوم. ولا بد أن تكون التناظرات  القائمة بين مجال الوصول أي مفهوم الحياة وبين مجال الانطلاق اليوم قد ساعدته في التوصل للجواب. إن الصباح يماثل مرحلة الرضاعة، والظهيرة تماثل مرحلة النضج، والمساء يماثل مرحلة الشيخوخة. ولأنه يعرف هذه الترسيمات فقد استطاع أن يقدِّم الجواب الصحيح. أما الاستعارة الثانية التي يمكن أن تكون قد لعبت دورًا، وإن كان يمكن أن تبدو أقل أهمية، فهي استعارة  الحياة الإنسانية رحلة. وهذه الاستعارة يستدعيها الذكر المتكرر للقدم؛ ومن ثم الدور المهم الذي تلعبه القدم في اللغز. إن القدم تستدعي مفهوم الرحلة الذي يمكن أن يقدِّم مفتاحًا للحل الناجح للغز عبر استعارة الحياة الإنسانية رحلة. ولعل حقيقة أن جزءًا من قصة حياة أوديب في الأسطورة تتخذ شكل الرحلة.

وهكذا، لعله يمكن القول إن حياة أوديب قد أنقذت جزئيًا على الأقل في هذا الموقف بسبب معرفته بالاستعارة. (Kovecses,2010, p 11)  إلا أن ما لم يقله زولتان على أهميته وهو مضمن أيضًا في الحكاية هو أن معرفة الإنسان لنفسه لا تتأتى له إلا من خلال الاستعارة.

وهكذا، وكما يتبدى من خلال العديد من الدراسات المعرفية، فإن الاستعارة ليست مقصورة على الخطابات الأدبية والسياسية دون ما سواها، على نحو ما قد توهم الطروح التقليدية للبلاغة، وإنما تتغلغل في العديد من الخطابات اليومية والمهنية، فضلاً عن تغلغلها في العديد من الأنساق الإنسانية غير اللغوية مثل التنظيم الاجتماعي، والممارسات الاجتماعية والشعائرية، والأساطير والأحلام، والإيماء الجسدي، والأخلاق والسياسة، والسياسة الخارجية، والإعلانات، وسواها. إنها، بعبارة واحدة كلية الوجود؛ وذلك لكونها ليست مجرد ظاهرة لغوية أو معطى لغوي، وإنما آلية معرفية أصيلة للإدراك، والتفكير والخيال الإنساني.  

لقد حاولنا في هذا العرض أن نقدِّم أبرز ملامح النظرية التصورية للاستعارة انطلاقًا من أدبيات الدلاليات المعرفية المعاصرة، ولعلنا لا نغالي إذا ما قلنا إن هذه الأخيرة قد شكَّلت ثورة في نطاق الدرس الدلالي بعد أن كان أسير الرؤى الشكلية والتوليدية القاحلة والفقيرة، وإن كان يمكن القول إن فقر هذه الرؤى تحديدًا هو ما طرح التحدي أمام رواد هذا المجال ممن كانوا ينتمون في مبتدا مسارهم المهني إلى هذه المدارس الشكلية والتوليدية.  كما يمكن القول بالقدر ذاته إن الانطلاق من ظاهرة الاستعارة تحديدًا كان له دور فاعل في توسيع مجال الرؤية، والتحول في دراسة الدلاليات من مجرد الوقوف على حدود الظاهرة اللغوية إلى ظواهر أبعد مدى تتجاوز النسق اللغوي إلى ما سواه من الأنساق المعرفية والعلاماتية الأخرى. وإذا كنا قد اقتصرنا هنا على استعراض أدبيات الاستعارة التصورية في التراث الغربي المعاصر فقط، دون عقد أية مقارنات مع التراث العربي، فإن هذا لم يكن إلا لدواعي عدم تشويش القارئ، والتدرج الذي يقتضي تقديم النظرية في صورتها المتماسكة أولاً، تمهيدًا لعقد أية مقارنات ممكنة مع تراث مختلف في سياقه التاريخي، والاجتماعي، والثقافي.

 

المراجع

ـــــــــــــــ

Barcelona, Antonio (2003) Metaphor and Metonymy at the Crossroads: A Cognitive Perspective. Berlin: Mouton de Gruyter.

Derrida, Jacques (1982) , Margins of Philosophy, translated  by Alan Boss , Chicago :University Of Chicago Press.

Evans, Vyvyan & Melanie Green. (2006) Cognitive Linguistics. An Introduction. Edinburgh: Edinburgh University Press. 

Gibbs, Raymond W. (1994) The Poetics of Mind. Cambridge: Cambridge University

Press.

Johnson , Mark (1987) The Body In The Mind :The Bodily Basis of Meaning, Imagination, and Reason , Chicago & London: The University of Chicago press.

Kittay, E. F.(1987) Metaphor, Its Cognitive Force and Linguistic Structure, Oxford : Oxford University Press. 

Kövecses, Zoltán (2010) Metaphor: A Practical Introduction. Oxford: Oxford University Press.

Lakoff, George (1993) ‘The contemporary theory of metaphor’, in A. Ortony (ed.), Metaphor and Thought, 2nd ed. Cambridge: Cambridge University Press.

Lakoff, George (2008) The Political Mind: Why You Can't Understand 21st-century Politics with an 18th-century Brain, New York : Viking Adult.

Lakoff, George and Mark Johnson (1980) Metaphors We Live By. Chicago: Chicago University Press.

Lakoff, George and Mark Johnson (1999) Philosophy in the Flesh: The Embodied Mind and Its Challenge to Western Thought. New York: Basic Books

Lakoff, George and Mark Turner (1989) More than Cool Reason: A Field Guide to Poetic Metaphor. Chicago: University of Chicago Press.

Mark Johnson ( 2007), The Meaning of the Body: Aesthetics of Human Understanding. Mark Johnson, Chicago & London: University of Chicago Press.

Ricoeur, Paul (1977) , The Rule of Metaphor: Multi-disciplinary Studies of the Creation of Meaning in Language, Translated by Robert Czerny, Toronto : University of Toronto Press.