يتناول الباحث المغربي مجموعة «سيرة رهاب متعدد» وما تضيئه لنا من فهم للرهاب أو الخوف كدافع أساسي للغوص في أغوار النفس البشرية من ناحية، وما تطرحه بنيتها من إشكاليات جمالية من ناحية أخرى تتصل بتجنيس الكتاب المزدوج بين السيرة والقصة، لأن ما سيُحكى من خلال القصص يتصل بتجارب الذات الكاتبة.

جمالية الحكي السيري .. الميثاق والرؤية

في قصص «رهاب متعدد» لعبد اللطيف محفوظ

عبد المجيب رحمون

 

الـــرهاب وجمالية الإبداع
يضطلع الإبداع الأدبي بكثير من الأهمية، لكونه يخاطب العقلَ والوجدانَ، عبر استثماره لتجاربَ إنسانية شخصية أثرت في صاحبها فألهمته، وفجرت لدية موهبة الإبداع؛ في هذا الإطار نجد المجموعة القصصية السيرية "رهاب متعدد" لعبد اللطيف محفوظ[1]، ويلخص هذا العمل جانباً من طفولة الكاتب ويحكيها بشكل جعلها تتميز بالجد، والشغب، والتطلع إلى مستقبل مخملي. وقد دارت جل أحداث السيرة في مدينة فاس خلال الستينيات، والسبعينيات من القرن الماضي؛ وما يميز هذا العمل أنه يخاطب طفولة كل قارئ، الأمر الذي يتيح لنا أن نتحدث عن التماثل أو التناظر بصفتها خاصية علمية رياضية، استدعت وحققت خاصية أخرى يتطلبها الإبداع، ونقصد بها الأثر »باعتباره العنصر السائد في القصة وهو الطاقة المحركة فيها، أو الحرارة التي تفرق بين الموت الحياة»[2].

إن كلا من التناظر والأثر قد جعلا من المجموعة القصصية فضاءً يتيح للقارئ أن يتذكر ماضيه البعيد، ويحن إليه، فيتمنى العودة إلى طفولته. وعلى الرغم من اختلاف الظروف والأزمنة والسياقات، يظل معطى واحد يسم الطفولة هو الرغبة في التحرر وخوض المغامرات. لكن هذه العودة إلى الماضي والعيش في أحضانه أساسها نفسي، ومتعتها عابرة سرعان ما تصير حسرةً أمام متغيرات الواقع الذي يحيط بنا.

يُقسم عبد اللطيف محفوظ عمله الفني إلى ست قصص سيرية تمحورت حول موضوعة موحدة جسدها "الرُهاب" "La phobie" بوصفه شعوراً نفسياً يقيد حركة الشخص، ويعيق سلوكه الطبيعي، ويظهره بمظهر المتوتر الخائف، لأنه يدل على معضلة نفسية لها ارتباط بالوجود الإنساني[3]. و السيرة في جملتها تتصل بالأدب في علاقته بالنفس البشرية حيث يتجلى اللاوعي المكبوت في شكل مكاشفات صريحة، لأن «العلاقة بين الأدب والنفس لا تحتاج إلى إثبات؛ لأنه ليس هناك من ينكرها [...] إن النفس تصنع الأدب، وكذلك يصنع الأدب النفس. النفس تجمع أطراف الحياة لكي تصنع منها الأدب، والأدب يرتاد حقائق الحياة لكي يضيء جوانب النفس»[4].

إن رهاب الطفل "عبد اللطيف" يرتبط بوقائع وأماكن مخصوصة، وهي مختلفة لكن ما يوحد بينها، أنها ذات صلة باللعب، أو الفرجة، أو الرغبة في متعة محرمة، وكان بعضها ناتجا عن شغب طفولي يبدو أنه كان ملاذاً لتحقيق الذات، وأحياناً لإبراز البطولة «وفي اليوم المحدد لبداية تنفيذ الخطة، وحال انتهاء الحصة المسائية الأولى، وخروج الأستاذ، استشرت زميلي عبد الجليل في أمر تكسير المصابيح، فأعجبه الصنيع دون أن يسألني عن السبب، فأعلنت الأمر على الجميع»[5]. لكن كل التجارب والبطولات التي خاضها السارد؛ كانت لها نتائج قاسية على مساره «منذ ذلك اليوم، غيرت طريقي، فأضفت مساراً جديدا جعل طريقي أبعد بربع ساعة عن منزلي، صرت أرافق صديقي في المحنة حتى ساحة البطحاء، ثم أتجه إلى بيتنا. وهكذا صرت أخشى حتى الرفقة أو السلام»[6].

بالعودة إلى السيرة القصصية نجد شعوراً بالخوف يرتبط في كليته بأحداث واقعية تتمظهر بشكل مختلف منها ما تم تخصيصه وتسميته مثل "رهاب الماء"، "رهاب أصص النوافذ"، "رهاب التحرش"، ومنها ما ارتبط بأحداث جرت في أماكن  معينة : "ملعب الحسن الثاني"، "حامة مولاي يعقوب"، "كنت أريد أن أصير جنرالا". لقد مثلت هذه الأحداث منعطفاً حاسماً في شخصية السارد فوجهت حياته، ورسمت له خريطة التعامل مع الواقع؛ حيث استطاع بدون سلطة أسرية، أو تربوية مراقبة أن يرفع مستوى الحذر لديه، والخوف المبرر من خطر محتمل يجنبه الأسوأ[7]. وبالمقابل استمتع بفوائد الخسارات والمآسي؛ «بعد سنين [....] اكتشفت أن في طي نقمة فقدان نصف السمع نعمة لا تقر في وطن يقل فيه احترام الآخرين [....] ومن يومها لم أعد إلى حامة مولاي يعقوب، ولم أسأل أحداً عن سر عاهته، ولم أسمح لعيني بأن تركز على موطن خلل باد على إنسان»[8]. كما تمكن من تبني مواقف صارمة؛ «منذ ذلك الوقت لم أعد إلى ملعب الحسن الثاني، كما لم أعد أسمح لمشاعري بأن تورطني في صداقة ما أبدية»[9].

يُشكل الرهاب أو الخوف دافعاً أساسيا للأبحاث النفسية، وتظل معالجته، قضية تربوية بالأساس، ألهمت عدداً كبيراً من المربين تقديم ملاحظات ونصائح قيمة في هذا المجال[10]، نذكر من بينها مجهودات "سيغموند فرويد"، في كتابة "التحليل النفسي لرهاب الأطفال"، وكيف ساعدته حالة طفل مصاب بـ"رهاب الحصان" بتطوير أبحاثه والوقوف على الجوانب الخفية في الحياة الجنسية للأطفال[11]. من هذا المنطلق يمكن اعتبار مرض الرهاب، أو خوف الطفل بمثابة شعور يتجلى في وجود خطر محتمل،[12] وقد وسم الحكاية بميسم الانسيابية، وحقق وظيفتين: الإمتاع والإبلاغ؛ الأولى من خلال جمالية اللغة، وأسلوب الاستطراد، والثانية من خلال تمكن العمل من نفس القارئ؛ حيث تَمَظْهَرَ الإقناع ــ بوصفه من مستلزمات الخطاب الحجاجي المؤثرـــ بشكل جلي في لغة الحياة الصادقة، ومن هنا يمكن القول إن الرهاب قد شكل مظهراً من مظاهر الإبداع، كما شكل خطاباً إنسانياً استقى منه الكاتب تجربة تسعفه في التعامل مع الواقع، «بعد تلك الواقعة، انضاف إلى رهاب حكي وقائع التحرش أمام الأهل، ومرافقة الزميلات، رهاب التحرش بعابرات مجهولات، ومن يومها لم أعد أتحرش بأنثى ما لم تتخلق بيننا ألفة عفوية، تلطف التحرش ليصير غزلا أو استلطافاً»[13].

ميثاق الكتابة ولذة القراءة:
ينطلق المؤلف من تجربة واقعية عاشها في طفولته، ويبدو أنه كان صادقاً، بدليل عدم التفافه على موضوع الجنس. وعلى الرغم من عدم تسلسل أحداث فصول السيرة، فإنها تنتظم حول موضوعات محددة، تتساوق مع ما تفرضه خصوصيات حياة الطفولة، وتنسجم بفضل حضورها في شكل قصصي يسوغ الاختلاف والتماهي بعدها باعتبار أن القصة «مجموعة من الأحداث يرويها الكاتب [...] وتتناول حادثة أو عدة حوادث، تتعلق بشخصيات إنسانية مختلفة، تتباين أساليب عيشها وتصرفها في الحياة، على غرار ما تتباين حياة الناس على وجه الأرض. ويكون نصيبها في القصة متفاوتا من حيث التأثر والتأثير ومهمة القاص تنحصر في نقل القارئ الى حياة القصة، بحيث يتيح له الاندماج التام في حوادثها، ويحمله على الاعتراف بصدق التفاعل الذي يحدث بين الشخصيات والحوادث »[14].

عند قراءة "سيرة رهاب متعدد"؛ تصاحب النص في أحداثه الممتعة والشيقة، فتجد نفسك مشاكلا لذلك القارئ الذي تحدث عنه أحد الباحثين بقوله: «حينما يولد النص الأدبي، ويستوي خلقا كامل الملامح، فإن كينونته تستوجب قارئاً يحتضنه برفق، ويحاوره بدراية، فتنشأ علاقة حميمية بينهما، [...]، وعندها فقط يغوص القارئ في لذة قرائية ممتعة وسط جو خصب تتبلور ضمنه القيم الجمالية بكل آفاقها»[15]. وهي اللذة نفسها التي عبر عنها "رولان بارت" في حديثه عن علاقة النص بالقراءة «من هنا يكون ثمة نظامان للقراءة: قراءة تذهب رأساً إلى مفاصل القصة وتأخذ بعين الاعتبار امتداد النص، وتجهل ألاعيب اللغة [..] أما القراءة الأخرى فلا تغفل شيئا، بل تزن النص وتلتصق به، وتنهمك في عملها بجد وحماس، إن صح القول، وتدرك في كل نقطة من النص انقطاعات الوصل التي تقطع اللغات لا القصة»[16].

يؤكد تجنيس الكتاب المزدوج بين السيرة والقصة «قصص من سيرة الطفولة»، أن القالب الفني الشكلي المعتمد يتصل بالشكل القصصي، وأن ما سيُحكى من خلال القصص يتصل بتجارب الذات الكاتبة، وبذلك  كنا أمام جنسين متداخلين؛ الأول يقوم على التطابق كما عرفه "فيليب لوجون"، بينما يقوم  الثاني على سرد أحداث متناسقة وفق نظام منطقي، أو سببي، محدود في الزمن، ومجسد عبر عدد قليل من الصفحات، ولعل السؤال الذي يتبادر إلى الذهن يكمن في دواعي هذا التجنيس الملتبس هل كان مقصوداً فقط لاعتبارات جمالية ترتبط بوعي الكاتب؟ بما يلائم طبيعة الحكايات، أم أيضا مرتبطا بإكراهات موضوعاتية اقتضت فصل الحكايات عن بعضها البعض؟، مع ضمها في مجموعة واحدة توحدها موضوعة الرهاب.

بالنسبة للتجنيس الثانوي للمجموعة الذي تمثل في ربط محتوياتها بالسيرة الذاتية، فقد أبرم عقداً بين الكاتب والقارئ وجعل القراءة موجهة نحو اكتشاف ما هو حقيقي بدون الحاجة إلى تأويل، على خلاف ما تستدعيه الرواية التي صارت توليفة من الأجناس الملتبسة بين الكتابة التي تخلط السيري بالروائي، والذاتي بالتخييلي، ولاشك أن ميثاق القراءة الذي يوطد علاقة القارئ بالكاتب قد تحققت أهم بنوده في سيرة "رهاب متعدد" خصوصا ما سماه "فيليب لوجون" بالتطابق الذي «يتحدد انطلاقا من ثلاثة مصطلحات: المؤلف، السارد، والشخصية. فالسارد والشخصية هما الصورتان اللتان تحيل إليهما داخل النص ذات التلفظ، وذات الملفوظ، والمؤلف، الممثل في حاشية النص عن طريق اسمه، هو إذن المرجع الذي تحيل إليه انطلاقا من ميثاق السيرة الذاتية، ذات التلفظ»[17]. باعتبار السيرة الذاتية «حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته، بصفة خاصة، [..] ومن بين ما يعرض له هذا الحد؛ وضعية المؤلف التي تحيل على مفهوم التطابق بين الشخصية الواقعية والسارد، ووضعية السارد حيث تطابق السارد بالشخصية الرئيسية»[18].

بالعودة إلى نصوص السيرة نتأكد من أن التطابق المطلوب بين المؤلف والسارد والشخصية قد تمثل جلياً في هذا العمل، استناداً إلى التعاقد الأول  من جهة؛ ونقصد به تصريح الكاتب، منذ البداية،  بأنه يكتب عن طفولته، ومن جهة أخرى  التزامه بالشرط الذي يخضع لميثاق السيرة الذاتية، وهكذا رفع هذا الالتزام بالشرط التعاقدي من منسوب الثقة في النص وتحققت المتعة، أو اللذة النصية، بحيث إن «فعل القراءة الذي يحمل في ثناياه رغبة ملحة في التمتع بعطايا النص يدفع القارئ إلى استشعار تلك الرغبة الخفية التي تحقق التجارب بينه وبين النص والتي تفضي في النهاية إلى تذوق النص والانجذاب نحوه، وهذه العملية ليست وليدة الصدفة وإنما تخضع لمجموعة من الشروط، قد لا يكون المبدع نفسه واعيا بها، وإنما يتمثل لها تلقائيا، فيحرص على مراعاة أصناف المتلقين ومستوياتهم المعرفية في الخطاب، كما يمحور لغته في الصورة التي يستقبلها القارئ برؤية واضحة»[19].

 

باحث من المغرب

 

الهوامش والمراجع

 

[1] ـ دار الفاصلة للنشر، طنجة، الطبعة الأولى، 2020

[2] ـ يوسف نجم، فن القصة، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1955، ص: 11.

[3]ـTRUJILLO, Celia Rosa Camilli et RODRIGUEZ, Anadela. Fobia social y terapia cognitivo-conductual: definición, evaluación y tratamiento. In :ANALES de la Universidad Metropolitana. Universidad Metropolitana, 2008, p :117.   

[4]ـ عز الدين إسماعيل، التفسير النفسي للأدب، دار غريب، القاهرة، الطبعة الرابعة، ص: 05.

[5] ـ رهاب متعدد، ص: 115.

[6] ـ نفسه، ص: 112.

[7]ـ BINET, Alfred. La peur chez les enfants. L'année psychologique, 1895, vol. 2, no 1, p. 227.

[8] ـ رهاب متعدد، ص:62 ــ 63.

[9] ــ نفسه، ص: 42.

[11]- يرجع إلى الكتاب: "التحليل النفسي لرهاب الأطفال هانز الصغير"، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى 1984.

[12]ـ BINET, Alfred, op.cit, p : 226.

[13]ـ رهاب متعدد، ص: 122.

[14] ـ يوسف نجم، فن القصة، م.م، ص: 07.

[15]ـ طارق ثابث، وصونية بوعبدالله، اللذة القرائية بين سخاء المبدع وتمنع النص، حولية كلية اللغة العربية بنين بـجرجا، جامعة الأزهر، العدد 23، الجزء الثالث، ص: 2796. عن الموقع الإلكتروني: https://journals.ekb.eg/article_36079.html تاريخ الزيارة، 29 مارس 2021، الساعة، 00.30 ليلا.

[16]ـ لذة النص، ترجمة فؤاد صفا والحسين سبحان، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى 1999، الدار البيضاء، ص: 20-21.

[17]ـ فيليب لوجون، السيرة الذاتية "الميثاق والتاريخ الأدبي"، ترجمة وتقديم عمر حلي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1994،               ص: 51ــ 52.

[18]ــ نفسه، ص: 22.

[19] ـ طارق ثابث، وصونية بوعبدالله، مرجع مذكور، ص: 2811.