يرى الباحث المغربي أن تعدد المناهج الأدبية يعكس البناء المتعدد والمركب لمستويات النص بأبعاده اللغوية والسيميائية والدلالية والنفسية والاجتماعية والتاريخية. لذلك تعددت المناهج الأدبية بخلفياتها المعلنة والخفية لدراسة النص الأدبي. ويؤكد أن النقد الثقافي يتميز بتكامل مقاربته باعتماد رؤية تركيبية، تتناول الأبعاد المختلفة للنص، قصد تفكيكه وتحليله بمنهج متكامل.

جدلية النقد الأدبي والنقد الثقافي

المصطفى رياني

 

تقديم
يتميز النص الأدبي بسلطته المؤثرة وجاذبيته الخطابية والجمالية التي تجعل المتلقي يتفاعل معه، ليس كنص مجرد، ولكن كخطاب تتعدد مستوياته لرؤية العالم وقيمه الإنسانية، حاملا أنساقا ثقافية متعددة تخاطب المتلقي وتأثر في قراءته للنص وتعبر عن الواقع بتناقضاته المختلفة، وفق استراتيجية نسقية تهدف إلى إعادة إنتاج الواقع أو تغييره. وذلك وفق المقاصد التي يصبو إلى تحقيقها كل من النص والمؤلف. ومتى فقد النص قيمته الأدبية والجمالية يكون قد فقد تأثيره وتفاعله مع المتلقي. لكن ما هو النص الأدبي؟ وما هي سلطته المفترضة؟ وكيف يمارسها على الناقد باعتباره متلقيا نوعيا؟ إلى أي حد نجح النقد الأدبي والثقافي في مقاربة النص الأدبي تفكيكا وتحليلا وبناءا بأبعاده المتعددة؟

ذلك ما سنحاول الإجابة عنه عبر مقاربة النص الأدبي وخطابه النقدي من منظور جدلية النقد الأدبي والنقد الثقافي. بحيث بالرغم من المجهودات التي قام بها النقد الأدبي بمناهجه المتعددة، فإنه ظل مع ذلك يعاني من أحادية البعد واختزال النص الأدبي ببنياته اللغوية والدلالية المتعددة.

- 1النص الأدبي كخطاب ثقافي
النص الأدبي هو خطاب إبداعي وجمالي له عمقه الثقافي والاجتماعي يقوم به في المجتمع، ولا يمكن تفكيك استراتيجيات النص إلا في علاقة جدلية ومركبة مع المؤلف والمتلقي. يقول الناقد الفرنسي رولان بارت: "وقد أوكل الأدب لنفسه مهمة سابقة عن كل رسالة، هي الإطلاع إطلاعا مباشرا على وضعية الناس المعتكفين داخل لسانهم، وطبقتهم، وديانتهم، ومهنتهم وميراثهم أو داخل تاريخهم."[1]. وهذا عكس كتابة الزخرفة اللغوية التي تختزل وظيفتها في صناعة الشكل وتختفي في اللغة بحيث تغيب الوظيفة الاجتماعية للأدب. ويقدم لنا رولان بارث أمثلة لكتاب فرنسيين اشتغلوا على الشكل وزخرفة اللغة كمالارميه وبول فاليري اللذان يمثلان نموذج الكتابة الصامتة أو درجة الصفر من الكتابة.

كما يشكل المتخيل واللغة في الكتابة دورا أساسيا في العملية الإبداعية بحيث يشكلان مجموع التمثلات والتطلعات في علاقتها بالواقع بين ما هو كائن وما يجب أن يكون. فالكتابة باعتبارها خلق وإبداع، لا يمكن عزلها أو إبعادها عن محيطها وواقعها العام التي تتنفس به، بالرغم من المسافة التي تفصل الكاتب عن الواقع عبر طريقة اشتغاله على النص وطبيعة العلاقة التي يقيمها مع اللغة الأدبية، لأن المتخيل يتشابك بطريقة متعددة ومتداخلة مع الذاكرة والماضي والواقع متأثرا بحضوره وثقله برموزه ودلالاته. فيصبح هاجس الكتابة، هو تناول الواقع معالجة وتحليلا وتفكيكا، من خلال النص الذي لا يخلو من الإحالة الصريحة أو الضمنية، لما يعيشه الإنسان من تجارب ومعاناة، وفي نفس الوقت التعبير عن عالم ممكن ومغاير كأفق للكتابة وغاياتها المفترضة.

وقد شكلت الأحداث الكبرى التي عرفها العالم منعطفات حاسمة عند المفكرين والكتاب والأدباء من أجل الخلق والإبداع في مختلف الأجناس الأدبية، بالرغم من اختلاف منطلقاتهم الفكرية والأدبية، لتتمخض عنها أعمال أدبية وفنية رفيعة طبعت تاريخ البشرية إلى الأبد. وقد تناولت الوجود الإنساني في شروطه الاجتماعية وعلاقات الصراع القائمة في المجتمع والتطلع نحو الحرية أو من خلال معالجة قضايا الإنسان في علاقته بشرطه البشري، كالحياة والموت والأمل وفي وضعيات مختلفة كالسلم والحرب أو فيما يتعلق بالمشاعر الإنسانية كالسعادة والحزن والحب والكراهية.

 2 - سلطة الأنساق الثقافية في النص الأدبي:
يقول رولان بارث في كتابه النقدي " نقد وحقيقة": "النص مصنوع من كتابات مضاعفة. وهو نتيجة لثقافات متعددة، تدخل كلها بعضها مع بعض في حوار، ومحاكاة صاخرة وتعارض. ولكن ثمة مكان تجتمع فيه هذه التعددية. وهذا المكان ليس الكاتب، كما قيل إلى الوقت الحاضر، إنه القارئ."[2]. بهذا الشكل يتضح أن رولان بارث أعطى للنص والقارئ دورا مركزيا حين أعلن عن تجاوز الكاتب وتغييبه، بهدف إعلاء شأن النص الأدبي ولغته الأدبية كعلامات دالة على المعنى العميق والمتعدد. وكذلك إعلاء شأن القارئ وأهميته في التعامل مع النص، لكن من منظور بنيوي لساني، يبعد دور المؤلف ومعلنا عن موته واستبداله باللغة التي ملأت وجوده. فأصبح النص بلغته وأساليبه موضوعا ومجالا للنقد البنيوي.

لكن النقد الثقافي سيجعل الكتابة الإبداعية تنفتح على الواقع، ليتضمن النص مختلف التعبيرات والآراء والأفكار المتفاعلة والمتصارعة بطريقة موضوعية. تعطيه في نفس الوقت الدينامية والحيوية والجمالية المطلوبة. في هذا السياق عكست الكتابة الإبداعية المعاصرة متخيلا ووعيا إبداعيا مغايرا ومتمردا على جميع من كان سببا في تدمير الإنسان كالسريالية والوجودية لجون بول سارتر واندريه مالرو وسيمون دو بوفوار والواقعية وارتباطها بالتعبير عن القضايا المصيرية للإنسان في أبعاده المختلفة.

وبذلك عمل الإبداع الفكري والأدبي على إعادة صياغة الوعي المعاصر على أسس إنسانية جديدة، بحيث يتناول الوجود الإنساني ويدعو إلى الحرية والعدل والسلم والعيش المشترك ورفض الحرب والتسلح. وهذا يدل أن الإبداع الحقيقي يتفاعل بشكل جدلي مع واقعه الثقافي العام وأنساقه المختلفة، حتى وإن اعتمد الكاتب كتابة لغوية مكثفة ورمزية مليئة بالاستعارة والغموض، باعتبار النص يظل دوما منفتحا على القراءة المتعددة وتأويل المتلقي، للإفصاح عن المعنى العميق لبنيته اللغوية وقصديته، وكذلك الكشف عن قصدية الكاتب المعلنة أو الضمنية وامتداداتها الفكرية والثقافية والاجتماعية.

3 – الإبداع الأدبي والنقد الثقافي:
بالرغم من واقع التشيء والتسليع التي تميز مجتمعنا الراهن، فقد عرف حركة نقدية واسعة من طرف الأدباء والكتاب الذين فرضوا وجودهم في الواقع العنيد للمجتمع الرأسمالي. واخترقوا حواجزه وكسروا ضوابطه وجاؤوا من هامش المجتمع لينتزعوا اعترافا وطنيا أو دوليا ويخلدوا أسماءهم في الذاكرة الأدبية والفكرية الرفيعة أمثال الأدباء الروس كدوستويفسكي في روايته "الإخوة كارامازوف" وماكسيم كوركي في روايته الخالدة "الأم". هذا بالإضافة إلى أعمال ليو تولستوي في روايته الشهيرة "الحرب والسلم". يتعلق الأمر بكثير من الكتاب والأدباء، وعلى سبيل المثال لا الحصر، الأديب الفرنسي فكتور هوكو في روايته "البؤساء" وبلزاك في روايته "الأب غوريو" وزولا في روايته "جرمنال" ومارسيل بروست في روايته "البحث عن الزمن الضائع". أما الأدب المعاصر فالكاتب العالمي كغابرييل غارسيا ماركيز يعتبر رائد الواقعية السحرية بحيث تناول في روايته "مائة عام من العزلة" قضايا الواقع بعمق وجمالية نادرة.

أما عربيا فقد تألق في الأدب الروائي أسماء عديدة لها وزنها الأدبي الرفيع كعبد الرحمن منيف في خماسيته "مدن الملح" والسوري حنا مينا ومن المغرب كل من محمد برادة ومحمد خير الدين وإدريس الشرايبي. هؤلاء الكتاب وغيرهم أبدعوا نصوصا روائية متميزة، تخاطب الذوق الرفيع وتؤسس لقارئ جديد، يشارك في تفكيك الواقع الاستهلاكي المنحط والبناء الضمني لعالم جديد مختلف ومغاير.

كما يعتبر الكاتب الفلسطيني إدوار سعيد من بين الكتاب العالميين الذين تميزوا بكتاباتهم الفكرية والنقدية المتميزة والنوعية، في انسجام تام مع مواقفه المدافعة عن القضية الفلسطينية، باعتبارها قضية عادلة[3]. تعكس إرادة التحرر من الاحتلال الصهيوني وحق العودة لجميع الفلسطينيين وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس. وقد عانى إدوار سعيد كثيرا من العنصرية ومن اللوبي الصهيوني بالولايات المتحدة الأمريكية. في نفس السياق عرف المغرب كثيرا من الأدباء الذين تألقوا وانطلقوا من الهامش، ليصل إبداعهم إلى العالمية بواسطة ترجمة إبداعاتهم إلى لغات عديدة، ومن بينهم عبد الكبير الخطيبي وعبد اللطيف اللعبي ومحمد زفزاف ومحمد برادة ومحمد شكري ومحمد خير الدين والطاهر بنجلون. كما يعد إبداعهم الأدبي إبداعا مغايرا يفكك سيميائيا ونقديا الواقع المغربي المركب بموروثه الثقافي الغني والمتعدد، بالرغم من التقاليد والظروف الاجتماعية الصعبة. ويعتبر عبد الكبير الخطيبي من الكتاب والأدباء الذين أسسوا كتابة إبداعية نوعية تتميز بعمق النص ودلالته الرمزية التي تحفر عميقا في الذاكرة الفردية والجماعية للكاتب، سابرا أغوار الأبعاد الدلالية للشخصيات والأحداث في الزمان والمكان وما تكتنزه من أسرار ومعاني. كما تعتبر روايته "الذاكرة الموشومة"[4] عالما فرديا وجماعيا غنيا بالذكريات يستعصي على الزمان محوها لأنها تظل موشومة باعتبارها ممارسة ثقافية راسخة في التقاليد العريقة للمجتمع المغربي.

4 - المناهج النقدية الأدبية والنقد الثقافي:
عرف النقد الأدبي المعاصر تعددا في مناهجه وتطورا كميا ونوعيا باختلاف مدارسه ومناهجه بهدف تحليل وتفكيك النص الأدبي الذي يتميز بسمكه وعمقه بمختلف بنياته اللغوية والتركيبية والدلالية. فالمواضيع المعالجة والرؤية الفكرية والفنية والجمالية تشكل روح العمل الأدبي وخطابه الموجه للمتلقي. وهذا يبين أن تعدد المناهج الأدبية يعكس البناء المتعدد والمركب لمستويات النص بأبعاده اللغوية والسيميائية والدلالية والنفسية والاجتماعية والتاريخية. لذلك تعددت المناهج الأدبية بخلفياتها المعلنة والخفية لدراسة النص الأدبي لتقييمه والحكم على قيمته الأدبية والجمالية والقضايا التي يتناولها.

وقد اختلفت المناهج الأدبية في تصوراتها للنص الأدبي ما بين اعتباره نصا مغلقا يكتفي بذاته كالمنهج البنيوي، أما المنهج النفسي والاجتماعي والتاريخي فيعتبر النص الأدبي نصا منفتحا علي محيطه الاجتماعي والتاريخي. يعكس ويعبر عن قضايا المجتمع بأدوات أدبية وجمالية تنهل من تجارب الواقع المجتمعي وماضيه وحاضره ومستقبله.

لكن هذه المناهج تناولت النص الأدبي بشكل مختزل إلى بعد أحادي من أبعاده المتعددة. فالمنهج البنيوي تناول النص كبنية لغوية وسيميائية، وما تنتجه من دلالة ومعنى، بحيث تأثر هذا المنهج بالدراسات اللسانية لمدرسة الشكلانيين الروس ومدرسة براغ والمدرسة الفرنسية، وما ستعرفه الدراسات النقدية من طفرة في مجال تحليل الخطاب والسيميائيات والسرديات. أعطت مركزية كبرى للنص وبنيته الداخلية، اللغوية والدلالية على حساب البنيات الخارجية وأبعادها الدلالية، معلنة موت الكاتب وتغييبه للحد من سلطته وإعلاء من سلطة النص والقارئ.

أما المنهج الاجتماعي والتاريخي، فقد تناول النص الأدبي في بعده الاجتماعي والتاريخي، باعتباره يعكس القضايا الاجتماعية بطريقة إبداعية، باعتماد اللغة الأدبية. ويعتبر الأدب مرآة للمجتمع، يعالج مشاكله وتناقضاته المختلفة وفئاته الاجتماعية. وبذلك يعطي هذا المنهج أسبقية للبنية الاجتماعية ودورها في تحديد أسئلة الكتابة والإبداع في تفاعل جدلي مع الواقع. لكن النقد الثقافي سيتميز بتكامل مقاربته باعتماد رؤية تركيبية، تتناول الأبعاد المختلفة للنص، قصد تفكيكه وتحليله بمنهج متكامل يسائل مختلف بنياته اللغوية والسيميائية والاجتماعية والتاريخية، بحثا عن المعنى المتعدد للقراءة وأنساقها المختلفة والتي تعكس غنى النص وأهمية الكاتب والمتلقي بدون تغريب وتهميش أي طرف منهم.[5]

خاتمة
إذا كان النص الأدبي يمارس سلطته بتعدد أبعاده، ويفرض على الناقد اعتماد مقاربة نقدية متعددة، فإن النقد الثقافي يجعل النص في علاقة جدلية مع ذاته كبنية لغوية تركيبية وسيميائية وسردية. وكذلك في علاقة تفاعلية مع القارئ وبنيته الثقافية والاجتماعية والتاريخية، بدون خلفية اختزالية تحد من حرية النص وامتداداته التأويلية، مع ما يفترضه من تعدد القراءات والفهم والتأويل، بضوابط منطقية ومنهجية. تساعد على تفكيك وتحليل البنيات والأنساق العميقة، بحثا عن الدلالة والمعنى التي يخفيها النص، في تشابك المقاصد والخطابات المتعددة التي يزخر بها. تعكس رهانات كل من المؤلف والنص وإستراتيجيتهما لإعادة إنتاج الواقع أو تغييره حسب طبيعة الرؤية الإبداعية التي ينطلق منها المبدع وإستراتيجيته الثقافية. لكن القارئ يمارس سلطته التأويلية، أيضا، وفق فهمه وتفسيره للنص في ارتباط مع سياقه السوسيوثقافي واستراتيجيته القرائية.

 

أستاذ باحث في الآداب والترجمة، طنجة، المغرب

 

* المراجع :

1- بارت، رولان، الكتابة في درجة الصفر، ترجمة محمد نديم، مركز الإنماء الحضري، الطبعة الأولى، حلب، سوريا، 2002. ص.107

2 - بارت، رولان، نقد وحقيقة، ترجمة منذر عياشي، مركز النماء الحضاري، الطبعة الأولى، حلب، سوريا، 1994. ص 24.

3- إدوار سعيد، الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة محمد عناني، رؤية للنشر والكتاب، 2006، القاهرة، مصر.

4 - Khatibi, Abdelkebir. (1971). La mémoire tatouée. Collection : Lettres Nouvelles. Première édition. Denoël. Paris. France.

5 - عبد الله محمد الغذامي، النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة،

 الدار البيضاء، المغرب، 2005.

6 - الموسوي محسن، النظرية والنقد الثقافي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة ألأولى، 2005.

7 - عبد الله ابراهيم، سعيد الغانمي، علي عواد، مدخل الى المناهج الحديثة، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، الدار

 البيضاء، المغرب، 1996.

8 - بيير جيرو، السيميائيات: دراسة الأنساق السيميائية غير اللغوية، ترجمة منذر عياشي، دار نينوى، الطبعة الأولى،

 دمشق، سوريا، 2016.