اختارت الفنانة التونسية ريم سعد عنوانا دالا لمعرضها التشكيلي الذي أقيم في جربة التونسية، الفنانة التونسية التي تشكّل من الفسيفساء المائية عينا حارسة لتونس وتستمد لوحاتها من صميم عمق المكان والإنسان الذي يشاركها ملهاتها الفنية، هنا تقرير يستعرض موضوعات لوحاتها وانشغالاتها الفنية وأهم القضايا التي تثيرها وأهمها تعاقب الثقافات.

عشرون ألف مكان تحت الجلد

 

تحت عنوان "عشرون ألف مكان تحت الجلد" أقامت الفنانة التشكيلية والباحثة التونسية ريم سعد مؤخرا معرضا فرديا في الفضاء الثقافي فندق الفن بجربة حومة السوق (جنوب تونس) استعرضت من خلاله باكورة أعمالها الفنية التي تستخدم فيها تقنية الألوان المائية المستبطنة، وهي تقنية مبتكرة شكّلت من خلالها الفنانة التونسية الشابة عشرين لوحة فسيفسائية مائية لخّصت من خلالها تعاقب الثقافات والحضارات على تونس.

وتقول سعد إن عملها على تشكيل لوحاتها المائية الفسيفسائية التي تعرضها للمرّة الأولى، استغرق منها ما يزيد عن خمس سنوات من العمل المتواصل.

وهي تهتمّ في لوحاتها بمسألتيْن مركزيتيْن هما التراث وما هو جيني في الإنسان، موضّحة "أستهدف في لوحاتي الإنسان وما يحيط به من تراث وثقافات".

وتقول عن المعرض "وجد الفنان نفسه وحيدا خاصة بعد جائحة كورونا، ومع هذا فأنا أتشبّث بفني وأسعى لترجمة مبدأ الحق في الثقافة إلى واقع يومي ملموس، وذلك من خلال المعارض التي أشتغل عليها أو تلك التي أقدّمها في الساحات العامة".

والفنانة المؤسسة لمشروع "شمعدان للورشات المتنقّلة" تفضل الشوارع والأماكن العامة للاتصال المباشر مع الجمهور دون حدود ولا جدران، وذلك في سعي منها لإشعار المتلقي باعتباره شكلا قويا من أشكال التعبير بضرورة إحداث التغيير المنشود لمجتمع أكثر وعيا وانفتاحا، وهي تودّ أن تُرى ملصقاتها كل من منظوره وتصوّراته وتأويله، حيث تعتمد سعد على التواصل مع الناس عبر استفساراتهم عن ملصقات "العين" التي ما انفكت ترسمها في لوحاتها بحسب تأويلاتهم الخاصة.

وتجمع العين التي استنسختها سعد في عدد من الملصقات ذات الأحجام المختلفة والتصميمات المتعدّدة ألوان أفريقيا وضوء البحر المتوسط، كما تكتنز درجات ألوانها كوكب الأرض بمختلف تنوّعات سكانه وأعراقهم وأعرافهم واختلافاتهم.

ومعلوم أن صورة العين تحمل عدّة دلالات ورمزيات حسب الثقافات والحضارات الإنسانية المتعاقبة، حيث وردت في السجلات التاريخية المصرية والكلدانية واليونانية والفارسية إشارات تفيد بأن هذه الشعوب عرفت العين الشريرة وحاربت أذاها بشتى الوسائل والطرق.

إلاّ أنها ارتبطت في الذاكرة الشعبية العربية بفكرة الحسد أكثر من أي شيء آخر، حيث عرف العرب الحسد وإصابة العين منذ عصر الجاهلية وحتى اليوم، لهذا تفنّنوا في ابتداع الوسائل الواقية من الشرور والأذى التي تجلبها العين الحاسدة.

فلا غرو إذن أن تكون العين مصدر قوة وأن تظل راسخة محمّلة بالدلالات في ضمير الإنسان منذ القديم وحتى اليوم، ولا بأس في أن ترسمها سعد في تصميمات مختلفة الأحجام والألوان وتوزّعها ذات اليمين وذات الشمال في كل زقاق وشارع بتونس التي تودّ لها الفنانة أن تكون خير حارس للثقافة والفنون.

وهي في ذلك تناشد القائمين على الشؤون الثقافية بتونس بأن يعتمدوا سياسات ديناميكية مندمجة لا تقصي ولا تبعد أحدا "تُعلي مبدأ الثقافة التضامنية وتقرّ بالحقوق والحريات الفردية والعامة وتدفع الفنانين وتدعمهم، وتواكب مختلف أعمالهم الفنية، وتدفعهم نحو المزيد من الإبداع، فالدولة التي تتخلى عن الفنان، تتخلى عن الحياة".

وعن "شمعدان" تقول "هو مشروع فني يصبح فيه الفضاء، كل الفضاء، ملكا للمواطن والفنان على حد سواء، فيشتركان في ألوانه ونمط حياته ومن ثمة يشكّلانه معا بروح تشاركية حتى من خلال الإمعان من قبل المتلقي في منجز الفنان وتأويله كيفما يشاء".

وعند "شمعدان" يتماهى الحرفي والفني لدى سعد فتتحرّر من كل تمظهرات المادة، حتّى أنها تختصر الكون كله في جسدها ولوحاتها وأحاسيسها وابتساماتها التي توزّعها على العابرين حيثما ارتحلت.

وفكرة الورشات المتنقلة التي خلقها العجز عن استئجار مقر يكون حاضنا لأفكارها وتصوّراتها الجامحة، كانت فسحة رتّبت فيها أفكارها المبعثرة لتستقرّ على اقتسام الفن مع الجمهور حيث يكون، فأنشأت علاقة خاصة بينها وبين الآخر في الأماكن التي ترتادها لتشكّل لوحاتها من صميم عمق المكان والإنسان الذي يُشاركها ملهاتها الفنية.

وتعتبر سعد أن تجربتها الفنية هي أيضا نبض تجربتها الروحية، حيث يشعّ إلهام ما، وتجلّ ما "أين ينفتح عالم ما، وأين تدبّ الحياة دفعة واحدة"، ويتجلى ذلك في لوحاتها، ففيها ينكشف سرّ الخلايا حتى في الظلام الداكن، خلايا تشعّ من جديد إبان انعدام النور، خلايا تخزّن النور داخلها حتى مجيء الظلام الذي لا مناص منه، لتنبئ المتلقي لأعمالها أنّ الألوان حية لا تموت وأن فسيفساء ألوانها المائية ما هي إلاّ استعادة لتراث أجدادها الذين ابتكروا أكبر مطمور فسيفسائي في العالم، لكن الفرق بين الفسيفاء الرومانية وفسيفسائها أن الأولى كان أساسها قطع من الحجر، أما الثانية فوميض الضوء المبتكر.