هنا لقاء حواري مع الكاتب المسرحي العراقي المرموق علي عبد النبي الزيدي، وفيه يتحدث عن تمَثُّلهِ للكتابة المسرحية عامة، وكيفية كتابته للمسرح من خلال السجال مع المقدس والإلهيات المتعشقة بواقع وتاريخ المتفرج، كما يتطرق إلى كتابة مابعد المقدس، وأثر كوفيد-19 والموت الوبائي على الكتابة المسرحية.

لقاء مع الكاتب المسرحي علي عبد النبي الزيدي

ثـائر القيسـي

 

** منذ الوهلة الاولى حين أثار انتباهنا نصك المسرحي ألفنا أن مقترحاتك الفكرية تنحى باتجاه خطاب مسرحي متعال في تمركزاته على ميتافيزيقيا عابرة للمألوف الكوني. هل شكل هذا الاختراق نوعا من السخط من قبل النقاد؟

*** منذ الوهلة الأولى لفكرة الكتابة عندي كنت أريد أن أكون مغايراً، وظل هذا الهاجس يطاردني في كل نص أكتبه، لذلك عندما بدأت تجربتي بالكتابة للمسرح تبرز بشكل واضح عراقياً وعربياً بدأت معها تلك (المقترحات) التي تتحدث عنها في سياق سؤالك، مقترحات راحت تستدعي المقدس، وأخرى تذهب لما هو أبعد من ذلك في قراءة ما يحدث سياسياً، ونجد فعل (الصدمة) في متون تلك النصوص حاضراً، ولكن كنت أعي جيداً أن الواقع الذي أعيش في وسطه هو مادتي الأساسية التي انطلق منها لتأسيس نص مسرحي مغاير بحسب النقد العراقي والعربي، وهذا على العكس لم يكن محط سخط النقاد، وأعني هنا النقاد الذين يعيشون على خشبات المسارح ويدركون معنى أن تكون لك قراءتك الخاصة بما يجري، النقاد الذين غسلوا أقلامهم بماء تجارب المسرح وبروفاته العظيمة، وأنا أرى بدقة وبعين المطلع والمتابع أن المشهد المسرحي العربي بعمومه عليه التخلص من (النمط) في الكتابة للمسرح مع وجود الاستثناء طبعا، وأن يمتلك الحرية في طرح قضايا التابو بعيداً عن سلطة الحكومات، وسلطة المجتمع والدين التي تهيمن عربياً على خطابات المسرح باستثناءات قليلة جدا، وإلاّ سنظل نراوح على خشبات مسارحنا ولن نستطيع اللحاق بما يطرح غربياً.

** المعروف عنك في معظم كتاباتك أنك تؤسس لشخوصك (مونودرامات) تتباعد بالمساحات وتتقارب فكريا على صعيد العرض الواحد. هل اردت بذلك التفرد بأسلوبية تأسيس بنية غير مسبوقة لدى كتاب جيلك؟

*** الشخصيات هي المحور الأساس في بناء نصوص المسرح الكبرى لأنها وعاء للأسئلة التي أثيرها عادة، أننا يمكن أن ننسى عناوين النصوص ولكن اسماء بعض الشخصيات تظل عالقة في أذهاننا وتحوّلت الى ايقونات سياحية، لذلك أنا رجل باحث عن تلك الحيوات التي تبدو للآخر غريبة في طروحاتها، وهي تشكّل شخصيات تبتعد عن واقعنا ولكنها خارجة من أزماته بالتأكيد، ومن هنا لابد من الإشارة أن أغلب نصوصي المسرحية تبدأ بالتحليق مع أرواح تلك الشخصيات ومعرفة أسباب الاستلاب والقمع الذي تعرضت له، وهي اشارة مهمة أن تكون مغايراً عن جيلك رغم أن عندنا اسماء رائعة في الكتابة للمسرح احترام ما يكتبون بشكل كبير.

** تعاملت مع مخرجين محترفين في سياق مناهج اخراجية متعددة. أي من المخرجين وجدته الاقرب الى توجهات نصوصك المسرحية؟

*** من الصعب جداً أن أقف على تجارب المخرجين الذين تعاملت معهم فهم بالمئات، وقد شاهدت الأغلب منها على خشبات المسارح العربية والعراقية، ولكل واحد منهم روحه وأسلوبه ومناخه وفهمه وقراءته، ولكن عراقياً هناك مشتركات كثيرة بيننا بحكم أننا أبناء واقع كارثي واحد، لذلك أحببت العمل مع العديد منهم حتى لا أقع في مطب الأسماء، هم يعرفون أن أحلامنا مشتركة في خلق عرض مسرحي نطمح له دائماً، وسعيد جداً بما حققنا وما سنحقق وأحب كثيراً التعامل معهم، مع تأكيدي أنني أميل كثيراً لجيل الشباب من المخرجين الآن واقترب من أرواحهم كثيراً، وأرى هم من سيحمل شعلة مسرحنا العراقي المختلف القادم.

** حسب اسخيلوس مؤسس التراجيديا واقراره الممثل الثاني لأحداث الصراع. هل تجد صعوبة في تدريم مثل هذه الشخصية في تداولها الفكري تضادا مع الشخصية التراجيدية على مستوى فلسفة الصراع ونتائجه؟

*** لا يمكن لأي نص مسرحي أن يقف على قدميه بقوة إذا لم يستند على روح الصراع وعلاقة الشخصيات مع بعضها الآخر، وهي علاقة صراع محتدم على طول خطها، وهو الذي يقودنا الى النتائج رغم أنني لا أميل لفكرة النتيجة هنا بقدر اهتمامي أن أكون محذراً ومنبِّهاً مما يحدث، وادخال الممثل الثاني من قبل اسخيلوس هو الإعلان الرسمي لبدء الصراع مع الآخر، الأمر الذي قلل من أهمية وجود الجوقة ودورها في التراجيديا باتجاه ثنائية الصراع التي انتجت لنا كبرى التراجيديات الى يومنا هذا.

** هل تتسم نصوصك بالعلل المادية خارج الاستهداف الروحي في خطاب الرب؟

اعادة صياغة العلاقة مع المقدس على قدر كبير من الأهمية عندي في تلقي تجاربي في الكتابة للمسرح، بعيداً عن سلطة (القصدية) التي يروّج لها البعض لما أكتب وتبدأ معها سلسلة من الاتهامات والتكفير وسواها، الأهم أن نذهب لما هو روحي يقترب ويستفيد من مناخات الصوفية في فهم العلاقة مع المقدس، وهي علاقة فيها عمق انساني غير خاضعة لما هو مادي على الإطلاق، وإلاّ لن نستطيع قراءة هذه النصوص مجردة من القصديات، وهنا صلب الأزمة ما بيني وما بين البعض في روح القراءة التي أريد، البعض يرى أن لا علاقة للمقدس بما يحدث، وهذا أمر واقعي أتفق معه، ولكن أذهب لما هو أبعد بكثير من هذا الرأي وهذا سر اختلافي في هذه التجربة، العلاقة مع الله هي علاقة ملاذ آمن كما أفهمه بعد أن أفرطت القوى بشتى تسمياتها بقسوتها على الإنسان الطيب فلم يجد سوى الله يحاوره ويطلب منه أن يجد حلاً لهذا الكون الغارق بالدماء، فلا أحد يسمع سواه ولا بد من اعادة صياغة بناء هذا العالم من جديد في شكل العلاقة مع الله العظيم الذي أقدسه!

** نص مسرحية (يا رب).. من أهم نصوصك المسرحية واكثرها جدلا عند اهل النقد كذلك نخبة الجمهور داخل وخارج العراق. هل انتابتك مخاوف ما حين انيطت مهمة اخراجها لمخرج شاب مثل مصطفى الركابي مع احتمال ألا يكون مستوعبا لأفكار هذا النص؟

*** على العكس تماماً، مصطفى الركابي ومعه ثلة قليلة جداً في مسرحنا العراقي هم استثناء حقيقي، ونحن نفكر معاً، ليست هناك سلطة مؤلف أو مخرج بيننا، ولأن الركابي وانا كنا نحلم كثيراً بعرض مسرحي مختلف لنص (يا رب) وغيرها من النصوص التي كتبتها، وهذا الحلم انتج عرضاً بشهادة النقد العراقي والعربي هو الأكثر مغايرة في السنوات العشر الأخيرة، وحقق أصداء مهمة عندما عرض في الجزائر ضمن مهرجان الهيئة العربية للمسرح، لم تكن مغامرة ان أعطي النص للركابي بل على العكس تماما، فأنا أعرف كيف يفكر هذا المخرج المهم والجريء، مع التأكيد ان هناك العديد من المخرجين قدموا هذا النص وفق رؤاهم وتصوراتهم الجميلة التي أعتز بها، وامتلكوا قراءات خاصة بهم لهذا النص كـ الدكتور محمد حسين حبيب قدم العرض في كلية الفنون الجميلة جامعة بابل، والمخرج فارس الشمري في النجف والدكتور نشأة مبارك في الموصل الذي قدمه باللغة السريالية وغيرهم من المخرجين العراقيين...

** كيف تلقت الاوساط العربية للعروض المسرحية التي كتبت نصوصها عشية مشاركتها في المهرجانات الخارجية؟

*** على قدر كبير من الأهمية أن تكون حاضراً وسط تنوع الثقافات عربياً، فأنت تعرف أن لكل بلد بيئته ومناخه ومواضيعه وحساسيته تجاه بعض المواضيع، فأن تأتي بمواضيع يعتقدها تابو عند البعض بالتأكيد نحن سنكون أمام واحدة من الإشكاليات الكبرى في التلقي والتي لا تنسجم مع التلقي النمطي الذي اعتادت عليه اغلب النخب المسرحية عربياً، ولكن القسم الأكبر عربياً كان متفاعلاً خاصة في تونس والجزائر والمغرب وسوريا وسواها... وراح البعض يؤكد اهمية هذه التجارب بوصفها تجاوزت التابو وطرحته بشكل مسرحي صادم يحرّك الثابت الميت، باتجاه أن نؤسس نصوصا مسرحية جديدة في طروحاتها وشكلها وهي تدخل الى عمق مواضيعها وهمومنا وتطلعاتنا...

** في الالهيات وما بعدها هل تعتقد انك قلت كل ما تريد قوله أم مازال لديك اجابات فكرية على اسئلة التمرد؟

*** ما زال الوقت مبكراً أن أقول كل شيء، هناك الكثير من النصوص لم تُنشر في هذا المشروع الذي سمّيته بنصوص الإلهيات، وهو مستمر بآرائه وتصوراته عن الحياة بتفاصيلها المرّة، وقد بدأ هذا المشروع تتضح ملامحه في الداخل العراقي وأرى تأثيره على شباب المسرح اليوم، وقد نُوقشت قبل ايام في مصر اطروحة دكتوراه تحت عنوان (الفكر العلماني في نصوص علي عبد النبي الزيدي-الالهيات وما بعد الالهيات إنموذجا) وهو عنوان صارخ كما يراه البعض، ولكن فيه وجهة نظر، ليس مهما أن يكون الكاتب يشتغل عليها أو يدعو لها، على الإطلاق، ما يهمني أن تذهب هذه الدراسات الى مناطق بكر يمكن من خلالها فهم هذه التجربة التي انظر لها مستقبلا ومع أجيال أكثر جرأة من أجيالنا ستأخذ حيزاً مهماً وجريئاً على مستوى العرض والدراسة، لذلك فإن الكاتب المتمرد في داخلي ما زال يشعر أن هناك الكثير من النصوص يجب أن تكتب قبل أن يأتي الموت، الموت الذي أحبه كثيراً!

** في نص مسرحية فلك أسود ما الذي اعطيته للمتلقي من مقترح عبر شخصية بتول؟

*** هذا النص مؤلم بالنسبة لي، تجربة موجعة كتب عام 2013 وهو يقرأ ما سيحدث في تلك المدن التي اغتصبت فيها النساء وبيعت في الأسواق في عودة سريعة لعصر (الرق)، ظهر فيه تمرّدي بشكل واسع وهو يستدعي المقدس وقد تزامن مع نص (يا رب) في مناخه وصراخه، ولكن نص فلك أسود -كما أراه- فيه عطر بتول شخصيته الرئيسة، عطرها الذي سُرق في لحظة عبادة ما، دعاء من أجل الخلاص، فتحوّل الإنقاذ الى ورطة كبيرة غادرت فيها انوثتها باتجاه جسد خشن مرتبك، أي أن الإرهاب أو المهيمن استطاع ان يهدّم بنية العلاقات الاجتماعية داخل الوطن، وفي نفس اللحظة ضاعت هويتنا الوطنية فيه ولم نعد نعرف من نحن بسبب هذه الصراعات التافهة التي غرقنا فيها، وأتطلع هذه الايام أن ارى النص على خشبة المسرح الوطني ببصمة الدكتور المبدع رياض شهيد مخرجاً.

** وأخيرا ومع استمرار جائحة كورونا ماذا ستقول عن خصيصة هذه المرحلة خلال ما سيأتي؟

*** ما يهمني نصوص ما بعد كورونا في سياق سؤالك، أنا دائماً أريد أن أتنفس بهدوء لحظة الحدث فأكتبه ما بعد، هكذا افهم الكتابة للمسرح دون انفعال مما يحدث، فقط أسجل مشاريع الكتابة لوقت أخر أجدني أكثر استقراراً. هذا الوباء كما قلت في مناسبة سابقة جعلني أشعر أننا سنكون ما بعد الجائحة في سنة صفر.. مثلما حدث ما بعد عام 1945 أي بعد الحرب العالمية الثانية، وكيف صار التحوّل العظيم والخطير في شكل المسرح وروحه ومواضيعه وتسيّد فيها كتاب مسرح اللامعقول الذين نسفوا الاشتراطات الأرسطية السائدة لآلاف السنين وراحوا ينظرون لما بعد هذه الكارثة، أعتقد أن على كتاب المسرح في العالم أن يفكروا بنفس الطريقة التي فكر فيها كتاب اللامعقول باتجاه مسرح يكون بحجم ما حدث من زلزال كوني تصاغرت فيه القوى العظمى وانهارت وعجزت أمام فايروس متناه في الصغر.

 

(نقلا عن جريدة أوروك الثقافية)