يسعى الباحث المغربي هنا لطرح تلك الثنائية الحادة التي استخلصها من قراءته لبعض أعمال إبراهيم الكوني وأحاديثه الصحفية وسيرته الذاتية، وهي تلك الثنائية التي تنتصر للصحراء على حساب المدينة، ولا ترى فيها سوى القيود التي كبلت الإنسان، وحرمته مما تتيحه له الصحراء من حرية وتماه مع الطبيعة اللامتناهية.

الصحراء وكر الحرية.. المدينة عش العبودية

تأملات في عالم إبراهيم الكوني

حـمـزة الذهـبي

 

"      أهل الاستقرار وحدهم أموات "                            

إبراهيم الكوني                                                              

مقدمة
مما لا يُختلف فيه بين القراء المتخصصون والباحثون الدارسون في الرواية العربية، باعتبارها من الأشكال السردية التي عرفت رواجا في السنين الأخيرة قراءة وممارسة وتنظيرا، أن الكاتب الليبي إبراهيم الكوني، يتبوأ مكانة مميزة ومتميزة داخل الحقل الروائي العربي والعالمي، يظهر ذلك بوضوح من خلال العديد من النقاط التي يمكن الإشارة إليها باقتضاب شديد على شكل التالي: أولا هناك شبه إجماع على أهمية الأعمال الأدبية التي ألفها، إذ تُعتبر اليوم من أهم أدبيات الصحراء، فهي تُشكل مصدرا معرفيا مهما. إنها إن صح القول خزان أو مستودع يحفظ فيها إبراهيم الكوني الذاكرة الصحراوية – التي تسير تدريجا نحو الأفول – من الضياع. ثانيا في كثرة الجوائز التي حصل عليها عربيا وعالميا، نذكر منها: جائزة الدولة السويسرية/ جائزة اللجنة اليابانية للترجمة/ وسام الفروسية الفرنسي للفنون والآداب/ جائزة الشيخ زايد. حتى أن العديد من المؤسسات الأكاديمية رشحته إلى جائزة نوبل للأدب. ثالثا في ترجمة كتبه إلى العديد من لغات العالم، فكما نعلم جميعا "أن أترجم كتبك إلى لغتي يعني أني أعترف بك". وليس أخيرا في كم وفير من الدراسات والمقالات والأبحاث والرسائل الجامعية التي دارت حول أعماله الأدبية الإبداعية في مختلف بقاع ولغات العالم. من هنا، يروم هذا المقال إلى جعل الروائي الليبي إبراهيم الكوني محورا له، تأكيدا لتلك المكانة التي يحتلها في الخريطة الأدبية العربية والعالمية، وذلك عن طريق تسليط الضوء على نظرة الرجل للمدينة في أعماله الإبداعية وحواراته الصحفية. لكن قبل ذلك أرى أنه من المستحب أشير إلى أمرين اثنين في علاقتي بالرجل كقارئ لأعماله:

الأمر الأول يتحدد في أنني كنت أجد في البداية صعوبة في قراءة كتب ابراهيم الكوني، لأن الرجل مختلف ومتفرد عن معظم أولئك الذين تعودت القراءة لهم. ويتجلى هذا الاختلاف على سبيل المثال لا الحصر في لغته الغامضة، المعقدة، المكثفة، المليئة بالرمز والاستعارة، والتي تًضمر أكثر مما تظهر، توحي بدون أن تعلن. لذا يعز على القارئ الكسول أن يدرك أبعادها، ولهذا فهي تتطلب من القارئ/ المتلقي أن ينزع عنه الكسل الذي تعود عليه، وأن يكون منتبها ومتيقظا لفك الغموض والتعقيد. ومن جهة أخرى في اتخاذه من الفضاء الصحراوي ركيزة أساسية تقوم عليها كل أعماله. فالصحراء بكل مكوناتها الأسطورية والأنتربولوجية والطبوغرافية هي عالمه الواحد الأوحد، وبالتالي شخص مثل حالتي تعود على قراءة الروايات المرتبطة بالمدينة كمكان – وهذا حال معظم الروايات، أي أنها عمل نشأ وتشكل في المدينة، كما يذهب إلى ذلك الكثير من الباحثين– سيجد صعوبة في قراءة أعمال الكوني ويتملكه نوع من النفور. بيد أنه رويدا رويدا – مع الاحتكاك أكثر بأعماله والغوص في طوابقها اللانهائية – بدأ ينقشع الغموض ويتبدد التعقيد، وأضحى ما كان في الأمس منفرا هو سر الإعجاب، أي ما كان يطردني منه في البداية أضحى هو الذي يجذبني اليوم إليه.

الأمر الثاني يتجلى في أن الرجل – وهذا أمر ربما يتفق معي فيه العديد من قرائه - غيّر جذريا فهمنا للفضاء الصحراوي، إذ معه لم تعد الصحراء بالنسبة لنا هي الصحراء التي نعرفها، لم نعد ننظر إلى الصحراء باعتبارها مجرد مكان أو ظاهرة جغرافية؛ بل كشيء آخر أكثر غنى وعمقا، سنتطرق إليه بنوع من التفصيل في العرض، وهذا في النهاية هو دور الأدب، أي أنه يُغير جذريا نظرتنا للأشياء وللعالم المحيط بنا. وتغيير النظرة ذلك هو العمل الصعب الذي يقوم به الكاتب.

إبراهيم الكوني ,, إطلالة عن كثب:
إبراهيم الكوني كاتب ليبي، سليل أمة الطوارق التي ابتليت، كما يقول، بالضياع ثلاثا: ضياع الوطن وضياع الهوية وضياع كتابها المقدس. ولد عام 1948، وهو في مقتبل العمر عاش مجموعة من التجارب أثرت فيه كثيرا، ووصمته بميسمها عميقا، وقد ذكرها بالتفصيل في سيرته الذاتية الموسومة ب " عدوس السرى " هذه السيرة التي اعتبر أن محاولة تدوينها هو «كفاح مميت لاسترداد السيرة من اغترابها بمحاولة تحريرها من ستور التورية، أي من روح الاستعارة، وعرضها أمام الملأ عارية»[1] سنكتفي في هذا المقال بذكر ثلاثة تجارب فقط ولمن أراد الاطلاع أكثر على تجارب الكاتب الأخرى، فالكتاب بأجزائه الأربعة، غني بذلك: أولا تجربة التيه التي يُصرح في أكثر من موضع بأنها وسمت روحه، إذ أنه تاه في الصحراء، بينما كان يرعى وهو في الخامسة من عمره، وجد نفسه فجأة بين أحضان الصحراء، وحيدا بلا زاد، بلا ماء، بلا دليل، وصمت ليس مثل صمت الأمكنة يحيط به. هذه التجربة أعادت ولادته من جديد. يقول عن ذلك «لقد شهدت ميلادي في تلك الليلة، لأن الميلاد، على ما يبدو، ليس أن ننبثق من بطون الأمهات، ولكن أن نعود إلى بطن أم الأمهات "[2]. ثم يضيف أنه " منذ تلك الليلة صرت الطبيعة. لم أصبح جزءا من الطبيعة، ولكني الطبيعة»[3]

ثانيا تجربة الشلل الجزئي الذي أصاب قدمه، يقول عن ذلك «يبدو أن القدر العليم بسر الصفقة المبرمة بين الروح والجسد لم يكن ليقنع ببصمة الروح التي احتفرها في وجدان عدوس السرى بتجربة التيه، فاستعان بأجناد الخفاء لوسم البدن أيضا بعلامة».[4] علامة سيعتبرها الكوني اصطفاء من الأقدار تمييزا له عن البقية: "لأن من اختارتهم الأقدار للحساب وحدهم أحباء الأقدار».[5]

ثالثا تجربة استنزال القصاص بالذي تجرأ وتفوق بدل التلاميذ الكسالى، إذ أن الطفل إبراهيم الكوني، كان يتلقى الضرب من طرف معلميه، عقابا على صواب إجاباته، لا على عدم صوابها. فهؤلاء المُعلمين الذين درّسوه، كانوا يستنزلون القصاص بمن تجرأ من التلاميذ وتفوق، بدل استنزال القصاص بالتلاميذ الكسالى. لم يفهم الكوني آنذاك السبب وإنما فهمه متأخرا إذ يقول «ولكن حكمة الزمان أبت، إلا أن تنجدني بالسر وإن جاءت حكمته متأخرة كثيرا. وها هو كارل يونغ يروي سيرة مماثلة (حدثت له في الطفولة على نحو يوحي بأنه لم يحترف علم النفس البشرية إلا لتأويلها) تقول أن استنزال القصاص بأهل التفوق من التلاميذ من قبل المعلمين ليس انتقاما، ولكنه تقويم. إنه أسلوب لاجتثاث روح الاستكبار التي يغذيها التفوق»[6].

عموما، بعد ذلك، عمل محررا في إحدى الجرائد، يكتب المقال والنص الأدبي والقصة القصيرة والدراسة الأدبية على تواضع التحليل وأيضا مجريا مقابلات صحفية مع العديد من الشخصيات لكنها لم تشفي غليله. لهذا قام بإجراء مقابلة خيالية مع نجيب محفوظ، يقول «يبدو أن اللقاء في مملكة الحلم المجهولة كان أجدى من لقاء في الواقع، لأنه ألهمني على نحو ما كتابة دراسية أدبية في أعمال الرجل نشرت على حلقات تحت عنوان "فلسفة الجد والعبث في أدب نجيب محفوظ"»[7].

ومع الإطاحة بالملك إدريس دخلت ليبيا في نفق مظلم أكثر مما كانت عليه – فقرر الكوني الرحيل إلى الاتحاد السوفييتي كي لا نقول الفرار إليه من أجل متابعة دراسته بمعهد غوركي للآداب. وهناك قدم رسالة التخرج تحت عنوان "دويسويفسكي: بين حجة إبليس وحقيقة المسيح"[8] الذي قوبل باستنكار اللجنة العلمية بسبب الأيديولوجيا السائدة آنذاك. وقد صارحه أستاذه وصديقه بوغدانوف بضرورة التخلي عن موضوع الرسالة، «لأن موضوعا كهذا يصلح اطروحة يمكن الدفاع عنها في أي بلد غربي، أما في الاتحاد السوفييتي، فلا!»[9] بيد أن الكوني اختار أن ينتصر لدمعة دوستويفسكي.

يقيم منذ بداية تسعينات القرن الماضي "في سفوح أعلى قمم أوروبا الجبلية وهي الألب السويسري".[10] صدر له أول عمل قصصي تحت عنوان الصلاة خارج نطاق الأوقات الخمسة 1974 ثم توالت الإصدارات التي وصلت إلى أكثر من ثمانين عملا أدبيا، مكتوبا بلغة شعرية وشاعرية تُضمر أكثر مما تفصح، توحي بدون أن تُعلن، فالأدب بالنسبة له في النهاية يجب أن يكون عبارة عن رموز واستعارات. ترجمت أعماله، كما أسلفنا أعلاه، إلى معظم لغات العالم. ونال عليها العديد من الجوائز. ولن نكون متفاجئين إذا ما سمعنا يوما ما أنه فاز بجائزة نوبل للأدب.

نظرة الكوني إلى المدينة:
إن القارئ لأعمال إبراهيم الكوني - وهي كثيرة بالمناسبة - والمتتبع لحواراته الصحفية المحلية والدولية، يبدو له بشكل واضح، لا يدع مجالا للشك، أن للرجل نظرة وموقف خاص إزاء المدينة يمكن نعته بالمتطرف. إذ أنه يقدم عنها صورة بشعة ومنفرة، فهو يحقر من المدن وأهلها، وفي المقابل يرفع من شأن وقيمة الصحراء وأهلها. فإذا كانت الصحراء بالنسبة له مكان مقدس، نقي، أسطوري، واسع ورحب يسود فيه الأمان والهدوء والطمأنينة، ومليء بالحكمة، وهو مركز الدنيا، روح العالم، مهد النبوات ويرتبط ارتباطا وثيقا بالحرية، أي أنه فضاء قرين بأنبل ما في الوجود الإنساني؛ فإن المدينة بالنسبة له هي عكس ذلك تماما. أي أنها قرينة لأقبح وأبشع ما في الوجود الإنساني:

  • فهي مكان مدنس أشد ما يكون عليه الدنس، مكان قذر، سطحي وضحل، تحاك فيه المكائد ليل نهار خلف الأبواب المغلقة، وتسود فيه روح الصفقة والمنفعة "التي كانت دوما عملة مجتمع الاستقرار."[11]
  • إنها محفل الأبالسة وموطن أمة العبيد والمذلولين والمهزومين، لأن "الركون للأرض ليس ذلا فقط، ولكنه هزيمة." [12]
  •  إنها أرض الشر والغش والخداع الذي هو سجية كل أهل العمران الأموات "حتى لو ظنوا أنهم أحياء"[13]
  • إنها أرض المكر والحيلة والخبث الذي "يروق لملل العمران أن تتخذه عملة في علاقاتها اليومية تلبية لناموس الصفقة التجارية التي تهيمن على هذه العلاقات. أي أن الخبث هو الابن الشرعي لروح المنفعة. وروح المنفعة هو ما يحكم عوالم العمران."[14].
  •  إنها أرض الخطيئة والبذاءة حيث تترعرع الكراهة وتختنق الصدور بالشرور وتتحلل الروح وتتفسخ القيم الأخلاقية ويتم الاحتكام إلى أبشع أنواع الخديعة.
  •  إنها أرض يُستلب فيها الإنسان، يغترب، يفقد نفسه وطمأنينته، يصبح عبدا، نعم يصبح عبدا للمدينة التي لا يستطيع منها فكاكا، لأنه وضع قيدا في عنقه بمجرد أن ارتضى الاستقرار، على عكس الإنسان الصحراوي الذي لا يمتلك بيتا ويتباهى بأنه لا يمتلك بيتا، بل وحتى إذا وجد نفسه يوما تحت سقف ما، فإنه لا يمر الكثير من الوقت حتى تراه يزحف هربا من الجدران والبيوت المسقوفة ويستلقي في الخلاء، فالصحراوي لا يجد نفسه وراحته إلا حينما يتغطى بالسماء المرشوشة بالنجوم، ويتوسد العراء المفتوح.
  •  إنها أرض الضجيج والصخب الذي لا يهدأ، أرض فُقد فيها السكون، السكون الذي كان للممسوسين سرا ولأهل العزلة فردوسا، وللعرافين وطنا.
  •  إنها ليست فقط سجن يحد من حرية المرء. ويجعله مقيدا من كل جانب، بل هي أيضا خطر يهدد وجوده. "لأن من لم يستجر بالصحراء، صارت حياته كلها موتا!"[15] لهذا يقول في أكثر من موضع في أعماله: "أن قدر مريد الاستقرار ليس الوقوع في براثين العبودية فحسب، ولكن قدره الموت أيضا (الموت روحا إن لم يكن بدنا أيضا)".
  •  إنها أرض تقضي على سعادة الإنسان وتسبب له الشقاء لأن سليل البنيان يحيا "بقلب مغلق انغلاق البيوت في أبنية أهل المدن."[16]
  •  إنها في نظر الكوني كانت سببا في ظهور الطاغوت - وما الطاغوت في النهاية إلا نتاج الاستقرار في الأرض – لأن "القطب الذي اختار الاستقرار أنتج في بداية الامر حرفة، كالزراعة مثلاً، والحرفة أنتجت الملكية، الملكية أنتجت الصفقة التجارية، والصفقة التجارية أنتجت السلطة والسلطة أنتجت الأيدلوجيا من خلال السياسية أو -ما نسميه سياسة-، والأيدلوجيا هي التي أنتجت الطاغوت" [17]

أمام هذه الصورة المرعبة للمدينة يتساءل القارئ ما هو الحل ؟

إن الحل للخروج من هذا الكابوس الذي يخنق الأنفاس هو الهروب إلى الصحراء، ففي "الصحراء خلاص لا يدريه إلا ذوو الألباب."[18] وذلك لأن الصحراء كنز، مكافأة – كما يقول الكوني- لمن أراد النجاة. وعليه يبدو وكأن الرجل ينتصر لأطروحة الفيلسوف جان جاك روسو على حساب أطروحة الفيلسوف هوبز، فإذا كان هذا الأخير يرى أن الإنسان شرير بطبعه، وأن الحضارة هي التي كبحت شره، فإن جاك روسو يرى عكس ذلك تماما أي أن الإنسان خير بطبيعته، والحضارة هي التي جعلت منه كائنا شريرا، بمعنى أنها أفسدت طبيعته. وبما أن المدينة هي نتاج الحضارة، فبالتالي لا غرابة أن نجد إبراهيم الكوني يصورها بهذه الطريقة المظلمة.

إشارات لا بد منها كختام:
انطلاقا مما تقدم، أقول أن هذا الكاتب الليبي المسكون بالصحراء الذي بدأ مسيرته الأدبية في سبعينات القرن الفائت والغني عن كل تعريف قد نجح في مهمته التي تتجلى كما أسلفت أعلاه: أولا، في تغيير نظرة القارئ / المتلقي إلى هذا الفضاء الصحراوي. وهذا هو دور الأدب الرئيسي كما أرى. أي في خلخلت المسلمات وتحطيم البديهيات، أي في أخذ يد القارئ وجعله يرى الأمور من منظور الكاتب. لكن يبقى للقارئ كلمة الفصل، فما يقوله الكاتب ليس مسلمات ينبغي الإيمان بها، بل هي رؤية خاضعة للمساءلة والنقد والشك. وثانيا في إظهار تهافت الفكرة التي تقول أن الرواية إما أن تكون عمل مديني أو لا تكون. وثالثا في رد الاعتبار أدبيا إلى الفضاء الصحراوي. بيد أن القول بأن الكوني نجح إلى أبعد حد في مهمته كروائي وككاتب، هذا لا ينبغي ألّا يُنسينا أنه غالبا ما يكون مبالغا، غارقا في التطرف والتعصب للصحراء على حساب باقي الأماكن الأخرى، وبالأخص المدن كما رأينا أعلاه، إذ يجعل من هذه الأخيرة، أي المدن، جحيما لا يطاق، في حين يعتبر الصحراء التي ينتمي إليها "الرقعة الأنبل من كل بقاع الدنيا."[19] هي الأصل والباقي مجرد فروع، بل يذهب في حواراته الصحفية إلى القول بأن هذا الفضاء الصحراوي هو الذي جعل من العالم عالما. لا حل وسط! لا اعتدال! انحياز واضح وصارخ، كأنه يواجه تهميشا بتهميش أخر.

متناسيا ذكر أي ميزة للحضارات العمرانية، حيث ينظر إليها نظرة سلبية، نازعا عنها كل ما هو إنساني معتبرا إياها أرض الرذيلة والمكر والخداع. أي أنها جحيم أرضي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. وسكانها سجناء وعبيد ويحكمهم منطق الصفقة فقط، لأنهم رضوا أن يستقروا في الأرض. لهذا يُخيل إلي أحيانا عندما أكون مبحرا في كتاب من كتبه الأدبية أن الرجل تحركه رغبة في الانتقام أو الثأر من المدن التي سلبت الصحراء مكانتها. مُتناسيا بأن الضحية لن تفقد بالثأر إلا طبيعتها كضحية. يبدو لي كأنه رد فعل ربما لا واعي، رد فعل حاد ومتطرف لفعل معادٍ لا ننكره، وإلا كيف يمكن تفسير هذا التحامل على الحضارة العمرانية، كيف يمكن تفسير هذه النظرة الفوقية وهذا التعالي؟ ذاك هو تفسيري، أعتبر أن الأمر هو رد فعل – دفاع وهجوم – عن الدونية والتهميش الذي تعرضت له الصحراء، وخصوصا بشكل أعمق منذ منتصف القرن الماضي. فاعتبار أن الفضاء الصحراوي بثقافته عظيم ومتفوق ومتعالٍ عن كل ما سواه، وأنه المكان الذي انبثقت منه الحضارة أرى أنه شكل متطرف من أشكال التعويض عن الشعور بالنقص أو الدونية. فكما يعلم البعض أن الشعور بالنقص أو الدونية تنتج عنه أحيانا عقدة العظمة.

 

[1] إبراهيم الكوني: عدوس السرى روح أمم في نزيف الذاكرة الجزء الأول الصفحة 7. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. الطبعة الأولى، 2012

[2] نفس المرجع. ص 21

[3] نفس المرجع. ص 22

[4] نفس المرجع. ص 23

[5] نفس المرجع ص 34

[6] نفس المرجع. ص 99

[7] نفس المرجع. ص159

[8] نفس المرجع. ص 388

[9] نفس المرجع. ص 391

[10] نفس المرجع. ص 119

[11] إبراهيم الكوني: عدوس السرى روح أمم في نزيف الذاكرة الجزء الثاني الصفحة 18. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. الطبعة الأولى، 2013

[12] إبراهيم الكوني، رسول السموات السبع، رواية، الصفحة 99 المؤسسة العربية للدراسات والنشر. الطبعة الأولى 2009

[13] إبراهيم الكوني، من أنت أيها الملاك ؟ رواية، الصفحة 165 المؤسسة العربية للدراسات والنشر. الطبعة الأولى 2009

[14] براهيم الكوني: عدوس السرى روح أمم في نزيف الذاكرة الجزء الثاني الصفحة ص 353

[15] إبراهيم الكوني البحث عن المكان الضائع – رواية –الصفحة 50 المؤسسة العربية للدراسات والنشر. الطبعة الأولى 2004

[16] إبراهيم الكوني: نزيف الروح الصفحة 115 دار الملتقى للطباعة والنشر الطبعة الأولى 200

[17] من حوار مع إبراهيم الكوني في صحيفة حديث العرب

[18] إبراهيم الكوني، نداء ما كان بعيدا، الصفحة 17، المؤسسة العربية للدراسات والنشر. الطبعة الثانية 2009

[19] إبراهيم الكوني، من أنت أيها الملاك ؟ رواية، الصفحة 128 المؤسسة العربية للدراسات والنشر. الطبعة الأولى 2009