عن تداخل المصائر وتباعدها، عن الغرق في الظلال والصمت، عن ترجيع الأصوات البعيدة، التي تشي بالحكايات المعادة أبدا، عن البدايات والنهايات. جدة عجوز تراقب يمامتين، وتنصت لصوت شاب وحيد عبر الجدران، صوت الحياة الذي ما أن يخفت ويكاد يبتلعه الموت، حتى يُستعاد بظل امرأة يتهادى في المرايا.

للّيل سعة وساعات

ديـنا سَليم حنحن

 

يبسط النور أذياله في الحجرة الصّغيرة عندما يُفتح بابها، وفيها يتفشّى باعثًا هيبته، وناشرًا ضوءه على سرير الجدّة التي جيء لها بطعام الغداء.

الواحدة ظهرا، موعد الوجبات أكثر دقة، وانتظاما من عقارب السّاعات، ما أن تنتهي من تناول وجبتها المعتادة حتى يوصد عليها بابها ليُفتح ثانية في المساء، عندما تأتيها كنّتها بالعشاء.

منذ سنوات يهيمن صمت مهيب على المكان، الجدة تمضي ساعاتها انتظارا لا ينتهي، انتظار للا شيء، يخترق الصّمت وقع أقدام تعرفها الجدة كلما اشتمت رائحة الطعام، لكنها كانت قد اعتادت أيضا على سماع وقع أقدام أخرى، خطوات حقيقية تجهل صاحبها، لم تعق الصّمت أبدًا.

  • لقد عاد الشاب المجهول إلى مخدعه، يؤنس سعاله وحدتي! قالت الجدة، وعادت إلى صمتها.

يغيب سعاله العميق عندما يغلق عليه باب حجرته، يقف أمام النافذة الوحيدة ويأخذ في تأمل صفحة سماء مضطربة.. هناك حيث سروة عالية ما تزال تقف بحزم.

 تمايلت السّروة العتيدة غاضبة عندما جنحت الريح، عارضتها بحزم ولكنها حاولت الصّمود، حدّق في البعيد، أبت الغيوم أن تتوارى، تمسّكت قطراتها الثقيلة بقمة السروة، ثم انسحبت إلى السّاق ببطء، قطرة ما نكصت على أعقابها زاحفة على الأغصان الخضر، وعندما سكنت الريح وانتشت للحظات، احتلت السروة حمامتان أخذتا تداعبان قمتها، وتغازلانها، كانتا كلما حطتا بجسديهما معا عليها تنحني قليلا، فتضطر إحداهما إلى التراجع، وتطير مخلية لرفيقتها المكان، تتلقط من الهواء ارتشافات، ثم تعود لتحلق بجناحيها حول وليفتها في محاولات تناوب تتكرر.

-     أي منهما ستمكث على الشجرة يا ترى؟ سألت الجدة.

-     أي منهما ستلازم القمة يا ترى؟ سأل الشاب. وتوحّدَ السؤال.

 وحيد آنسته الحركات المتموّجة في أعلى السروة، ملاح تائه، اتخذ الأمل ملاذا لهُ، أمضى سنواته باحثا عن خليلة يتيمُ بها وتتيم به، تنعش حياته وتعينه على اجتياز حدود نهاره وتعيق ليلهُ الوئيد. هي وحيدة أيضا، واستها حركة زوج اليمام وراقبتها من على سريرها، وخشيت حدوث ما لا يحمد عقباه، متمنية ألا يهوي أحدهما! توقفت يمامة على حافة نافذته ودقت زجاجها، ثم عادت سريعا إلى السروة، لازمت وليفتها فاهتزت القمة بأكملها!

خرج من حجرته، سمعت الجدة خطواته في البهو الذي فصل ما بين الحجرتين، تعمد إصدار الصوت، سعل مرة أخرى، فهزّ الصمت محرضا.

يعود مساء ويمضي الليل الطويل وحيدا، كما في كل ليلة، كم يكره الليل!

-     أما يزال مستيقظا مثلي؟ تسأل الجدة نفسها.

-     هل هي مستيقظة؟ يسأل نفسه.

-     هل هو عجوز مثلي؟

-     أكيد هي مسنّة تنتظر الموت بهدوء؟

-     إن قضي أجلي ومتُّ، هل سيشعر بذلك؟ لا أسمع سعالَهُ!

-     لا أسمعها، ربما توقّف نبضها!

-     أيكون قد نامَ؟

-     هل تكون قد فارقت الحياة؟

كم أرقتها فكرة الفقد، بحثت عن الحمامتين عبر النافذة، غابتا عن ناظريها، هما حاضرها الزاهي، ارتعشت رعشة الموت، غادرت، وعيناها معلقتان بأعلى الشجرة!

عادت اليمامتان بعد أن ذابت الثلوج، تتحاوران وتملأان الكون هديلا.

 انقطعت أصوات الأقدام التي كانت تتعاقب على المكان، الكنّة لم تعد تأتي بالطعام، أقدام أخرى تبلبل صمت المكان، ومعها يتعالى عزف جميل، كعب لطيف يبعث الحياة في دفين الحجرة يتقدمه ظل امرأة يسري متهاديا في مرايا البلاط المصقول!

نقرة، نقرتان على الباب، معهما ليل وئيد الخطى يستيقظ من إغفاءة عميقة..

 

* كاتبة من فلسطين تقيم في أستراليا