هذا النص الموجع أقوى كثيرًا من عنوانه، هنا تشابك لأوضاع كارثية تحكم وجود النساء في المنطقة العربية، في محاولة البحث عن فرص للحياة والحب للهرب من قسوة الفقر والتمييز، وانسداد الأفق أمام أي تغيير فتتحول الرغبة في الانعتاق إلى تجربة صادمة باهظة الثمن، وتهديد مرعب بالفضيحة والعار.

زمنُ الزيْف

رفـيـق التـقي

 

تداعت كل علاقاتها السابقة لأسباب تافهة، لكنّها تأبى أن ترضخ للخيبات، في قرارة نفسها تؤمن أنه لا مناص من تقبيل كل ضفادع المستنقع، حتى يتحوّل أحدها لأمير كما يحدث في أفلام الكرتون.

وجهّت جام غضبها لنشر قصص الحب أو الكره، صدقا أنا لا أعلم؛ كلاهما وجهان لعملة واحدة! ففي إحدى كتاباتها جعلت البطلة تقطّع حبيبها الخائن أشلاءً.

القُرّاء يحسبونها خبيرة في شؤون القلب، لكنها إلى الآن تجد في نفسها شيئا من الحرج للتفوّه بكلمات الغزل، لا تلين ذراعها للعناق إلاّ في قصصها الخياليّة والأعياد والمناسبات، حيث تكتسي الأمور طابع طقس احتفاليّ لا محيد عنه، لا تذكر آخر مرة عانقتها أمها المرهقة جرّاء ساعات العمل الطويلة وأعباء ابنٍ بكر، أربع بنات، وزوج ذو كرش يبتلع الأخضر واليابس بلا توقف.

أخبرتها بلا تحفظ ولا نية موعظة، فقط مجرد حديث عابر، في إحدى تلك المرات التي تختلي الأم بابنتها في المطبخ؛ «الحب لا يملأ بطون الجياع ولا حتى شهوة العيون، كما تفعل المؤخرات والأثداء المشدودة، لكنّها مسألة وقت، فالرجال على اختلاف مستوياتهم يا فتاتي سرعان ما يملون ويندفعون لمغامرات جديدة ..»

«حتى أبي؟»

«أبوك مكبّل، فرعاية خمسة أبناء لا تترك فراغا للمغامرة، لكنه على حرصه يبقى رجلا تخونه عيناه أحيانا في الشارع وأمام التلفاز، لكني أتغاضى».

«المثقفون يا أمي لا يخونون، ولا يتزوجون إلا عن حب».

«آااه يا صغيرتي يوما ما ستفهمين»!

لم تكن قد اختبرت أوقاتا عصيبة، كانت فيها مدمّرة مثلما هو عليه قلبها الآن، وبالرغم من أن السر الذي سيصيبها بذبحة لا محالة، لم ينكشف بعد؛ «إن لم أحصل على مرادي منك، سأفضحك …»

في أحلامها الأكثر وردية، كانت الكاتبة تصحو على أنغام فيروز الحالمة، طقس شبه احتفالي كل صباح، تناشد فيه العصافير أن تبلغ همساتها توأم الروح، آخذة في الاعتبار تقاليد العشق والصبابة.

فتحت عينيها، مفتعلة تموجات على غطاء السرير بفعل وركها المكتنز تاركا آثارا محفّرة في مواضع مختلفة.

استفاقت على ضجيج أخواتها، كنّ يتشاجرن حول مساحيق التجميل، ويتبادلن اللعنات بلغة غير مفهومة للوالدين، بأسلوب قابع في البرود مع تعابير بالغة الاستفزاز.

استغرقها الأمر ثواني معدودة لتفعّل خاصية عدم الاكتراث لمثل هاته المناوشات المعتادة كل صباح ومساء، ليس من السهل أن تحشر أربع أسرّة في غرفة واحدة دون أن تحدث بعض الجلبة، فما بالك بحجم الصراع بين ثمانية أرجل متحركة فيما تبقى من هذه المساحة الضيقة.

قبل أن تنهض ألقت بأطراف بنانها على الرف المجاور لها تتحسس هاتفها في تصرف واع، قوامه عادات جيل الأنترنيت، إشعارات الشاشة تظهر رسائل كثيرة، من بينها رسالة مميزة تحمل اسم «حبيبي» باللغة الإنجليزية، أسواقنا استهلاكيّة حتى النخاع؛ حتى الكلمات باتت تُستورد من الخارج.

أصبحت طرفا من النزاع القائم بين الأخوات حول أدوات الزينة بعد قراءة الرسالة، غمرها الحماس فجأة وانتابتها عدوى اللقاء الأول المتأجج بتوقعات جامحة ظلّت حبيسة مواقع التواصل لمدة طويلة، نالت نصيبها من الشتائم التي كان لها وقع أنشودة صوفية على مسامعها، لم تزدها إلاّ إثارةً وهدوءً بعدما خطّت آخر سطر كحل يوحي بكثافة رموشها.

وقفت بكامل أناقتها المصطنعة أمام حافلة النقل ، وهي تغالب مشاعر التوتر الذي خالجتها للتو مما ولّد لديها رغبة في القيء عززتها روائح عرق الركاب المختلطة، سرعان ما اندثر ذلك القرف بحلول محطة النزول، لم تتوقف الرسائل بينها و بين حبيبها المفترض، اندفاع البدايات بداعي الاطمئنان والاهتمام، في طريقها إليه أطلقت العنان لخيالات تلهي هواجس مخاوفها بالانكباب على توقعات رومانسية؛ «ربما أنال عناقا حارّا بالغ الشدة و الخشونة» ، لم تكن فكرة أو خيالًا مجردا، بل رغبة تثير شهوتها و تصيب جسدها الأنثوي بالنشوة المفرطة.

 الآن و هي تقف أمامه تفصل بينهما خطوات قليلة، تلاشت كل أحلامها و انطفأت كل رغباتها تجاهه ، عاودها ذلك الإحساس المقرف بالقيء مرة أخرى، صمت رتيب يخالف تماما وابل اللعنات التي تكيلها للحظ ولنفسها و لكل شيء أمامها، و يشابه جمود ملامحها أمامه، مدّت يدها للسلام بكل برود و هي تقاوم رغبتها في الركض بعيدا، و أن تنسى تماما هذا اليوم، وليحذف من سجل ذاكرتها، لقد صدمها الزيف المتواتر على مواقع التواصل، فقسمات وجهه الدميم لا تنتمي لجمال الصور البتّة، و لأنه بديهي أن تأتي المصائب تِباعا، زادها الكعب العالي فرقا في الطول للدرجة التي تجعل المارة يبدون نظرات متنمّرة .

هو أيضا وقعت في نفسه سيوف الخزي، لتمزق ما تبقى من خيوط الحوار المحتشم، كانا معاً يتبادلان كلمات يوجبها بروتوكول الموقف، عازمين على إنهاء اللقاء بألطف سبل اللباقة الممكنة، لقد درجوا في اللحظات الأخيرة على إغماض أعينهم على إحباطات الانتظار و التوقعات التي شيدتها ليالي السمر و تبادل الوعود عبر الهاتف، واقع افتراضي أقاموا بنيانه بملاط الزيف المتواصل، أزعجها منظره المغاير لما يبدوا عليه، حقيقة للحد الذي تناست فيه أنها لا تختلف عنه كثيرا، غير أنه بعكسها لا يستطيع تثبيت تعديلات الصور على وجهه كما "المكياج" .

وكان أن وجد عشيقَا الأمس أعذارا قابلة للتصديق مهما بلغ انكشافها، للتخلص من عبء هذا الجحيم، فكلاهما كان على أهبة الاستعداد لتطبيق تكتيك هروب أنيق.

عتّمت سحابة الهم على قلبها وهي تجر ذيول الخيبة من جديد، لم تبال وهي تحدّث نفسها وسط الشارع المكتظ بالمارة مقطبة جبينها؛ «قد أقبل كل ضفادع العالم، لكني قطعا لن أقبّل أميرا أقصر مني».

قاطع رنين الهاتف همساتها، لتقرأ الرسالة التي أسقطتها مغشية بلا حراك؛ «إن لم أحصل على مرادي منك، سأفضحك وأنشر صورك العارية في كل مكان».

الرسالة كانت معنونة باسم «حبيبي» محاطا بقلبين بنفسجيين صغيرين، قبل أن يغطّي السواد تلقائيا شاشة الهاتف الملقى على الرصيف بعد دقيقة كاملة، كما هو مبرمج في الإعدادات. 

 

تطوان، المغرب