يتتبع الناقد صدوق نورالدين في كتابه "عبدالله العروي بين التمثل الذاتي وصورة العالم" تجربة المفكر والروائي المرموق في ما يتعلق بالرواية وعلاقته بها، مقدما توسيعًا نقديًّا لما أنجزه وأيضا استكمالا لكتابه السابق "عبدالله العروي وحداثة الرواية"، وخُصَّت فيه التجربة الإبداعية للعروي متمثلة في رباعيته بالدرس والتحليل، وهي لحظة نقدية أيضا وليدة التحققات الأدبية السردية التي نشرها الروائي لاحقا.

عبدالله العروي بين التمثل الذاتي وصورة العالم

 

عبدالله العروي المثقف المأسور الذي يبني عالما ثانيا

الرواية عند الكاتب عبدالله العروي ليست مجرد حكاية درامية أخلاقية مباشرة ونمطية في تقنياتها على مستوى الشخوص والفضاء العام.

إن كتابة الفكر عن طريق الرواية، أو العكس كتابة الرواية عن طريق الفلسفة، ليست بالأمر السهل؛ فتداخل الفكري بالجمالي يتطلب جهدا كبيرا للمحافظة على كليهما، توهج السرد ودقة الأفكار. وهذا ما نجده ماثلا عند المفكر والكاتب المغربي عبدالله العروي الذي ألف عددا من الروايات تستكمل مساره كمفكر ومؤرخ، وهو ما يبينه كتاب نقدي جديد عن العروي.

عمان- وجد العديد من المفكرين العرب في السرد الروائي ملاذا للتعبير عن مواقفهم وتأملاتهم وتجاربهم، وبث أفكارهم المتعلقة بالمعضلات السياسية والاجتماعية والدينية، والكون والطبيعة، وعالم ما وراء الطبيعة، بصيغة تمثيل واقعي أو تخييلي رمزي.

ومن هؤلاء المفكر والكاتب المغربي عبدالله العروي الذي صاغ أبرز أفكاره وتمثلاته الفكرية والثقافية وحتى الأدبية في قالب روائي أو في شكل من الحكي يجعل من تصوراته متجسدة وحيوية وأكثر قدرة على الفهم والاستيعاب والانتشار.

الرواية والفلسفة

يتتبع الناقد المغربي صدوق نورالدين في كتابه “عبدالله العروي بين التمثل الذاتي وصورة العالم” تجربة مواطنه العروي في ما يتعلق بالرواية وعلاقته بها، مقدما توسيعًا نقديًّا لما أنجزه العروي، في محاولة للتركيز على التعبير الأدبي من خلال تنوع أشكاله، إلى المضامين المعبَّر عنها خلال مسيرة العروي، رجل الآداب في تصوّراته النقدية ومواقفه الأدبية حول الكتابة الروائية عالميًّا وعربيًّا.

ويعدّ هذا الكتاب، الصادر عن “الآن ناشرون وموزعون”، استكمالاً لعمل نُشر في عام  1994 تحت عنوان “عبدالله العروي وحداثة الرواية”، وخُصَّت فيه التجربة الإبداعية للعروي -متمثلة في رباعيته (الغربة، اليتيم، الفريق، أوراق)- بالدرس والتحليل.

ويقول الناقد في مقدمة الكتاب إنّ “خطة الاستكمال” وليدة التحققات الأدبية السردية التي نشرها الروائي العروي في روايتين هما “غيلةو”الآفة”، واليوميات “خواطر الصباح” التي ظهرت في أربعة أجزاء، وصولاً إلى مسرحية “رجل الذكرى” التي أُعيد نشرها في كتاب عام 2014.

وإذا كان العروي قد قدم لنا سيرته الذهنية، بمعنى ما، عبر شخصية إدريس ومن خلال ثلاثيته الروائية “الغربة” و”اليتيم” و”أوراق”، فها هو يقدم لنا سيرته الفكرية ورحلته مع المفاهيم عبر محكيات كتابه “نقد المفاهيم”. وبالفعل نحن أمام تفكير بنفَس سردي؛ حيث نجد العروي “يروي”، وهو يتحدث بضمير المتكلم، منذ المقدمة، وهو أسلوب كرره في أكثر من كتاب.

ألم يقل العروي، وهو الروائي، إنه يكتب الرواية حين لا يستطيع أن يقول ما يريد قوله كمفكر ومؤرخ أيضا. لكنه يظل عقلانيا وديكارتيا بمعنى خاص.

الرواية عند العروي ليست مجرد حكاية درامية أخلاقية، مباشرة ونمطية في تقنياتها على مستوى الشخوص والفضاء العام، فهو يعي تحولات الرواية الحديثة بشكل كامل، الرواية التي حققت قطيعة معرفية وفنية مع رواية البدايات الحافلة بالمباشرة والوقائعية والعبر الساذجة، وأصبحت اليوم مغامرة وتجريبا، ومستودعا للأفكار والتأملات الوجودية والرؤى العميقة في الواقع والإنسان وصراعاته الداخلية والخارجية، واتكأت شكلا ومضمونا على الفلسفة والنقد الأدبي الفلسفي، وصنعت منها الفلسفة ومن وجودها في الرواية ما يسمى الرواية الذهنية.

الرواية عند العروي على علاقة بالفلسفة بالضرورة، علاقة ظلت على امتداد التاريخ الأدبي جدلية وذات مستويات متعددة، فهي تارة مضمون الرواية وحمولتها الكلية، وتارة أخرى تحمل وتناقش بالتخييل ما تناقشه الفلسفة بالعقل والاستدلال موضوعات الراهن العربي الذي يعج بالمفارقات والثنائيات الضدية وأهمها سؤال: الهوية والحب والحرية والاغتراب وثنائية الأنا والآخر أو الشرق والغرب، إضافة إلى القضايا الجمالية والقيم الإنسانية وغيرها.

الأديب المثقف

يرى صدوق نورالدين أنّ ما انتهى إليه العروي “يعكس صورة الأديب المثقف الذي يأسره الوجدان، وتتمكن منه اللغة السردية في محاولة لبناء عالم ثانٍ ينهض ويتأسس على أنقاض أول رؤية تخييلية تجد في ابتكار الصورة الفنية الجمالية ترجمة لمواقف من الزمن، التاريخ والفن، وبالاستحضار الفاعل والمنتج للذاكرة كماضٍ يتغيّا فهم تحوّلات الحاضر وبناء آفاق المستقبل”.

ويؤكد أنّ منجز العروي “تجسيد لإضافة نوعية للمتن الروائي المغربي والعربي بحكم ارتهانه للرؤية التي طبعت سوسيولوجيا الأشكال الأدبية”.

وجاء الكتاب في خمسة أقسام، حيث تناول بداية “حداثة الرواية وأسئلة الكتابة عن الذات”، وحلّل القسم الثاني “الأسطوري الرمزي في رواية اليتيم‘”. وجاء القسم الثالث بعنوان “الآفة ورهان الخيال العلمي”، وتطرّق القسم الرابع إلى “الكتابة وتجربة اليوميات”، وتناول القسم الخامس “رجل الذكرى: في الشكل المسرحي للكتابة”.

ويُذكر أنّ صدوق نورالدين له مجموعة كبيرة من الإصدارات النقدية، من بينها “حدود النص الأدبي”، و”النص الأدبي.. مظاهر تجليات الصلة بالقديم، و”البداية في النص الروائي”، و”الذات والعالم.. دراسة في اليوميات، و”السردية العربية وإشكالية التأسيس”. أما عبدالله العروي، من مواليد أزمور في العام 1933، فهو أبرز المفكرين المغاربة والعرب المعاصرين.

وبعد اختتام مراحل دراسته الابتدائية والإعدادية والثانوية في المدارس المغربية التحق بمعهد الدراسات السياسية في باريس لدراسة العلوم السياسية، وواصل دراسته العليا ونال “دبلوم السلك الثالث” في التاريخ عام 1958، وحصل على شهادة “التبريز” (أستاذ مبرز) في الإسلاميات سنة 1963، وفي عام 1976 حصل على دكتوراه الدولة عن أطروحة “الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية: 1830 – 1912”، بجامعة “السوربون” العريقة في فرنسا. عمل أستاذا في جامعة محمد الخامس بالرباط، وفي عدد من الجامعات الفرنسية والأميركية، قبل أن يتقاعد ويتفرغ للتأليف والكتابة.

في رصيد العروي أكثر من ثلاثين كتابا بين العربية والفرنسية، في مجالات التاريخ والفلسفة والفكر العربي والرواية والسيرة الذاتية.

فالعروي باختلاف أعماله يحل في منزلة المؤسس لحراك فكري وثقافي امتد من المغرب إلى المشرق، إذ لم يتوقف تأثيره عند حدود الجامعات والمؤسسات العلمية وإنما شمل مجالات الفكر السياسي العربي وطبع الكثير من الممارسات الثقافية.