يتقصى الناقد الأردني هنا دلالات الأطلال في المعلقات باعتبارها من الراوسي الأساسية في هذا الشعر، ومرتكزا من مرتكزاته الوجودية والفلسفية على السواء. حيث تثير مشاعر الشجن والبكاء، وإن سعى الشاعر لأنسنة المكان وبث الحياة في أطلاله كي يدعّ عنه عوادي الفناء والعدم.

الأطلال في شعر المعلقات

إبراهيم أبو عواد

 

ارتبط شِعرُ المُعلَّقات بالأطلال (آثار الديار) ارتباطًا وثيقًا. فالديارُ المهجورةُ والرسومُ الباليةُ والأطلالُ الخاليةُ كلها مرتكزات أساسية في فلسفة الشِّعر العربي القديم. والقضيةُ ليست قضيةَ حجارة وتراب، وإنما هي قضية أعمار جميلة هاربة بلا عودة، وذكريات دافئة مختبئة في زوايا الذاكرة السحيقة، وآثار الأحبة الذين تركوا بصمتهم في النَّفْس الشاعرة ثم غابوا في طوايا الزمن. كما أن الأطلال تُجسِّد عملية "اندثار المكان ومرور الزمن"، وهذه العملية تُورِث لوعةً حارقة في الوجدان الإنساني. ويمكن القول إن الأطلال هي الضريبة القاسية التي يَدفعها الشاعرُ من رُوحه وفكره وأعصابه وعُمره. يَدفعها بكامل إرادته، وكأنه اختارَ العذابَ طواعيةً دون إكراه. إنه يَذهب إلى مملكة الآلام بِرِجْلَيْه، باحثًا عن الطهارة والتطهر والتطهير. طهارة روحه وجسده، والتطهر من هواجس السنوات القاسية وتركةِ الأيام الثقيلة، وتطهير كِيانه من النسيان وقسوة القلب، وبرودة الأعصاب. إن الشاعرَ يذهب إلى المحرقة بملء إرادته، ويَحرق أعصابه ومشاعره بشكل إرادي، لعله ينالَ الطُّهر المنشود، ولعلَّ نارَ الذكريات المنبعثة من الأطلال تنقِّي رُوحه مثلما تنقِّي النارُ الذهبَ.

ولا يَكتفي الشاعرُ بالوقوف على الأطلال، وإنما يَطرح عليها الأسئلة بلسان الحال أو بلسان المقال. فهو لا يَقْدر على الوقوف كالصنم بلا تفكير، فلا بد أن يتفكر في المشهد المرسوم أمامه، ويُسائله. وهذا يَعني أن مشاعره سَتَغْلي في قِدْر الأيام الراحلة، وأن قلبه سيحترق في بَوْتقة التاريخ الجارف الذي لا يَعبأ بمشاعر الناس أو اقتراحاتهم. والشاعرُ - بوقوفه على الأطلال - يَبعث فيها الرُّوحَ، ويستعيدها من قبضة الزمن، ولو بشكل مؤقَّت. وسوفَ تظل الأطلالُ حجرَ الزاوية في قلعة الفِعل الشِّعري، والركيزةَ الأساسية في عالَمِ الذكرياتِ والحبِّ الضائعِ.

1- الدعوة إلى البكاء :
العلاقةُ بين الأطلال والبكاء علاقة مركزية ومصيرية تُجسِّد ثنائيةَ السبب والمسبِّب، والفعل والنتيجة. فالبكاءُ هو رَجْعُ صدى السنوات الجميلة الماضية، وهو محاولة لإعادة بناء الأطلال في الذاكرة، واستحضار رُوح سُكَّانها. فالدموعُ تمثِّل محاولة لترميم النَّفْس الإنسانية، وترتيب حجارة الأبنية المندثرة الحاملة لأرواح الأحبة، ولمعانِ وجوههم، وأحلامهم، وأفراحهم، وأحزانهم. وستظل الأطلالُ هي الأساس الفلسفي لتحول الربيع إلى خريف، وتحول المشاعر إلى حجارة، وتحول الأعمار إلى غبار متطاير.

يقول الشاعرُ امرؤ القَيْس :

قفا نبْكِ من ذِكرى حَبيبٍ وَمَنْزِلِ    بسِقطِ اللوى بينَ الدَّخول فحَوْمَلِ

خاطبَ الواحدَ خطابَ الاثنين. وهذا أسلوبُ العرب في الكلام، لأن الرَّجلَ يكون أدنى أعوانه راعي إبله وراعي غنمه. يُوجِّه الشاعرُ دعوةً للبكاء، فيقول: قفا وأسعدني على البكاء عند تذكري حبيبًا فارقتُه، ومنزلًا خرجتُ منه. إن غيابَ الحبيب والخروجَ من المنزل قد تركا جُرحًا غائرًا في قلب الشاعر، ونزيفًا عميقًا في كلماته. ولم يجد حلًّا لهذه المُعضلة سوى البكاء. فالبكاءُ تنفيسٌ، وتخفيفٌ للضغط الواقع على الأعصاب والأحاسيس، وهو عملية تطهير ذاتي تعيد العواطف إلى نِصابها الصحيح. كما أن سَكْبَ الدموع يؤدي إلى استعادة التوازن العاطفي، والتخلصِ من الاحتقان الداخلي الذي يَقتل روحَ الإنسان، ويشلُّ تفكيره. وما حرصُ الشاعرِ على البكاء إلا لمنع الانفجار، والحيلولة دون الانهيار، فكثرةُ الضغط تولِّد الانفجارَ.

وهو لا يَكتفي بالبكاء، بل – أيضًا- يَربطه بالأماكن المتجذرة في قلبه. فيقول: وذلك المنزل أو ذلك الحبيب أو ذلك البكاء بسِقط اللوى (منقطع الرمل المعوج) بين الدَّخول وحَوْمل (مَوْضِعان). وهذا يدل على الحضور العاصف للمكان في وجدان الشاعر. فالبكاءُ يمكن اعتباره فِعلًا زمنيًّا مرتبطًا بالذكريات والماضي الجميل، ولا بد من رَبْطه بالحاضنة المكانية التي يَنبعث منها الشعورُ والذِّكرى.

2- أنسنة المكان ومخاطبة الحجارة :
أضفى الشِّعرُ على الأماكن صفاتٍ إنسانية، ومعانٍ وجدانية، فصارَ المكان جسدًا من لحم ودَم، وصارت الحجارةُ جوارح في هذا الجسد المكسور. ووفق هذا المنظور، لم يعد غريبًا أن تتماهى خصائص الجسم الإنساني مع خصائص الجسم المكاني الجغرافي. كما أن مخاطبة الحجارةَ، وطرح السؤال عليها، وانتظار الإجابة، أضحت أشياء عادية ومتوقَّعة. وهنا تكمن قوة الشِّعر، إذ إنه القادر على تحويل اللامعقول إلى معقول، والجماد إلى كائن حَي، والعَدَم إلى وجود، والنسيان إلى ذاكرة، والماضي إلى مستقبل، والهامشي إلى مركزي، والخريف إلى ربيع.

 يقول الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

لِخوْلَةَ أطلالٌ بِبُرقَةِ ثَهْمَــــدِ          تَلوحُ كباقي الوَشْمِ في ظاهرِ اليَدِ

يَعودُ الشاعرُ إلى محرقة الذِّكرى. يتذكر هذه المرأة (خَوْلة)، ولا بد أنها عزيزة على قلبه، وإلا لَمَا ذَكَرها. كما أن رسوخ اسمها في ذاكرته بعد مضي كل هذه السنوات يدل على أن حضورها في حياته كان متجذرًا لا عابرًا. وكلُّ رَجلٍ في حياته امرأةٌ مركزية (لاعبة أساسية) ونساء أطراف (لاعبات احتياط). والمرأةُ المركزية هي التي تظل في مخيِّلة الإنسان بعد أن يَنسى كلَّ وجوه النساء، وهي بذلك تكون عَصِيَّةً على النسيان، ولا يمكن أن يَحرق وجهَها مرورُ السنوات. وخَوْلة كانت من هذا النوع بالنسبة للشاعر. ومَن أحبَّ امرأةً أحبَّ التفاصيلَ المحيطة بها. ولا تُوجَد امرأةٌ هُلامية تتحرك في الفراغ. إنها تتحرك على صعيد الزمان والمكان معًا. لقد اكتشفَ الشاعرُ البُعدَ الزماني بالعودة إلى الماضي. وبصورة تزامنية لا تعاقبية، اكتشفَ البعدَ المكاني. لذلك نجده يقول : لهذه المرأة أطلال ديار ببُرقة (وهو المكان الذي يخالط أرضه حجارة وحصى) من ثهمد (مَوْضع). كلُّ هذه التفاصيل راسخةٌ في وجدان الشاعر، ومتدفقة في كلامه. وهذه التداعياتُ ملتصقة بالحب الذي صار ذِكْرى، أي إن الشعورَ تحوَّل إلى ماضٍ. وبعبارة أخرى، لقد تحوَّل الإحساسُ إلى إطار زمني تاريخي. وكأن الحُلمَ الجميلَ صار وثيقةً تاريخية لا أكثر ولا أقل.

وهذه الأطلالُ تَلمعُ لمعانَ بقايا الوشم في ظاهر الكف. ويمكن بناء هذه المتوالية الشعرية (المكان = ظاهر الكَف / الديار = الوشم / الأطلال = بقايا الوشم). شَبَّه لمعانَ آثار ديارها ووضوحها بلمعان آثار الوشم في ظاهر الكف. والشاعرُ يقوم بعملية أنسنة المكان. إنه يُؤَنْسِن العناصرَ المادية، أي: يُسقِط عليها صفاتٍ إنسانية. وبالتالي، تحوَّل المكانُ إلى قلبٍ نابض بالحيوية، حيويةِ الذكريات والأحلام المبنية في العالَم الموازي للعالَم الواقعي. فالشاعرُ يتحرك في عالَم افتراضي، ويُعيد بناء الماضي في الحاضر لكي يَراه ويَستمتع برؤيته. وهذه المتعةُ منبعثة من العذاب، وكأنَّ عذابَ الحب أجملُ من الحب. والشاعرُ يتحركُ في عالَم الأنقاض والركام. صارت حياته جزئيةً لا كُلِّيةً، لأنه يَسبح في كَوْمة البقايا.فبقايا القلب الكسير المتشظي تتماهى مع بقايا الديار المتماهية مع بقايا الوشم. وهذه البقايا المتسلسلة عبارة عن شظايا تشكِّل في مجموعها الصورة الكاملة لحالة الشاعر النَّفسية.

إن الأطلال تَلْمع تتوهَّج تشتعل في ذاكرة الشاعر وقلبه وعواطفه، وتصبح ضوءًا بعيدًا خافتًا لكنه قادر على جذب الشاعر وإرشاده. وكأنه الضوءُ في آخر النفق، أو الأملُ الأخير في هذا الانهيار الشامل. وهذا اللمعانُ يُشبِه لمعانَ آثار الوَشم في ظاهر الكَف. ولا يَخفى أن الوشمَ فِعلٌ ملتصق بالطبيعة الأنثوية لا الذكورية. وكأن انهيارَ المكانِ وتحوُّله إلى بقايا يدل على انهيار الأنوثة وتحوُّلها إلى أنقاض. وهذا الركامُ بِشِقَّيه (الأطلال/ جسد المرأة) هو ما بقي في أحاسيس الشاعر الممزَّقة.

 ويقول الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :

أَمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَةٌ لَمْ تَكلَّمِ         بحَوْمَانَةِ الدَّرَّاجِ فالمُتثلِّـمِ

يَسبح الشاعرُ في بحر الذكريات، ويَغرق في شكوكه المنبعثة من طول المسافة الزمنية بينه وبين الحبيبة (أُم أوفى). والدِّمنةُ هي ما اسودَّ من آثار الدار بالبعر والرماد وغيرهما. فيقولُ: أمن منازل الحبيبة أم أوفى دمنة لا تجيب سؤالها بهذين الموضعين (بحَوْمَانَةِ الدَّرَّاجِ فالمُتثلِّمِ). يتذكرُ منازلَ الحبيبة. هنا عاشت أُمُّ أوفى. وهذه المنازلُ احتضنت حياةَ هذه المرأة بكل تفاصيلها. كانت ديارًا تعجُّ بالحركة والصخب والضحكات والحلم بمستقبل مشرق، أمَّا الآن فصارت أطلالًا حزينة معجونة بالفراغ والنهايات المؤلمة والوحشة المخيفة. وهذا السكون الموحش لن يَطرح الأسئلةَ ولن يُجيب عنها. فالعَدَمُ المسيطر على المكان هو السؤال والإجابة في آنٍ معًا.

وقد وضع الشاعرُ كلامَه في فُوَّهة الشك والظنون ليشير بذلك إلى أنه لم يَعرف آثارَ الديار بشكل يقيني، وذلك بسبب مرور السنوات، وبُعد عهده بالمكان، وفَرْطِ تغيُّره. فالزمنُ قد سَلبه اليقينَ والدقةَ، وأورثه شكوكًا وخيالاتٍ. وكلُّ مكانٍ لا بد أن يَخضع لعجلة الزمن، والسنواتُ لا بد أن تجرف الذاكرةَ والذكرياتِ.

ويقول الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

فَوَقَفتُ أسألُها وكيفَ سؤالُنا         صُمًّا خَوَالِدَ ما يَبينُ كَلامُها

سقطَ الشاعرُ في الذهول بسبب مرور الزمان وانهيار المكان، ووقعَ ضحيةً للصدمة القادمة من فِراق الأحباب، وسيطرتْ عليه المصيبة التي شَلَّت تفكيرَه، وقيَّدت حواسَّه. فنراه يقف يسأل الطلول عن سكانها. إنه يسأل الحجارةَ الخرساء التي لا تَقدر على الكلام. وهذا يُشير إلى حجم المأساة العاطفية التي يَغرق فيها الشاعرُ، ووصوله إلى غاية الشغف والوله، وكأنه فاقدٌ لقواه العقلية، أو يعيش في حالة غيبوبة، يَسأل الجمادَ ويَنتظر الإجابة، كما لو كان إنسانًا. وقد تدارك أمرَه، واستيقظ من غيبوبته الشاعرية، وبطلَ سِحرُ وجوه الأحبة، وانتهى تأثيرُ المكان. وها هُوَ يقول: وكيف سؤالنا حجارة صِلابًا بواقي لا يَظهر كلامها.

إن هذا السؤال بلا جَدْوى، فلا يوجد أحدٌ لكي يُجيب. فمخاطبةُ الجماد مضيعةٌ للوقت، وطرحُ الأسئلة على العَدَم عَدَمٌ. وقد أضاعَ الشاعرُ وقتَه بطرح السؤال على الأطلال، لكنه كان واقعًا تحت تأثير المصيبة العنيفة. وعندما أفاقَ من تأثير الصدمة، شعرَ بحجم مأزقه الوجودي، وأحس بخيبة كبيرة، لأنه أدركَ أن سؤاله سيظل بلا إجابة.

ويقول الشاعرُ عنترة بن شَدَّاد :

يا دارَ عَبْلةَ بالجِواءِ تكلَّمـــي        وعِمِي صَباحًا دارَ عَبْلةَ واسْلَمي

إن الشاعرَ واقعٌ تحت تأثير صدمةِ الحزن، ولَوْعةِ الغياب، وحُرقةِ الذكريات. لذلك فهو يُخاطِب دار حبيبته بالجِواء (مَوْضع بِعَيْنه)، ويَطلب من هذه الدار أن تتكلم وتخبره عن أهلها ما فَعلوا. لم يَجد أحدًا لكي يُخاطبه، فبدأ بمخاطبة الحجارة الخرساء. وهذا مؤشرٌ باهر على النار المتأججة في صدر الشاعر، نارِ الفِراق والفراغِ. ومخاطبةُ الجماداتِ دليلٌ واضحٌ على احتراقِ المشاعر، وتشتتِ الذهن، وسيطرةِ الحزن العميق. غرقَ الشاعرُ في الخيالات والأوهام، وصار مريضًا بالوهم. يخاطبُ الجمادَ كما لو كان إنسانًا، ويَنتظر إخبارَه عن مصير أهل الدار، وهذا منتهى اللوعة والعذاب. وكما قيل إن الغريقَ يتعلق بحبال الهواء. ثم انتقلَ إلى تحية دار حبيبته التي ضَمَّت بين أركانها ذكرياتِ العشق، وأحزانَ البِعاد. والتحيةُ "عِمْ صباحًا أو عِمِي صباحًا" كانت التحيةَ المعتمدة في الجاهلية، ومعناها طاب عَيْشك في صباحك. والشاعرُ لم يَجد حبيبته لكي يُحَيِّيَها، فراحَ يُحيِّي دارَها (رائحة الأحباب)، ويتمنى لها طِيب العَيش في صباحها، وأن تَسْلم من كل مكروه. وهذا يُجسِّد الحفاظَ على الذكرى، والأثرِ الباقي. فبقايا الديار تشير إلى بقايا القلوب البشرية.

3- سيطرةُ الفراغ (العَدَم):
ضربَ الفراغُ أوتادَه في المكان بكل وحشية غير عابئ بشيء. وتفشَّى الفَنَاءُ في أوصال الحجارة، ورحلَ السكانُ إلى غير رَجعة. إنها مشاعر مؤلمة تُورِث في النَّفْس حسرةً أبدية، ولوعةً لامتناهية. وتأثيرُ هذه العواطف المنكسرة على العشاق والشعراء يكون مُضَاعَفًا بسبب ارتفاع منسوب الأحاسيس في أجسامهم، وسهولة تأثرهم، ورِقَّةِ طباعهم. فما بالكَ إذا كان العاشقُ شاعرًا أو كان الشاعرُ عاشقًا؟!

 يقول الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة:

عَفَت الدِّيارُ مَحَلُّها فَمُقامُها         بِمِنًى تأبَّدَ غَوْلُها فَرِجامُهـا

الفَنَاءُ يَضرب العمودَ الفقري للمكان. لقد عَفَت ديارُ الأحباب. صارت آثارًا باكيةً، وبقايا حزينةً. انمحت منازلهم كأنها لم تكن أصلًا. لم يُميِّز الفراغُ بين منازل الحُلولِ ومنازلِ الإقامة، فكلُّها قد انمحت، وكان الفَنَاءُ شاملًا. ولم تصمد الحجارةُ أمام مِمحاة الزمن. وهذه الديارُ كانت بالمَوضع المُسمَّى مِنى (غَير مِنى الحَرَم)، وقد توحَّشت الديار الغَولية والديار الرِّجامية. والغَولُ والرِّجامُ جبلان معروفان. آلت الديارُ التي كانت عامرةً بأهلها إلى أماكن كئيبة موحشة ومتوحِّشة بسبب رحيل سُكانها. وكأن الديار تحنُّ إلى قاطنيها، وتشتاق إليهم، وتتأثر عاطفيًّا بفراقهم. لقد رَحل السكانُ إلى غير رجعة، تاركين وراءهم الأحلام والآمال والأوقات الجميلة. غابوا في سراديب الزمن، تركوا أعمارَهم وراءهم، ورَحلوا بقلوب كسيرة. وبعد رحيلهم، انكسرت قلوبُ الحجارة، وتوحَّشت الديارُ.

ولا يَخفى أن آثارَ الديار تَبعث في النَّفْس شعورًا بالحزن والألم. فهي تشير إلى بقايا أحلام إنسانية تبخَّرت في الهواء، وتدل على رُكام المشاعر الإنسانية التي زالت من الوجود. والبنيةُ الفلسفية للأطلال غارقة في الحزن والألم، لأنها بُنية فراغية معتمة وَرثت الوجودَ اللامع. ولا بد أن يَندلع الحزنُ إذا تحوَّل الوجودُ إلى فراغ، وآلَ العمرانُ إلى خَراب، وصارت الحياةُ عَدَمًا.

ويقول الشاعرُ عنترة بن شدَّاد:

هَلْ غَادَرَ الشُّعراءُ مِن مُتَـرَدَّمِ              أمْ هَل عَرَفْتَ الدارَ بعدَ تَوَهُّمِ

كلُّ شيء قد قِيل، وانتهى الموضوع! والشاعرُ يسأل: هل تركَ الشعراءُ موضعًا مسترقعًا إلا وقد رقعوه وأصلحوه؟. والمُتَرَدَّمُ هو المَوضع الذي يُسْتَرْقَع ويُسْتَصْلَح لِمَا اعتراه من الوَهْن. والمعنى: لَم يَترك الشعراءُ شيئًا إلا وحوَّلوه إلى شِعر، ولم يَتركوا شاردةً ولا واردةً، إلا وتحدَّثوا عنها، وصاغوا فيها شِعرًا. وكأن عنترة يقول: لقد سبقني الشعراءُ وقالوا كلَّ شيء، ولم يَتركوا لي شيئًا لأقوله. وهذا يدل على سيطرة السَّآمة والمَلَل على نَفْسِ الشاعر، وشعوره بالضجر من الأشياء السائدة. وكأنه يَعتبر نَفْسَه عاجزًا، وغير قادر على الإبداع، ليس بسبب ضعف مستواه، وإنما بسبب التراكمات الشعرية السابقة التي اشتملت على كل شيء، ولم يُفْلِت من قبضتها أيُّ موضوع. وهذا التراثُ الشعريُّ الشاملُ شَيَّده الشعراءُ قبل مجيء عنترة.

وهذا التمهيدُ الشعري يُشكِّل أولوية في ذهن عنترة قبل الحديث عن موضوع الأطلال، لأن كثيرًا من الشعراء قَبْلَه تحدَّثوا عن موضوع الأطلال/ ديار الحبيبة. وبالتالي فإن عنترة يريد تقديم توطئة شِعرية، وكأنه يقول للسامع أو القارئ: لا تعتبرني مُقَلِّدًا للشعراء الذين سبقوني إذا تحدثتُ عن موضوع الأطلال، فإن الشعراء لم يَتركوا شيئًا إلا وصاغوا فيه شِعرًا. وبعبارة أخرى، لم يَترك الأول للآخِر شيئًا. وهذه العمليةُ يمكن اعتبارها نوعًا من التماسِ العُذر، ورفعِ الحَرَج، وإبعادِ اللوم عنه، وسحبِ البساط من تحت أقدام اللائمين المُفْتَرَضِين. وبعد هذا التمهيد (التوطئة الشعرية ذات البُعد التاريخي) التي قَدَّمها عنترة، يَدخل إلى موضوع الأطلال بصورةٍ واثقةٍ، ومتحررةٍ من ضغط العناصر المحيطة. فيقول: هل عرفتَ دار عشيقتك بعد شَكِّك فيها؟.

إنها الأطلالُ، بقايا الديار التي صارت أشباحًا تَحوم في المكان، وذرَّاتِ غُبار سابحة في الهواء. وقد ولَّد مرورُ السنوات في نَفْسِ الشاعر شَكًّا، وأوهامًا كثيرة حول هذه الديار، بسبب تغير الأزمنة واختلاف الأمكنة. وبالطبع، إن مرورَ الزمن يُورث الشُّكوك في النَّفْس البشرية حول طبيعة الشخصيات، وشكلِ الأمكنة. أمَّا العشيقةُ فصارت جُزءًا من الذكريات السحيقة، وحُلْمًا مِن الماضي البعيد.

ويقولُ الشاعرُ النابغة الذُّبياني :

يا دارَ مَيَّةَ بِالعَلْياء فالسَّــندِ         أَقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْها سَالِفُ الأبدِ

يتذكر الشاعرُ مَيَّة (اسم المرأة التي يُشبِّب بها). وقد رَحلت إلى غير رَجعة، واختفت عن عيون الشاعر إلى الأبد. وما بقيَ من ذِكرها غير دارها التي يُخاطبها الشاعرُ مُلتاعًا وحزينًا. والعلياءُ: المُرتفع من الأرض. والسَّندُ: سند الوادي إلى الجبل (أول ارتفاعه). ثم جاءَ الفراغُ القاتلُ، والعَدَمُ الحارقُ. وَقعت حجارةُ الدار في قبضة الزمن الطاحنة، وخَلَت الديارُ من أهلها (أَقْوَت). صارت الديارُ فارغةً منطفئة. وهذا الانطفاءُ الرهيب كان - في الماضي - شُعلةً من الحُب والحياة واللمعان. كلُّ هذه المعاني الصاخبة ذَهبت ولن تَعود. فقد مَرَّت السنواتُ، وطالَ على الديار سالف الأبد (الماضي). لقد فرضَ الدهرُ شروطَه على البشر والحجارة.

ويقولُ الشاعرُ عُبَيد بن الأبرَص:

أَقْفَرَ مِن أهله مَلْحوبُ فالقُطَّبياتُ فالذَّنـوبُ

[مَلحوب : اسم ماء لبني أسد بن خُزيمة / القُطَّبيات : اسم جبل / الذَّنوب : اسم مَوْضع ]. يُخبِرنا الشاعرُ أن المكان قد خلا من أهله، وعَمَّ الفراغُ المخيف بسبب رحيل الناس الذين كانوا يُؤنسون وحشةَ المكان، ويؤنس وحشتهم. وعلى الرغم من هذه الصورة الحزينة، إلا أن الشاعر قد نجحَ في تخليد هذه الأماكن، وإدخالها في قاموس التراث الشِّعري، وجَعْلِها علاماتٍ فارقة في مسيرة الحضارة. وعلى الرغم من دخولها في دائرة الأطلال أو الأماكن المهجورة، إلا أنها ما زالت محتفظة بوجودها في ذاكرة الزمن، وهذا بفضل الشِّعر القادر على تخليد الذِّكرى، وصيانتها من الانطماس. والديارُ المندثرة والأطلالُ الخاليةُ، اختفى تأثيرها في الحَيِّز المكاني الجغرافي، لكنها ذات حضور راسخ في ذاكرة الشِّعر. فالشِّعر أعادَ ترميمها، وجَعَلَها أماكن عَصِيَّة على الاندثار والنسيان. كما أن الأحبة الراحلين غابوا في الإطار الواقعي، لكنهم يَتحركون في الفضاء الشِّعري الذي حَرَسَهم من الموت، وحفظَ ذكرياتِهم إلى الأبد.