تنشر (الكلمة) هنا الحوار المطوّل مع الفائز بجائزة نوبل هذا العام الذي أجرته تينا شتاينر معه بمناسبة صدور عدد خاص من مجله «الدراسات الانجليزية في أفريقيا English Studies in Africa» الاكاديمية عنه في مايو 2013 وهو العدد الذي يشكل مرجعا نقديا جادا عنه وعن أبرز أعماله الإبداعية.

حوار مع عبدالرزاق قُرنح

تينا شتاينر

ترجمة صبري حافظ

 

أُجريت هذه المقابلة يوم 11 سبتمبر2012  في جامعة كنت بمدينة كانتربري – وهي الجامعة التي عمل بها قُرنح حتى تقاعده منها قبل سنوات قليلة – وبعد الحديث عن الفجوات التي تعمر سيرته المتاحة وعن المعلومات المتوفرة عن حياته فإن هذا الحوار المسجل هنا يبدو وكأنه يبدأ من منتصف الطريق.

ت. ش: حينما تركت زنجبار كنت قد أنتهيت من امتحان الثانوية الأول O Level؟[1]

ع. ق: أنهيت دراستي الثانوية التمهيدية عام 1966، وكان من المتوقع بعدها أن أكمل بالثانوية المتخصصة A Level ولكن ذلك تواقت مع مرور عامين على الثورة في زنجبار،[2] ولذلك لم يفكروا في فتح فصول لتلك الثانوية، فلم يكن هناك عدد كاف من التلاميذ يسعون للالتحاق بها في ذلك الوقت في زنجبار. لأن كل من كانوا يكملون دراستهم الثانوية التمهيدية، كانوا يرسلون إلى ما كان يسمى وقتها بالخدمة الوطنية. وهو الأمر الذي يعني أنهم يرسلونهم إلى ما يشاءون من الأماكن التي يريدون إرسالهم لها. فقد أُرسل عدد كبير منا إلى المدارس كي يعملوا مساعدين للمدرسين. كما أرسل البعض إلى وظائف حكومية ليعملوا ككتبة في أدني السلم الوظيفي الحكومي، أو أي شيء من هذا القبيل. والواقع أنني أكتب عن هذا في روايتي الجديدة، بين أشياء كثيرة أخرى أتناولها فيها. إن هذا الأمر ليس من موضوعات الرواية الأساسية، ولكني أُشير إليه. هكذا تم توزيعنا، وقد أرسلت أنا إلى مدرسة نائية في الجزيرة.

ت. ش: وهل أُختير البعض كي يواصلوا الدراسة الجامعية، مثل شخصية «لطيف» الذي سافر إلى ألمانيا الشرقية في رواية (بجوار البحر By the Sea) حيث كان من الضروري إرسالهم للخارج. فهل كانت هذه هي الإمكانية الوحيدة المتاحة لمواصلة الدراسة؟

ع. ق: نعم! والواقع أن المكان الوحيد الذي كان يمكن السفر إليه هو ألمانيا الشرقية أو الاتحاد السوفييتي أو تشيكوسلوفاكيا، وغيرها من دول الكتلة الشرقية.[3] لأن هذه الدول قدمت للحكومة منحا دراسية، وقامت إدارة التعليم باختيار من تريد إرسالهم على هذه المنح. والواقع أن الأغلبية لم تكن راغبة في الذهاب، بسبب ذيوع فكرة أن هذه الدول تقدم تعليما منخفض القيمة والمستوى. وفي بعض الحالات – كما هو الحال في «بجوار البحر» - لمخاوف الأهالي من قيام الشيوعيين بغسيل عقول أبنائهم وغير ذلك من الأمور. لذلك فإن من بُعثوا للخارج للدراسة في هذه الدول كانوا من الذين تثق فيهم السلطة، أو أبناء من تثق السلطات فيهم.[4]

ت. ش: وهذا الأمر لم ينطبق عليك أو على أخيك؟

ع. ق: في الواقع أن هذ الأمر كان قليل الحدوث، ولكنه لم يكن مستحيلا. إذا ما أبدينا حماسا كافيا ربما أصبح الأمر ممكنا. لأنني أظن أن السلطات لم تستبعد أي شخص أو مجموعة بعينها. وأظن أنها كانت إحدى الوسائل السهلة لإظهار نوع من الارتباط والتحزب للسلطة. إذا ما أراد شخص أن يذهب حقا، فقد كانت هذه هي الطريقة التي يقول بها إنه في صف المؤسسة أو ينتمي إليها.

ت. ش: ألم يصبح هذا الأمر مستحيلا بعد الثورة؟

ع. ق: لا! ليس صحيحا! لأن الثورة كانت أمرا متشابكا، لأن أحد الانشقاقات عنها كانت تلك التي قام بها ما يسمى بحزب الأمة Umma Party والذي كان ضمن القوى التي قامت بالثورة. ولا أعرف إن كنت قد سمعت عن عبدالرحمن بابو (عبدالرحمن محمد بابو 1924-1996)؟ لقد أصبح وزيرا بارزا في حكومة تنزانيا بعد الاتحاد. وهناك أخرون مثل الضابط العسكري الكبير في جيش تنزانيا الذي كان أحد الذين شاركوا في ثورة زنجبار، والذي كان في جانب الوطنيين، بدلا من الانضمام إلى الجانب الأفرو شيرازي. لذلك كان هناك قدر كبير من السيولة. مع العلم بأن الأمر كله انتهى عندما أُغتيل كاروما (عبيد أماني كاروما، أول رئيس لزنجبار) مع أن الشخص الذي قام بعملية الاغتيال كان ينتمي هو الآخر إلى هذا الجانب. بعد ذلك تم طرد جميع هؤلاء وسجنهم، وكانت هناك فترة انتقال. ولكن في البداية لم يكن من السهل توصيف الأمر بأنه نوع من التقسيم العرقي. لأن هذه ببساطة هي القصة التي أرادوا نشرها فيما بعد. خاصة إذا ما أخذت بعين الاعتبار أن زوجة كاروما كانت هندية وأن أولاده نصف هنود نصف أفارقة. فزنجبار مكان غريب كما تعلمين!

ت. ش: لقد غادرت زنجبار عام 1968 بتأشيرة سياحية؟

ع. ق: لقد غادرنا في الواقع عام 1967. ولم تكن لدينا أيّ تأشيرة. في تلك الأيام لم يكن ممكنا الحصول على تأشيرة، كانت أوقاتا مضطربة، بسبب كل عمليات طرد الآسيويين من شرق أفريقيا. أنا لا أتحدث عن أمين (عيدي أمين رئيس إوغندا من 1971- 1979) وإنما عن كل الآخرين، فقد كان الكثيرون متخوفين من أي شخص يريد القدوم إلى بريطانيا من تلك المنطقة من العالم. ولذلك أعتقد أننا – أنا وأخي - ذهبنا إلى المعتمد البريطاني في دار السلام، ولكنه رفض إعطاءنا تأشيرة، وإن قال يمكنكما أخذ تأشيرة سياحية يمكنها أن تتيح لكما أن تبقيا هناك لشهر أو نحو ذلك. ولم يكن بيدنا حيلة، فجئنا هنا كسياح. وكان لدينا ابن عم قريب منا جدا، فقد نشأنا معا في بيت واحد، يدرس للدكتوراه في كلية واي Wye College وكانت تابعة لجامعة لندن، ولكن يبدو أن لديهم أوقاف هنا – أي بالقرب من مدينة كانتربري التي يدور فيها الحديث – وهذا ما يفسر أن الأمر انتهى بنا للإقامة في كانتربري. وقد جاء للقائنا بالمطار، وقال لنا ماذا تريدان الأن؟ وكنا نريد أن نكمل تعليمنا الثانوي المتقدم A Level فانتظمنا في الكلية التقنية في كانتربري لإنجاز ذلك. وقد أنهى ابن عمنا الدكتوراه في العام التالي وغادر، وبقينا وحدنا هنا. قد تسألين الآن وكيف تحولت التأشيرة السياحية إلى تأشيرة للدراسة؟ فأقول لك أن تلك الأيام كانت أكثر رحمة بالنسبة للمهاجرين. ولم يسألوا عما إذا كانت لدينا تأشيرة للدراسة أم لا، وإنما قيدونا في صفوفهم وواصلنا الدرس.

ت. ش: من المستحيل بل وغير المتصور الآن أن يحدث مثل هذا الأمر، ولا يتأكدون من تأشيرتكم!

ع. ق: بالنسبة للكلية التقنية، كانت التأشيرة أمرا يخص كل فرد، وليس لها شأن به في تلك الأيام.[5] لهذا فقد انخرطنا في الدراسة، وبعد قبولنا بها تقدمنا للحصول على تأشيرة دراسية، وكانت سلطات الهجرة في ذلك الوقت راضية عن ذلك بعد قليل من التوسل والتمثيل والبكاء، ولكنهم في النهاية قالوا نعم ولكن عليكم أن تسجلوا أنفسكم في مركز الشرطة القريب من مسكنكم، كي تتأكد الشرطة مرة كل شهر من أنكم بالفعل طلاب وتدرسون في تلك الكلية.

ت. ش: وكيف تحولت تأشيرة الدراسة إلى إقامة دائمة، أم أنك أصبحت مواطنا بريطانيا؟

ع. ق: نعم، في نهاية المطاف، وبعد ذلك بزمن طويل، تزوجت من امرأة انجليزية، وكان الأمر في ذلك الوقت يؤدي إلى الإقامة الطبيعية.[6] ولكن لمدة طويلة كنا نذهب إلى مركز الشرطة بتقرير من الكلية يثبت أننا نحضر دروسنا فيها. وبعد عدة شهور قال لنا ضابط الشرطة الذي كان علينا مقابلته كل شهر، أنه لم تعد بكما حاجة إلى المجيء هنا كل شهر، لقد تأكدت من جدية انتظامكم في الدراسة.

ت. ش: وكم استغرق من الوقت الحصول على الثانوية المتخصصة A Level؟

ع. ق: عامان!

ت. ش: وهل انخرطت بعد ذلك في الدراسة بجامعة لندن؟

ع. ق: حسنا! لا! ما حدث هو أننا حينما وصلنا هنا، استطاع ابن عمنا – والذي كان يدرس للدكتوراه في الزراعة – أن يقنعنا بضرورة أن ندرس العلوم في الثانوية المتخصصة A Level لأنه بدون دراسة العلوم، لا جدوى من الدراسة بشكل عام. لأنك إذا ما درست العلوم تستطيع الحصول على وظيفة جيدة، والقيام بشيء مفيد، وفق وجهة النظر المعتادة في بلادنا خاصة. لذلك درس كلانا – أنا وأخي – العلوم في الثانوية المتخصصة. وركز أخي أحمد على العلوم البيولوجية لأنه قرر أن هذه هي الوجهة التي يريد المضي فيها. بينما درست أنا الطبيعة والرياضيات والكيمياء في نوع من التمهيد لمواصلة الدراسة في مجال الهندسة. والواقع أن كل شيء مضى على ما يرام، بل إنني قُبلت في جامعتين لدراسة الهندسة. لكن هنا حلت مشكلة المال العويصة. لأننا حينما قَدِمنا إلى هنا لم يكن لدينا مال، وقد ناضلنا بمشقة للحصول على ما يسد الرمق، ولا أعرف الآن كيف فعلنا ذلك، ولكننا أنهينا دراستنا للثانوية المتخصصة.

ت. ش: هل كان ذلك حينما كنتما تقومان بأعمال مؤقتة؟ وهل كان ذلك حينما عملت تومرجيا في مستشفى؟

ع. ق: لا! ذلك حدث بعد ذلك بفترة! كنا نعمل كلانا في الوظائف المؤقتة أثناء الصيف، ولكننا كنا نعيش حياة فقيرة للغاية. وكان صاحب المسكن الذي سكناه طيبا ورحيما بنا، خاصة وأننا أمضينا شهورا عدة دون أن نستطيع دفع إيجار الغرفة التي كنا نقيم بها. فلم يكن لدينا بالفعل برغم وظائف الصيف تلك ما ندفعه له. وكنا نقول له أننا في انتظار نقود سترد إلينا من وطننا، ولكن لم تكن هناك أية نقود قادمة من وطننا. كنا نعرف ذلك، ولكن ماذا عسانا نفعل! فقد كانت تعلة مقبولة! صحيح أننا استطعنا أن ندفع له ديننا على دفعات بعد فترة! وبعد أن حصلنا كلانا على وظائف: أنا في المستشفى، وأحمد في مكتب البريد. وكان المعنى الرئيسي لذلك أننا لا نستطيع مواصلة الدرس، وأن علينا أن نعمل لسد الرمق ودفع الإيجار. وهكذا عملت أنا تومرجيا في المستشفى لثلاث سنوات، بينما عمل أحمد في مكتب البريد لنحو عامين.

ت. ش: كم كان عمرك حينما بدأت الدراسة في جامعة لندن؟

ع. ق: لقد بدأت عام 1971، وهذا يعني أنني كنت في الثانية والعشرين أو نحو ذلك. وكنت قد قررت أثناء سنوات عملي بالمستشفى أنني لا أريد حقا أن أصبح مهندسا، فالتحقت ببعض الفصول المسائية، وأعدت دراسة اللغة والأدب الانجليزي بهدف الحصول على A-Level فيهما. وقد بدأت الدراسة في كلية Christchurch وهي نفسها الكلية التي منحتني في العام الماضي درجة فخرية.

ت. ش: شكرا لأنك أوضحت بعض الفجوات في سيرتك. وأود أن أنتقل الآن إلى عملك! وقد فكرت في أن نبدأ بالحديث عن حرفة الكتابة ذاتها، هل لك روتين معين في الكتابة؟ وهل تستخدم نوعا معينا من الأقلام؟ أم أنك تكتب مباشرة على الكومبيوتر؟

ع. ق: أنا أكتب على الكومبيوتر في بيتي! ومن النادر أن أفعل ذلك في مكتبي، لأنني دائما أكتب في بيتي. إن الكتابة بدأت معي كأحدى الحيل التي امارسها مع نفسي، لأدرأ بها عنها الكثير من السلبيات. لأنني حينما أكون هنا – أي في الجامعة – فإنني أعمل في الجامعة وعليّ القيام بواجباتي بها. وحينما أكون في البيت فإنني أكتب لنفسي، ولا أجلب الكتابة إلى مكان العمل. كما أحب ألا أجلب العمل إلى البيت. وهي حلية تتيح لي تخصيص فضاء لكل نشاط. وإن كانت هناك بعض الاستثناءات الإجبارية. حينما يكون عليّ تصحيح بعض الامتحانات المستعجلة فآخذها للبيت، أو قراءة بروفات رواية أو مقالة جديدة يلحّ الناشر في إنجازها في وقت محدد فأجلبها للمكتب وأعمل عليها في فسحة متاحة بين محاضرتين. لكنني اسعى دائما للفصل بين النشاطين، مع أن هذا الفصل هو شيء شكلي محض. وهكذا فإنني أعمل على الكومبيوتر في البيت، وإن كنت أكتب كثيرا من الملاحظات على الورق.

ت. ش: دعنا نفترض أن لديك فكرة رواية، هل تكوّن لها خريطة في عقلك؟ أو مخطط لمسار القصة؟

ع. ق: لا! لا أقوم بأي تخطيطات. بعض الكتاب يفعل ذلك، ويجدون الأمر مفيدا، ولكني لا أفعل! والواقع أنني احتاج لوقت طويل حتى أبدأ، بسبب التدريس والبحث والكتابة الأكاديمية، وكذلك – وخاصة في السنوات الأخيرة – بسبب السفر والترحال، لأن هناك من يريدك هنا أو هناك. وفي كثير من الأحيان يكون وقت العطلة، هو الوقت الذي استطيع أن أركز فيه على الكتابة، إنه الوقت الحر المتاح للكتابة الإبداعية، ولكن الأمر لم يعد كذلك. فأنا لا أكتب أثناء الفصل الدراسي. لأنني أحب أن تكون لدي فسحة من الوقت حيث أستطيع أن استيقظ كل يوم وليس لدي غير العمل على الرواية طوال اليوم، وبكل ما لدي من طاقة، مهما طال الوقت. لشهر أو لشهرين. وفي الوقت الحالي على سبيل المثال، فإنني أكمل فترة إجازة دراسية بدأت في يناير، وكرستها للكتابة، وهذا يعني أنني واصلت الكتابة لمدة تسعة أشهر.[7] وقد استطعت فيها إكمال المسودة الأولي لرواية. وهذا هو أمر نموذجي للعمل بالنسبة لي. وعموما فإن الصيف يناسبني أكثر للكتابة فيه بشكل عام.

ت. ش: وحينما تكون لديك الفكرة وتبدأ في الكتابة، هل تستطيع العمل طوال اليوم؟

ع. ق: أود أن أقول نعم! لكن الأمر ليس كذلك. والواقع أنني في العام الماضي كنت أتحدث لكاتبة مشهورة وناجحة، وقد قالت لي إنها لا تستطيع العمل بعد الثانية عشرة ظهرا. أما أنا فإنني أحدد لنفسي سلسلة معقدة من الأهداف. وهي لا تتعلق بالوقت، وإنما بما كتبته وأكتبه.

ت. ش: أتعني عددا معينا من الكلمات؟

ع. ق: لا، ليس عدد الكلمات بالتحديد، ولا يجب أن يكون الأمر محددا بهذه الدقة، وإنما يتعلق الأمر بقدر من التوازن: هل مضى السرد بشكل جيد! ولكن الساعة لاتزال الثانية بعد الظهر. فهل عليّ مواصلة العمل؟ أم عليّ التوقف وقد مضى الأمر على هذا النحو الجيد؟ هل قمت بقدر كاف من العمل؟ وفي بعض الأحيان تصطدم بعائق ما وعليك مواصلة العمل حتى تتجاوزه أو تتغلب عليه. لأنني أظن أنه ليس من الجيد أن تتوقف حينما لا يمضى الأمر على نحو مرضٍ. لأنني أشعر أن عليّ الوصول إلى نقطة يتدفق فيها السرد قليلا من جديد. وأظن أن هذه هي النقطة التي يمكن التوقف عندها، لأنك تستطيع بدء العمل منها في حالة من التفاؤل في اليوم التالي، بدلا من العودة لشيء معقد وعليك فك عقده. مرة أخرى لا يمضي الأمر دوما على هذا النحو، لأنك لا تستطيع أن تتغلب على العوائق بهذه السهولة في كثير من الأحيان.

ت. ش: هل تظن أن عملك كجامعي يخلق لك توترات صعبة تتدخل في الكتابة؟ أم تجد أن هذا العمل الجامعي يرفد كتابتك الإبداعية بطريقة أو أخرى؟

ع. ق: حسنا! أننا نتحدث عن فترة طويلة ككاتب وكجامعي. في بعض المراحل المختلفة كان يمكن أن يكون الأمر مغايرا. لأنني حينما بدأت كان هناك صراع حقيقي. فقد كان أبنائي صغارا، وكان علي العمل على جبهات كثيرة، ومع هذا لم يكن الأمر مستحيلا! كان شاقا فحسب. ولكني الآن أكثر استرخاء مع العمل، فقد كبر الأطفال، ولم أعد أشعر بضغوط ضرورة الكتابة الأكاديمية كما كان الحال في مقتبل مسيرتي الجامعية، مع أنني لازلت أواصل تلك الكتابة حينما تحدث أشياء مهمة أو مثيرة لي. كما أنني الآن أشد التزاما بكتابتي السردية. لذلك ليس هناك ذلك الشعور بالذنب أو القيام بالكتابة على حساب غيرها من المسؤوليات العائلية أو الجامعية. لكن هذه ليست المسألة حقا! المسألة هي هل هناك تضارب بين اهتماماتي المختلفة، وبين ما يثيرني للعمل. وهذا أمر لم يكن له وجود في حياتي. ذلك لأنني دوما وجدت الأمرين مستقلين عن بعضهما، مع أن كل منهما يرفد الآخر بطريقة مراوغة ومثيرة معا. أحيانا في مسار ما أكثر من المسار الآخر. وأعني بهذا أن قراءاتي – بالمعنيين النقدي الجامعي والمعرفي – ترفد كتاباتي أكثر مما ترفد كتاباتي قراءاتي، أو أبحاثي الجامعية.

ت. ش: في «الكتابة والمكان Writing and Place» تتحدث عن إمكانية أن يقدم السرد طريقة أكثر خصوبة للمعرفة، وقد استعملت هذه الجملة المثيرة «مع الزمن أصبح التعامل مع السرود المتعارضة بالنسبة لي وسيلة حيوية فعّالة، حتى وإن كان اللجوء إليها نابع بطبيعته من موقف ضعف في المحل الأول.» ماذا تعني بذلك؟

ع. ق: أظن أنني أعني بذلك أن هذا موقف دفاعي إلى حد ما. لأن ما أشرت إليه هو كيف أن هذه السرود، أو سرود مشابهة، تتحدى في حقيقة الأمر سردا سائدا، وبشكل أوضح السردية الأوروبية أو الامبريالية. لأنها تقدم لنا تفاصيل أوسع، أو حتى يبدو أنها تعارض بعضها البعض أحيانا، لأنها ليست متسقة أو مرتبه كما هو حال السرود السائدة والمسبوكة. وبذلك فإن منطلقها الضعيف ذاك نابع من أنك لا تستطيع القول بيقين كامل أن الأمر لم يكن كذلك، وأنه كان على هذا النحو المغاير. لأنك لا تملك في كثير من الأحيان القدرة على طرح سرد مغاير ومتسق، وربما لم يكن ممكنا أن تقدم سردية متكاملة قادرة على نقض السردية الإمبريالية والإطاحة بها. وبهذا المعنى فإن انطلاق هذا السرد من نقطة الضعف تلك، وهذا في حد ذاته أمر له ديناميته الخاصة، هو سر قوته لأنك لا تسعى فيه إلى إنتاج سردية قوية أو مهيمنة. فقد سلمت بدئيا بأن هذا سرد بسيط أو حتى ضئيل، متشظٍ، ناقص، وأن أي شخص في الشارع المجاور قد يناقضه.

ت. ش: أتصور أن ذلك قد يمكن ترجمته أيضا على أنه نوع من التموضع الذي نجد فيه كثير من شخصيات رواياتك. لأن السرد في رواية (ذكرى الرحيلMemory of Departure) ينتهي بـ"حسان" واقفا في قارب يتأرجح به، بينما يتطلع إلى أرض تركها وراءه، ويتمنى الوقوف على أرض صلبة. هل هذه الرغبة في أرض صلبة تحت القدمين استعارة لكثير من شخصياتك التي لا تستطيع أن تزعم أنها تشعر بالوصول، أو بأنها تعرف حقا أين تقف. هل هذا المنطلق من نقطة ضعف ينطوي على رهان أخلاقي أو موقفي معين؟

ع. ق: نعم! فقد كان يمكنني الجواب على سؤالك حول الانطلاق من موقف ضعف بالقول بأن هذا موقف ذاتي. موقف تسعى فيه إلى أن تقدم أطروحة مفادها بأن الأمور أكثر تعقيدا مما تبدو عليه، حيث يبدو لي أنك تضع نفسك بالفعل في موضع لا تستطيع فيه أن تتحدث بأي قدر من اليقين أو السلطة. فذلك في حد ذاته موقف ضعف. هذه الذاتية الواعية بذاتها والمتشككة فيها في آن، تتمنى دوما لو كانت واقفة على أرض أكثر صلابة. ولكنها ليست رغبة حقيقية فعلا، لأنك إن وجدت الأرض الصلبة فإنك تفقد القدرة على خصوبة التعقيد.

ت. ش: هناك الكثير من الفجوات، والصمت، والمسكوت عنه، والأسرار والأكاذيب التي تعمر سرودك. وقد تكون لحظات الصمت متعمدة ومفروضة، بحيث أما لا تستطيع الشخصية أن تتكلم، أو أنها لا ترغب في أن تتكلم، أو الأمرين معا. لكن هذا يخلق صعوبة كتابة شيء لا يمكن أن يُقال. كيف تكتب عن الطريقة التي تنفي فيها الشخصيات فجوات في المعلومات أو احتمالات ألا تكون قادرة على قول شيء ما، ومع هذا يشفّ سردها ذاك عن الكثير؟

ع. ق: أظن أن هذا هو تحدي الكتابة الحصيفة والمراوغة والذي يسعى إليه الكاتب أو يتطلع إلى تحقيقه. بمعنى أن هناك الكثير من المستحيل قوله، أو تبادله بوضوح بين البشر الآخرين. إنه لمن المستحيل قول أشياء كثيرة لأن قولها قد يصدم الآخر أو يجرحه، أو لأنه يكشف عن أكثر مما تود البوح به، وهكذا فإنك تقوم طوال الوقت بتلك المساومات وهذا الفحص، فحص الذات وفحص حدود التبادل مع الآخرين. وأظن أنه كلما زادت الثقة كلما كان من الممكن البوح بالمزيد، وأنه كلما قلت تلك الثقة كلما تنامت الفجوات وحلّ الصمت. فالمسألة هي ببساطة كذلك. إنه طريقة للقول أن هذه هي طبيعة تعاملنا مع بعضنا البعض. لأننا نتعامل مع بعضنا البعض بهذه الطريقة من التبادل المكبوح أو المحبط. هل يعني ذلك أننا لا نستطيع أن نقرأ ما يجري حقا! لا لأننا نتمكن من معرفة ما يدور!

ت. ش: ولكننا أيضا نسيء القراءة، لأنني كنت أفكر في رواية (احترام الصمت Admiring Silence) والراوي غير المسمى وعلاقته مع "إما" Emma. إنه لمن المثير لي أنها تريد قصصا عن زنجبار وعن ماضية، ولكنه بشكل ما لا يريد أن يخبرها بصراحة عن الماضي. وربما لأنه يظن أنها تتوقع نوعا ما من الماضي الذي لم يعشه، أو لا يستطيع أن يقدمه لها. ولكني أظن أنه أيضا يحبط أو ينهي مسبقا احتمال ازدهار علاقة معا، لأنه لا يقدم لها سوى أكاذيب؟

ع. ق: حينما كان يخبرها بالأكاذيب، كان – وفق ما فكرت فيه – واقعا بطريقة ما في غواية احتمال أن تصنع نفسك من جديد. لأنني أظن أن هذا هو أحد الأشياء التي تحدث لمن يُقتلعون من البشر. لأنهم لا يريدون أن يكونوا من أماكن فقيرة، وإنما مجرد مقتلعين، فليس ثمة من يستطيع تمحيص ما يطرحونه عن أنفسهم من قصص، ومن هنا وجدوا أن باستطاعتهم تحويرها. لذلك فإن ما حاولت أن أفعله من خلال ذلك هو أنني أردت أقول أن تلك هي الطريقة التي أوقعته هو نفسه في غواية تلك القصص المختلقة، إنه واقع في غوايتها لأنها قصص أنظف. ولكن في النهاية، ولأنه يعرف أنه يقوم بذلك بشكل واعٍ، فإنه يبدأ في السخرية من نفسه، وفي توبيخ نفسه لقيامها بذلك، أي بحياكة تلك القصص الكاذبة، والتي تدفعه بدورها إلى أكاذيب أكبر، وكانه يقول إن من يتبادل تلك الأكاذيب معهم ليسوا إلا حفنة من البلهاء، لأنهم يصدقون أي شيء.

ت. ش: بالضبط هذا جلي بشكل خاص بالنسبة للسيد "ويلوجبي"، وحتى بالنسبة لـ"إمّا" فإنها تجبر الراوي بشكل ما على ذلك. إنها عملية متبادلة، فهي تريده أن يكون نوعا معينا من الرجال كي تسطيع أن تحترمه. إنه طريق ذو اتجاهين وإن كان ينتهي إلى المآل الخاطئ. وإنني لأتساءل هنا هل صمت "عباس" في رواية (الهدية الأخيرة The Last Gift) هو نوع آخر من الصمت، أم أنه مماثل لذلك؟

ع. ق: لا! أظن أن هذا نوع آخر من الصمت. لأنه صمت العار في المحل الأول، وليس صمت الاحترام. إنه نوع من الصمت الكاذب والمقَنَّع. لأننا في حالة "عباس" بإزاء واحدة من تلك القصص التي يريد أن يدفنها للأبد، وألّا يتذكرها أبدا. دعيني اخبرك كيف جاءتني هذه الفكرة. لم تكن في الواقع من (احترام الصمت) بالرغم من أنها جاءتني في الوقت الذي كنت أكتب فيه (احترام الصمت)، بينما كنت جالسا في مكتبي، ليس هنا وإنما في مكان ما هناك – يشير إلى طُرقة قسم اللغة الانجليزية – حينما رن جرس التليفون ذات صباح، وكانت المكالمة من رجل عجوز تحدث معي لعدة دقائق وقال: «إنني من زنجبار، لقد قرأت في الجريدة مقالا عن روايتك (الفردوس Paradise) وأنها وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر، وقد فكرت في أن أخاطبك لأقول لك مرحبا! إنني أعيش في آشفورد، قال، وقد غادرت زنجبار حينما كنت صغيرا جدا، حيث تسللت إلى سفينة مبحرة. فقلت له وأين ذهبت؟ فقال أوه! إلى كثير من الأمكنة والبلدان، ولكنني نسيت اللغة السواحيلية الآن، ولم أعد أتذكر أي شخص من هناك، لأنني لم أعد لزنجبار أبدا. ولم أكلم أحدا! أنت أول شخص من زنجبار أكلمه.» ولسوء الحظ، فقد كنت وقتها مشغولا بأمور خاصة، ومشتت الذهن، وغير ذلك من أمور العمل التي تستغرقك، فلم استوعب كل ما جرى في تلك المكالمة الخاطفة، لأنني قلت له حسنا، أشكرك على المكالمة، مع السلامة. ولكن بعد ذلك ولسنوات طويلة ظللت أفكر في تلك المحادثة. وكما ذكرت لك فقد كنت مشغولا بكتابة (احترام الصمت)، وكنت قد تجاوزت في الكتابة نقطة غيابه. لكن هذه الأمور تحدث في بعض الأحيان كما تعرفين، حينما تبدأ الحياة في أن تحاكي ما تفعله أو ما تفكر فيه. وقد بدأت أفكر في الكتابة عن هذا الأمر. لقد قال لي أنه لم يعد يتكلم سواحيلي، وأنه نسي اللغة كلها. لذلك فإنني عندما كنت أفكر بشأن "عباس"، وقد بدأت في كتابة (الهدية الأخيرة) والانشغال بها فإنني كنت أفكر بما جرى لهذا الشخص. ذلك ما فكرت فيه بأن تلك قد تكون القصة المقنعة لما قد جرى لهذا الرجل، وإنني أذكر جيدا أنه بدا لي غير سعيد، وربما كان مجرد شخص عجوز أو مريض، ولكنه صمت مغاير على كل حال.

ت. ش: إن تكلفة إخفاء الماضي في حالة "عباس" كانت باهظة، وليس فقط بالنسبة له وإنما أيضا بالنسبة لـ"مريم" والأطفال. وإنني لأتساءل إذا ما كنت تريد أن تقول شيئا عما يحتاج الجيل التالي إلى معرفته عن أصول آبائهم؟ لأنه يبدو لي أن رد فعل "جمال" على قصة أبيه ساهم في تعزيز شخصيته ودعمها، أما "هناء" فإنها لم تستطع أن تتأقلم مع حقيقة أنها لا تعرف شيئا عن ماضيها؟

ع. ق: نعم! أتصور أنهما الطريقان الأساسيان. وقد كان من الممكن أن أضع أي منهما في مكان الآخر. فقد أردت أن يكون أحدهما قادرا على التعاطف مع حياة أبيه وتصورها بشكل إيجابي، بينما يشعر الآخر بالغضب لعدم معرفته بما جرى في الماضي وأيضا لوضع الأب والأم له في تلك الظروف، وخاصة الأم التي تزعم أنها أُغتصبت.

ت. ش: إن قصة الشخصيات الداخلية في هذه الأسرة، والوجع الذي ينجم عنها هو أحد الأبعاد التي ينطلق منها غضب "هناء"، وأما البعد الآخر فناجم عن أن المجتمع يضعها في هذا الوضع النمطي الذي لم تختره. وفي مشهد العشاء الذي يقول فيه الخال "دجبي" إنه منزعج لأنها لا تعرف أصولها، نجد أن الموقف يصبح معاديا لها بشكل من الأشكال؟

ع. ق: بالطبع! إنها ترفض أن تكون في هذا الوضع الضعيف الذي ناقشناه من قبل. إنها ترفض عدم التحديد الذي يعيشه الجيل الثاني من المهاجرين والوضع الإشكالي الذي يجد نفسه فيه. هل أنت إنجليزي؟ هل أنت بريطاني؟ أم أنك شيء آخر؟ إلى أين تنتمي؟ فما يريد "ديجبي" أن يقوله هو إننا نعرف أنك لا تنتمين بالضبط، أين تنتمين في حقيقة الأمر؟ إنها طريقة ما لطرح تلك الإشكالية عن كيف نصنف شخصا في مكانها، أو بالأحرى كيف يرغب شخص في مكانها، أو يتخوف من هذا التصنيف. فهي بالتحديد ليست مشغولة بأن توضع في هذا الموضع غير المحدد. إنها تريد أن تكون انجليزية. ليس لأن هناك شيء محدد – وهذا ما تطرحه هذه الرواية بالتحديد – تحترمه في كونها انجليزية، وإنما لمجرد أنها تريد أن تمضي حياتها بنفس اليسر الذي تمضي به حياة الآخرين، دون عراقيل هذا التصنيف والتباساته.

ت. ش: هل تعني أن العرق هو النقطة الإشكالية هنا؟

ع. ق: ليس من الضرورة أن يكون العرق هو كل شيء! وإنما ظهوره الذي يفرض نفسه هو المشكلة. وكنت أيضا أفكر في الدين، ليس في جانب الممارسات الدينية، وإنما من حيث الانتماء الثقافي. لأن كونها مسلمة في هذا المناخ أو السياق الراهن ليس بالأمر السهل بالنسبة لها. لقد غيرت اسمها، وهي لا تعرف لماذا فعلت ذلك، ولا تريد أن تناقشه. ولكن هناك طرقا عديدة تريد أن تبعد بها نفسها. وهو الأمر الذي يحاول "جمال" أن يحلله قليلا. هناك طرق مختلفة تسعى عبرها لإبعاد نفسها عن إشكاليات الهوية. وبالمناسبة فهي ليست الوحيدة التي تفعل ذلك، فإن لدي عددا من الشخصيات في (الهدية الأخيرة) تريد بشكل أو بآخر تجنب أنفسها، و"عباس" من تلك الشخصيات بشكل واضح.

ت. ش: ربما تستطيع أن تتحدث أكثر عن الإسلام في الشواطئ السواحيلية؟ لأن الأسلام يقوم بوظيفة الميراث الثقافي الذي يدعم شخصية "صالح عمر" في (بجوار البحر) والذي يمارس الصلاة مستخدما منشفة "ألفونسو" سجادة لصلاته، ويدعو "يالطيف". إن الدين هنا نوع من الملاذ، الذي يزوده بمرسى ما. ولكن هناك أيضا "عثمان" البخيل/ المرابي في (الهدية الأخيرة) وتلك الأسرة في (ذكرى الرحيل) التي تنم ممارساتها للورع الروحي عن خواء واضح؟

ع. ق: إنني حقيقة مهتم بكيف يفهم الناس العالم، لذلك فإنه البعد الثقافي للدين ما ما أسعى لاكتشافه. إنني أذكر أنني عندما شرعت في التفكير في (الفردوس) كان أحد الأشياء التي أردت قولها حينها هو كيف يعرف الناس العالم؟ وكيف تتشكل صورته لديهم؟ وما هو فهمهم للعالم؟ وما هي العناصر التي تشكل هذا الفهم؟ ولم هؤلاء مجرد قراء، أو أناس يلجؤون إلى دوائر المعارف يستقون منها المعلومات. لذلك فإنني أظن أن الطريقة التي يفهمون بها العالم تعتمد بشكل حيوي على الإسلام، أو الثقافة الإسلامية. ولم أخترع أنا ذلك. وإنما كان الأمر تعبيرا عن كيف أن العالم الذي يقع فيها الساحل، وليس فقط الساحل السواحيلي، وإنما ربما ما يقع شماله، وما يمتد جنوبه أيضا، كان معمورا بقصص متواترة تروى دائما فيه وتساهم في تشكيل رؤيتهم للعالم، قصص تنتمي للثقافة الإسلامية التي كان لها حضورها وفعاليتها فيه. وهو عالم متحرك أيضا، تلعب فيه التجارة دورا مهما، كما تلعب فيه المعارف المختلفة التي تعبره دورها. وكما قلت فهذه الشخصيات ليسوا قراء، ولكنهم قد يستمعون لأحد علماء الدين أو الفقهاء الذين يمدونهم بالكثير من المعارف والرؤى عما يدور هنا أو هناك. وبطريقة ما يمكن أن تقولي أنهم يعيشون في مناخ قريب من مناخ العصور الوسطى، ولكن مثل هذا القول يقلل من أهمية ما يعيشونه، بالطريقة التي حاولت بها السردية الإمبريالية اختزال الأنواع الأخرى من المعارف أو تهميشها، باعتبارها أرشيفية أو تعتمد على الكتب. ولكننا فعلا بإزاء تكريس نوع من المعارف من خلال القصص التي تشيعها وتحيلها إلى جزء من نسيج الحياة التي يعيشونها والعالم الذي يعمرونه. فما يمنح الثقافة الإسلامية بصيغتها المتداولة في المحيط الهندي أهميتها، هو أنها تساهم في تشكيل صورة العالم بالنسبة للذين يعيشون في تلك الثقافات.

ت. ش: هذا يذكرني بالطريقة التي تحدثت بها عن خريطة العالم لفرا مورو[8] Fra Mauro’s Mappa Mundi في الندوة التي عقدت في جامعة ستيلينبوش[9] Zoë Wicomb Colloquium, Stellenbosch University, April 2010  والتي صورت العالم بوضع مجموعة من الرايات الحمراء على الأماكن التي خرجت منها الأساطير والقصص التي رويت، ومع ذلك فإن الطريقة التي رسمت بها الخريطة كانت بالغة الدقة بالنسبة لعصرها. فهل تقول أن ذلك ينطبق أيضا على الثقافة الإسلامية؟

ع. ق: هذا هو سبب إثارتي لهذا الموضوع. لأن أحد الأمور المثيرة بالنسبة لفرا مورو هي أنه لم يغادر البندقية (فينيسيا). وبالنسبة له فقد كانت تلك المرويات من القصص هي دليله في رسم خريطته، حيث لم يتشكك في حقيقة تلك المرويات، أو ربما كان يمحصها بقدر محدود، دون أن يشك في ما ترويه. إن تلك المرويات التي تشير لها راياته، هي أيضا مجموعة من القصص التي صاغت قصة العالم لديه.

ت. ش: مثل (ألف ليلة وليلة)؟

ع. ق: حسنا هذا مثال جيد في حد ذاته على رحيل المرويات. لأننا في الحقيقة لسنا أمام مجلد من القصص، وإن كانت أصبحت الآن مجلدا منها بعد جمعها وطباعتها. ولكنها كانت سلسلة من القصص التي بدأت في أماكن مختلفة من الصين عبر الهند ولذلك تجدين فيها اسماء مثل سندباد، والذي يعني شخصا من بلاد السند Sindh. فأنت تقرأين هذه القصص فتجدين علاء الدين من الصين، وهناك أيضا قصصا من أماكن مختلفة. فهناك قصص من زمن هارون الرشيد في العراق، وأخرى من مصر، وقد ارتحلت تلك القصص وتُدولت أحيانا ضد بعضها البعض، وأخرى في قلب بعضها البعض. فقط عندما جمعها شخص ما ووضعها في كتاب واحد، وسماها (الليالي العربية) أو (ألف ليلة وليلة) بدأنا نفكر فيها وكأنها ارتحلت معا ورويت بالشكل الذي نجده الآن في كتاب (ألف ليلة وليلة)، بدلا من التصور الحقيقي لها كقصص متواترة ومتضاربة ولكل منها مسارات ارتحالاتها المتباينة، وحتى صيغها وتنويعاتها المختلفة. وكثير من الناس يعرفون بعض هذه القصص دون أن يكونوا قراءا، لأنها قد رويت لهم. وكان الناس يروون هذه القصص باستمرار عندما كنت طفلا.

ت. ش: كنت تتحدث عن البعد الحضاري للتجارة، وعن أن عالم المحيط الهندي كان كريما، ولكنه جشع وعنيف ومليء بالنهب. ومع ذلك فهناك تلك الطريقة المتحضرة في التعامل، فهل هذا نابع من الوعي بأن عالم الفرد هو جزء من العالم الإسلامي؟

ع. ق: لا! ليس ذلك بالضبط. فإن الإحساس بالانتماء لعالم المحيط الهندي، على الأقل الجزء الذي أعرفه منه، وهو في الأغلب الجزء الإسلامي الذي اندغم فيما يمكن دعوته بفلسفة المعرفة الإسلامية، حتى حينما تتحدثين عن الهند، أو الثقافة الهندوسية. فإن تلك طريقة واحده، بين طرق عدة، لفهمه كما أقول. ولكن هناك عوامل أخرى تزيد الأمر تعقيدا. إنها تاريخ العنف، وتاريخ الاستغلال، وقدوم إناس من خارج المنطقة، وخاصة في الجزء الخاص بساحل أفريقيا الشرقي الذي جئت منه. إناس يجيئون لكسب المال والتجارة، ولكنها ليست أبدا مغامرة حميدة، أو منزهة عن الغرض. لأنهم يجيئون للتجارة التي تحقق الحد الأقصى من مصالحهم، سواء أكانوا يتاجرون في بضائع ما، أو حتى يخطفون البشر كي يبيعونهم ويستعبدونهم. لكن الأمر الأخطر – وهذا ما فكرت فيه وتناولته في (الفردوس) – هو فرض هيمنة الثقافة الأبوية، التي يكون ضحاياها من أكثر أبنائها موهبة، ومن النساء، والأطفال، وكل من يمكن تسميتهم بغير المتساويين ومن لا قوة لهم في داخلها. ومع أن تلك الأبوية صارمة غير متسامحة، فأنها مليئة بالحصافة والكياسة وحتى الإنسانية، لكنها تفتقر لأي مرونه حينما يتعلق الأمر بجوهر أبويتها.

ت. ش: إن العنف في هذا النص يحتل مساحة كبيرة منه، لأنه عنف لا يلين، وموجع في أغلب الأحيان لأنه يتغلغل في أكثر العلاقات حميمية بين البشر. فعلى سبيل المثال نجد أن الأبوين يتعاملان بقدر كبير من القسوة مع أطفالهم. أتقول أن هذا أيضا متصل بالنظام الأبوي؟ وأريد أيضا أن أعود إلى فكرة الرياء والنفاق وتظاهر البعض بالورع والتقوى، أو بأنهم يعيشون حياة يحكمها الإحساس بالشرف، ولكننا نجدهم في داخل أسرهم يتصرفون بطريقة مؤسفة في تعاملهم مع بعضهم البعض دون أي تسامح. إنني أفكر بشكل خاص بأسرة "شعبان" في (بجوار البحر) أو بأسرة (ذكرى الرحيل)؟

ع. ق: نعم! إن (ذكرى الرحيل) هي روايتي الأولى، وأنا لا أود أن أنتقد كتابي كثيرا، ولكني أفترض أنه كان هناك شيء بالغ التحديد هدفت إليه منه، وهو أن هذه أسرة مهمشة بالفعل، وأنها فقدت شرفها بسبب الأب، بسبب ما هو متهم باقترافه من ناحية وطبيعته والطريقة التي يتصرف بها معهم من ناحية أخرى. لذلك فإنه ليس الشخص النموذجي لتمثيل ذلك النظام الأبوي الصارم. وبالتحديد ولأنه مهمش، فإن هذا يضاعف من عنفه. وكما ترين فإنني لا أفكر فيما أكتبه بأنه نوع من العنف، ولذلك فإنني عادة ما أندهش قليلا حينما يقول الناس ذلك وبقدر كبير من الثقة والتأكيد. وأقول لنفسي هل هذا حقيقي؟ أنني لا أقول أن هذا ليس صحيحا، ولكني لا أفكر في هذا الأمر على أنه عنف. إنني أفكر فيها كنوع من الطمع. ذلك ينطبق على الجدل الذي يدور حول البيت في (بجوار البحر) ومن يملك ماذا، لإنني أظن أن هذا موضوع يحدث في أماكن كثيرة حينما لا تكون تلك الأمور واضحة بشكل قاطع، وحينما يعتمد الأمر على قانون غير مكتوب أو على نوع من التصور غير مصرح به. أرجو أن تدركي ما أعنيه هنا. لأنه حينما يكون الأمر واضحا بأن يذهب الشخص إلى محام ويكتب وصيته، فإن أخذ الأمر فيما بعد إلى المحكمة فكل شيء مكتوب وبالغ الوضوح. ولكن حينما لا يكون الأمر بهذه الطريقة فإن عمليات الميراث تظل مفتوحة على خطر الاختلاف الحاد والضغينة. ولابد وأنك تعرفين بأن الناس تتغير إزاء فكرة الاستحواذ على الممتلكات والنقود وما إلى ذلك، ويقومون بأشياء بالغة القسوة ضد بعضهم البعض.

ت. ش: نعم ولكنه ليس "حسين" الذي يصل بداءة ويستطيع بقصصه وخرائطه أن يستحوذ على خيال "صالح" كي يوافق على الدين الكارثي الذي يؤدي إلى مشاجرته مع أسرة "شعبان" كيف ظهر الشخص الغريب/ الخارجي هنا؟

ع. ق: حسنا! ذلك هو الشيء الآخر الذي كنت أتحدث عنه. شخص مثل "حسين" الذي تدفعه الرغبة في الحصول على أقصى حد من الربح، مثله مثل الخال "عزيز" في (الفردوس)، الذي يسعى لأن يكون تاجرا وأن يحصل على أقصى الفوائد أينما يجدها. كما أن الطريقة التي اخترتها لملابسه المعينة، والعطر، وكأنه شخص ذو حيثية، تجعله يكتسى منظر المحتال المحترف، لأنه لا يثير الشك، وإن كان ليس جديرا بالثقة كلية. ولكنه عندما تحين لحظة ما، وقد كان يعاني من الملل في انتظار تغير مسار الريح كي يعود إلى بلده، فإنه يصبح قادرا على غواية هذا الرجل الأبله الذي يقع في طريقه، ربما في نوع من العبث. إنه نوع من المكر أو الخبث المؤذي أكثر مما هو نوع من العنف إن أردت. إنه خبث استغلال الفرصة المتاحة والاستفادة منها.

ت. ش: وكيف ينطبق ذلك على غواية "حسان"؟

ع. ق: مرة أخرى إنها الاستفادة من فرصة متاحة، فحينا ترى شخصا ضعيفا فإنك تستغله. فبعض الناس ينتهزون فرص الربح طوال الوقت، حتى عندما يبدو أنهم لا يريدونه. ولكن إذا ما كان باستطاعتهم الحصول عليه، فلم لا! إنهم يفعلون! أنا أفكر هنا في الخال "عزيز" وهو ليس شخصا سيئا، إنه مؤدب دمث خلوق وله الكثير من المزايا، فهو أيضا ذكي حاذق، ولكنه في الوقت نفسه مستغِّل.

ت. ش: ولكن حتى في قصة الاستغلال، هناك الإحساس بأن الأمر أكثر تعقيدا من ذلك، لأنه حينما يغادر "حسين" فإن "حسان" يوصف بأنه عروس في الحداد، ولذلك فإنه يتبعه؟

ع. ق: لقد جرت غوايته كما أظن. لسبب ما يشعر الناس بهذا إزاء شخص ما، إنه الحب ربما يمكن أن نقول ذلك. ولكن إن لم يكن الأمر كذلك، فإنني أظن أن "حسان" قد وقع في غواية شيء ما يراه في "حسين" ولا يعرف ما هو. ربما ثقافته أو حصافته أو حتى رجولته!

ت. ش: لقد جرى اهتمام كبير بشخصيات رواياتك التي ترحل، ولكنه من المثير أيضا تأمل من يتركونهم من ورائهم. وكيف عليهم أن يجمعوا شتات حياتهم معا. على سبيل المثال أم الراوي غير المسمى في (احترام الصمت)، ولكن أيضا معظم نساء رواية (هجران Desertion). وإنني لأتساءل إذا ما كان الشخص الذي يغادر يظل مأخوذا ومشغولا إلى حد ما بقصص الذين تركهم من ورائه؟

ع. ق: كانت هذه أحد القضايا الرئيسية في (هجران) مع الأخوين: أحدهما يبقى والآخر يغادر، لأن هناك جدلا مستمرا بيني وبين نفسي، وهذا ليس مجرد أمر شخصي وإن كان فيه شيء من ذلك، حول ما معنى أن تغادر، وما معنى أن تبقى؟ أيهما الأكثر حكمة من غادر أم من بقي. وإني لأظن أنه أحد الأسئلة التي أعود إليها في كثير مما أكتب. والواقع أنه ليس دائما من غادر، لأن تلك هي الحقيقة في بعض الأحيان، ولكن ما أعرف عنه أكثر وما خبرته هو عن الرجل المغادر. ولكني لا أعرف إذا ما كان الندم أو الأسف أو الفوائد هي نفسها بالنسبة للمرأة التي تغادر، هذا ما لا أعرفه. ولكني أظن أنها معركة مغايرة مع النساء تتطلب نوعا خاصا من التعامل أو التأقلم معها.

ت. ش: ربما أستطيع الرجوع إلى القصص التي تدور على الدوام. ففي كل رواياتك هناك ذلك الشرك المراوغ من التناصات والقصص التي يمكنها أن تفتح العالم وتتيح الكثير من الاحتمالات، ولكنها تستطيع أيضا أن تجلب خطابا يغلق كل المنافذ أمام أي تأويلات. وعلى سبيل المثال فإنني أفكر في "دوتي" التي تقرأ ديكنز وأوستن. ويبدو لي أن القصص لا تمنحها ما تريد كي تستطيع أن تكتب قصة نجاحها أو انتمائها أو على الأقل تحقق لها قدرا من الراحة المادية على الأقل. وإني لأتساءل إذا ما كنت تريد أن تقول شيئا عن المؤثرات الأدبية، وقد أشار الكثيرون إلى جوزيف كونراد[10] في تناولهم لرواية (الفردوس)، ولكن هناك أيضا هيرمان ميلفيل و(ألف ليلة وليلة) في (بجوار البحر). هذا فضلا عن أنني عثرت على إشارات إلى مقالات مونتاني[11] Montaigne essays في (الهدية الأخيرة) وهو الأمر الذي أثارني كثيرا.

ع. ق: إنه لأمر مثير حقا! فبالطبع حتى وأنت تقولين ذلك فقد ابتسمت لأنني أظن أنها تمتع القارئ حينما يقول: آه إنني أعرف ما يريد أن يفعله هنا! هذا التعرف على مصدر التناص يعيد تقديم أحدنا للآخر كقراء. إننا قد قرأنا الأشياء نفسها، وهذا ما يخلق نوعا من العلاقة التناصية المشتركة بين الكاتب وقرائه، وهو أمر مثير وممتع في حد ذاته في اعتقادي. ولكن من جانب آخر فإن تلك الإحالات التناصية تقدم أصداء مناسبة أو رنينا ما يغنينا عن اختراع العجلة من جديد. ولأن هناك تلك العلاقة النصية المشتركة، فإن الكاتب يستطيع أن يشير إلى نص آخر يمكنه أن يغني نصه، ولكن ثمة أيضا إثراء فهم القاري لما يدور في النص الذي يقرأه. وأخمن أن الكاتب يقوم بمجموعة من الأشياء هنا، بأن يستطيع إخفاء هذا كله بطريقة تستلزم بحثا أدبيا حقيقا، أو نوعا من التنقيب الأدبي الباحث عن التناظرات، أو أنه يجعل عمله مشوقا ومثيرا أكثر حينما يعيد اختراعه بصورة يبدو معها مثل نص ما، ولكنه في الوقت نفسه يزحزح هذا النص بصورة تنفي عنه أن يكون صدى له كما أقترحت، أو أن يوهم بذلك أو يوحي به.

ت. ش: بماذا كنت تفكر حينما جعلت "دوتي" تقول إنها لا تستطيع قراءة ديكينز، إنه يبدو ثقيلا بالنسبة لها؟

ع. ق: حسنا! في هذه اللحظة فإنها ليست عضوا في هذا المجتمع النصي. لذلك فالأمر بالنسبة لها، برغم التصادي بين قصتها وقصة "إيستيل"[12] فإنها لا تعي ذلك وبالتالي لا تتعرف على هذا التصادي. ولكنها ستتعلم كيف تكون أكثر حكمة، وربما يكون هذا هو البعد الثالث لهذا الأمر، وهو أن نقول أن هذه القصص قد رويت من قبل، ويمكن أن نعتبر أنفسنا محظوظين لأن لدينا شكسبير الذي يمكن أن نلجأ إليه ونقول: ها! لقد عرفنا ذلك من قبل. أليس هذا الأمر مألوفا؟ ألم يكن الأمر مماثلا لذلك مع ذلك الموقف أو تلك الشخصية التي قرأنا عنها من قبل؟ والواقع أن هذا لا يبرهن فحسب على وجود تلك القراءات المشتركة، ولكنه ينبئنا في الواقع – وهو أمر أحاول ألا أقوله بهذا الوضوح الفج – بأن ذلك كله قد حدث من قبل. وأن هذه القصص ليست خاصة بزنجبار أو بأي مكان آخر من العالم، ولكنها جزء من دورة الأحداث التي علينا أن ننظر إليها الآن من منظور مختلف، وأن نراها على ضوء جديد، وأن نفهم منها ما لم نفهمه من قبل.

ت. ش: هل يمكن أن توضح لنا كيف تعمل قصة "بارتلبي" في (بجوار البحر)؟

ع. ق: لماذا "بارتلبي" بالتحديد؟ ألأنه مفتون بما يجترحه من خيارات، وليس فقط اختيارات الصمت. ولكنه مفتون أيضا بتلك الخيارات التي يقرر فيها أن يسحب نفسه وينطوي عليها. وما هو الغامض في قراءة "بارتلبي"؟ على الأقل في قراءتي أنا له، فهي مسألة إذا ما كان قد انهزم أم لا. من الواضح أنه انهزم، ولكن هل انهزم إلى حد أنه أراد الانتحار؟ وهذا هو ما جرى في قراءة البعض له. أم أنه تراجع، وهو ما يعني حتما أنك لا تستطيع التنصل من أي اتصال مع البشر والتعامل معهم، لأنك إن فعلت ذلك فإنه نوع من الموت. أم أن الأمر أنه لأنه لا أحد يتوقع من الراوي، الذي يسيء فهم ما يفعله في الواقع، إمكانية التعامل مع شخص اختار أن يسحب نفسه، ولأن "صالح عمر" نفسه يفعل ذلك أيضا بعدما أُفرج عنه من السجن، ويكتفي بالجلوس في هذا الدكان ولا يرى أحدا، ولا يكلم أحدا، فإنه هو الآخر شخص قد اختار الانسحاب والتقوقع على ذاته. لكنه لا يبلغ في ذلك المدى الذي بلغه "بارتلبي" بالطبع. وفي النهاية فإنه يخرج من هذا الوضع حقا، لكنه لايزال مبهورا بما يعنيه أن يفعل "بارتلبي" ما فعله.

ت. ش: لقد أشرت إلى روايتك الجديدة في بداية حديثنا، وإني لأتساءل إذا ما كان ممكنا أن ننهي هذا الحوار بأن تحدثنا ولو قليلا عنها؟

ع. ق: هناك على الدوام دافع مع كل واحدة من هذه الروايات. والواقع أنني أكتب قصصا قصيرة في الآونة الأخيرة، وقد فكرت في أنني قد أنشرها معا في مجموعة قصصية. والقصة الأولى التي أردت كتابتها، والتي دعوتها «أمه His Mother» فقد كتبت العنوان والصفحة الأولى. وهذه هي الطريقة التي أكتب بها في حقيقة الأمر، حيث أكتب عدة فقرات، ثم أتركها، وفي بعض الأحيان تبقى كذلك لمدة عام أو عامين حتى أجد نفسي مستعدا .. لكني لا أنساها. وعلى كل حال فإنني أشعر أنني على استعداد لمواصلة الكتابة، وهذا ما بدأت الكتابة فيه، قصة اسمها «أمه» فقط، لكن يبدو أنها لا تريد أن تكون قصة.

ت. ش: هل تريد أن تصبح رواية؟

ع. ق: لقد استمرت في التنامي والتطور. وتعتمد فكرة القصة على شيء حدث بالفعل لي، ومع ذلك فليس هذا ما تتناوله القصة في نهاية الأمر، ذلك هو السر في أننا نتكلم عن الدافع! فقد ماتت أمي عام 2000، ماتت في يوم الكريسماس، ولأنه كان يوم الكريسماس فإنه كان من غير المتوقع أن أكون هناك، لكن ما حدث هو أنني كنت هناك. وكنا قد سافرنا لمدة ثلاثة أيام لقضاء عطلة الكريسماس مع بعض الأصدقاء، وحينما عدت – وأذكر أننا كنا نعيش في برايتون آنذاك – استطاع شخص ما من بلادي أن يتصل بي، وأخبرني أنها ماتت. وبالطبع كانت قد دفنت في اليوم الذي ماتت فيه، وكانت «الختمة» أي مراسيم العزاء الزنجبارية قد انتهت، لذلك كان الأوان قد فات لفعل أي شيء. وعلى كل حال فقد كانت هذه هي نقطة الانطلاق. أردت أن اكتب قصة عن ذلك، وكان واضحا أنني خططت لتغيير كل شيء، فلم يكن الأمر أنك ذهبت لقضاء عدة أيام مع بعض الأصدقاء بمناسبة الكريسماس، أو شيء مثل ذلك، ولكن كان الغياب لأمور أكثر ثانوية ولا تستحق حتى الغياب. وبمعنى آخر فإنني أتناول فكرة الالتزامات الاجتماعية، والإحساس بالواجب الذي يشعر به المرء في لحظات مثل تلك، وكيف يفكر الآخرين فيها، وكيف يتصورها المرء نفسه. إنها قصة عن الذنب والإحساس بالتقصير، وإعادة تمحيص ما جرى وهكذا. ماذا كنت أفعل؟ لماذا لم أكن متاحا بالتليفون بدلا من فعل ما فعلته وتسبب في غيابي؟ كانت هذه هي نقطة الانطلاق. ولكنها تمضي في طريقها الخاص بعد ذلك.

إضافة من المترجم للحوار:

بعد فوز عبدالرزاق قرنح بجائزة نوبل كان طبيعيا أن تكتسب أعماله وتصريحاتها ثقلا جديدا. وهذا ما دفع جريدة (الأسبوع The Week) الأسبوعية في عددها الأخير أن تعيد نشر رأيه في خمسة روايات رشحها للقراءة في باب شهري لها، وكان هذا قبل عام تقريبا، وبمناسبة نشر روايته الأخيرة Afterlives. والروايات الخمس التي اختارها وما قاله عن كل منها هي:

خرائط Maps لنورالدين فرح[13]: هي أقوى روايات فرح، وتدور – مثل  كل أعمال السردية – في وطنه الصومال. وتقص لنا بطريقة آسرة حكاية صبي يتيم ينمو بين مجموعة من النساء أثناء حرب أوجادين بين الصومال وأثيوبيا، وهي عمل شعري مبني بطريقة رائعة.

المريض الانجليزي The English Patient لمايكل أونداتشي: وهي رواية لها انجازاتها المتعددة. حيث تدور في دير مهجور ومدمر، تحول إلى مستشفى حربي إيطالي في نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد تُرك المستشفى وبه مريض وحيد يعاني من حروق خطيرة وهو هشّ بدرجة لا يستطيع معها الحركة. لكن فضاء الرواية المتخيل شاسع إلى حد أنه يستوعب خفايا التجسس، وجغرافيا الحياة في القاهرة أثناء الحرب، واستكشافات الصحارى، فضلا عن قصة حب مدمرة.

أغنية سليمانSong of Solomon لتوني موريسون: إن لغة رواية موريسون مدهشة من الصفحة الأولى وحتى نهايتها البديعة. حيث تروي قصة رحلة "ماكون" المضطربة إلى بدايات أسلافه في الجنوب الأميركي، بصورة تجعل منها ملحمة التجربة الأمريكية السوداء.

في انتظار البرابرة Waiting for the Barbarians لـج. م. كوتسيا: إن راوي في "في انتظار البرابرة" هو وكيل نيابة متحرر وتنويري – وفق تقديره الشخصي لنفسه – في مدينة حدودية نائية. وهو شديد الدقة في التفاصيل العضوية، ومع هذا فإن موقعه ومدينته غير مسميان. ومع هذا فمن الصعب ألا نراها باعتبارها أمثولة للأبارتيد في جنوب أفريقيا، وحيرة أو متاهة ذوي الافكار المتحررة في هذا السياق، والذين تحركهم النزعة إلى إرجاء اتخاذ موقف صارم منه، ولا جدوى أي تحرك في هذا المجال. وهو عمل بالغ الثراء والخصوبة.

سيدات القمر Celestial Bodies لجوخة الحارثي: وهي قصة ثلاث أخوات ومسيرتهن نحو النضج بينما تشهد عُمان تحولات كبيرة من مجتمع تقليدي أبوي صارم إلى مجتمع مترع بالحيوية والجدة والتغيير. وتنبع قوتها من نثرها التلقائي البديع، ووسرها الساحر، وبنائها الرهيف المتين والمتوازن.

 

هوامش المترجم:

 

[1] . كان نظام التعليم الانجليزي في ذلك الوقت أقرب إلى النظام الذي كان سائدا في مصر في خمسينيات القرن الماضي، حيث كانت الدراسة الثانوية تنقسم لمرحلتين: الأولى تؤدي لشهادة الثقافة، والثانية بعدها بعامين للتوجيهية وهي المعادل للباكالوريا الفرنسية. ذلك لأن نظام التعليم الإجباري الانجليزي كان ينتهي بما يسمى المستوى العام Ordinary Level وهو ما يجري اختصاره إلى O Level وهو أقرب للثقافة في النظام المصري القديم حيث يزود التلميذ طوال عشر سنوات من الدراسة بالثقافة العامة التي تجعله مواطنا صالحا. وهو ما كان يكتفي به معظم الانجليز حتى قرب نهاية القرن الماضي. أما الأقلية التي تريد مواصلة الدراسة ودخول الجامعة، والالتحاق بالنخبة، فكان عليها أن تدرس لعامين آخرين للحصول على مستوى أعلى Advanced Level وهو ما يجرى اختصاره إلى A Level أو ما يمكن دعوته بالثانوية المتخصصة  التي يركز فيها الطالب على ما ينوى الاستمرار في دراسته بالجامعة من موضوعات علمية أو أدبية.

[2]. وقعت تلك الثورة التي قامت بها العناصر الأفريقية في الجزيرة في 12 ينايرعام 1964 وأدت إلى الإطاحة بسلطان زنجبار العماني، وإنهاء الحكم العربي فيها والذي يعود إلى عام 1698، أي أنه استمر لأكثر من مئتي عام. حيث كانت تلك العناصر تسعى للانضمام إلى تنجانيقا المواجهة لها على الساحل الأفريقي بعد حصول تانجانيقا على الاستقلال عام 1963. وقد أعقب تلك الثورة موجات من اضطهاد العناصر العربية والآسيوية لصالح النزعة الأفريقية. وثمة خلاف على عدد ضحايا تلك الثورة منهم من عدة مئات في بعض الروايات إلى عشرين ألفا في روايات أخرى.

[3]. كانت الدول الاشتراكية وقتها في طليعة الدول التي اعترفت بثورة زنجبار – والتي ظن الكثيرون أنها ثورة شيوعية مع أنها لم تكن كذلك – وبالحكومة التي انبثقت عنها، وكانت ألمانيا الشرقية في طليعة تلك الدول، وقد قدمت لها وقتها الكثير من المنح الدراسية.

[4]. كان تعداد زنجبار يربو في ذلك الوقت على ثلاثمائة ألف نسمة. كان منهم 240 ألف من أصول أفريقية، تزعم أن لها جذور فارسية، ولذلك كانوا يعرفون بالشيرازيين، وخمسين ألفا من أصول عربية، وأكثر قليلا من عشرين ألفا من أصول هندية. وكان من قاموا بالثورة من تلك الأغلبية الأفريقية الشيرازية التي تمردت على استئثار الأقلية العربية بالحكم لقرون. لذلك لم يكن أمام عبدالرزاق قرنه وأخيه أي فرصة للحصول على تلك المنح، لأنهما من أصول عربية.

[5]. تغير هذا الأمر في زمن ثاتشر والمحافظين، وأصبح مطلوبا من الكليات والجامعات التأكد من حصول من يلتحق بها على تأشيرة للدراسة، قبل تسجيله لديها.

[6]. هذا أيضا من الأمور التي تغيرت، ولذلك يركز عليها عبدالرزاق قرنح، حيث يتعرض من يتزوج من بريطانية للكثير من الأمور المحرجة قبل أن يحصل على الإقامة الدائمة، وهي شرط أوليّ للحصول على الجنسية فيما بعد.

[7]. ذلك لأن هذه المقابلة قد أجريت في شهر سبتمبر، أي بعد تسعة أشهر من بداية إجازته الدراسية، وبعد فصل الصيف أيضا.

[8]. فرا مورو (1400-1464) هو راهب وعالم من البندقية (Venice) رسم خريطة للعالم كانت بالغة الدقة بالنسبة للعصر الذي رسمت فيه.

[9]. جامعة تحمل اسم منطقة شهيرة بزراعة النبيذ في منطقة الكيب بجنوب أفريقيا، وهي جامعة مرموقة تهتم كثيرا بالأبحاث والدراسات العليا.

[10]. جوزيف كونراد (1857-1924) كاتب بولندي الأصل كتب باللغة الانجليزية روايات رائعة ومن أبرزها (قلب الظلام Heart of Darkness) 1899 التي أثارت الكثير من قضايا الرواية الاستعمارية وجدل ما بعد الاستعمار، وأجرى معها الكاتب النيجيري الكبير تشنوا تشيبي في روايته المهمة (الأشياء تتداعى) حواره التناصي الخاص، كما تجري رواية عبدالرزاق قرنح (الفردوس) هي الأخرى معها حوارا تناصيا مغايرا ومهما.

[11]. يعد ميشيل دي مونتاني Michel de Montaigne (1533-1592) مؤسس النقد الأدبي الفرنسي بلا نزاع. وتعتبر مقالاته المثيرة تلك حجر الأساس في هذا المجال.

[12]. هي إحدى الشخصية الأساسية في رواية تشالز ديكنز (1812-1870) الشهيرة (توقعات كبرى Great Expectations) والتي تنحدر من أصول متواضعه، ولكن المقادير جعلت شخصية ثرية تتبناها، وتنشئها على هدي توقعات الطبقة الراقية كي تكون سيدة من سيدات المجتمع.

[13]. الكاتب الصومالي الذي يكتب هو الآخر باللغة الانجليزية.