تقرير عن ندوة نظمت في الحمامات التونسية حول العلاقة بين الممارسة الثقافية والفنية والشأن العام وترسيخ فعل المواطنة، في محاولة للاقتراب من هذه العلاقة بين الفنان ومن خلال إنتاجه الفني والمتفرج، من جهة، بعيدا عن تلك الصفة الملازمة للفنان والمثقف على انعزاله، ومن جهة ثانية، انخراطه الفعلي المجتمعي في الشأن العام، وما يجره عليه من "تخندق واصطفاف".

الممارسة الثقافية والمواطنة

 

المثقف والفنان يحققان التلاحم الحضاري

العلاقة بين الممارسة الثقافية والفنية والشأن العام علاقة جدلية سواء عند الفنان أو عبر العمل الفني أو عند المتلقين فعادة ما يلام الفنانون والمثقفون على انعزالهم في أبراجهم العاجية، فيما يلام آخرون على انخراطهم الكلي في الشأن العام، وهو ما يقلل من جماليات أفعالهم ويضعها في خانة السياسي. لكنّ هذا الجدل لا يمكن أن يخفي العلاقة الوثيقة بين الثقافة والفن من جهة، وترسيخ مفهوم المواطنة من جهة أخرى.

إن المواطنة التي تتمثل أساسا في مجموعة من الممارسات اليومية والمبادئ العامة التي تضمن العيش معا، ليست معطى طبيعيا يكتسبه الإنسان على السليقة، بل هي معارف وقيم يتحصل عليها الفرد، إمّا عن طريق الأخلاق العامة السائدة في المجتمع وذلك عبر المعاملات اليومية للفرد (الأسرة كمثال) أو عن طريق الأطر التربوية والتكوينية عموما (المدرسة والجامعة مثلا)

وفي هذا الإطار تتنزل ندوة بعنوان “راهن الممارسة الثقافية بتونس بين الجمالية والمواطنة”، ينظمها المركز الثقافي الدولي بالحمامات يومي التاسع عشر والعشرين من نوفمبر الجاري، ويشرف عليها كل من الأكاديمي هشام المسعودي والفنان المسرحي توفيق الجبالي.

اكتساب قيم المواطنة داخل الأطر التعليمية والتكوينية

خمسة أسئلة

تتطرّق الندوة إلى طرق إرساء أو اكتساب قيم المواطنة داخل الأطر التعليمية والتكوينية وأساسا عبر الفنون المختلفة، ذلك أنها تتطلب جهدا وعملا من طرف المتلقي، فهي عملية ثقافية بامتياز تستوجب وعيا وعملا وسُموّا بالذات من الطبيعة إلى الثقافة.

وتطرح الندوة خمسة أسئلة محورية، حيث تنطلق بداية من البحث في علاقة مفهوم “المواطنة” الذي يبدو في الوهلة الأولى متعلّقا بالمجالات السياسية والشأن العام والأخلاق وتدبير شؤون الدول، بالفن الذي يمكن اعتباره تعبيرا حرّا عن الأحاسيس والهواجس الباطنية.

كما تتساءل حول انشغال الفن بإرساء مبادئ العيش معا، وإن كان يمكن اعتباره رجوعا بالفن إلى أصله الحقيقي؟ حيث يستشهد القائمون على الندوة في هذا الصدد بالعرب والإغريق من قبلهم، الذين تعلموا مبادئ الشجاعة والفضيلة والمروءة عن طريق الشعر والمسرح قبل أن يتعلموها نظريا ومن خلال التفسير.

ثالث الأسئلة التي تطرحها الندوة أنه لو افترضنا أن الفنون تساهم بطريقة أو بأخرى في إرساء قيم المواطنة فهل هذا من شأنه أن يُنقص من تعاليها أو ترفعها عن “التلوث” اليومي؟

فيما تناقش إثر ذلك مسألة انشغال الفنون بالشأن العام، وإن كان يمكن أن يحوّلها ذلك إلى خادم مطيع للسياسة وإكراهاتها ويضرب بالتالي استقلاليتها؟

أما السؤال الخامس فإنه لو فرضنا جدلا أن الشغل الشاغل للفنون هو الشأن العام، فهل هناك فنون قادرة على أداء هذه المهمة أكثر من غيرها؟ هل أن المسرح والسينما مثلا، أقدر من الشعر والرسم في ترسيخ قيم المواطنة؟

جلستان نقديتان

وأضاف البيان "في بلدنا، برزت موجة فنية وصلت ببعض الفنانين حدّ التفكير بمنطق ينقل الواقع الاجتماعي وينقده، متفحّصا في فحواه وفي عقيدته الأيديولوجية والتركيبة الاجتماعية راصدا علاقات التصادم الفكري بين الأنا الفرد وشروط المواطنة، تخلصت في ضوئه التجربة الإبداعية التونسية جزئيا مما يمكن أن نسميه عقدة "الإرث الحضاري". فلم يعد الفنان يبحث عن انطلاقة جديدة لتوظيف مفهوم الانتماء الحضاري الكلاسيكي، وإنما أصبح يبحث عن أفق جديد تنفتح فيه جمالية الممارسة الفنية بمشاغل الشأن العام".

وفق ما جاء في ورقة تقديمية للندوة التي من المنتظر أن تشهد حضور أهم الفاعلين الثقافيين ومحبي الفن والفكر، على غرار ندوات فكرية سابقة نظمها المركز الثقافي في الحمامات، فإن الهدف من الندوة ليس نظريا فحسب بل هو أيضا سعي إلى ربط هذا المضمون النظري بالممارسة الفنية ورهاناتها في تونس. الهدف من الندوة ليس نظريا فحسب بل تسعى إلى ربط المضمون النظري بالممارسة الفنية ورهاناتها في تونس

وشدد البيان على أن المركز الثقافي الدولي بالحمامات “دار المتوسط للثقافة و الفنون” بما اكتسبه طيلة تاريخه الثقافي من خبرات واسعة في تنظيم اللقاءات الفكرية والندوات العلمية التي تعالج الشأن الثقافي سواء كان وطنيا أو إقليميا  أو دوليا، يصر في كل موسم ثقافي على معالجة الراهن الإبداعي بأكثر تخصص وجرأة لمساءلة اليومي الثقافي في تونس أو في منطقتنا عموما.

ويأتي تنظيمه لهذه الندوة بحثا في راهن الممارسة الفنية في تونس بين الجماليات والمواطنة مقدمة جديدة لجملة من المراجعات الفكرية مع المختصين من الأكاديميين وأهل المهن والصناعات الفنية، للبحث عن تأصيل نظري يسند العمليات الإبداعية ويفهم جملة تحولاتها والتمثلات الجديدة التي أصبحت تسم فنون واقعنا الراهن.

وتفتتح التظاهرة مساء الجمعة التاسع عشر من نوفمبر بجلسة علمية أولى برئاسة الأكاديمي هشام المسعودي، والذي يقدم مداخلة حول الفن واستقلاليته، كما يتحدث فيها كل من الأكاديميين ألفة داود حول علاقة السينما بالمواطنة، و وناس الحفيان في نقد لتجارب الفن التشاركي، فيما يتناول الصادق بن تركية مسألة "الفن التشكيلي في الفضاء العام، فعل جمالي من أجل فكر مواطني: تجربة المعهد العالي للفنون الجميلة بنابل أنموذجا (2015 – 2020)"، وتحضر الباحثة هبة المسعودي مقررة لهذه الجلسة التي تختتم بمداخلة موسيقية.

أما الجلسة العلمية الثانية فستكون يوم السبت العشرين من نوفمبر الجاري برئاسة الفنان المسرحي توفيق الجبالي، الذي يقدم بدوره مداخلة حول "جمالية البؤس الداهم"، فيما تكون مداخلة الدكتور فهمي البلطي حول "عزلة العمل الفني في تونس: أسبابها وتداعياتها"، وتتناول الكاتبة المسرحية سهام عقيل شعبان مسألة "الممثل الشاهد بين جماليات المقاومة المسرحية وحركة التاريخ كسبيل نحو المواطنة"، أما وليد العيادي فيبحث في "العلاقة بين الممارسة الفنية والثقافة المدنية لدى اليافعين في تونس تجربة جمعية  ado+  نموذجا"، وتكون مقررة الجلسة الباحثة ذكرى مقايدي، إذ تختتم الفعالية بتلاوة التقرير التأليفي.