يخصنا الشاعر والناقد خالد الريسوني بهذا الديوان للشاعر الأمريكي الراحل، الذي عايش العديد من الأحداث السياسية والأدبية خلال حياته التي امتدت إلى 87 سنة، بدأها بديوانه الشعري مراسلات أمريكية، وعاش متسكعا يقرأ أشعاره في شوارع ومقاهي سان فرانسيسكو، وربطته علاقات مع جيل البيتنيك، واختار أن يمنح وقته كاملا وبشكل حر للشعر والأدب والسياسة.

ديوان العدد

ولا مرة بعد الآن

جاك هيرشمان

ترجمة خالد الريسوني

 

لمهرجان لاتينيٍّ زهرةٌ وغناءٌ

أتذكر التدحرج

ليس لزوج من النرد، ولكن

لذلك القطار القادم من المكسيك

وهو يعبر الحدود خلسة.

 

أتذكر سقفه، أواه

يا حزوز اللهاث الأخير،

صرخات الأظافر،

دموع الدم،

 

وطوفان الميتات الذي

أتى، بلا قطرة ماء. ثمانية عشر فردا

اختنقوا في ذلك اليوم. كم عدد الذين هناك

لم يتم أبدا الإبلاغ عن أخبارهم؟

 

أقرأ اليوم هذه السطور في زهرة

وغناء، في الواقع نقرأ جميعنا

ونغني الكلمة الحية

للأمل اللاتيني و

 

تشيكانا، ملفوفة في رغائف من غضب،

وحوَّلنا أصوات الأبواب

المحطمة من قبل الغارات الوحشية

الليلية، للأصابع الحديدية

 

المسمرة على أكتاف قاطفي

الأعناب التي تم تثنينها،

في جذوات قصائد مقاومة

وتغيير حقيقي، تغيير

 

ثوري يصعد من

الفواعد حيث ترسخت جذور الشجرة

من النجوم التي تتفتح أغصانها في السماء

والتي أخيرا ستكون ملكًا لنا جميعًا.

 

 

كاكري في كاراكاس

في المزارع المركزية في غوايكابورو، في

في مقاطعة ساريا هزم

ظل الأبراج

العليا لكاراكاس،

 

كاكري جاز!

 

جاز الكلاب الضالة، حسنًا، هذا ما يعنيه كاكري:

الكلاب الضالة التي تمضي لتستقصي، من قمامة إلى قمامة.

هكذا يسمون أنفسهم: بابلو،

وخوسيه، وإيرفين، وماكس، ولينين، أرماندوس الإثنان، داريو وخيسوس-

هذه المجموعة من قطاع الطرق في غرفة في حجم بالكاد

يكفيهم مع قعقعة

أدواتهم التي تزهر بمصير واضح،

نشوة أفواه وأيادي الطبل،

ورفيف القياثر والباس يوقع عليها الرعد أنغامه..

 

الزقاق الضيق هناك يضع أسماعه على الباب.

تأرجح هؤلاء الفتية لأجل جلاجي أليسون ولأجلي أنا،

من الولايات المتحدة؛ هم واقفون ونحن نتكوَّرُ

على الأرض؛ نشعر جميعًا بأننا في بيتنا في عالم بلا مأوى

يحوم حول تلك النقطة حيث

يبدأ كل اتصال وتناغم، صوتُ

كل دوامة.

 

يبدأون ويقرعونه! نقرعه وأنت أيضًا يا هوغو!

وسط هطول وابلٍ من أمطار كاكري

في مثل هذه الفضاء الصغير جدا، موسيقى جد متباعدة!

مع القليل جدا من الطعام والكثير من النضج

طبيخ غير تقليدي على الطبول،

الكثير من النكهة في الساكسفون.

الشعب موحد في الصوت

عبر إيقاعات الأمل،

شعر حر من فيثاغوراس

حتى كولترين، مرورا ببوليفار،

أبدا لن يُهزَم!

كاكري، كاكري، كاكري، كاكري!

يا له من مزيج، يا لشطارة في تلك العبارات المنمقة والبارعة، يا لها من وليمة

لتغذية حشا قلب الفقر العذب!

 

 

ولا مرة أبداً بعد الآن!

تم قتلهم بالغاز، أُحْرِقوا

بالملايين، فقط ألكونهم في الوجود.

الذين نجوا قالوا: ولا مرة أبداً بعد الآن!

طلبوا منهم أن يأتوا إلى هانوي

من أجل أن يواصلوا الثورة الاشتراكية.

فأجابوا: ولا مرة أخرى أبداً بعد الآن!

ولا مرة أبداً بعد الآن سوف نثق بأي حكومة.

سوف نبني بيتنا في فلسطين،

سوف نهزم العرب الذين هناك وسنشتتهم

أو سوف نسمح لهم بأن يعيشوا مثل ظلال رثة بالية

في حقول مجالات احتلالنا.

سوف نعيش من وفي عاصمة الولايات المتحدة

كأمة يهودية، باسم إسرائيل،

ولن نستسلم أبدا لهولوكست

بسبب جريمة الوجود لذاته.

لكن بينما كانت إسرائيل تنمو وتزدهر،

أولئك الذين شردتهم واعتقلتهم

كانوا يهمسون: ولا مرة أبداً بعد الآن!

فقراء وبلا أرضٍ، شيدوا مقاومتهم

وقاتلوا وخسروا مرات ومرات

أمام الجيش الصهيوني بالأسلحة الأمريكية.

لغة الاشتراكية ولغة الصداقة

والتناغم بين شعوب ثقافات مختلفة

مات من الاستنزاف في الشرق الأوسط ، من أجل

المال، والعقود، والحفلات الباذخة للمراحيض. البغال الكئيبة.

الواشون السخفاء. التعويضات عن الموت. نجمة

داود المشرعة على الأرض.

لكن وجوه داود الحقيقية كانت في الشوارع

ترمي الحجارة على جالوت.

آه يا للسخرية الفلسطينية، المتعارضة مع تلك للعبريين.

الأشد فقرا، أولئك الذين ليست لديهم دولة،

الذين حولوا كراهيتهم إلى قبول خاضع

للعبودية في كتائب شهداء الأسلحة

البشرية الانتحارية والذين نادوا إخوتهم

للتوحد معهم في هجومهم ضد المستعمرة الشرسة

للولايات المتحدة في الاستغلال.

هم، الأشد فقرا، بلا مأوى، الذين فيهم

بعد لا يزال يتنفس الحل الأوحد، الوحيد الأوحد

حل غير إبادة جماعية ولا قتل للأشقاء،

لا "الحل النهائي"، حيث ضغوط

الأيدي والكلمات لا يزال بإمكانها أن تفتح الأبواب

للغة اشتراكية المستقبل لإسرائيل جديدة

وفلسطين جديدة،

- ولا مرة أبداً بعد الآن!

ستكون صرخة موحدة

لكليهما موجهة إلى

أرض الاحتيال و

إلى مأوى الجشع.

 

 

موميا 1

هذا يجب أن يصلك،

يا موميا، أعلم ذلك

بشكل أو بآخر،

أهل تعرف

أن ثمة عددا كبيرا

من الناس

لا يعرفون سوى

أنك مذنب

بالبراءة

وأن قضيتك ستكون

منتصرة، ذلك

نعلمه جميعا.

 

ليس هنا فقط

بل في فرنسا وإسبانيا

وألمانيا، وإيطاليا

تمامًا مثلما هو الحال في هايتي،

وكوبا، وفلسطين،

وإسرائيل وإفريقيا

- في الواقع، في كل

الجهات تُتَرجَمُ كتبٌ،

أو يعلمون ذلك من خلال الإنترنيت،

وهم ينشرون اسمك

وكتاباتك الشجاعة

وعملك اليومي، وانتصارك

سيكون تمجيدا لا ثمن له

للروح الإنسانية.

وإذن، نحن جميعا قد سئمنا

من الموت وحروبه

من أجل النفط ومن أجل المال،

من قتل

الأبرياء، من الانتحارات،

والإبادات الجماعية، من

دارفور التي تستلزم،

ثمن المحرقة.

موميا، أعلم أنك تعلم

أن ثمة سبب واحد فقط

لأجله لم تبق راسخا

على آرائك فحسب

بل إنك عشت من أجل

أن توضح الحقائق

من داخل زنزانة الموت

التي ألقوك فيها:

لم يكن ذلك لإنقاذ رقبتك،

بل للتخفيف عن العالم

المحطم، لم يكن ذلك

فقط للتعبير عن ذاتك بل

لنشر الضوء الآسر،

للحاجة الملحة إلى تحول ثوري

من الحفرة الأشد عزلة.

أنت ناظم حكمت في

الحظيرة الأمريكية،

ذلك الشاعر التركي الذي أمضى

ستة وعشرين عاما في السجن

والذي في قصيدة كتبها

في صفحتين فقط تحت عنوان

"منذ أن ألقوا بي

هنا"، أبرز لنا أنه

ليس ثمة قضبان أو أغلال

كافية لتكبيل

الاندفاع الثوري

الذي يخفق في قلب الإنسان.

مثلك أنت أيها الشاعر. أجل أنت،

يا موميا أبو جمال، يا شاعر

نضالاتنا اليومية،

وأنت تكتب من الجحيم

ذاته (ولا تخطئوا،

إخواني وأخواتي،

كل من ولد

في هذا البيان المُشِعِّ

والحارق الذي لا فقدان

الذاكرة القسري ولا

إخضاع المجتمعات

للزهايمر استطاعت أن تجعلنا

ننسى أن نعرف أنه ليس

هناك فرق بين

الشعر والنثر)، وكذلك أنت،

يا موميا، لقد حولت نيران

الجحيم إلى جذوات

الشرف الأسمى.

إنسان من أشد الناس تحررا

يجب أن يكون من منطلق عبوديته

الجسدية

متحررا وطليقا

لكي يحيي

الأذرع

المشرعة

والمفتوحة

لعالم علمه

هو – لكي نقول ذلك

بشكل موجز-

كثيرا

من الحرية.

 

1. موميا أبو جمال، صحفي وناشط سياسي أمريكي أسود، متهم بقتل ضابط شرطة وحُكم عليه بالإعدام عام 1982. أثارت قضيته حملات واسعة النطاق للإفراج عنه في الولايات المتحدة وبقية العالم. لقد كان في "زقاق الموت" - قسم السجن الذي يحتجز فيه من ينتظرون الإعدام - منذ عام 1982.

2. دارفور منطقة نزاع تقع في غرب السودان (أفريقيا). أسفرت الحرب فيها عن تطهير عرقي لآلاف الأشخاص وتهجير قسري لعدة ملايين.

3. ناظم حكمت ران شاعر وكاتب مسرحي تركي، يعتبر في الغرب أهم شاعر باللغة التركية في القرن العشرين. تعرض للنفي من وطنه لمدة طويلة بسبب انتمائه الشيوعي، توفي عام 1963 كمواطن بولندي.

 

باريس

جِدُّ قديمةٍ حدَّ أني

يمكنُ أن أكون جدها،

أشعلُ سيجارة

ممنوعةً أُثناء منتصف الليل

في نافذة

فندق فوفيير.

وهي تمشي من

جهة إلى أخرى

عبر الشارع الضيق، هنالك في الأسفل..

 

أيها الصباح الغبي

سوف تضيِّعُ فرصتك

تحت ضوء الشمس!

 

النوافذ الصغيرة من شقة

في العلية ومن الجهة الأخرى الشارع الصغير.

الأصواتُ تتشتتُ

عبر الحانات.

 

أدخل إلى المقهى

الصباحي. وتدخل هي

وتجلس قريبة.

تعال هنا لأنني سأهربُ

أنا جدُّ صغيرةٍ:

"صُغيِّرَة" تبقى بالنسبة لي

ضخمة والزبدة

تحرق شفتي اللتين يجب أن أفتحهما

من أجلك، لكني خجولة جدًا.

 

أشاهدها وهي تغادر. تمشي

عشر خطوات عبر الشارع

ثم في لمحة طرفٍ

تتلاشى.

 

باريس.

 

 

طريق

انظر إلى قلبك المحطم.

وإذا كنت تعتقد أنه ليس لديك واحدا، فلتتمكن منه.

لكي تتمكن من قلب، كن صريحًا.

تعلم صدق الغايات لما تترك

 

للحياة أن تلج، لأنك أعزلُ حقًا،

لكي تتصرف بطريقة أخرى.

حتى لمَّا تحاولُ الهروبَ، فدعني آخذك

وأمزقك وأفتحك

مثل رسالة مبعوثة

مثل حكم انتظرته

طوال حياتك

رغم أنك لم تقترف أي جريمة.

 

دعها ترفعك

دعها تحطمك، يا قلبي.

أن يكون قلبك محطما فتلك هي البداية

لكل استقبال حقيقي.

تصغي أسماع التواضع إلى ما وراء الأبواب.

تتأملُ كيف تنفتحُ الأبوابُ.

تُحسُّ يديك في الجرار على الردفين،

فمك ينفتح مثل رحم

يلد صوتك للمرة الأولى.

يمضي وهو يغنِّي، في دوامة تأخذك نحو مجد

أن تكون بسيطًا في نشوة.

ويكتبُ القصيدة.

 

 

أمٌّ

نحن لسنا من هذا العالم،

قد حدث ذلك

منذ زمن طويل: لقد انتهى العالم،

الحرب، العالم، الحرب العالمية.

قد أخذتك من يدك

وعبرناه،

يد جد صغيرة، نجمة جد صغيرة.

لم تتحركي حينئذ

مُتُّ ثمَّ مُتِّ.

ثمَّة شمعةٌ في الخطم المفتوح

للحزن.

لم أعد قادرا على التنفس

أنا السلخ المُتمهِّلُ

لجلدي

وكل هذه الأشياء وكل هؤلاء الموتى

الذين رأيت سجلاتهم

محفورة في عيني.

 

لقد كنت شجرةً تضحكُ

قرب موقدٍ

مع موز بالكراميل،

قد كنت ثعلبًا في فرو فضي

وبأناقة عالية الكعب،

قد كنت

خسارتك

والكلمات التي تبحث عنها.

قد كنت المبصوق عليها

 المدعومة في عصبة،

المقتولة واللا تقهر،

كلبة شجاعة في الليالي المقمرة،

وسوط الرحمة

بعد أفيون العاهرات،

الخيط الأحمر

الذي يحرر كل المُدانين بالخطايا

الكشتبان الذي يوازن

بين أقداحك

 

آلة كاليمبا التي تلف

كوابيسك في الهديل،

سلطة الولادة

حين يموت طفل.

 

 نحن لسنا من هذا العالم،

قد حدث ذلك

منذ زمن طويل: لقد انتهى العالم،

الحرب، العالم، الحرب العالمية.

قد أخذتك من يدك

وعبرناه،

يد جد صغيرة، نجمة جد صغيرة.

لماذا لا يجب البكاء الآن

إذ دخلت إلى العتمة؟

هناك كثيرات مثلي من حولك.

فأثيرنا لا نهائي.

إذا لم نعد للكلام من جديد،

فسوف تكتب حديثنا.

إذا خفق صوتي مع قلبك

(رغم أن ذلك مستحيل،

فأنت بعد لا تزال طفلاً مميزًا،

وأنا أبكي أمام النافذة)،

أصوات أخرى سترفع صوتي

وسيأخذونه إلى مركز

أنفاسك.

 

آهٍ يا حبيبي، حين احترقت

حين تقرحت عظامك،

في تلك اللحظات الدقيقة،

من الذي حمل البذرة

عبر السيل الجارف للأفخاذ وحاول أن يهب المجد

لهذا البيض المشتاق؟

لمَّا كبرت مثل كتاب مدرسي

يتحول إلى نص غاضب

ضد كل مظالم

هذا الجحيم الجشع المتعطش للربح،

 

لمَّا حطموا عقلك،

وأجروا تقسيم جنسك

مثلما في كوريا وفيتنام

ومثلما الشمال والجنوب،

لما حلَّتِ السموم راضية

وصار الترياق ميِّتاً،

من الذي قطع الهواء

كما لو كان يلوي عنق دجاجة؟

من الذي نتش الريش

وألقى بها لكي يليِّنَ سقوطك؟

 

أنا المخلوقة التي تركض في الشوارع

وهي تصرخ باسمك ضد السخريات،

أنا حلم الانتحار

وشلالات الشعر الطاعن في القدم،

أنا هجمة الحرية على قلب قاسٍ

والقصيدة للأسماع غير الحسَّاسة.

العزلة والنعمة والبسمة

التي تأتي بابتسامتك عائدةً

من الأعماق البيولوجية

لولادة وبالفرح،

تدنو فقط خفقات الأمدوحة،

يرسم تواشيح العزف فقط تخطيطات أولية لروح الكون.

 

نحن لسنا من هذا العالم،

قد حدث ذلك

منذ زمن طويل: لقد انتهى العالم،

الحرب، العالم، الحرب العالمية.

قد أخذتك من يدك

وعبرناه،

يد جد صغيرة، نجمة جد صغيرة.