يتناول الباحث المغربي هذا الكتاب الذي يندرج ضمن أدبيات علم الأديان المقارن بالنقد والتحليل، معتبرا إياه إضافة مهمة إلى الدراسات المتعلقة بفقه التكفير، لكشفه عن اللاوضوح والاعتباط الذي يعتري هذه الإشكالية المفصلية سواء في الفقه السني أو في الفقه الإمامي الشيعي، مفندا ما تدعوه السلفية بنواقض الإسلام.

فقه التكفير والحاجة إلى ضبط المعايير والمآلات

التيجاني بولعوالي

توطئة
تتجلى أهمية كتاب فقه التكفير[1] للباحث العراقي د. أسعد عبد الرزاق في كونه يندرج في حقل الفقه الإسلامي المقارن، لأنه يشتغل بمختلف المسائل الفقهية المتعلقة بإشكالية التكفير، كالإيمان والكفر والشرك والطهارة والنجاسة وغيرها، في ضوء آراء واجتهادات المذاهب السنية الأربعة والمذهب الإمامي الشيعي. ولا يكتفي هذا الاشتغال بموقف كل مذهب أو فقيه من هذه المسائل في علاقتها بحكم التكفير فقط، بل يؤسس الباحث على تلك المواقف الفقهية موازنة يشدد فيها على التعاطي العقلاني والموضوعي مع نصوص القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، التي تتعلق بمسألة التكفير والإخراج من ملة الإسلام. إن التكفير حكم حساس ومصيري لأنه يتعلق بأصل الإيمان الذي يشكل جوهر الإسلام، فهو ليس مسألة فرعية. لذلك يقتضي الأمر ربط حكم التكفير بالمناط والمعيار وبيان العلة الحقيقية.

ثم إن هذه المقاربة تتسم بتقاطع الحقول المعرفية الإسلامية وتعدد التخصصات Interdisciplinary، فالباحث لا يحبس موضوعه في دائرة الفقه، بقدرما ينفتح على دوائر وعلوم إسلامية أخرى، كالتفسير والحديث وأصول الفقه والكلام وغيرها. ولعل طبيعة الإشكالية المدروسة تقتضي استمداد مختلف المضامين والتأويلات والآليات من علوم دينية إسلامية أخرى، إذ لا يمكن دراسة ثنائية الإيمان والكفر دون الرجوع إلى تفاسير الآيات القرآنية التي وردت فيها، وأسباب نزولها، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وآراء الفقهاء والمتكلمين، وهلم جرا.

ويعتقد الباحث أن مشكلة التكفير عميقة الجذور، فهي ترتبط بـ"كيفية التعاطي الأولي مع ثنائية الإيمان والكفر، ومدى أهميتها في انقسام المجتمع الإسلامي على مجتمع الإيمان ومجتمع الكفر، ليتم صياغة حكم التكفير على أساس ذلك التمايز، ومن ثم تطبيق آثار التكفير المتمثلة في القتل واستحلال المال، من دون معايير أو ضوابط محددة، تلزم العقل الفقهي في إطلاقه حكم التكفير على الإنسان". وينضاف إلى ذلك "عدم وضوح معايير موضوعية وعلمية للتكفير في عموم المعرفة الفقهية، فالمناط الذي يعلق عليه حكم التكفير غير واضح لدى مختلف الاتجاهات الإسلامية، مما أدى إلى إطلاق حكم التكفير بشكل اعتباطي من دون محددات منهجية علمية واضحة" (ص 9، 10). ولعل هذا هو الباعث الجوهري على تأليف كتاب فقه التكفير الذي يحاول من خلاله الباحث "الكشف الدقيق عن مفهوم الإيمان والكفر ومدى تأثيرهما على صياغة حكم التكفير، ومحاولة الكشف عن الأسباب المؤدية للكفر حسب ما هو مصاغ في عموم المعرفة الدينية ومن ثم بيان ما يصلح لأن يكون مناطا للتكفير وما لا يصلح لذلك" (ص 10).

ويتكون الكتاب من 416 صفحة موزعة على مبحث تمهيدي وأربعة فصول وخاتمة بأهم الخلاصات التي توصل إليها الباحث. وقد تم تخصيص المبحث التمهيدي لطبيعة التناول الفقهي لمسألة التكفير، حيث الفقهاء المسلمون يفترضون "أن التكفير حكم شرعي"، غير أن "الحكم الشرعي يؤخذ من مضانه، وله محددات وشروط لا يمكن أن يتم التعاطي معها بشيء من الاعتباط"، كما يستجلي الباحث. (ص 11) وهذا يعني أن المناط، بكونه العلة أو السبب المؤدي إلى الكفر، من شأنه أن يحد من ظاهرة الاعتباط في التكفير. لذلك، أفرد له الباحث حيزا خاصا في هذا المبحث، فحدد مفهومه اللغوي والاصطلاحي استنادا إلى تعريفات مختلف اللغويين والفقهاء والمفسرين. كما تناول الباحث المفردات الثلاث التي يقترن بها هذا المصطلح، وهي تنقيح المناط، وتخريح المناط، ثم تحقيق المناط. وخلص إلى أنه من الصعوبة بمكان ربط مصطلح المناط بموضوع البحث الذي هو التكفير بسبب غياب الضبط الفقهي لمفهوم المناط جراء اختلاف الرؤى وطريقة التطبيق. ثم إن معيار التكفير لا يمكن أن يتحدد إلا بعد ملاحظة تعليق الحكم بالتكفير على تحقق أسباب الكفر. "ويمكن حينئذ اعتبار السبب هو المعيار الذي ما إن تحقق تعلق به حكم التكفير" (ص 19-21).

الفصل الأول: الإطار المفاهيمي للإيمان والكفر والتكفير
يتضمن هذا الفصل ثلاثة مباحث يتفرع كل واحد منها إلى مقاصد متنوعة. تم تخصيص المبحث الأول لمفهوم الإيمان في اللغة والقرآن وعلم الكلام، بالإضافة إلى علاقة الإيمان بالعمل وتحقق الإيمان الظاهري وترجح الإيمان بين التغير والثبات. ويميز الباحث بين نمطين من الإيمان، أحدهما الإيمان البسيط، "وهو ما يكون إيمانا بالمعنى الأدنى، والذي يكون معه الإنسان داخلا في الدين، ويعبر عنه بالإيمان بالمعنى الأعم أو الإسلام الظاهري، ولا يكون متفاوتا في رتبه ودرجاته". والآخر هو إيمان "بدرجة أعلى، وحينئذ يكون بالمعنى الأخص وهو الإسلام الحقيقي ويتفاوت في رتبه ودرجاته أيضا" (ص 45). لذلك، لا يسع من هو حديث عهد بالإسلام أن يبدأ بالإيمان الأعلى التفصيلي، "الذي يحتاج بطبيعته إلى الاطلاع والعلم، بل كان الإيمان بالله وبالرسول كافيا في دخول الدين، نعم قد يستلزم تقادم الإسلام وانتشار معارفه إلى زيادة متعلقات الإيمان البسيط" (ص 51). ويشكل هذا مخرجا بالغ الأهمية، لأنه بالنظر إلى الحرية الدينية التي يقررها القرآن "يتضح جليا أن الدخول إلى الإيمان يعد أمرا شكليا ذا بعد سياسي إلى حد ما في سياق تقرير الخضوع للسلطة الدينية في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يعني النطق بالشهادة تحقق الإيمان الحقيقي إطلاقا مما يبرر وجود فئة المنافقين ضمن كيان المجتمع الإسلامي" (ص 51).

أما المبحث الثاني فيتمحور حول مفهوم الكفر وأقسامه. بعدما حدد الباحث معنى الكفر في اللغة الذي هو الستر والتغطية، تعرض إلى مختلف تعريفات الفقهاء السنة والشيعة لمفهوم الكفر التي صنفها إلى اتجاهين. يميل أصحاب الاتجاه الأول إلى توسعة مفهوم الكفر إلى كل من ينكر ما يعلم مجيئه من الدين بالضرورة، دون الخوض في تفاصيل من يقع عليهم الإنكار. ما يجعل هذا الرأي يؤدي إلى الاعتباطية في الانطباق على مصاديق كثيرة، تجعل من التعريف وسيلة لإدخال الكثير من المصاديق تحت "ما يعلم مجيئه بالضرورة". في مقابل ذلك، يظهر أن الاتجاه الثاني أكثر وضوحا وضبطا، حيث الكفر أو الإنكار يتعلق بالربوبية والوحدانية والرسالة، فهو يضيق مدى الاتجاه الأول إلى دائرة أكثر انضباطا. "فالربوبية يشير إنكارها إلى معنى الإلحاد، والوحدانية بقابلها الشرك، والرسالة يقابلها تكذيب النبي (صلى الله عليه وآله) وهذه الثلاثة تعد معايير أساسية إلى حد ما، لكونها تتناسب مع مضمون الشهادة الذي يؤكد على الإذعان بالله وبرسوله" (ص 60). بالإضافة إلى ذلك، تناول الباحث أقسام الكفر والكافر، وهي خمسة: المشرك، الملحد، أهل الكتاب، من لهم شبهة كتاب (كالمجوس والصابئة)، ثم أخيرا المرتدون والزنادقة. (ص 61-75)

في حين يعالج المبحث الثالث مفهوم التكفير وأبرز الضوابط العامة فيه. وإذا كان التكفير يعني لغة المحو والستر، فإنه اصطلاحا وشرعا حكم يطلق على من يمكن تكفيره وإخراجه من الملة. (ص 76،77) وهذا يعني أن التكفير حكم شرعي حسب إجماع المذاهب الفقهية، لكن لا يثبت إلا بدليل، إذ أن "من ثبت له أصل الإسلام لا يخرج من الإسلام ولا يكفر ولا يحكم بكفره إلا بيقين، والخطأ في الحكم بالإيمان أهون من الخطأ في الحكم بالكفر، لذلك جاء الكثير من أقوال العلماء في النهي عن التسرع في التكفير، وإذا كان التكفير حكما وضعيا، تترتب عليه آثار القتل وغيرها فإن ذلك يعني جريانه مجرى الحدود، فحد القتل لا يثبت دون بينة والكفر مع كونه مؤديا للقتل فلابد فيه من البينة" (ص 81).

على هذا الأساس، لا يمكن الاكتفاء بالظاهر للحكم على عقائد الناس واتهامهم بالكفر، لاسيما وأن نطق الشهادتين كاف لتحقق الإسلام، كما يثبت أكثر من شاهد من القرآن والسنة. وبمجرد ما يتحقق الإسلام الظاهري بالشهادتين، لا يمكن تكفير الإنسان من دون ما يوجب ذلك. ثم إنه لا يمكن التكفير بالمآل، والمقصود به أن يقول المسلم قولا يؤديه سياقه إلى كفر، ويعرفه ابن رشد الحفيد بـ "أنهم لا يصرحون بقول هو كفر، ولكن يصرحون بأقوال يلزم عنها الكفر وهم لا يعتقدون ذلك اللزوم"، كحال بعض أهل البدع والمتأولين. (ص 87-88) ويخلص الباحث في هذا الفصل إلى "أن بعض العلماء حاولوا أن يضعوا بعض الضوابط للتكفير لكنها لم تكن كافية في تقنين حكم التكفير وفق ضوابط أكثر حيطة، لأنه لم يتم حسم المناطات الحقيقية التي تؤدي إلى الكفر" (ص 96).

الفصل الثاني: معايير التكفير في المعرفة الدينية
يتألف هذا الفصل من مبحثين. يناقش الباحث في المبحث الأول المعايير المتعلقة بإنكار الأصول الاعتقادية، ويحدد العلماء المسلمون هذه الأصول في الإيمان بوجود الله ووحدانيته ونبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وهي تشكل الكليات التي لا اختلاف فيها سوى ما يتعلق بتفاصيلها من القضايا التي تخضع لاجتهاد العقل الكلامي والفقهي، غير أنه نادرا ما يتم الاقتصار على كون إنكار أحد هذه الأصول الثلاثة معيارا لتحقق الكفر. وقد تعمق الباحث في أهم الأصول التي تؤثر في إيمان الإنسان أو كفره، من خلال الكشف عما هو ثابت وأصيل من جهة، والكشف عما هو مضاف أو تابع للأصل من جهة أخرى. (ص 100-101) ويتعلق الأمر بالتوحيد والنبوة والمعاد والإمامة والقدر والملائكة والكتب والرسل.

وبعد تناوله لكل أصل اعتقادي بشكل مستفيض في ضوء مختلف آراء الفقهاء والعلماء السنة والشيعة يخرج الباحث بخلاصات عامة، يثبت من خلالها أن إنكار التوحيد يلزم منه الوقوع في الشرك، وأن إنكار الربوبية يسقط صاحبه في الإلحاد، وأن إنكار النبوة بمعنى تكذيب النبي وعدم تصديقه تخرج من الملة. أما فيما يتعلق بالأصول المتبقية، فلا يمكن أن تشكل أساس إيمان المسلم، فهي من لوازم الإيمان بالأصول الثلاثة الجوهرية، ولا يفضي إنكارها إلى الكفر إلا إذا مست إيمان المسلم بوحدانية الله وربوبيته ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم. فلا يمكن أخذ الإيمان بالمعاد في حد الإسلام على وجه الموضوعية والاستقلالية، كما هو الحال في الأصول الثلاثة التي تشكل حدود الإسلام الظاهري التي يدخل الإنسان بموجب الإقرار بها في دائرة المسلمين والإسلام. (ص 120)

وينطبق هذا على إنكار الإمامة، التي تشكل أصلا من أصول الدين لدى الإمامية، غير أنه لا يرقى إلى أن يكون معيارا حاسما للتكفير. (ص 128) كما أن القدر يعتبر من مكملات الإيمان الحقيقي وليس سببا في تحقق الإيمان البسيط الذي يكون معه المؤمن مسلما. (ص 131) وهذا ما يسري على الإيمان بالكتب والرسل الذي "يمكن أن يكون من توابع الإيمان بالنبوة، وتصديق النبي (صلى الله عليه وآله) ولا يمكن الحكم بالكفر على أحد في مثل تلك التفصيلات الجزئية، إلا في حالات التقصي والكشف عن حال المنكر لبعض الجزئيات، فيتم ملاحظة إنكاره فيما لو كان يستتبع لجملة من الإنكارات وإلا فإن التكفير لابد فيه من الاحتياط والتحقق" (ص 137).

أما المبحث الثاني فقد خصصه الباحث لمسألة التكفير بسبب إنكار الضروري التي نشأت في جميع التيارات الكلامية، ولا يخلو تأثيرها في الجانب الفقهي، لاسيما المتعلق بقضايا الإيمان والكفر. ويعتبر "ضروري الدين" مفهوما فضفاضا عادة ما يضاف "إلى بقية أسباب الكفر، بل هو من الأسباب الرئيسة والمهمة، وضروري الدين عنوان عام تندرج ضمنه جملة من المفردات، وهذه العمومية غالبا ما تخرج عن الضبط من دون معيار يحدد ما هو الضروري، وهما يؤدي إلى الاعتباط في إدخال جملة من المفردات على أنها من ضروريات الدين" (ص 138).

وقد تعرض الباحث لمختلف الآراء السنية والشيعية المتعلقة بضروري الدين، حيث إنكار الضروري من شأنه أن يكون مفهوما مفتوحا أمام التأويل وحصول الإضافات استنادا إلى وجهات نظر غالبا ما تكون مذهبية. (ص 154) وتتحدد أهم تطبيقات إنكار الضروري في مسائل الإجماع وسب الصحابي والغلو والفروع التي يحكم على من ينكر أحدها بالكفر، بينما "لم يتم الاتفاق ولو فقهيا على مفهوم محدد أو معيار منضبط لضروري الدين، وما يمكن أن يكون من ضروريات الدين، كذلك لم يتفق الفقهاء على أن منكر الضروري كافر أو لا"، ما يعني "عدم صلاحية إنكار الضروري لوحده أن يكون معيار التكفير" (ص 169).  

الفصل الثالث: معايير التكفير لدى الاتجاهات السلفية
يتضمن هذا الفصل جملة من المباحث التي يسلط فيها الباحث الضوء على طبيعة المعايير المعتمدة في التيارات السلفية للحكم على المسلم بالكفر وخروجه من ملة الإسلام. وتختلف الرؤية السلفية عما هو مشهور لدى جمهور المسلمين التي يبدو فيها الإيمان أمرا بالغ الحدية، إذ "أن دخول الدين يسير لا يحتاج إلى تثبت، والخروج منه هو ما يستتبع التثبت والاحتياط من ناحية ترتيب الآثار، فيتضح أن الرؤية السلفية تشدد في تحقق الإيمان وتلمح إلى شروط صارمة، في حين تتساهل في ترتيب آثار الكفر بشكل يسير دون احتياط أو تثبت" (ص 173).

يستهل الباحث هذا الفصل بنواقض الإسلام التي دونها محمد بن عبد الوهاب، وأوجزها ضمن عشرة نواقض تعد معايير لحكم التكفير، وهي الشرك والوساطة وعدم تكفير الكافر وتفضيل هدي غير النبي وبغض شيء مما جاء به النبي والاستهزاء بشيء من الدين والسحر ومظاهرة المشركين وتسويغ الخروج عن شريعة النبي والإعراض عن دين الله بعدم التعلم والعلم. والظاهر أن أغلب الاتجاهات السلفية تستند إلى هذه الرؤية الوهابية. (ص 177-196) وبعد مناقشة مستفيضة لهذه النواقض يخلص الباحث إلى جملة من المؤاخذات النقدية، نكتفي في هذا الصدد باثنتين: أولهما اعتبار أنه في هذه النواقض عملية نقل واضحة لكثير من المسائل من مجال الأحكام والفروع إلى مجال الأصول والاعتقاد، وهي بمثابة صياغات خاضعة لرؤية تأويلية خاصة لم يتم التسالم عليها حتى فيما بين علماء السلفية نفسهم. والمؤاخذة الثانية هي أن أكثر ما تم طرحه في الفكر السلفي يعد ضمن إنكار الضروري، وهي مسألة قابلة للنقاش، فقد اختلف العلماء في معنى ضروري الدين، ومدى استقلالية إنكار الضروري بالكفر. (ص 260)

ثم يمضي الباحث إلى مسألة التكفير المترتب على فكرة الولاء والبراء التي تحولت في العقيدة السلفية لاحقا "من فكرة دينية ثانوية إلى أصل إيماني يدخل شرطا في الإيمان ليتشكل في ضوء ذلك معيار للتفكير" (ص 196). ويعني الولاء شرعا نصرة المسلم للمسلم، بينما يحيل البراء على البعد والعداوة (للمشرك). ويلاحظ أن طبيعة الاستدلال السلفي يعمم البراءة والمعاداة للمشركين إلى عموم أهل الأديان، بل إلى عموم أهل المذاهب، داخل الدين الإسلامي ممن تختلف رؤاهم عن السلفيين. وفي مقابل ذلك، يقلص الولاء من عموم المسلمين إلى فئة ضيقة متمثلة في المسلك السلفي العقدي الخاص، وجعل الموالاة حصرا بهم. وهكذا يوسع الاتجاه السلفي دائرة البراء والعداوة ويقلص التعاون والمحبة، وهو ما يتنافى مع روح الإسلام الأصيل. (ص 260)

علاوة عن ذلك، هناك التكفير المترتب على فكرة الحاكمية من ناحية وعلى رواية الفرقة الناجية من ناحية أخرى. ويظهر أن فكرة الحاكمية تم نقلها أيضا في الرؤية السلفية "من نطاق الفروع إلى نطاق الأصول الاعتقادية، أي من الفقه السياسي إلى مصاف قضايا التوحيد والاعتقاد، حتى أن البعض قدمه على توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات وسماه توحيد الحاكمية، وقرر أن الإخلال بها نقض لأصول التوحيد" (ص 261). وهذا ما يسري بشكل أو بآخر على مسألة الفرقة الناجية التي يمكن أن تستلزم في الدنيا الحكم على من يقع خارج هذه الفرقة بالكفر في الدنيا. ثم "إن رواية الفرقة الناجية لم تسلم من الإشكالات المتعلقة بسندها من جهة وبمتنها من جهة أخرى، ومثلها لا يرقى إلى أن تكون معيارا للتكفير، فعلى فرض صحتها فإن أقصى ما تدل عليه هو الإخبار بوجود فرقة واحدة تنجو من النار من دون وضوح لتلك الفرقة مع تعدد متون الرواية" (ص 261).     

الفصل الرابع: الآثار المترتبة على التكفير
يناقش الباحث في هذا الفصل ثلاثة آثار تترتب على حكم التكفير، وهي قتل الكافر وقتل المرتد ونجاسة الكافر. فيما يتعلق بالأثر الأول يجمع فقهاء الإسلام على جواز قتل الكافر الحربي وعدم جواز قتل الذمي والمعاهد والمستأمن، ما يدل على أن هذه من المسلمات، ثم إن أصل تسميتهم (الذمي والمعاهد والمستأمن) تعد دليلا واضحا على حقن دمائهم والتعايش معهم وانضمامهم في المجتمع الإسلامي، وفق شروط وحقوق وواجبات متناولة في كتب الفقه. (ص 297)

وهذا ما ينطبق على الأثر الثاني المرتبط بقتل المرتد، إذ كثيرا ما يستدل العلماء المسلمون على وجوب القتل، غير أنهم يختلفون في بعض التفصيلات، لذلك فالمسألة، حسب الباحث، قابلة للنقاش، لأن "المرتد له حيثيات وظروف من الممكن مراعاتها قبل إطلاق جواز قتله، ذلك أن سبب القتل لا يمكن أن يكون لمجرد الكفر، وكذلك المرتد لم يكن قتله لمجرد كونه قد كفر، بل لما يشكله من خطر على البنية العقائدية للمجتمع الإسلامي، فكما تم ملاحظة صفة الحرب في الكافر الحربي واستثناء الذمي والمعاهد والمستأمن من حكم القتل، فكذلك المرتد من الممكن أن تتم ملاحظة سبب القتل، هل هو مجرد الكفر أم شيء آخر" (ص 298). وهكذا فإن أثر القتل يتراوح بين كونه معلقا على مجرد الكفر أوعلى ما يصاحب الكفر من الحرب أو الإفساد، وبمقتضى الاحتياط في مسائل الدماء يترجح الحكم الأول الذي يقضي بقتل الكافر إذا كان كفره مقرونا بالحرب أو الإفساد في الأرض. (ص 378)

أما الأثر الثالث فهو نجاسة الكافر، التي يتباين بخصوصها الحكم تبعا لنوع كفره من جهة، وطبيعة الأدلة المساقة في ذلك من جهة أخرى. بعد معالجته لهذه المسألة استنادا إلى جمهرة من الآراء الفقهية السنية والشيعية، يخلص الباحث إلى أن الأدلة القرآنية التي سيقت في ذلك لم يتم حسم دلالتها على معنى النجس الوارد في الآيات القرآنية بين أن يقصد به النجاسة المادية أو المعنوية. وهذا ما ينطبق أيضا على الأحاديث النبوية والروايات التي تبدو متنافية إلى حد ما، لأن قسما منها يشير إلى أن نجاسة الكافر نجاسة مادية عينية، بينما القسم الآخر يظهر أن النجاسة إما أن تكون معنوية أو تكون من جهة عدم التزام الكافر بالطهارة والنجاسة. (ص 378)

خاتمة
يمكن اعتبار مؤلف د. أسعد عبد الرزاق إضافة مهمة إلى الدراسات والأدبيات المتعلقة بفقه التكفير، لكونه يكشف عن اللاوضوح والاعتباط الذي يعتري هذه الإشكالية المفصلية سواء في الفقه السني أو في الفقه الإمامي الشيعي. لذلك يشدد الباحث منذ البداية على أهمية إعادة النظر في مفهوم المناط الذي يعوزه الضبط الفقهي جراء اختلاف الرؤى وطريقة التطبيق، لاسيما وأننا أمام حكم مصيري يتعلق بتكفير المسلم وإخراجه من الملة الذي تترتب عليه عقوبة القتل. من الناحية المبدئية والمقصدية تعتبر رؤية الباحث في غاية الأهمية، لأنها تثير مسألة الاجتهاد الفقهي في سياق معاصر يتسم بظروف وشروط تختلف جذريا عما كان سائدا في الماضي.

ما يحتاج إلى النقاش في هذه المقاربة هو الجانب المنهجي الذي يفتقر إلى ضوابط واضحة ومحددة. إن تقاطع الحقول المعرفية الإسلامية يمكن أن يشكل عنصرا إيجابيا في أي بحث من هذا الجنس، وفي الوقت نفسه يمكن أن يكون عالة على البحث، خصوصا وأن الباحث يخلط في مواضع مختلفة بين ما هو فقهي وأصولي وتفسيري وكلامي، رغم أن لكل حقل قوانينه الخاصة التي تحكمه. كان من اللازم إبراز الحدود والفروق القائمة بين هذه التخصصات، لأنه لا يمكن أن نعالج ونستوعب مسائل فقهية بوسائل كلامية لا تمت بصلة إلى ما هو فقهي سواء من حيث المنطلقات أو المقاصد. بالطبع، يمكن أن نستأنس دوما بآليات من علوم أخرى لإغناء المسائل المبحوثة، لا لإخراجها من نطاقها الفقهي إلى نطاق آخر له مجالاته وأهدافه الخاصة.

ثم إن اللافت للنظر في هذا الكتاب أن الباحث يستمد مختلف التعريفات والآراء والأحكام الفقهية السنية والإمامية الشيعية، لذلك أشرنا في المقدمة إلى أن هذه المقاربة تندرج في الفقه المقارن. وهذا اختيار مهم من شأنه أن يقربنا من الرؤية الإمامية حول مسألة التكفير، لكن يثير في الوقت نفسه جملة من التساؤلات: لماذا يقتصر الباحث على المذهب الإمامي دون غيره من المذاهب الشيعية؟ لماذ يركز الباحث في تناوله لبعض المسائل الفقهية المتعلقة بحكم التكفير على الآراء الشيعية دون السنية، والعكس صحيح؟ لماذا يغفل الباحث الفروق الكائنة بين الفقهين السني والشيعي لاسيما في تفسير القرآن الكريم ورواية الحديث وغيرهما؟

 

كلية اللاهوت والدراسات الدينيةجامعة لوفان بلجيكا

 

 

Free PDF فقه التكفير : دراسة في المعايير الدينية لإطلاق حكم ...

       

 

[1] مراجعة لكتاب: فقه التكفير، دراسة في المعايير الدينية لإطلاق حكم التكفير على الإنسان من تأليف د. أسعد عبد الرزاق، دار سطور للنشر والتوزيع بغداد، 2018.