أكاد أجزم أن "غفوان" حامل السرير ينتمي إلى طائفة "حمّال الكراسي" في رائعة يوسف إدريس، فالحمال شديد النحول يبدو ساقًا خامسة للكرسي العتيد، مثله غفوان يبدو أمام سريره "كعصاة"، تأخذنا مثل هذه النصوص إلى أمثولة غنية بالتفاصيل فتجسد تناقضات صارخة ما كان يمكن رؤيتها على هذا النحو.

سرير غفوان

ميـمـون حـرش

 

السرير الوحيد الذي ورثه "غفوان" عن والده سيتخلص منه، قرر في لحظة غضب، ودون تردد أن يعرضه للبيع، حمله على ظهره، وقصد به سوقَ بلدة بعيدة (بلدة العين. هذا هو اسمها)، ومن نحوله كان يبدو أمامه كعصا، حام حوله الناس، سألوه:

  • ما هذا الجسم الغريب، ولأي شيء يصلح؟
  • للنوم أسيادي، (مستغرباً)
  • وما هو النوم، وكيف يكون؟

    تلعثم، ثم بدأ يشرح ...

  قاطعه أحدهم صارخاً:

- أنت تخسَر وقتك، خذ حاجتك وارحل، فالنوم كما تشرحه، لا يكون في بلدنا سوى للحكام، ولهؤلاء كنوز الأرض، أما نحن -عيونهم -فلا ننام.

   لم يسمع الكلام ، أبى أن يبرح مكانه، ظل النهار كله ينادي على بضاعته، لا حياة في هذه السوق التي لا ينام أهلها، يمر به الناس، ولا يرونه، يصرخ، يومئ بيديه، يخبط رجليه الأرض، يضرب على سريره بقوة، ولا أحد يلتفت إليه..
هل يعود بخفي حنين
دون أن يبيع مع أن سريره ليس من سَقَط المتاع، وهل يتخلص منه، وهو  الشاهد على حياة مخملية، عاشها رفقة أم عياله، ولولا ما أثاره من فتنة في القرية  بين النساء، لما فكر في بيعه؛ كانت زوجته محظوظة في القرية، هي المرأة الوحيدة التي زُفت لرجل يفض بكارتها فوق سرير ، ورثه عن أبيه ، شيخ القبيلة، وقبل وفاته  أوصى له به، وكان الناس ، في القرية، رغم  قضاء حوائجهم بالكتمان ، يعرفون أن شيخهم ينام فوق سرير ، وتناقلت النساء السر، بعد أن أذاعته مولدة القرية، وبدأن يثرثرن، أمام الأزواج، بمزايا السرير، أكثرهن مكراً علقت في حضور نساء كثيرات بمناسبة عرس ضم نساء القرية :

" التي لم تتعرَ وسطه لم تذق حلاوة الجِماع، الافتراع فوقه يمنح مفتاح النور، ويسهم في إنجاب الذكور ".

 تناقلت النساء الخبر، شاع وانتشر كالعدوى، وأصبح يقيناً عند أكثرهن، وستثور ثائرة نساء القرية حين أصبحت كل زوجة تطلب سريراً، وثمنه الباهظ حمل الرجال على تعويض النساء ببوتاجاز كان حديث العهد، وامتلاكه كان يعني ميزة اجتماعية وثراءً، وحظوة، ومنهن من لزمت الصمت مقتنعة، وأخريات ظللن ينحن طوال الوقت ملحات في طلب السرير المعجزة، والذي يسهم في إنجاب الذكور.

"غفوان" يتذكر  هذا، وهو في السوق، والسرير أمامه، كان الوقت متأخراً، والسوق بدأت تخلو من المرتادين، وبينما هو يلف حول سريره حائراً، يقف أمامه رجل، غريب الأطوار، طويل كالتفاصيل، كل عضو فيه تخاله موضوعاً في غير محله ، وجهه مثل بومة، فيه عينان مختلفتان، اليمنى أعلى من اليسرى كما لو كانتا في سباق ،لم يسأل عن الثمن، وغير  مبال بغفوان الذي كان يرمقه مستغرباً، ينحني على السرير مثل نسر جارح ، يضمه إليه، يطويه بين ذراعين الطويلتين ككتاب، حاول غفوان أن يمنعه ، لكن الغريب يصده، يُخرج غفوان مُدية ، يعالج بها الرجل في غفلة منه، ويرديه قتيلاً، تركه مضرجاً في دمائه، فقفل بسريره إلى داره هارباً ، وصل إلى مدخل  قريته مع آذان صلاة العشاء، كانت كريات من الدم قد تبقعت في جوانب كثيرة من سريره، حين انتبه لها قال في نفسه : " النذل ، نال ما يستحق  .."، واعتبر الجريمة علامة على الاحتفاظ بالسرير مهما كلفه الأمر ، إنه إرث تليد، والتفريط فيه لا يليق بتاريخ أبيه .وفتنة النساء ، في قريته بسبب سريره ، لها مدبر حكيم سيحلها عاجلاً أو آجلاً .وربما بالسرير ذاته.

 دخل قريته آمناً، وجدها في مرج وهرج، لمح تسعة رهط لوّحوا له بالأيدي، انتظم عاشرهم، كانوا ملتفين حول باب المسجد، يدعون للفقيه بالصبر، وبزوال الشدة، مكسوراً كان الفقيه يجهش بالبكاء ويعول، ويردد الاسترجاع ويطول، زوجته الحامل، استعصت عليها الولادة، والنساء في كرّ وفرّ، والمُولدة الحائرة، والتي رمقت غفوان وسطهم، اخترقت الرجال، ورجته في حضورهم أن تستعير سريره، لتنام عليها الحامل مجرد لحظات، فالأمر حياة أو موت، تهلل الرجال حين مد غفوان سريره عن طيب خاطر.

زغردت النساء حين تمددت الحامل فوق السرير، وما هي إلا لحظات، حتى جاءها الطلق، وتيسرت الولادة، بل المفاجأة هي حين حملت "القابلة" الرضيع، وتبين أنه صبي بعد سبع إناث، صمت ثقيل ران على مجمع النساء، المفاجأة كانت كبيرة، عقدت لسانهن لحظات، هل يُعقل !؟. الفقيه، مئناث القرية، يُرزق بولد ذكر. بدأت النساء، وسط ضجيج لا يُحتمل، يتمسحن بالسرير، يقبلن أطرافه، واحدة منهن تخلت عن وقارها، وعرت عن مكمنها واستوت جالسة فوق السرير في صورة شاذة، أخريات فقدن عقلهن لحظات، حين رحن ينتفن أطرافاً منه، ولولا المولدة لنفشن السرير قطعاً، ولاستعادة غفوان مثل هيكل عظمي.

ستعيش القرية على نبأ الصبي، وحكمة سرير غفوان، وتروي المولدة ما حدث بعد ذلك ما يلي:

" بعد حفل العقيقة تهجم قبيلة "العين" على القرية طالبة بأخذ ثأرها من صاحب سرير مجهول، قتل عمداً أحد أبنائها البررة.

  نشبت حربٌ طاحنة بين القريتين بعد أنْ فشلت مساعي الخير، ورفضت بلدة "العين" الدية عن القتيل.

كانت الحرب الأولى في القرية، تجند لها شبابها، وشيبها ونساؤها، دفاعاً ليس عن غفوان إنما على السرير المعجزة.

 احتفلت القرية بنصرها عدة أيام، وغنى الناس، وذبحوا الديكة والخراف، وتدافعوا إلى بيت غفوان طالبين التبرك بالسرير، حملته النساء كعروس فوق هودج، وأنشدن فيه وسط الساحة قصائد المديح وهن يتمسحن به، وحقولهم تلهج بانتشاء:

"اِصدع بالبشرى، يا سرير، يا خليل، أنت المأمول، وعليك، بعد الخالق، التعويل".

 

*كاتب من المغرب