لم يكشف النص "الغلطة" مما يرجح أنها في مقارنة عنف الأب الغنى تجاه ابنه، بمحبة الأب الفقير لابنته، إنها التناقض الجارح للراوي/ الكاتب ربما، والذي يلتمس التوازن في العدالة الإلهية، فهي لا تترك الإنسانية نهبًا للأغنياء، وقد نشرتُ النص بيقين أن الكاتب الشاب مدعوٌ لتجاوز هذه الثنائية.

غلطة

إسماعيل مـقـران

 

كنت طفلًا صغيًرا، في أكثر تقدير كنت أبلغ العام التاسع من عمري، وقد اخبرتنا المعلمة ذات يوم، غالبا كنت أدرس في الصف الثالث على ما أذكر، وقالت لنا بأنه من واجبنا الاحتفال بعيد الأم مع امهاتنا لأن ذلك يشعر الأمهات والعائلة جميعها بسعادة عارمة، فلا أحد يكره أن يكون نصب اهتمام أحد آخر ولذلك يجب علينا أن نظهر اهتمامنا بأمهاتنا، هذا ما كانت الاستاذة قد شرحت بالكثير من التفصيل.

اذن كنت سأذهب لأشكر أمي عن حبها الغير المشروط لي، وعن تعبها من أجلي، لكن لم أكن أملك ما أهديه لها، ولحسن الحظ كنت من محبي الافلام ولطالما قد رأيت في هذه الأفلام ان الانسان يفرح اشد الفرح حينما يهدي له أحد ما باقة ورد، فكرت حينها ان اشتري باقة ورد لأمي من النقود التي زودتني بهم لأتناول وجبة خفيفة بعد الدراسة.

كنا أطفالا وكل واحد منا قد فكر بطريقة معينة لينفذ تعاليم المعلمة الجليلة، وبعض الأطفال الذين ما عرفوا ماذا يفعلون تجمعوا في حلقة تكاد تكون دائرية وراحوا يتبادلون الآراء محاولين إيجاد حل ما يمكنهم من بلوغ الهدف، لكن بالنسبة الي كانت الفكرة واضحة كالشمس ولا تحتاج الى الكثير من التفكير، وها انا قادر على تنفيذها دون أية مشاكل تذكر.

لقد اشتريت الورد كما كنت قد خططت لذلك، وها أنا أسير على محاذاة الطريق المؤدي إلى البيت وأنا أخمن فيما أذا كنت قد أنجح في ادخال شيء من البهجة والسرور الى عائلتي، وكنت متفائلا، طالما أن المعلمة كانت متيقنة من ذلك. لكنها لا تعرف ظروف كل عائلة، فهنا يمكننا القول إنها تتحدث من الفراغ، وإن لم يكن فراغًا تام الكمال فهو يحمل شيئًا من الالتباس واللامنطقية. لكنى استسلمت واعتبرت الحق مع معلمتي فأنا في كل الأحوال لن أقدر على التفكير أحسن منها ولا الإتيان بحكمة أبلغ من حكمتها.

يا ترى لو كانت المعلمة تعلم أن أبي وحش بشري يخاصمني على أبسط الأخطاء، ويخاصم أمي كذلك إن حاولت الدفاع عني، وقد يصل الأمر الى العنف الجسدي، وكم كان ذلك يؤلم بقلبي ويحز في نفسي لدرجة إني أفكر في ان هذا العالم كله لا يستحق أن يوجد، لو كان كذلك اي لم يكن موجودًا لما عنفني أبي، ولما عنف أمي، ولما حزنت أنا او أي شخص آخر. لكن في تلك الفترة كنت صغير السن ولم تكن هذه الأفكار واضحة بهذا القدر، بل كانت غامضة أشد الغموض ولا أقدر ان أخبر بها أحدًا.

على كل الأحوال، وأنا أقترب من بيتي المقدس حاملًا في يدييّ باقة ورد، شارد الذهن فيما يمكن أن يحدث او لا يحدث، بين ضرب غفير من الاحتمالات المتراكمة، واحدة تلو الأخرى. صادفت رجلًا سمينًا بعض الشيء ويرافقه طفل صغير كذلك، وعلى ما اتضح لي أنه الأب فقد كان منزعجا من ذاك الطفل وبما انهما كانا يتجهان في ذات الاتجاه لم اتمكن من رؤية الطفل، وما إذا كان يبكي؟ لم يطل الأمر حتى رأيت الأب يصفع الولد فأسقطه على الأرض كحشرة مسكينة يدوسها وحش ضخم الجسد كالفيل. وبعد ان نظر الطفل لأبيه الذي يفوقه طولا، اذ ربما كان قد أخبره بشيء ما او حاول الدفاع عن نفسه. قام بمساعدته على النهوض، لقد اعتقدت انه قد شعر بشيء من الندم لضربه ابنه، لكن فجأة ينتفي اعتقادي هذا بلكمه الطفل الصغير الى ان يتدحرج أمامه كأنه شيء، أو حيوان نتن، فحتى الحيوان تعد معاملته بهذه الطريقة جريمة. لم تسعفني مشاعري بمتابعة المشهد ولذلك اسرعت في خطواتي لابتعد عنهما أكثر.

وقبل ان أصل الى المنزل صادفت رجلًا آخر وابنته، هذه المرة الصغير كان طفلة والاب على ما اعتقدت كان فقيرًا، ربما عامل نظافة حسب ما استنتجته من ملابسه. لكنه كان راقيًا جدا لأبعد الحدود إذ فتح نوعًا من الحلوى وأخرجها من غلافها وقدمها لابنته فرأيتها مسرورة مبتهجة. حينما رأيت ذلك المشهد النقيض للسابق ابتهج فلبي كذلك، وتمنيت لو كنت ابنه وأخ لتلك الفتاة الصغيرة، لكانت هناك أيام مشرقة أمامنا، لكن للأسف لا أحد ينال ما يتمناه.

اسرعت بخطواتي الى أن وقفت أمامه، بدأ ينظر إلي في شيء من الاستغراب. سألته

هل المعلمون الذي يدرسوننا في المدارس فقراء؟ لكن لاحظت حالة عدم الفهم، مما جعلني اسأله بطريقة أخرى.

-هل الاغنياء فقط هم الذين يعنفون أبناءهم؟

حينها ابتسم ونظر إلى بشيء من الاستفسار لكنه لم ينطق بشيء من ذلك القبيل. كما أن الطفلة الصغيرة التي كانت متأبطة يده نظرت إليه وابتسمت هي الأخرى. وبعد برهة قصيرة جدًا استرسل في الحديث قائلا:

دائما هناك أغنياء وفقراء، لكن ليس الاغنياء هم الذين يملكون المنازل الفخمة أو السيارات الفاخرة. وإنما الأغنياء هم الذين يملكون قلبا رحيمًا عطوفًا، يعيشون ويعيش معهم الآخر في كل رحب وحب صادق. لهم قيم راقية ومبادئ صادقة وإنسانية، يملكون رؤية تفاؤل اتجاه الحياة وان كانوا لا يملكون مصدر عشاءهم فهم يظلون مبتسمين ومتفائلين، وهم يؤمنون بقدرة الله الذي لا يضيع حياة إنسان دون أن يجعلها منبعًا للكثير من الأشياء الجميلة والطبية.

 

*كاتب من المغرب