يتريث الباحث المصري هنا عند مجموعة من الكلمات المتداولة ومعانيها الراهنة، كاشفا عن العلاقة بين دلالاتها في الاستعمال الحالي، وأصولها اللغوية القديمة، ومفسرا كيف بقيت تلك الدلالة القديمة فاعلة في كثير مما استوعبته المفردة في رحلتها مع التعامل اليومي من معانٍ، وإن استمرت معها عملية التحوير.

كلمات متداولة ومعانيها فى أصول اللغة

أيـمـن عيـسى

 

الكلمات في حركة تداولها على الألسن، قد تكتسب دلالة جديدة تختلف عما كانت عليه في أصل المواضعة اللغوية. وقد تكتسب دلالة جديدة نجد فيها شيئا من الاتفاق مع الدلالة الأصلية. ولكن في كل الأحوال لابد من وجود مفسر يكشف عن وجود خط رابط بين الدلالة الأصلية والدلالة الجديدة، فاكتساب الكلمة لدلالة جديدة ليس حركة عشوائية أو اعتباطية، بل إن كل جماعة لغوية تكسب اللفظة دلالة جديدة، فإن ذلك نتيجة لوجود هذا الخط الرابط الذى التمسته هذه الجماعة. من هنا فإن من أبرز مهام اللساني في هذا الجانب هو الوصول إلى هذا الخط الرابط، ومن ثم يتسنى له تفسير العلاقة بين الدلالتين.

ومثال ذلك ، نجد الكلمات:

وسوس : الوسوسة في أصل اللغة هي صوت تضارب حُلـِّى الذهب مع بعضه. ولكننا نلاحظ بعد ذلك تغايرا في الدلال ، فأصبحت الوسوسة هي ما يلقيه الشيطان في النفس، وقيدت اللفظة بهذا المعنى. والخط الرابط هنا، هو التصوير، فما يلقيه الشيطان في النفس من تزيين للمعاصي فإنه يجذب النفس للمعصية مثلما تنجذب في شدة لصوت الذهب، وما يلقيه الشيطان في النفس يبهجها لارتكاب المعصية كما تنبهج بسماع صوت الذهب.

شيطان: الشطن في اللغة هو البُعد. ومنه جاءت كلمة شيطان ودلالتها، ذلك لبعد الشيطان عن رحمة الله ، وشيطان إنما هو مبالغة وزيادة في وصف هذا البعد. أو لبعده أيضا عن منهج الله. وكلا الرأيين تقبله الكلمة، ولم لا يكون الرأيان سويا، هو شيطان لبعده عن منهج الله فبعـُد عن رحمته.

جـِن : الجن في أصل اللغة هو الاستتا ، ومن ذلك أ ُطلق على الجن هذه اللفظة لأنه يستتر عن أنظارنا ولا نراه. ومن ذلك أيضا كانت اللفظة وصفا للذكي الخارق ، فتصفه الألسن بأنه جنى، لتصوير قدراته بقدرات الجن الفائقة. ومن ذلك أيضا كان وصف فاقد أو غائب العقل بأنه مجنون أو في حالة جنون، ذلك لأن الجن هو الاستتار، فعقله في حالة جنون أي في استتار وغياب. فمادة "جن" في كل مشتقاتها هي داخلة تحت معنى الاستتار.

خمر: الخمر في أصل اللغة هو الستر والإخفاء، ولذلك اكتسبت اللفظة دلالات واشتقاقات جديدة. ومنها الخمر وهو الشراب المُسكر الذى يخمر العقل أي يستره. واختمرت المرأة أى سترت وجهها. وكذلك اكتسبت دلالة جديدة بمعنى النضج، ومنها اختمر العجين أي وصل إلى مرحلة النضج، وكانت "الخميرة" وهى المادة التي تسرّع من عملية الإنضاج. وذلك بناء على كلمة "خمر" فشراب الخمر لا يطلق عليه خمر إلا إذا بلغ مرحلة من النضوج، أما قبل ذلك فهو عصير عنب، فإذا نضج العصير أو ماء الشعير بعد أخذ فترته صار خمرا. من هنا كان اختمر العجين فهو آخذ في هذه الدلالة من النقطة الثانية في المعنى وليس النقطة الأولى التي هي الستر.

الكفر: الكفر في أصل اللغة هو ستر الشيء ، وعلى هذا الأصل اللغوي جاء قوله تعالى: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ، تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا، سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ  وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا.» [الفتح/ 29] . فالكفار هنا معناها الزراع ، لأنهم يكفرون البذور فى الأرض لزرعها ، أى يسترونها ويغطونها بالتراب. ثم انتقل استعمال الكلمة من الأصل اللغوي وأصبحت تدل على من لم يؤمن بالله، ذلك لأنه ستر عقله وقلبه عن وجود الله ودلائل قدرته.

رجب : الرجب في أصل اللغة هو نزع أسنة الرماح، وكانت العرب ترجب رماحها في الأشهر الحرم لشعورها بالأمان. من هنا كان شهر "رجب" أحد الأشهر الحرم حاملا لهذه الدلالة. والسؤال: لماذا حمل هذه الدلالة دون غيره من الأشهر الحرم الأخرى؟ والإجابة أننا لو نظرنا في أسماء كل الأشهر الحرم ، لوجدنا أن كل شهر فيها اكتسب الدلالة التي تتناسب معه، وكلها أوجه لتحريم القتال. فرجب كما ذكرنا، وهناك المحرم لتحريم القتال فيه. وهناك ذو القعدة لقعود العرب عن القتا ، وذو الحجة لاتجاه العرب للحج، فهم يفرغون فيه لذلك فقط ولا قتال فيه. إذن كل شهر منها حمل دلالة من دلالات التحريم سواء كانت دلالة صريحة أو ضمنية.

شوّال : فى أصل اللغة "شال" أي رفع ، ومنه شهر شوال، لأن الإبل كانت تشول فيه أزنابها للتلاقح، أى ترفعها.

نكتة: النكتة في أصل اللغة ليست الأمر المضحك، ولكنها في الأصل اللغوي تعنى الأمر الدقيق المُحكم. وعلى ذلك نجد أسماء كتب شهيرة، ومنه "نكت الإعراب" أى الأمور الدقيقة المحكمة في الإعراب . إذن ما الذى جعل الكلمة تـُطلق على دلالة جديدة؟ الإجابة أن الأصل اللغوي تحكم في هذه الدلالة برغم ما يبدو عليه من بون بعيد. فالنكتة هي قول محكم متخيل يُحكم قائله حبكته الطريفة بما يدفعك للضحك. فالخط الرابط هنا هو مسألة الدقة والإحكام في الشيء.

حنيف: الحنيفية في دلالتها الجديدة تعنى الاعتدال والاستقامة. ولكن قد يأخذنا العجب حين نعلم أنها في أصل اللغة تعنى الميل والاعوجاج. فمادة "حنف" أصلها بمعنى مال واعوج ، فيقال حنفت الدابة أي مالت عن طريقها واعوجت فى سيرها ، ومن ذلك كانت الكلمة المستخدمة للصنبور "حنفية" لأنها بها عقفة واعوجاجة هي التي ينزل منها الماء. إذن ما الخط الرابط العجيب الذى حمل الكلمة في الدلالة من الضد للضد الآخر؟ والإجابة هي أنه لما ساد الفساد والانحراف عن المنهج، كان المبتعد عن هذا الانحراف والمائل عنه مستقيما. من هنا فإن "الحنفى" مستقيم لأنه معوج عن الباطل، والمعوج عن الباطل مستقيم. من هنا أصبحت الحنيفية استقامة لأنها اعوجاج عن الباطل.

شرس: الشِرس في أصل اللغة هو نبات شائك صغير الحجم. ولما رأت الجماعة اللغوية ما له من تأريق وإيلام على ما هو عليه من صغر الحجم ، فإنهم أطلقوا كلمة الشراسة ومشتقاتها على شديد الإيذاء في شيء ما، وأجروا عليها التغيرات الصوتية التي تناسب نطق كل كلمة مشتقة من هذا الأصل.

غبط: فى الأصل هي مأخوذة من الغبيط بمعنى الأرض المطمئنة، ثم اكتسبت معنى السعادة وجرت عليها الاشتقاقات مثل مغبوط وغبطة بمعنى السعادة كما ذكرنا. ولكنها السعادة التي يطمئن بها القلب ولا يخشى زوالها. لذلك فرقت العرب في الاستعمال بين السعادة والغبطة والفرح والسرور والبهجة، هذا وإن كانت كلها مترادفات لحال واحد. إلا أن كل لفظة من هذه الألفاظ تختلف عن الأخرى في شيء تتسم به يخصها، مثلما رأينا في "الغبطة".

وشوشة: في أصل اللغة الوشوشة هي الخِفـَّة ، ورجل وشواش في الأصل هو الرجل الخفيف. ولمـَّا كان الحديث المهموس الخافت يأتي في خفة صوتية، صار وشوشة، كما أن فيه خفة في وقت أدائه، فالذي يوشوش آخر إنما يؤدى ذلك في سرعة وخفة.

الخبص: الخبص فى أصل اللغة هو الاختلاط، وخبص الشيء خلطه، ومنه طعام "الخبيصة" لأنه مخلوط من التمر والسمن. ثم اكتسبت اللفظة دلالة جديدة وهى نقل الكلام من واحد لآخر بهدف الوقيعة. والخط الرابط هنا هو الخلط، لأن من ينقل الكلام بهدف الوقيعة، إنما يخلط فيه الصدق بالكذب، وما قيل وما لم يقل.

جندي: الجندي معروف في دلالته الجديدة أنه العسكري. ومنه "التجنيد" وهو الإلحاق بالعسكرية، ومنه "الجندية" وهى الحياة العسكرية. ولكن في أصل اللغة "جند" هي الأرض الصلبة الثابتة، والجندي هو نسبة إلى هذه الأرض الصلبة، من هنا كان الخط الرابط بين الدلالتين، فالعسكري هو في ثباته وصلابته في الدفاع والقتال كالأرض الصلبة، لا يتزحزح عن ميدانه مثلما تثبت ولا تتزحزح الأرض الصلبة الثابتة.

الصنبور: في أصل اللغة ، كلمة الصنبور من الأضداد اللغوية وتعنى الريح الباردة والحارة ، فصنبور الصيف الريح الحارة، وصنبور الشتاء الريح الباردة. ثم اكتسبت دلالة الآلة التي ينزل منها الماء. ولعل الجماعة اللغوية لاحظت ضدية حرارة الماء النازل منها، فتارة باردة وتارة حارة تبعا لحالة الجو، من هنا كانت صنبورا، فأكسبوها ما تحمله الصنبور من ضدية.

وفى العربية لها أسماء عدة: صنبور، حنفية، خرارة لأنها تخر الماء، وحنفية لأنها معقوفة كما مر بنا. والذى تذهب إليه الدراسة من حيث تاريخ الاستعمال للمفردات والأسبقية، فإن أول لفظة استعملت من هذه الألفاظ هى "خرارة" لأنها الأقرب لمعنى خر الماء الذى هو أول ما يتبادر لذهن الجماعة لإطلاق الاسم على المسمى، ثم "حنفية" لما ظهرت فيها فكرة الانعقاف، وفى نفس المرحلة كان استخدام "صنبور" لما لاحظوه من اختلاف حرارة الماء النازل. إذن كلمة خرارة هي الأسبق في الاستعمال .

براءة: البراءة في أصل اللغة هي الانتهاء، ومن ذلك إطلاق العرب على آخر ليلة في الشهر براءة، لأنها ليلة انتهاء الشهر. وأطلقت أيضا براءة على أول ليلة في الشهر الجديد، لأنها أول ليلة بعد انتهاء الشهر المنصرم، فأول ليلة في الشهر إعلان بانتهاء الشهر الماضي. وعلى هذا المعنى فى أصل اللغة جاء قوله تعالى: براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين [التوبة/ 1]. أى أمر من الله بانتهاء مدة العهد مع المشركين، وذلك لعدم التزامهم به مع المسلمين، فلما لم يفوا بعدهم كان حل العهد.

ثم تتخذ اللفظة دلالة جديدة لم تبعد عن الأصل لتعنى البراءة من اتهام، فالبراءة من تهمة تعنى انتهاء توجيه التهمة لمتهم. وبراءة ذمة لتعنى انتهاء التزام الذمة بشيء ما. وبراءة الزوج لزوجه بعد وقوع انفصال لتعنى إنهاء المطالبة بحق عن طريق تركه والتنازل عنه.

عصا: في أصل اللغة تعنى الخروج عن الشيء ومخالفته، ومادتها "عصو" . وقال آخرون مادتها "عصى" خلافا لمن قالوا عصو، ثم أصبحت تطلق على فروع الشجر، فيقال : أعصى الكـَرْمُ أي خرجت عيدانه. ثم اتسعت الدلالة لتطلق الكلمة على أي غصن في شجرته أو قـُطع عنها، ثم اتسعت الدلالة لتطلق على أي مادة غير خشبية تشبه في كنهها العصا من الخشب. ولما أطلقتها الألسن في البداية على فروع الشجر مع أنها تعنى الخروج عن الشيء، كان ذلك لخروجها عن الجسم الأصلي للنبتة.

مرهم: المرهم في أصل اللغة مادته "رهم" وهو الشيء اللين. ثم اكتسبت اللفظة معنى الطلاء اللين الذى يدهن على الجرح أو الجلد، نظرا لقوامه الرهم أي اللين.

العسل : عسل في أصل اللغة أي خلط ، والعسل هو الشيء المخلوط . ثم استخدمت اللفظة على نتاج النحل، ذلك لأنه عبارة عن مخلوط الرحيق وما يطعمه النحل، فصار عسلا. ثم اتسعت الدلالة على الألسن من حيث التشبيه والتصوير لتصف الشيء الحسن بالعسل، الذى هو في الأصل معناه الشيء المخلوط.

جثة: أصلها من "الجث" وهو القطع ، فاجتث الشيء أي قطعه، ومنه قوله تعالى: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ [إبراهيم/ 26]. ثم كانت دلالة جديدة لتطلق كلمة "جث " على جسد الميت. فالجسد حين تنقطع عنه الحياة صار جثة. أو على نفس معنى القطع أن الجسد انقطع من على الأرض واجتث، فصار جثة.

جثمان: جثم في أصل اللغة أي لزم مكانه لم يغادره، ثم اتسعت الدلالة لتعنى جثم جثوما أي التصق بالأرض، فلم تبعد الدلالة الجديدة عن الأصل، فالذي لزم مكانه كأنه التصق بالأرض الثابت عليها. ثم كانت دلالة كلمة جثمان، وهى جسد الميت لجثومه أي لزومه القبر لا يغادره، أو لالتصاقه بالأرض حين يُدفن في باطنها، وكلاهما واحد.

نمس: نـَمِس في أصل اللغة أي اختفى واستتر. فالنمس هو المستتر المختفي أو المتخفي. ثم اتسعت الدلالة ولم تبعد عن الأصل، لتطلق كلمة نمس على من يدبر شيئا في خفاء عن الآخرين.

الدجل: الدجل في أصل اللغة هو الطلاء بالذهب، فدجل الشيء طلاه بالذهب، والداجل والدجال هو الطالي بالذهب. وهنا يأخذنا العجب ما العلاقة بين الطلاء بالذهب وما نعرفه نحن من معنى الدجل بمعنى النصب والشعوذة؟ والإجابة أنه لمـَّا كان المشعوذ أو النصاب يفلح في إقناع ضحيته بكلامه، فكأنه يطلى كلامه ذهبا ليخدع به الضحية ويوهمه بالصدق ويأخذه بريق الكلمات ولمعانها. فلما كان ذلك كان الاكتساب الجديد لمعنى النصب والشعوذة. وأصبح الدجال طالي الذهب في المعنى الجديد إنما هو النصاب والمشعوذ، وذلك لما بينهما من القيام بفعل الإبراق والطلاء المُحسِّن المزين للشيء.

الغدير: الغدير في أصل اللغة هو الماء الذى يغادره السيل في مستنقع، فمن هنا كان غديرا. ثم اتسعت الدلالة لتعنى النهر الصغير. وذلك لمشابهة حجم المياه في صغر حجم مساحتها، أو لأن النهر الصغير هو فرع يغادره النهر الكبير في مكان ويمضى في طريقه، فصار الفرع الصغير المتروك غديرا.

وختاما نرجو أن تكون الدراسة قد أفاد منها القارئ ، وأن تكون حققت هدفها البحثي المنشود.