تكشف هذه الدراسة عن قدرة العمل النقدي على أن يكون إبداعا موازيا، وقدرة رواية «متواليات السوق» على تجسيد البيئة الريفية معرفيا وإنسانيا وعمليا، وكيف استطاع وعي كاتبها بجماليات المكان وتفاعلها مع تحولات الزمان والإنسان، أن يثري وعينا بواقع المجتمع المصري وقد نخرته آليات السوق، ويميط اللثام عن المسكوت عنه.

جماليات الوعي بالمكان، ودلالات التحول

في «متواليات السوق»

محمد عطية محمود

 

يستقي الفن الروائي مصداقية وجوده من خلال البيئة الطارحة للنسق الفكري المعبر عنها باختلاف آلياته وباختلاف طقوسها وإحداثيات وجودها المؤثرة والفاعلة في تكوينها كخط أفقي/ مساحة أفقية للمكان أو المحدد الجغرافي الثابت الذي تنمو من خلاله الحياة في اتجاهها الرأسي/ الواقع المتغير والمتحول على مدار الحالة الإنسانية المشتبكة، والذي تشعله حركة الزمن وتبادل التغيرات على مستويي المكان والشخوص وما تطرحه جدلية العلاقة بينهما من حاضر وتاريخ، وربما استشراف لما سيأتي في مستقبل يطرح بذور وجوده من خلال هذا الحاضر. كما يمثل الوعي الشعبي بالبيئة/ المكان ملمحًا مائزًا من ملامح التعامل مع تلك الأنماط الخارجة من رحم الحياة إلى الاصطلاء بنار الوجود فيها ومعاقرة الحس الدفين بتقلباتها. ويختلف ما يختمر في وعي السارد أو مجموعة المسرود عنهم ليصنع هذا الجدل والحراك بين الشخصيات التي تأتي أنماط تعاملها مع هذا الواقع ومدى استيعابها لكنه العلاقة مع تلك البيئة وواقعها الذي يضع سماته وظروفه وعوائق وجوده على محك التجربة الإنسانية المعيشة..

في "متواليات السوق"[1] للكاتب عبد الفتاح عبد الفضيل، وانطلاقًا من المكان الذي يمثل بؤرة الحدث السردي والمعيش؛ حيث تمثل بداية مفردة "السوق" في عتبة العنوان تجسيدًا فعليًا ومحددًا للمكان/ البيئة التي يخرج منها المكان بدواله المعرفية والاجتماعية على حد السواء، كما يشير إلى العنصر البشري الذي يكمن خلف المعنى التفاعلي للكلمة من معاملات تجارية وإنسانية ومادية ومعنوية على حد بالغ من الاشتباك والاندماج؛ كي تعطي مشهدًا جديرًا بحمل لواء مجتمع يعيش على هامش متن كبير هو المجتمع الريفي الذي تمثله سلسلة من الحكايات/ الشخصيات المحمَّلة بكل نقائض الحياة، ومن جهة أخرى بما تحمله مفردة المتواليات من تقنية سردية تحاول لملمة أطراف الحكاية بطريقة شبه هندسية أو خطية أو متتابعة، لبيان هذا الرصد المتوالي المتشابك، كجزء عضوي من العنوان مشارك في بنائه، ومن ثم العتبة الأولى الرئيسة للرواية، حيث يؤدي العنوان هنا دورًا بالغ التأثير في التقديم للعمل السردي الذي يمور بالكثير، والذي يستقي من تلك التقنية السردية هذه السمة، ومن الوجود الفعلي، حيث يقع السوق دائمًا كمكان خارج المدينة أو القرية، أو بين بين!!

لتمثل رحلة الذهاب إلى السوق معبرًا مهمًا عن جغرافيا المكان الدالة على الطبيعة المادية، وما تشتبك به من معاملات وظواهر بشرية دالة على مدى التورط في هذه الحالة التي يلعب فيها الزمان دوره مبكرًا (في متن الرواية) إضافة إلى دوره كمحدد لبداية دورة من دورات السعي نحو السوق ومن ثم الالتحام بفعالياته في الصباح الباكر الذي يحمل دائما سمة الافتتاحيات واستباقات الحالة الخارجة من عتمة الليل الذي يمثل سترًا على كثير من الأسرار ما يمكن تقبله على سبيل المسكوت عنه المضمر في فضاء القرية وتعاملاتها المادية والحسية التي تمثل خلفية العمل الروائي، ورقعة المكان:

"تتثاقل ضبابية الأصبوحة.. تلقي بظلالها فوق أسطح البيوت المجاورة للسوق.. تغرقها.. تسويها بالغيطان بالسوق بالإسفلت"[2]

حيث يلتحم الزمان والمكان هنا في مشهدية دالة ممهدة لهذا السيل المعرفي أو الخبراتي بأركان المكان وما يحاك من خلاله من حكايات، وحيث يلعب هذا الجانب دورًا لا يقل أهمية في تزويد المشهد السردي بعوامل أصالة وجوده، فالشخوص التي تسعى في مساراتها المتوازية مع مسارات السرد، لهذا التأصيل من خلال التتابعات الحكائية التي تخترق السرد الخاص بكل شخصية منها في جنبات النص الروائي يلعب فيها الراوي الضمني للمكان دور النقل الشفاهي غالبًا والذي يُعلي من قيمة الوعي والالتصاق الحاد بالمكان إضافة إلى السرد الذاتي المكمل كسمة من سمات التاريخ الشخصي الممتد لكل تلك الشخوص الواقعة في حزام مفردة السوق للتعريف به، والتعريف بأزمتها مع واقعها المنوط بها محاولة النهوض به:

"حكايات السلخانة لا تنتهي"
هذه المقولة الدالة والرامزة إلى حد بعيد يبثها السارد ضمنيًا ربما لتعبر عن فعل الذبح الذي يتعرض له معنويا كل من يقعون في نطاق السوق، والتي تنطلق من خلال أحد العارفين بالمكان الذين يؤصلون علاقتهم سلفًا به – كدور أساسي أو محاولة فلسفة وجود من خلال المكان - من خلال هذا الوعي الشفاهي التاريخي الذي ربما وصل إلى حد الإتقان على مستوى الوعي البيئي الشعبي المترادف مع نموذج المجتمع الريفي المرتبط بحالتي الكتابة والمعايشة/ الخبراتية معًا، والمتوزع على فضاء المكان ارتباطًا بالوعي الغريزي التي يتعايش مع المكان في صورته الآنية أيضاً المتحولة في منطقة فاصلة أو مستبعدة عن نطاق المكان الرئيس بما يميزها من تفاصيل دالة على الوجود الريفي الزراعي.

"أقامه الإنجليز أبان فترة الاحتلال.. قسَّموه.. أقاموا "السلخانة" على رأسه تحتها "فسحة" لبيع اللحم بعد ذبح الذبيحة والكشف عليها بواسطة الدكتور البيطري"[3]

دخولًا في المنطقة الأكثر وعورة تلك التي يعرض فيها السرد تفاصيل هذه المهنة (كنموذج)، وغيرها التي تستقي من المجتمع الأكبر للسوق هذه الأهمية وهذه العلاقة غير المنبتة بالحياة التي تجري من خلال التعاملات والتناقضات الإنسانية التي تشعل فضاء الوجود ومن ثم الصراع الإنساني:

"أمام الأكشاك بمحاذاة الطريق، قهوة يستريح فوق حصيرها الزبائن، يشربون، يدخنون ويبيع البشكارية ما اقتطعوه من لحم الذبيحة بالشروة أمام النصبة"[4]

حيث تنمو تفاصيل الحياة اليومية لتضرب في العمق الأنثروبولوجي لطائفة من الطوائف التي تعمل في حيز السوق بما يحمل لها النص الروائي من مفردات التعامل مع الحالة بخصوصيتها، وبمعرفية العلاقة التي تنحاز إلى القيمة التي من المفترض أن تكون مضافة لوعي آخر متحفز هو وعي المتلقي الذي يتشارك الحالة الحكائية على نحو المعايشة، وهو عنصر من عناصر الجذب التي تستلهم الكتابة الروائية لإنشاء علاقة مع القارئ/ المتلقي، والباحث المراقب لا تنتهي، بما يكشف دومًا عن المدهش والغريب في علاقة المكان والوعي به، وبين تلك الشخوص الساعية فيه بحاكمية وجودها في هذا الحيز المادي المشتعل بالشجون الشخصية، وهو ما تلمح له الرواية مرارًا من خلال المونولوجات الشارحة التي يستنطق بها الكاتب هذه الشخوص ربما ليحررهم من ربقة الضغط المعيشي والنفسي الذي تحكمهم به العلاقة بينهم وبين السوق، ذلك الذي يجعل من تفاصيل المكان تكئة جيدة يعتمد عليها النص الروائي كي يبرز جماليات الوعي به، وربما جماليات القبح التي تطفح من خلال النفوس المؤرقة بمعاناتها التي ربما كانت تصب في/ تتوازى مع بعضها؛ لتشرح الحالة المتواضعة التي تجمعهم كسمة لصيقة بحس الانكسار والتقليل من الشأن، وكجزء من التورط في الخرافة والالتحاف بسحب الغيب والدجل، وهو ما يرصده الواقع النفسي لأحد الشخصيات الواقعة في هذا الحزام باستخدام ضمير المخاطب المواجه للذات والجالد لها:

"تحاول أن ترسم ابتسامة، تتوه المحاولة مع وقع كف يلطم خدك، أو شلوت في مؤخرتك، وأنت تجمع (كبايات) الشاي الفارغة من أمام السائقين، (تفقفق) المياه في غلاية أمامه يجهز الصينية منذ أسبوع، ورائحة الدهان تملأ بيتك لم تهدأ إلا البارحة. شممت نفسك بعد رحيل المعلم بفرشه وجرادله، وصبيانه تنتهي من عند العراف. يحتويك بيتك، تنظفه جزءًا جزءًا، يحط عليك التعب.. تتكور في أي زاوية، تقول لنفسك: "ياما نمت في الدواسة"، حتى ينضو لباس النوم عن جسدك جرس المنبه. تحمد الله أن لدى العراف عربة تقضي عليها المشاوير، مشوار يخصك. يخص العراف، أو لإلقاء الأعمال في ترعة الخواجة"[5]

هذا الارتباط بالمكان من خلال تفصيلة جديدة له، ومن خلال علائق تلك الشخصيات به، يجعل من الظهور المتوالي لها ارتباطًا آخر أو تعانقًا مع سمات العالم الذي ينتمي إليه عينة البشر المنسحبين من حياة عادية معتادة إلى حياة تمتاز بمعانقة كل ما هو غريب ومخالف، ومغرق في الجهل والانقياد في متاهاته التي ترد كل شئ إلى الموروث أو العنصر الأنثروبولوجي الضارب في تاريخ المكان الذي أصبح الوعي به في أقصى حالاته ضعفا وخورا، وكأنهم يعيشون على هامش الحياة برمتها. بالحس الذي يغلِّف كل العلاقات المبتورة، والتي تهرب منها الذات المدانة بالتفريط في حقها في الحياة:

مشاهد القرية، وتحولات المكان
"يتكفن جسد القرية الملتوي بكفن أسود في ليالي الشتاء. يصاحبه صفعات الريح، وغبار الزعابيب، فإذا أمطرت السماء وتطينت الأرض انشغلنا بوضع الطين والقش فوق الأسطح حتى لا تغرق الغرف والزرائب"[6].

ترتبط هذه الطقوس التي تفرض هيمنتها على الأجواء الحاكمة للمجتمع الرئيس في الرواية وهو فضاء القرية، ببلاغة المشهد الدال على الأحوال فيما يسميه الكاتب في فصله المعنون بـ "حرمة الليل" التي تواري ما أشرنا إليه بالمسكوت عنه من ممارسات سالبة تتناثر في فضاء المتواليات، تعكس الارتباط السلبي للشخوص بالمكان الذي يحمل على عاتقه دمغ هؤلاء البشر بما يشينهم ويجعل التصاقهم به على سبيل القدر المحتوم:

"أما عن الأجران فقد كانت شاهدة على قصص كثيرة من الحب مات معظمها في مهده كما كانت تقام فيها الأفراح والموالد، ومباريات كرة المضرب. تواشيح الحاج رضوان كانت الشئ الذي لا ينسى أبدا في ليالي الشتاء والصيف."[7]

من خلال رمز من رموز المكان يبدو "الجرن" مناطا للقداسة والدناسة على حد السواء.

كما يبدو هذا التداخل بين أحوال القرية وأحوال السوق على ذات الوتيرة التي تطرح جدل العلاقات المتوازية التي تعمل على اختراق هذه الأجواء المجسدة، حيث تنمو العلاقات الداخلية للشخوص لتلقي بظلالها على الواقع المعيش والمغاير للمعلن في فضاء السوق الذي يعتبر في ضمير القرية هو يوم الزينة أو المهرجان الذي يخرج إليه كل ببضاعته في أبهى الصور المتاحة والتي تواري خلفها مشاهد الأسى والحرمان والسقوط في وهدة المسكوت عنه، ومظاهر التخلف التي تعيشها القرية كمجتمع يمثل متنًا لهامش السوق، والتي ربما لاحت كنموذج جديد من خلال الفصل المعنون بـ "عزبة الغجر"، كرمز آخر من رموز المكان المتحلقة حول بؤرته المشعة/ المركز/ المتن، وربما للتوازى مع هامش السوق الذي تسير إليه كل الحكايات:

"يتركون صغارهم يفترسهم ذباب أكوام الخيش الملقى على المدق، وفضلات الطعام وبقايا أمعائهم. يلعبون مع بعضهم بجوار أشجار الصفصاف والسرو. يصنعون من طين القناة عرائس ومواشي. ينال منهم التعب. يرصون أجسادهم تحت جذع أي شجرة يقيلون تحتها. تاهت ملامح جلودهم من طفح حشرات الأرض وزبدها."[8]

هذه الرؤية المأساوية المتمثلة في وضح النهار التي تتقابل دلاليًا مع المشهد السابق للأجران كمسكوت عنه مختلط بالطقوس العامة للمكان. تمثل مشهدية سردية دالة على مدى تدني المجتمع المحيط وانغماسه في التعاطي المزري مع الطبيعة أو دوال المكان من قنوات وترع وأشجار وطين الأرض وحشراتها، وما يأتي به كل هذا الرصد المقصود منه نقل الواقع بصورة أكثر حدة وأكثر إيغالا في الأثر النفسي للمتلقي في حين يكون التبلد هو السمة الغالبة والظاهرة للوجوه التي تطفح بها كل المشاهد المتواطئة على الحس تؤطر الشكل العام المنبثقة منه كل تلك التداعيات والتضادات والتقابلات التي تشعل فضاء النص السردي الذي يواصل سارده العليم اختراق كل المناطق المحظورة أو المسكوت عنها في فضاء المكان وخارجه من خلال شخصيات تقع تحت وطأة الحاجة والتهام شهوات حياتها المعتادة والطارئة على حد السواء.

وهو ما قد يرصده النص الروائي من خلال شخصية نسائية من ضمن من يعج بهم فضاء المكان هي "غالية" التي تتقابل دلالة اسمها مع المعنى المضاد الذي يشي بالرخص وتدني الحالة الإنسانية وانغماسها في علاقة شائهة تتحكم فيها الشهوة وتصنع لها تاريخًا مخزيًا معها:

"انتهى المحصول، صار الجرن ملعبًا للصبية، فالتقيا بعيدًا عن العيون في الحقل، في السوق، في العام التالي كانت المباني الحديثة قد ابتلعت غالبية الجرن. اكتملت أنوثتها. أصبحت عروسا. همس إبراهيم في أذن زوجته. نقلت الزوجة مخاوف زوجها إلى عمة البنت (الأقوى من أبيها) دهستها العمة تحت قدميها، تبصق في كل جزء منها "اتفووه عليكي" وهي تئن تحتها. تتأوه."[9]

يبدو أثر التحولات في المكان ليزيل الأثر المادي للمكان الثابت (الجرن) تدريجيًا من التحول الجزئي إلى التحول الكلي/ الاندثار، فلا يبقى منه إلا ما تلوكه الألسنة وتتناقلها من خلال وعي الذاكرة بذاك الأثر البعيد الذي يبقى ليرصد تأثير وجود العلاقات الشائهة الذي يتوازى مع التحولات في البشر وعلاقاتهم المنبتة بالمكان، والحالة التي يعمل بها المكان الرئيس كمحتوي للعلاقات الشائهة وطارد لها في ذات الوقت، والتي تقوم عليها العلاقات الأساسية المكونة لنسيج هذا المجتمع من خلال شبكة العلاقات الاجتماعية الناشئة المتقاطعة بين تلك الشخوص، واستمرار تنشئة الأجيال المتعاقبة فيها تصنع منها تاريخًا يلوح من خلال تقاطعات الحكي بتقنية الفلاش باك وسط سيل السرد الذي يتنوع بين السرد المرسل ومعانقة تفاصيل المكانت من خلال مشهدية تتخلل الرواية في أغلب نسيجها الممتد.

المد الصوفي في المكان:
من خلال المفارقات اللاذعة لحكايات الشخوص التي يبثها الراوي العليم على مدار الرواية تأتي حكاية إحدى الشخصيات الأيقونية النسائية في القرية وهي البائعة "بسة" المرابية – التي شغلت النص على مداره بدرامية قصتها وقصة وجودها من خلال المكان وهامشه على حد السواء. القرية/ السوق - من خلال قصة زواجها من "جميل" حيث يعرّج النص الروائي هنا من خلالها على الحس الصوفي المرتبط بالمكان كنوع من استدعاء الملمح الغيبي المتغلغل في كيان الشخصية الريفية التي تعتقد في الغيبيات بالتجاور مع ما ألمحنا إليه سابقًا من خلال الاعتقاد في العرافة والدجل والشعوذة.

"رأته في مولد النبي صلى الله عليه وسلم يرقص فوق الحصان بين دوائر فرسان التحطيب أمام موكب الزفة. يتناغم الحيوان معه. يبادله الرقص. دخل قلبها."[10]

فيأتي هنا المشهد السردي المحكي على لسان السارد الرئيس العليم في الرواية ليكرس لهذا البعد المرتبط ببعض الطقوس الدينية والالتزام الظاهري بها من خلال مجتمع من المفترض أن يكون مغلقًا على عوامل وجوده ومحافظًا إلى الدرجة التي تنغلق بها كل سبل الخروج من هذه الوهدة القاتلة، على العكس من حالات المسكوت عنه المخزية التي تنخر في أعمدة وجوده مما يحدث في خفاء المشهد الإنساني ويبرزه النص الروائي. هنا يأتي المد الصوفي من خلال طقوس وإشارات ويقين يختلط بالشك من خلال ما يبطنه بخلاف ما يظهره هذا السلوك الإنساني، وعلى خلفية علاقة شديدة الخصوصية تنبت بينها وبين زوجها، من خلال هذا الجو الذي يصفه السرد:

"صفان طويلان متقابلان. تمتد الأذرع عن آخرها. تلتحم الأيادي ببعضها على شكل مستطيل ينقصه ضلعه الأمامي، يملأه موكب الطبل والدفوف والصاجات، يملأ فراغ المستطيل من الداخل (شيخهم) بملابسه البيضاء. يتقدم للأمام تارة، يتسمر مكانه، وقبل أن تطوله أذرع نهاية المستطيل يسرع خطوته للأمام مرة ثانية. يحثهم. يرددون: "يا سيد السادات يا باب الحمى/ يا من على الرسل الكرام تقدم."[11]

يأتي التعبير بالإيحاء الجسدي هنا مجسدًا للحالة الظاهرية المنشغلة بأداء حركات الطقوس، حيث تتوافق تقنية الوصف الدال للحالة مع تراتبية الحالة/ التالية التي تتخذ الشكل الهندسي الدقيق من خلال التشبه بالأشكال الهندسية المنتظمة التي تشي من ناحية أخرى بانتظام نسق العلاقة والتزامها اتجاها إلى تجسيد الالتزام الظاهري للحالة الصوفية التي تعتبر هنا مخرجًا ومهربًا من جانبها السلبي أو التي تفتقد إيجابية مواجهة الحياة لتنضاف إلى سلبية المشهد العام بصورة ما أو بأخرى. كما يأتي التوسل بالتيمات والتراتيل والدعوات التي تمثل التطبيق العملي الوحيد لتلك النزعة الصوفية التي لا يستفيد منها العامة إلا عند حدود الترديد الأجوف الذي لا يغير سلوكيًا من الشخوص الساعية التي تعاني من الازدواج أو الفصام الواعي بين ما هو مفروض وما هو معمول به على قاعدة السلوك.. وهو ما يقر في الوعي ظاهريًا.

"يتصدر الشيخ مصطفى بقامته القصيرة، ووجهه السمين واجهة الجلسة، يتحوطه الجميع. ينشد بصوت جهوري تغلفه بحة تنفطر لها القلوب. يغمض عينيه. تتسع دائرتا صدغيه، تتلألأ حبات العرق، تملأ جبينه كحبات مسبحة فوسفورية في ليلة غاب عنها القمر. تتمايل الرؤوس، وهي تردد مع بطانته:"إيه العمل يا أحمد. في طلعة المشهد والأنبيا تشهد. إنك رسول الله."[12] بما تمثله الحضرة من عامل إيجابي على مستوى الحضور أو الانتظام في حالة الإذعان لهذا الهاتف التي ترتبط بمجموعة من الناس يحتويهم فضاء القرية الثابت يقينًا بانفصاله عما يدور حولها أو داخلها أو خارجها في علاقات خارجة عن نطاق الانحباس، نحو اللا تأثير العميق لهذه العلاقات الروحانية التي تذروها الرياح، والتي ليس منها إلا التفلت من واقع أليم ومسكوت عنه لا يتوقف عن إنتاج علاقاته الشائهة، فمن الروحاني يخرج المدنس والعكس.

القرية/ السوق:
هذا الملمح من الخور الذي يعتري العلاقات بين أبناء المجتمع الريفي المنعزل بسمات وجوده ما يشعل على الجانب الآخر المخفي سبل الغواية، والتي تقع في دائرتها ذات الشخصية النسائية المرابية "بسة" كأحد الأذرع المساعدة التي تتورط في المزيد من العلاقات المرتهنة بشهوة المال وتيسير المصالح على النحو الذي يحقق لها طموحاتها المتعددة في فضاء المكان:

"ومن أجل عيون ووساطة غالية، رفعت الخالة (بسة) التسعيرة من مائة جنيه لألف، والمكسب كل ثلاثة أشهر بنسبة خمسة في المائة، بلا ورق وبلا توقيع وبلا شهود، مكسب جديد له مردود قوي في السوق. يبدو أن غالية قد استراحت لعطارها، وحلاوة مره فتكررت الزيارات. ذات ليلة شاتية شب حريق عند السوق، وانطلقت مكبرات الصوت تعلن عن مكانها "زريبة مواشي الأستاذ خلف" بسبب ماس كهربائي تجارى كل من سمع النداء، وكان من بينهم الجمل يساعد في إطفائها، وحمد يطفئ ولعة من نوع آخر."[13]

بهذه الصيغة التقريرية التي تثبت الحالة وتضع النقاط على الحروف، والتي تحمل في ذات الوقت إحالات على المسكوت عنه في تلك العلاقات الخفية التي تسيِّر القرية بها أحوالها، مما يجعل القرية كلها تتحول إلى سوق فعلي كبير يخضع لقوانين العرض والطلب من خلال تلك الممارسات التي تخلط بين التعامل المادي واللا أخلاقي، ما يؤكد على الدور المعنوي للحريق الذي يشتعل في السوق، بما له من دلالات وعلامات استفهام كثيرة في خفاياه. ذلك الحريق الذي تتوازى معه حرائق أخرى مسكوت عنها، وربما مثله هنا حريق شهواني آخر يعمق من الشرخ الكبير في كيان المنظومة الأخلاقية للقرية كمعبر عن المجتمع، من خلال علاقات جنسية يتم التواطؤ لصالحها ولصالح تلك الأطماع المادية الأخرى.

فجانب الاستلاب المعنوي الذي يورط فيه هذا المجتمع أفراده، يتوازى معه استلاب آخر للذات من خلال تدنيسها ووقوعها في وهدة العلاقات الخفية المشبوهة ما يحرك السرد دوما نحو الخوض في مستنقعات الشخوص التي تتلاقي في متن القرية/ الحالة الإنسانية السردية الممتدة، فيجلي أطماعًا ويفضح تاريخًا يكاد يكون سريًا، ولكن دائما هناك الدخان الذي ينبعث من فوق الرماد، ليصير التحكم في أهواء تلك الشخوص يتمركز لدى الثلاث شخصيات المتورطة في لعبة الربح والخسارة: بسة/ حمد/ غالية، ليعقدوا ما يشبهه السارد بلعبة أسهم المضاربة في البورصة، على مستويي المضاربة بالمال والربا، والمضاربة بالجسد إبقاء على الوجود، فتناجي الشخصية اللاعبة بالنار/ غالية ذاتها مفسحة لها دروب فلسفة واقعها المختار بحيازتها للشهوتين معا:

"تهمس في أذنك، على درجات سلمك، تهزين رأسك بالنفي تتعللين "الوقت ضيق" مشغولة. هل ستقابلين حمد؟ أم أن الاسم الذي همست لك به أيقظ ذكريات قديمة؟ لكن قريحة "حمد" أسعفتك. ورثت منه بعض المكر: - اسمعي يا خالة (وهمستِ لها) طالما الاتفاق بينك وبينه. نصيحتي أنت وهو ولا ثالث. أيقظتِ شيئا سقط من جعبتها. ابتسمت لكِ. هزت رأسها. "دائما غالية"، وظاهر الأمر أنها ركنت لنصيحتك، فعادت لدارها تغمرها الفرحة، ويرتفع سهمك في سوق بورصتها الرائجة."[14]

بهذا التحول المتكرر في تقنية السرد – كسمة من سمات الكتابة في المتواليات - إلى المونولوج الداخلي أو مخاطبة الذات من أجل تعميق وجودها وفلسفتها، ووضع فلسفة لتعاملها مع الأشياء والأحداث والآخرين يبدو هذا الارتكان/ الرهان على من يملك المال والمضاربة به ما يؤكد على تحول كل شئ إلى سلعة وإلى رقم مادي، وكل التعاملات الإنسانية إلى سوق، وكل ما يدور في خفايا المكان/ البيئة من خلال هذه البورصة القائمة على استخدام كل ما هو مشروع وغير مشروع لحيازة مقاليد السلطة الحقيقية في مجتمع القرية، ربما نتيجة لاستلاب قديم، أو تصفية حسابات مع الزمن والواقع، وربما وقوعا سلبيًا في غرام الحياة ومحاولات حيازتها والتمتع بها أو تعذيب الذات بها، بكافة السبل، فالشخصية تكتوي بنار ما جمعته من مال، أو الكنز الذي يفتح الشهية للسرقة كنهاية محتومة ومتوقعة للحلم المسروق أساسًا من أصحابه:

"تغلق بابها. تحتضن اللفة. تدور أنفها بين أوراقها. تسحب شهيقًا. تجلس. تفردها في حجرها. تعد مرة، ومرة تتشمم. مرة ومرة. تقوم واقفة. تجر الجرة من قعر القفة. تضع اللفة في نفس مدخرات الشحاذ والأستاذ، وغيرهما، تعيدها مرة ثانية، وتضع فوقها الهدمة."[15]

ذلك مما نجحت المتواليات إلى حد بعيد في تجسيده وبلورته وتقديمه في هذه الصورة التي تقترب من الفطرية في التعامل السائد مع فعاليات الحياة، ربما انقيادًا وراء سلوك غريزي يقود نحو الحكاية، ويسعى جاهدًا كي يبلغ نهاياته كما انتهى كل شئ في الماضي بتراكماته إلى تلك الصورة الشائهة التي يتعاطى معها الواقع، ويقدمها النص/ المتواليات الداخلية، بتلك الشخصية التي تنتهي بها سلسلة المتواليات بسرقة ما جمعت على أمل الثروة والكسب غير المشروعين بالربا.

وهي النهاية التي ربما توازت معها نهاية أحد المعالم القديمة للقرية "الصهريج" الذي كانت القرية تخزن فيه الماء، وهو الذي ربما أتى به السرد ليكون معادلًا موضوعيًا لأيقونة النص النسائية/ شخصية "بسة"، ودالًا على نهايتها بعد نفاد ما لديها من خزين أموال القرية:

"أعطت ظهرها للسوق، تتجه ناحية بيتها. في تلك اللحظات، تسلق عمال الهدم سلم الصهريج يهدمون عمامته البيضاء الواسعة، يتصاعد خط العفرة مع كل ضربة تسقط على إثرها قطعة خرسانة، أو سلخة تحوي قالبين من الطوب أو أكثر. تهوي من أعلى."[16]

من خلال هذه المشهدية الدالة المتمثلة بالحركة المضارعة لتتابع أفعال السرد، وبحاسة الكاميرا المجسدة لهذا التتابع الدرامي المثير بالحس السريالي الذي يؤنسن المادي المتمثل في الصهريج، ويجعل منه كائنًا له سمات الحس والشعور ومن ثم أمارات السقوط والتهاوي التي تنتاب البشر حينما يأتي نهاياتهم المروعة المثيرة، والتي تصلح كنهاية موفقة للمتواليات.

يلتمس النص الروائي براعة التوازي بين المكان ودواله ورموزه المادية التي كانت ثابتة ثم صارت في سبيلها للتلاشي كما تلاشت معالم ورموز أخرى للمكان والدوال عليه، وبين المرأة التي مثلت رمزا آخر للطمع وشهوة المال وعانقت المفهوم البرجماتي الاقتصادي الفطري بجشعها وبميلها للتعويض النفسي على حساب الآخرين/ المجتمع، في نهايتهما التي ربما سبقت إحداهما الأخرى استشرافا للثانية، ودلالة على الارتباط بين المكان والمعاناة الإنسانية بحس تجربتها الناتجة عن تلك العلاقة بينهما، وبينهما عنصر الزمان/ التاريخ الذي تبدو آثار تحولاته على خريطة هذا الوجود. من خلال وعي حاد بالمكان مرتبط بالحالة الإنسانية التي تعددت نماذجها وتشابكت علاقاتها لتصنع هذا النسيج القادر على إماطة اللثام عن الحالة المسكوت عنها من خلال ما أفرزته هذه النماذج من سلوكيات وتناقضات وأمراض مادية ومعنوية وقفت إلى جوار حالة من التشبع بروح السلعة التي تباع وتشترى، وتجسيدًا لدور الأطماع البشرية في تحويل المجتمع البشري المتمثل في القرية هنا إلى سوق لفظيا ومعنويا، في تجربة كتابة تضاف إلى رصيد الكاتب في تجسيد البيئة الريفية معرفيًا وعمليًا.

 

Mohammadattia68@gmail.com

 

 

[1] متواليات السوق – رواية – عبد الفتاح عبد الفضيل صالح – مطبوعات القصة بالإسكندرية – طبعة 1 2015

[2] الرواية ص 24

[3] الرواية ص 31

[4] الرواية ص 33

[5] الرواية ص 46

[6] الرواية ص 53

[7] الرواية ص 56

[8] الرواية ص87

[9] الرواية ص 96

[10] الرواية ص 100

[11] الرواية ص 100

[12] الرواية ص 108

[13] الرواية ص 121

[14] الرواية ص 183

[15] الرواية ص 222

[16] الرواية ص 237