يكشف الكاتب المصري هنا عن المسكوت عنه في رواية جميل عطية إبراهيم، التي تبدو على السطح وكأنه رواية تفاعلات أسرية عادية، ومشاحنات حول الإرث والمستقبل، ولكن القراءة العميقة لها تسفر عن أنها رواية مصر كلها في واقعها المتردي الراهن، وفي علاقتها المعقدة مع إرثها الثري ومستقبلها المحفوف بالأخطار.

المَسْكُوت عَنْه في «خِزَانَة الكَلام»

عبد الهادي شعـلان

 

في روايته (خِزَانَة الكلام) استطاع جميل عطيه إبراهيم أن يَخْرج من الخَاص إلى العام، وأن يُحِيل قضية أُسَرِيَّة خاصة إلى قضية وطن ومجتمع، ثُمَّ يَصْعَد بها لتصبح قضية كُبرى، دون أن يُشْعِرك أنه يَلِج بك عالم السِّياسة الدَّولية، فَتَلْمَس من خلالها سيطرة الدِّول الكبرى ومحاولاتها للاستحواذ على أفكار العقول الكبيرة، حَتَّى لو حدث ذلك على حساب تراث الدِّول الصَّغيرة. فالحكاية هنا ليست حكاية مكتبة يُرَاد التَّخلص منها للحصول على المكان؛ لاستخدامه في أغراض أخرى، إنَّما المكتبة هنا تمثل التُّراث بما يحتويه من معارف وذخائر ومخطوطات، فالمكتبة بها مراجع تعود إلى القرن السَّادس الهجري، مخطوطة من ألف ليلة وليلة، مخطوطات في الفقه، خاصة في فكر المعتزلة، مراجع في التَّاريخ الإسلامي، إلى جانب كتب السِّير والأدب والشِّعر.

كانت وصية الجَد الأكبر أن تتوارث المكتبة ومستلزماتها البنت الصُّغرى دنيا زاد بمثابة اعتراف ضمني بأهمية المرأة، ودورها الفاعل في الحفاظ على التُّراث وأنها حافظ الأمانة، ومستودع سر الأجداد، هذه الوَصيَّة للبنت الصُّغرى بأن تكون لها المكتبة فيها نفحة من روح هذا الشعب الطيب، وعندما ذكر الدكتور سامح الدهشوري لوالدته حكاية القرد الذي يحرس الكنز في العزبة، ويحلم الفلاحون بقتله لفتح الكنز أصيبت الأم بخرس مفاجئ؛ لأن الرِّسالة وصلت إليها من الدكتور سامح بأن الخال عابد عبد المتجلي زوغلي قرد يحرس المكتبة الكنز.

جانب الغرب المُتفتح يتمثَّل في إليزابيث، فهي تتعامل مع مكتبة عابد عبد المتجلي بمحبَّة فهو يُحْضِر لها المَرَاجع التي تريدها عن حب، فالبنت تَتَّبع حركة التَّنوير في الشَّرق، وهذا مَلْمَح يبدو فيه اهتمام الغرب بالشرق وحركة التَّنوير التي تتم فيه، حتي إن إليزابيث تقترح وضع مكتبة زوغلي باشا على الإنترنت لينتفع منها العَالَم، فهي تعيش عصر التَحَوُّل من النعجة دولي، إلى البريد الإلكتروني.

والشَّخصيات تُحِيَلك إلى رموز عُليا، وأفكار كبيرة. عابد عبد المتجلي زوغلي هو الحارس الأمين على المكتبة، حارس التُّراث، يقاتل بكل شراسة من أجل مهمته في الحفاظ على هذه المكتبة ومخطوطاتها ومراجعها حَتَّى لا تُباع ولا يتم تبديدها، فهو يعمل دائمًا على دَعْم هذه المكتبة وتزويدها الدَّائم بِمَا تحتاجه، والمكتبة بما تحتويه من قيمة تمثل التُّراث الخاص للعائلة ووصيتها غير المكتوبة والمُلْزمة للكافة، ويؤكد أن مسألة المكتبة تخص شرف العائلة.

يرى عابد عبد المتجلي أن تاريخ طب العظام مختصر في حكاياته عن برسوم المجبر الذي عالج الزَّعيم سعد زغلول، في حين أن الدكتور سامح الدهشوري تَخَصَّصَ في فرع دقيق من علوم الطب، ويتعجب عابد عبد المتجلي من الدكتور سامح الذي لا يدرك شيئًا عن الحياة؛ فقد سافر إلى لندن وعاش فيها ثماني سنوات ولم يتعلم صيد البط، إنه يرى أنه بعيد عن الحياة لأنه تخصص بشدَّة في علم دقيق، وترك الحياة ذاتها.

يستخدم جميل عطيه إبراهيم تقنية بَوح الأشخاص، فكل شخصية من الشَّخصيات تتحدَّث عن نفسها وتَصِف ما يحدث لها من وجهة نظرها الخاصة، وهذه التِّقنية معروفة مُنْذ رباعيات الإسكندرية للورانس داريل. وهي تقنية تُبِيح وتسمح للكاتب بالغَوص في أعماق الشَّخصية وكشف كل ما يدور داخلها، والذي لا يمكن البَوح به للشخصيات الأخرى العائشة في الحدث، فيروي الحَدَث من وجهة نظره، ورُبَّما يروي نفس الحدث شخصية أخرى لكن من وجهة نظرها، فَيُطْلِعُنا الكاتب على نفس الحَدَث من وجهات نظر الشَّخصيات التي يدور حولها الفعل، وهذه التِّقنية إذا لم يتم استخدامها بوعي وفنية عالية تُوقِع الأحداث في تكرارية مملة مِمَّا يجعلك تحتاج لأن تقوم بربط أحداث الرواية بعضها ببعض ولضم أحداثها، وإلا بدت مفككة لا تنتمي لنسيج واحد دون إغفال للمدارك الرَّمزية التي أشار إليها الكاتب والتي كان يصرح بها أحيانًا.

يَعترف الدكتور سامح الدهشوري أنَّه طامع في الشقة والأوقاف والمكتبة ولا تهمه المخطوطات من قريب أو بعيد، فقط كل ما يريده أن يقيم مشروعه الخاص، فَعَقْد شركة بان اكس كوم العالمية التي ستشتري الميراث بالملايين في جيبه، وهو يساير أمه فقط من أجل خوفه على صحتها، ولكنه يُضمر البيع. فهو يرى أن مكتبة جَده التي تحمل التُّراث ما هي إلا مكتبة صغيرة إذا قورنت بمكتبات باريس أو برلين أو لندن. ولا يدرك الدكتور سامح قيمة المكتبة الرُّوحية التي يحافظ عليها خاله عابد عبد المتجلي زوغلي، فهو يقيس الأشياء بمادية حادة، فقط يعرف أن مكتبة الجَد توفر هدوءًا نادرًا، وهو يحاور ذاته ويعلم أن مضايقة خاله هي أكبر خَسارة في حياته؛ لأنها رُبَّما تَسَبَّبت في القضاء على أُمه الغالية.

ويبدو جَلِيًّا هذا التَّشتت الذي يعانيه الدكتور سامح، فهو إلى جانب اهتمامه ببحوثه الدَّقيقة، ورغبته في بناء مستشفى متخصص في طب العظام يضارع المستشفيات الأمريكية في تجهيزاته، فهو يتابع البورصات ويضارب في الأوراق المالية. حتى إن دنيا زاد أم سامح تُحَذر أخيها عابد عبد المتجلي من ابنها سامح وتقول له إذا سألك عن الوصيَّة، لا ترد، وإذا كان الخال يعترف في لحظة حماسة للدكتور سامح عن حقيقة الوصية، فالوصية (كلمة شرف وكلمة الشَّرف لا تُوَثَّق في الدَّواوين، كلمة الشَّرف تُوَثَّق في قلوب النَّاس، هذا ميثاق عائلتنا وتمسكنا به ثلاثة قرون كاملة. ص7). مِمَّا يجعل الدكتور سامح يطمئن في قدرته على تحقيق ما يريد، يقول عابد عبد المتجلي عن الدكتور سامح: (ربيته في هذه المكتبة طفلًا، أشرفت على تعليمه صبيًّا وشابًّا، وفي النهاية خان المكان ويسعى لبيع المكتبة. ص 8).

تأتي حادثة قتل الجَدة في حادث سيَّارة وبقاء جثمانها على الطَّريق لمدَّة ساعات ولا يعرف أحد القاتل طوال الرواية كإشارة عن حال الدَّولة ساعتها، فالدولة لم تكن آمنة، واختفاء مَنْ صَدَم الأم بالسيَّارة يُمثل عدم الإحساس بالأمان.

نكتشف أن مارينا التي على علاقة بالدكتور سامح تُدبر الأمور من خلف السِّتار، وأنها كانت السَّبب في إلصاق تهمة كاذبة بعابد عبد المتجلي بأنه يقوم بتجارة الآثار؛ حتى تستطيع أن تغلق المكتبة وتحصل في النهاية على مُرادها، ونكتشف أن مارينا من أصل يهودي من جهة الأم، وأنها رَضَعَتْ تعاليم أمها، ولهذا دلالة واضحة.

تخشى مارينا أن تَتَعَرَّى شخصيتها القبيحة على الرغم من أنها تمتلك جسدًا مثيرًا، فقد أرادت أن تنتقم من الدكتور سامح على الرّغم من علاقتها الحميمة به؛ لأنه كشف عيبها الأنثوي وعَرَّاها أمام نفسها وفضح ما كانت تخفيه. هذا العيب الذي ظهر وهي تأكل، فأمسك الدكتور سامح بأسنانها بشدة حتى أصابها الرُّعب، وبان عيب خطير في أسنانها التي تبدو كفأر، وتأكدت أنها مكشوفة وعارية. والتَّعْرِية والفَضْح ليهودية هو كشف للحقائق بكل المقاييس الرمزية.

صارحت مارينا الدكتور سامح بأنها ستقوم بجَرْجَرة عابد عبد المتجلي في أقسام الشرطة والنيابات، وتعترف بينها وبين نفسها (لا أحد في مصر يعرف أنَّني زهرة جبل صهيون، لكني أعرف، هذا قدري. ص 143)، (أمي اليهودية كانت تحذرني في طفولتي من النداهة، تقول: مصر نداهة كبيرة، تَبْلع جذورنا في أرض العسل واللبن، الأسطورة الكبيرة تَبْلع الصَّغيرة. ص 145). تُغْلق المكتبة بسبب التُّهمة المُوَجَّهة إلى عابد عبد المتجلي بتهريب الآثار، كيف يكون من قضى حياته مُحَقِّقًا لكتب التراث مُهَرِّبًا للآثار، التُّهمة مُلَفَّقة بالتأكيد من قِبَل مارينا، لكنَّه يشعر أن شهادة وفاته قد كتبت وهو حي، كيف تُغْلَق المكتبة؟

طوال العمل الروائي وعابد عبد المتجلي يقف ضد الدكتور سامح؛ حارسًا للتراث القديم والمكتبة القديمة، لكنَّه حين يكتشف أن الدكتور سامح يحمل ميراث العائلة داخل روحه، وأنه لا يمكن أن ينجرف مع اليهودية مارينا؛ يكتب كل ممتلكاته للدكتور سامح؛ باعتبار أنه سيحقق المعادلة الصَّعبة، فهو الذي يمارس الأبحاث العلمية المهمة والتي يدعمها ميراث الجد. فقد أصبح يرى الدكتور سامح على أنه رمز العلم القادم، فيكتب وصيته بجميع ممتلكاته للدكتور سامح كي يتابع أبحاثه وطموحاته العلمية في التَّخصُّص الدَّقيق، ترميم العظام: (أترك للدكتور سامح حرية التصرف في هذه التَّركة لوضع أساس مؤسسة علمية للعظام، لا أضع شروطًا، ولا ألزمه بمطالب شرعية، هي للعلم، وهو رجل أمين، نواة مركز أبحاث. ص 166).

إن اختيار الدكتور سامح لتخصص العظام اختيار مقصود، فالعظام هي الأصول التي يُبنى عليها البدن، كالتراث تمامًا، وبدون العظام لا يكون الجسد، وبدون التُّراث لا يكون الواقع، فهو اختيار عن وعي، وضرب العظام وتَسَوُّسه يعني القضاء الكامل على الجسد، وبالتحديد هو يختار جزئية ترميم العظام وكأنَّه يريد أن يقول إننا في حاجة إلى ترميم من الدَّاخل.

في خزانة عابد عبد المتجلي ترقد وصيتان مغلقتان، وصية جده زوغلي باشا الكبير، ووصية أبيه عبد المتجلي بك. أخرج وصيته وأعاد النَّظر فيها قبل أن يضعها أمام الورثة، وكتب وصيته مخالفًا لتَعَالِيم الجَد من الحفاظ على المكتبة كما هي دون تبديل، وكتب وصيته وهو مرتاح الضمير. وقد أدرك عابد عبد المتجلي أن الدكتور سامح لم يكن طامعًا في المكتبة بسبب شهوة التَّملك، كان الدكتور سامح يريد العلم، ومن هنا اعترف عابد عبد المتجلي (أُسجل ممتلكاتي في حياتي بعقود رسمية للدكتور سامح الدهشوري. ص 168) راغبًا في إنشاء مؤسسة زوغلي باشا للأبحاث.

انتــهـت مــوسـوعــــــة التَّنـويـــر الإسلامـيــــــة التي يـعكف عـلـيها عــابـد عبد المتجلي, وأصبحت صالحة للطبع، وكأنه يريد أن يقول لنا إن المعاصرة لن تتم إلا عن طريق غربلة الفكر الإسلامي وإنشاء موسوعة تنويرية تتضمن مناقشة قضايا كثيرة أُهملت، وتُفَنِّد مزاعم سَادَتْ لعدَّة قرون، موسوعة إسلامية حديثة عِمادها العقل (شعارها لا تكفير، وعِمادها الدِّيمقراطية، ومراعاة حقوق الإنسان، وحق الشَّعب في تبادل السُّلطة. ص 169).

عمليات شراء العلماء وسرقة العقول على قدم وساق، عروض من جامعات معروفة وشركات عالمية طلبت الإعارة، رفض الدكتور سامح الدهشوري السَّفر، هل الدكتور سامح الدهشوري في خطر؟ النهاية تأتي مأساوية، ويُقتل الدكتور سامح مسمومًا بعد أن سُرقت نتائج البحث الخطير الذي يعمل عليه، بحث يقوم على إمكانية تخليق فقرات وعظام لها صفات ومزايا العضو الطبيعي وعلى مقاسه، بدلًا من اللجوء إلى مواد غريبة في معالجة الكسور وتلف فقرات العظام وهذه لها سابقة في العلوم النووية.

نلمح من بعيد الفلبينية ترقب وفاته وتمسك يد مارينا وتشير إليهما يد الاتهام بقتل الدكتور سامح (صَادَتْ مارينا اليهودية الدكتور سامح الدهشوري كسمكة. ص 192). ويظهر في مخيلتنا حوادث قتل مشابه، ويطفو على السَّطح حادث الدكتور مُشَرفة.. كلنا قتلة، وشهود زور فيما عدا نفوسة (رأت ففهمت، نطقت بالحق، لا بكاء ولا عزاء، هذه عركة، والثَّأر قبل الأربعين، رُبَّما الانتقام في القرن القادم. ص 193).

ويزعم بعضهم أن مارينا قتلت الدكتور سامح من أجل قصة حب فاشلة راغبًا في إزاحة القضية عن مغزاها الحقيقي، لكن الحق بَيِّن، هذه ليست قصة حب فاشلة، هذه مؤامرة كبيرة، لقد سَرَقت الشَّغالة ديسكات البحوث، مارينا والشَّغالة سافرتا مثل الحرامية. دم الدكتور سامح مُعلق في رقابنا إلى يوم القيامة، فالأمور كانت مرسومة تسير في خطة واضحة، كل حلقة تُسَلِّم لأخرى، ولا بد أن تنتهي بفاجعة، وقبل أن يسدل الستار يؤكد جميل عطية على لسان النقيب علاء العتر (أن كلنا قتلى هذا الزمن القبيح. ص 179) ثُمَّ يكشف لنا أن القضية والقصة ليست قصة فرد (خسارة يا مصر).

ويصرح جميل عطية في مواضع عِدَّة بما لا يدع مجالًا للشك أن القضية التي تتناولها الرواية هي قضية عامة يقول: يَتَحَسَّر على ضياع الوصيَّة بقوله. (خسارة يا مصر. ص 19). ويكرِّر نفس الكلام: (خسارة يا مصر. ص 179) في النهاية وكأنه طَوَّق الرواية منذ بدايتها إلى نهايتها بتلك العبارة: (خسارة يا مصر). ويقول: (نامت نواطير مصر عن ثعالبها. ص174، وص 194). ويكون أكثر وضوحًا حين يقول: (لا تنس يا خالي، هذه أزمة بلد، وليست أزمة مكتبة زوغلي باشا، لا أحد يسمع، هيصة. ص 184).

امتلأ السُّرادق بخيرة رجال البلد والنقيب علاء العتر في مدخل السُّرادق مع عابد عبد المتجلي يتقبل العزاء، وفي الحقيقة، لا عزاء.