يوميات حول ماهية الشعر:
حين داهمني الشّعر لم يستأذن، نزل عليّ كالمطر الغزير، كالنّور في وضح النّهار، أخبرني أنّه تحرّر من العبوديّة، لكي يعيد للكلمة سرّها.
أعاد إليّ لحن المواويل القديمة وشوق الاستماع إلى الحكايات والخرافات والأساطير، فتح النوافذ المؤدّية إلى طفولتي، اختارني ملكة كي أسود عوالم إلهامه قبل أن تنظّم.
فالشّعر وصل الكلمة بنغمها، بصورتها، كي يحلّق بها بعيدا في أفق المعنى، حيث لا بداية ولا نهاية، إنّه روحها، لذلك نشأ قبل ظهور كل الحكايات والروايات، فأضحى ظلاّ يرافق الإحساس، رديف الفرح والنّشوة وصوت الحزن والعزلة.
إذا ما سكنكم الهوس بالشّعر، فاعلموا أنّكم لستم أقلّ مكانة من الأنبياء وأنّ ما تعلمونه لا يوصف ولا يقال، فهو جوهر الأسرار، مهما سعيتم لبيانه، سيكتنفه الغموض لا محالة، فعين الشّعر هو الاحتفال بشدو العالم، وصف الدّهشة الأولى عند مشاهدة الموجودات، وما يصيبنا من غربة نستأنس بها، الهجرة إلى الأحلام الممكنة، التعلّق وجدا بالمستحيل وبعض من رؤى اليقظة.
فإذا ما امتزجت رقّة الهمس بمعاني الكلمات، وتعالت بين عباراتها الموسيقى وتسلّل إليها الصّمت ليكون لها الفاصل والمؤلّف وانطلقت الهجرة إلى أقاصي الخيال وغاب عنّا العالم القديم، فاعلموا أنّ اندفاع الصّبا وحماسته، قد باتت تسكنكم فأصبحتم بحّارة تشقّون ما جادت به اللّغة من حيويّة متدفّقة، وأنّ الشّعر سيحلّ بكم إن عاجلا أو آجلا.
إنّه نسيج من وهج القلب، يسافر بالمغامرين منّا إلى بلدان لم ندركها بعد، تلك الّتي تقع بين الحلم واليقظة، بين الحدوث والاستقرار،بين الممكن والمستحيل، بين ما نشعر به وما نرغب فيه،هو الباعث على حلول الكلمة بمنطق التفّرد، وهو ترانيمنا الّتي تتغنّى بمن نكون، وحدتنا بكل خفاياها وأفقها، التّحليق بالكلمة خارج سياقها وإمكانياتها.
الشّعر ذلك الزائر الغريب الّذي دقّ بابي، فأهداني القدرة المتجدّدة على الضّحك والبكاء،ورماني بعد كلّ الخيبات الّتي عرفتها في بحر المشاعر المتقلّبة ثّم أوصاني باتّباع بحوره بحرا بحرا العريض، الطويل، الممتدّ وغيرها،حتى بتّ لا أشتهي سوى الولوج في أعماقه.
من حمّل الكلمة بأكثر من رمز؟ من منحها القول والصّمت، من نفخ فيها المعنى ليسحبه منها فيما بعد؟ من أهداها الألحان وجمال الصّورة؟ من قال لها: كوني، فإذا بها تكون؟ أهي عزلة الشّاعر، جنونه، حنينه لما فات، شغف قلبه أم بكاؤه الصّامت؟
- أليست اللّحظة الفارقة بين الوجود والعدم ؟
تلك، التي انبعثت منها الأسماء متواترة، فجاءت فيضا، لأسبقيّة وجودها على كلّ حكي أو رواية أو حديث، من رحمها ولد الشّعر، فكان هو القائل والقول معا، يتلوه الشّاعر عن ظاهر قلب، باعتباره المعلوم المتقدّم على كلّ علم.
أمّا عن طقوس الشّعر، فهي دواء لكلّ علّة، مهما كان مصدرها: الهجران، الفقد، الغياب، النّقصان و كلّ الجراح العميقة.
طقوس الشّعر هي أيضا تصوّر العالم من منظور عجائبيّ، لتوقظ بين النّوّار والأزهار، الزّنبقة الأرجوانيّة، السّحر الذي لم تتحدّث عنه أعرق الأشجار، ما رسمته الدّهور على الجبال والصّخور من إشارات وعلامات وأسوار، معجزة الألوان الطبيعيّة وتغيّر الأشكال وانعكاس النّور على الماء، تمازج الفوضى والنّظام في كائن وبقعة ومشهد واحد.
طقوس الشّعر تجعل الكلمة مرآة للعالم بعد إعادة تشكيله من وجهة نظر إنسانيتنا الهشّة، المؤهّلة للفناء.
إنّها الطّقوس المؤسّسة لوجودنا الحسيّ الوجدانيّ العاطفيّ، لأنّه الجسر الّذي يجمعنا بمن نحبّ ومن ننتظر.
ومن ثمّة، كان الشّاعر هو من يؤرّخ للمحبّة، للوّد، لليأس، للتأمّل، للتيه، للتساؤل، للشّوق، للجنون، للصّمت وللتمرّد.
وهو المؤرّخ لكلّ ما ينسى ويندثر، لأحوالنا وآلامنا وآهاتنا، وأفراحنا، إنّه من يجمع العالم برموزه واستعاراته، فهو الّذي قال أنّ الفجر أمل والزهر حبّ والحمام سلام والنّار حرقة والشّمس نور واللّيل ظلام.
أزيلوا كلّ الرّموز والاستعارات من رؤاكم من أحلامكم من انتظاراتكم من رغباتكم، أزيلوا كلّ ما علق بوجدانكم من لغة شاعريّة وسيبقى الجمال عاريا لا بيان يؤوّله، لا موعد يجمعه بالرّوح وبالنّفس.
وبلوغ ذروة الشّعر يتحقّق حين تلتقي النّفس بالعالم فتكون لها معرفة ما تخفيه كل الاستعارات والرّموز والصور والأنغام، عندما ترفع الحجب عمّا لا يدرك ولا يرى ولا يقال، فينكشف السّر ويتبدّد الغموض.
فاعلموا، أنّني لو لا الشّعر لفقدت صوابي، فهو الّذي أزاح السّتار عن تصوّفي حين أحببت من لم يصن عهدي، وهو الكاشف لي عمّا تخفيه عوالم الصّمت، وهو الّذي علمني أنّ الموسيقى مندمجة إمّا في مفردات اللّغة أو منفصلة عنها، يعود أصلها إلى حركة تؤلّف حكاية العالم بحروف الهواء المتطايرة.
لانّ الشّعر هو المبدع الخلاّق لكلّ معنى، كان يعتبر جنونا ومروقا ولغوا ولم يزل، لكونه صوت المحبّ والمقهور و المتيّم والحالم والمضطهد، روح الصّبا حين تقبّلناه فرحا ونشوة.
وهو أيضا نسيج من الغّناء الموزّع بإتقان بين شرايين اللّغة، يجري في دمائها كي تكون قادرة على الصّعود إلى ركح الحياة وأداء دورها الرّومانسيّ تارة الدراميّ طورا،كي تخبرنا أن سبب وجود الإنسان قدرته على تسمية الأشياء حتّى يعيد حبك شاعريّة العالم بما يشعر وما لا يشعر، بما يدرك وما لا يدرك، بما يعلم وما لا يعلم.
عن ماهية الشعر وجوهره:
وينفخ الشاعر في الجمل من روحه، فإذا بحركية تدخل على عناصرها فتغيرها، تفصلها عن معانيها المعهودة، إثر تسرب تلك الفوضى الحسية إلى مفاصلها.
ويتواصل رشق الكلمات بإحساس الشاعر ، إلى أن تفقد مواقعها في الجهات فتتشتت معانيها، حتى كأني بالشاعر يصبح مبشرا بعهد جديد ،أثناء تأليفه بين المعنى و"اللامعنى "، لعلمه بتلازمهما وارتباطهما وقدرتهما على إنشاء الإيقاع.
فتأخذه الرغبة، في التلحين بين نبرات الكلمات والصمت، بين الفاصل والنقطة، بين الصدر والعجز، فإذا بالأبيات الشعرية شبيهة بقصور الرمال التي تنهار حال تشييدها .
وكلما انهار معنى لبيت انبعث معنى جديد، أنشأته موسيقى لم تسمع بعد، تجمع الشاعر بالعالم .
كذلك يقتفي الشاعر أثر المعاني المتصاعدة للهجرة إلى ضفة أخرى ، لتبدأ مغامرته بحثا عما لا يقال ولا يفهم، وقد أخذ على عاتقه مهمة الإفصاح عن المشاعر والوجد لبث الحياة داخلنا ومن حولنا.
إنها هجرة تاريخية ، وجدانية ، تشكيلية ، موسيقية ، تبدأ باستحضار ماضي الكلمات وما طرأ عليها من تحولات وتطورات وتغييرات.
أما عن طبيعتها الوجدانية، فيمكن القول أن ما يحرك الكلمات هو التعبير عن رغبة أو شعور أو حاجة ، أما طبيعتها التشكيلية فالصورة هي من تعبر عنها ، خاصة إذا ما تواصلت مع إيقاع الكلمات، أما الموسيقية فهي التي تدفع بالقصيدة إلى تجاوز حدود المقاصد والدلالات للتحليق وملامسة أبعاد أخرى .
ومع ذلك، فهجرة الشاعر كما وصفناها ،لن تبلغ الكمال مهما فعلت لاستقرارها بالطور البرزخي وامتدادها من الصور الخيالية إلى النبرات الإيقاعية ، ومن المعاني القديمة إلى المعاني المحدثة ، ومن الأحاسيس التي تتشكل إلى تلك المكتملة، مع التعديل في فواصل الصمت داخل القصيدة، إما ارتفاعا أو انخفاضا أو استقرارا، باعتباره المصدر الحقيقي لكل معنى أو إيقاع .
فالشعر يختلف عن بقية الأجناس الأدبية الأخرى لقدرته على كتابة الصمت ، سواء كانت القصيدة كلاسيكية أم حرة، من خلال ذلك الحيز الذي يفصل الصدر عن العجز في بيت القصيدة الكلاسيكية أو بين بيت وبيت في القصيدة الحرة، فأجمل القصائد ليست في الحقيقة سواء سنفونيات تتألف من صور منسجمة مع إيقاع الكلمات ومقاطع الصمت .
أما الهدف من جمالياتها، فهو اكتساب سحر الحياة وسرها، فمن القصائد ما يحي ويميت ، منها ما يفوق الكلام أثناء نظمه ، ومنها ما شيد أماكن لم تطأها قدم.
لذلك، إذا قيل لكم أين تكمن مشاعركم وأوهامكم وأحلامكم؟ أجيبوا في قلب القصيدة النابض.
وإذا قيل لكم ما معنى القصيدة؟ أجيبوا: أن معناها هو معنى الحياة، إن كان للحياة معنى .
وإذا قيل لكم أن الشاعر مجنون أجيبوا: أن جنونه هو المؤسس للمعنى.
فالشعر وهج من المشاعر والأحاسيس، ينفخ في قواعد اللغة، فيغير من أسسها، عسى أن تعترف بجبروتها فتصبح أكثر حيوية ومرونة، بإدراك أننا لا نتواصل إلا في الظاهر و أن ما نقوله لا يعبر عنا، بل عما ينتظره منا من يشاركنا الحديث.
أما عن حضور الشاعر في العالم، فهو حضور بلغ حدوده القصوى إلى حد الغياب، بغية امتلاك مفاتيح المجاز وما يخفيه الحلم والخيال من أسرار الغيب وحقيقة الموجودات والأشياء.
وعن نشأة الشعر، لا ندري، إذا كان في البدء إنشاد الرحل أثناء سفراتهم، وإتباعه وقع خطاهم من حيث الوزن والنغمة، أم كان ملحمة تروى فلا تنسى، أم لاهتمامه بمدح السلاطين والملوك، أم لاعتداده بقيم الفروسية، أم هو حالة من الشرود والتمرد تصيب بعض الشعراء، أم كان توقا للتوحد بالذات الإلهية وزهدا في الدنيا من طرف شق آخر منهم، أم هو وصف لمشاعرنا، فكيف يمكننا تعريفه يا ترى: هل يكون ما يتجاوز الوصف والقول، أم ما يتجسد من خلالهم ، أم كلاهما معا؟
ونحن لا نعتقد أن الشعر يعرف بموضوعه، بل بالروح التي انبثق منها: ألا وهي تلازم الصمت والموسيقى عند احتكاكهما باللغة وانصهارهما فيها، ذلك في الأصل، كنه الشعر.
وهو ما يفسر لنا ارتباطه بأصوات الكلمات وموازينها وإيقاعها استرسالا أو انقطاعا مهما كان شكل القصيدة وطرق كتابتها، القديمة منها والحديثة.
وإذا علمنا أن روح الشعر تنبع من موسيقى الكلمات وعلاقتها بالصمت، سندرك لا محالة صلتها بالبعد الميتافيزيقي ، العلوي ، الإلهي ، أي بكل ما يفوق إدراك الإنسان وقدرته .