مكالمة هاتفية بين عاشقين، "برنس" السوداني المقيم بألمانيا و"جانيت" الأمريكية السوداء، تختزل المكالمة مساحات شائكة من الجغرافيا والتاريخ، الفراعنة السود، عنترة وكافور الإخشيدي، واسطوانة تدور بأغنية حزينة عن الحب كحلم سرمدي يبحث عنه العاشقين في مكالمة فيما تتردد أصداء الأغنية عبر المطارات بين قارتين.

مُكالمة

أمير حمد

 

.. !! - برِنس

مترددةً أتت نبرات صوتها الناعم عبر الأثير، لم أصدّق مَسمعي فقد حفرت في ثنايا ذاكرتي بصوتها، بأحرف برنس، منقّبة عن معبد حبّ غريق.

ما من أحدٍ سواها يدلّلني بهذا الاسم، لأكثر من عشرين عاماً، وأنا قيد هذا الحبّ الغريب لامرأةٍ أكثر غرابةً ودهشةً من دهشة ابني الصّغير حينما رأى البحر لأوّل مرّة

-برنس

! -جانيت

عدتُ من أمريكا من (نيو أورلينز) لأراك، أنا الآن في القاعدة الأمريكية في مدينة فلدا «ولكن .... لكن .... ما هذه الأصوات حولك؟

-امرأة معك؟

  -لا هذا صوت الاسطوانة من بعيد

لم أعش حباًّ حقيقياً مثل هذا الحبّ، عادت دون أن تُخْطِرني من قبل، من أين أتيتِ برقم هاتفي!؟

لم نعش معاً سوى شهرين، فقط إلاّ إنّ حبّاً سرمديّاً، ظلّ يدفعُ بي دون بوصله في يمّ عظيم

إلى أين؟!إلى أين بحقّ السّماء؟

 لم تسألني جانيت، إن تزوّجت أو حظيتُ بطفلٍ.. أو ماذا طرأ في حياتي بعد أن تفارقنا؟ لا لخيارنا منذ عشرين عاماً ونيف.

كنتُ أدرك في قرارة نفسي بأنّ هذه الأنثى سرمدا أتت به مصادفة عابرةٌ .. امرأة سمراء لامعةُ الإهاب، ساحرة العينين ضامرةُ الكشحِ وحلوة المبسمِ. كانت تحبّ أن أحدثها عن ثلاثة أساطين: تَهراقا، عنترة، وكافور الإخشيدي

بشغفٍ ظلّت تسألني عن عراقة تاريخ السّود في السّودان، وإفريقيا فكنت أحدّثها بإعجاب عن هؤلاء العُظماء وتاريخ الفراعنة السّود وأحياناً أضيف من عندي "وأزوّر" الحقائق من فرط إعجابي واعتزازي.

 كانت تتوسد ساعدي، وتتألّم لعدم معرفة السّود بأمريكا لمثل هذه الأمجاد والشخصيات

 حدّثتني بدورها عن توني مورسن الأديبة الأمريكية، وعن أبراهام لنكولن ومأساة الهنود الحمر، والتّنقيب عن الذّهب في غرب أمريكا 

برنس: أتسمعني مالك لا ترد؟

   أسمعك يا جانيت 

  سأكون مساءاً في مطار برلين

ثم أغلقت الخطّ، هكذا هي لم تتغير ولم يتبدل حبي لها

دارت الأسطوانة من جديد ل "ري شارلز " وبيري وايت" أعرف أنّها مثلي تحبّ الأخير منهما كثيراً، أشعلت أكثر من شمعة ٍوعطّرتُ الشّقة ورتّبتها وارتديت سترةَ السّهرة الزّرقاء الأنيقة، وربطة العنق البيضاء. فعلتُ الكثير في هذا المساء الوديع. انتظرتها طويلاً ... لم تأت

 تفحّصت في وجوه المسافرين وأنا أحملُ باقةَ وردٍ، ابتسمت أكثر من سيّدة في وجهي، فخفق قلبي، لظنّي بأنها جانيت وقد تغيّرت بفعلِ السنين، إلاّ أنّه سرعان ما يخيب تهيئي، إذ تنعطف لتطوّق مستقبلٍ آخر أو تركّز بدعةٍ نظراتِها على باقة الورد هاتفتُ، في ذات المساء صديقاً أمريكياً لي، وسألته إن كان يعرف مكانها...؟

أجاب ضاحكاً بأنّ جانيت "امرأة غريبة، لم تتغير منذ عمله معها في الجيش الأمريكي

آسف لا أستطيع مؤازرتك، ولكن سأعطيك هاتف شخصٍ عملَ معها في (نيو أورلينز) يمكنك مهاتفته"

كنتُ قد قررّت أن أعيش حياتي مع أسرتي بهدوءٍ وفرحٍ بقدرٍ موسوعي في منأى عن هوجِ العاطفة والإرهاق النّفسي.

.. !! أن أغلقَ دفتر الحزن، إلاّ إنّ هذا لم يكن ممكناً كما يبدو

بعد ثلاثة أشهر على وجه التّحديد من مكالمةٍ جانيت عرفتُ بأنّها "توفيت " في حادث سير وهي تحاول اجتياز سيارة بدراجتها البُخاريّة، في طريقها إلى مطار فرانكفورت لتحلق من ثم إلى برلين لرؤيتي.

أدرت الأسطوانة الأخيرة لبيري وايت «التي كانت تحبّ الاستماع إليها، ونظرتُ إلى شمعة أوقدتُها لها، تتراقص في موجات نسيم منسابٍ عبر نافذتي المشرعة.

 قلتُ لها في آخر لقائنا بأننّي أبغضُ الوداع، ضحكت وقالت لي وهي تردّد أغنية بيري وايت

أفضل حبّ، هو الحبّ الذي نسأل عنه حينما ينصرم .. آه لو كنتُ أدركُ ذلك، آه لو كنت.. لما رغبت فيه.

كلّ شيءٍ حولي يذّكرني بها، هاهنا الآن وحدي، جوار مقعدها الشّاغر أصغي لأغنيتها عينها، تنساب حزينةً.. كلّ آهة.. حرف..نغمة ..وإيقاع يزحم فضاء غرفتي يعيدني إليها

فأرددّ في سرّي كلمات سطّرتها لها من فرطِ حنيني

 

أعوذ بك

من أرقٍ

يا مُنقذي وحيرتي

حين يغلبُني الحنينُ، إلى رؤاك

فأزفّهُ

حلماً سرمدياً

على صروحه نلتقي

أعوذُ بكَ منك

حين يصبح المساء شرفة

للعاشقين

يثمرُ الحنينُ

في رنين نخبهم

وأنا هنا

مفردٌ

أبصرُ السنين بيننا

أبحرتُ

في قاربٍ من ورق

 

*قاص سوداني يقيم في برلين