يكشف الكاتب المصري هنا عن قدرة مكاوي سعيد على كتابة رواية تكشف عن الانفصام العميق الذي عانى المجتمع المصري منه منذ بدأت الهجمة الوهابية عليه، وشقت بتخلفها وتعصبها وتزمتها العقل المصري، وجعلت كل صنوف القهر جزءا أساسيا من بنية علاقاته الانسانية، بعد مسيرته التاريخية من التسامح والعقل.

شيزوفرينيا البَطل والمجتمع في «تغريدة البجعة»

عبد الهادي شعـلان

 

المتعايش مع شخصيات رواية (تغريدة البجعة) لمكاوي سعيد يَلْمَس الاضطرابات النَّفسية الواضحة والدَّفينة التي تسيطر على أعماق الشَّخصيات وتؤثِّر بجلاء في تصرفاتها، فَمُجمل الشَّخصيات تعاني خَلَلًّا ما، ولا يوجد في معظم العمل شخصية مُسْتَقرة تعرف هدفها وتسعى إليه سوى مارشا الأمريكية، فهي التي تسير وِفْقَ أهداف محدَّدة وخُطَّة تعرف إلى أين ستنتهي. التَّوتر النَّفسي واضح منذ بداية حياة مصطفى راوي (تغريدة البجعة)، فهو منذ طفولته يقفز إلى حياته (خليل)، الطفل الشَّقي الذي يسبب لِمَن حوله الخوف والرُّعب ويسيطر على كل التَّلاميذ، ويفعل ذلك مع مصطفى لدرجة أنه يُنْبِت الخوف والرُّعب والتَّردُّد في وجدان مصطفى طوال حياته القادمة. فهو قَاتِلَه في الصِّغر بسكين سيظل يقطر بالدَّم إلى الأبد، حَتَّى أن مصطفى يسأل نفسه بحَسْرَة وندم: (كيف مَرَّت تلك السَّنوات السِّت مع خليل ولم يقتل نفسه أو يقتله. ص 35)، فخليل يُمَثِّل الجانب السَّادي المنحرف في المجتمع، والذي قد يسبب أزمات نفسية لغيره؛ فقط لأنه يريد السَّيطرة وفَرْض القوة على الآخر، وخليل نفسه يعاني اضطرابات تجعله يمارس القسوة والبلطجة مع زملائه التلاميذ.

ويَظْهَر تعذيب الذَّات جَلِيًّا حين يُرَدِّد مصطفى أن من أحلى المناطق المحببة إلى نفسه منطقة الطابية بالهرم، فهو يحس بالحشائش والطين الجاف والأغصان الصغيرة وهي تتكسر أسفل قدمه، وهو يخوض في حقولها المترامية وهو يستعذب ويستشعر وخز شوك حشائشها في ساقه. أول تجربة جنسية بالنسبة لبطل الرواية مصطفى كانت اغتصابًا له، ولم تكن تجربة طبيعية، ففتحية بسنواتها الأربعين والتي كانت تأتي إلى بيتهم وهو صغير تمسح لهم الشقة أسبوعيًّا كل سبت، اغتصبته، حَتَّى أن الأمر بدا وحشيًّا وممتعًا ولذيذًا، إلى درجة أنه لم يلق بَالًا لقذارتها ورائحة عرقها وملمس جسدها الخشن وملابسها الداخلية المهلهلة، الخلل الذي كان داخل كيانه ساعده على عدم النُّفور من لحظة اغتصابه، وعدم استشعار القرف من فعل أقرب إلى التَّوحش، كان نفسيًّا مستعدًا لأن يتم اغتصابه، فقد كان هشًّا، وكان فارغًا من الدَّاخل.

هو يعتقد أن مرضه النفسي عادي؛ لأن المجتمع كله صار مريضًا؛ فبنفس المرض استتب الغزو الوهابي على أرض مصر عن طريق المدرسين والأطباء، وحَتَّى العمال الذين عاشوا لفترات طويلة بالمملكة العربية السعودية؛ فقد هجر النَّاس التلاوة الرائعة لعبد الباسط عبد الصمد، ومحمد رفعت، ومحمد صديق المنشاوي، وصار النَّاس يميلون بذوق عام تم إفساده لأصوات وسرسعات خليجية، وتركوا عبد الحليم، ونجاة وغَزَتْ الكَبَّة والتبُّولة المطابخ، ولم يبق إلا أن يأكل النَّاس الجراد والضَّب. وتَدْخل حياة مصطفى الفتاة هِبة المنتقبة التي جاءته ومارس معها الجنس بعد أن تأكدت أنه مسلم؛ لأن الجنس من وجهة نظر هبة مع المسيحي حرام، أما مع المسلم فحلال، ثُمَّ طلبت أن تصلي بعد أن اغتسلت واتجهت للقِبلة وبدأت تصلي، هِبة هذه تمثل حالة شيزوفرينيا كاملة فهي تمارس الدعارة ثُمَّ تصلي.

هذه الشيزوفرينيا تبدو واضحة تمامًا في تحوُّل أحمد الحلو صديق مصطفى وعبقري الحي، فقد عاد من السعودية حريصًا على ارتداء القميص والجلباب، وعَقْد دروس دينية عقب صلاة العصر، وتركه التام لعمله كمهندس بحُجَة أن أموال الدَّولة حرام؛ لأن مصادرها من أموال السياحة وناسها الكفرة. وأيضًا من بيع الخمور وألعاب الميسر والقوادة ورؤية المساخيط المحرمة، تَرَكَ أحمد الحلو عمله كمهندس، وظل يبيع صواني البسبوسة والكنافة بالقطعة، والتي كانت تُعدها له في البيت زوجته شاهيناز (الرَّفيقة شاهيناز سابقًا)، يبيعها أمام الورشة للعمال والموظفين والمهندسين الذين كان يرأسهم سابقًا. إن ما فعله أحمد الحلو بعد عودته من السعودية شيزوفرينيا كاملة واضحة وشَرْخ عميق في شخصيته، فأحمد نفسه الذي كان من قبل متشوقًا لأن يُحضر شاهيناز بمفردها داخل شقة مصطفى، لينفرد بها وتكون بينهما ساعة خُلوة، هو نفسه الذي ترك الهندسة، وباع البسبوسة وظل يعطي دروسًا في المسجد، حَتَّى إنه يُصَرِّح لمصطفى بأن دفن النَّصرانية لا يجوز في مدافن المسلمين حَتَّى لا يتأذوا بعذابها، وإن كان في بطنها جنين مسلم لا تدفن في مدافن الكفار فيتأذى ولدها بعذابها، يجب أن تُدْفن وحدها. لقد كان أحمد الحلو يعتمد في كلامه على فتوى الإمام أحمد .. ويتطوَّر سلوك أحمد الحلو حَتَّى إنه يمنع ابنته الصَّغيرة من السَّلام على صديقه مصطفى، صديق العمر ويصرخ فيها: "أين الله يا فاطمة، أين الله يا فاطمة" فَتَرْتَد الطِّفلة مذعورة تسحب يدها بفزع من يد صديقه الحميم.

حَتَّى يوسف حلمي مدير الإنتاج شَعَرَ بإحباطات في آخر أيامه، فَرَاح يحكي لمصطفى كل الذكريات بدون رتوش، كي يَتَخَلَّص من الحِمْل الذي يجثُمَّ على صدره، والذي يتمثَّل في الخداع وازدواجية المجتمع. وتتدهور به الحال حَتَّى أنه يخاف بشدَّة من ابنه الملتحي، ويظل حلمي يوسف محتفظًا بسر غريب، فهو يخبئ طبنجة ابنه الشهيد الذي ذهب للحرب بدون سلاح. هذه الشيزوفرينيا تنسحب أيضًا على سلوكيات أطفال الشًّوارع الذين جلسوا على صدر طفل منهم كانت يده تسيل منها الدم، لأنهم يُزِيُلون الصَّليب من يده. هذا السلوك العنيف، الفصامي، الذي لم يكن موجودًا في مصر، رصده مكاوي سعيد بعين واعية.

أما هند، فهي مُفَجِّرة مأساة مصطفى الدَّاخلية، هند التي ماتت بطريقة غريبة حين سقطت الدانة جانبها على الأرض فحدث الانفجار، وتحمَّل جسدها الرَّقيق دانة تزن كيلو جرامًا من مواد شديدة الانفجار. الدَّانة التَّذكارية من حرب أكتوبر، هي التي أطاحت بهند وتركت مصطفى وسط البرد والصقيع الذي لازم حياته. فقد ظلت هند هاجس روحه، تراوده دائما حَتَّى إنه كان يذهب يبكيها كثيرًا في المقابر فقال له التُرَبي إن ما يفعله يحيطها بالذنوب، كان مصطفى هَشًّا من داخله فسيطرت عليه الفكرة فانقطع عنها، حَتَّى جاءته هي وأخبرته أنها ستأتيه يومًا ما لحمًا ودمًا، لا طيفًا.

الازدواجية والشيزوفرينيا طالت كل المجتمع حَتَّى إن كريم (حالة البحث من أولاد الشوارع) تكسره الفتاة ورده؛ لأنه يحبها وتتسبَّب في حَبْسه، ومع ذلك تظل عالقة في قلبه لا يستطيع أن يؤذيها على الرَّغم من شراسته وتَحَكُمه في مجموعة كبيرة من أولاد الشوارع. زينب أيضًا تعاني ازدواجية غرائبية، فهي تحب كل النَّاس، ويمكنها أن تمنح جسدها ببساطة لأي أحد يفعل معها أي معروف، ولو كان صغيرًا، تعطي جسدها بدون مقابل مادي، فهي لا تعتبر ذلك دعارة مع أنه قد تم ذَبْح شرفها من زمن. وما أعطته لمصطفى من جسدها إلا لأنها تعتبر ذلك مكافأة؛ لأنه حَنَّ عليها على الرّغم من تمنعها الشَّديد في بداية علاقتها بمصطفى. فمنحته نفسها بسخاء لأنها فقط شعرت أنه يُقَدِّرها ويريد أن يتزوجها، فأعطته بلا حدود.

وشخصية مصطفى واضحة المرض، فهو دائمًا حائر، لا يستطيع اتخاذ قرار، فلو استطاع أن يتخذ قرارًا سليمًا لتزوج زينب فورًا؛ هربًا من قَدره مع مارشا، وإرهاقه مع ياسمين، وذكرياته مع هند، إنه بائس، عالق داخل كرة صوف ضخمة من الشرايين والأوردة الدفينة. يعترف مصطفى بأنه غَافَل الجميع وذهب إلى طبيب نفسي سرًا، واستمر فترة. إلا أنه يبوح لنفسه بأنه في حالة اكتئاب شديدة، سوداوية لن يُخَلِّصه منها الطبيب النفسي، ولا مضادات الاكتئاب، المكتوب على أغلفتها "تُحَقِّق الانسجام النفسي".

شخصية عصام، الصَّديق الحَمِيم لمصطفى، وتحوُّله الشَّديد من أقصى درجات حب الفن، لأقصى درجات البُعد عن الفن وتحوُّله إلى سِمات البوذية، فقد حَلَقَ شَعْره وأطلق لحيته وشاربه وحوَّل شقة العمر والمرسم الجميل إلى شقة في المجاورة التَّاسعة من الدويقة (أحد أكثر أحياء القاهرة بشاعة كما هو مذكور في الاحصاءات العالمية. ص235)، فقد اكتشف أن سامنثا ابتعدت عنه وطلبت منه الطَّلاق؛ لأنها كانت مُصَابة بالسَّرطان في المخ، وأن مرضها لن يجعلها تعيش أكثر من ستة أشهر؛ لذلك أنْهَتْ علاقتها به وتركت له كل أموالها وأملاكها بعد أن رحلت. لقد فَقَدَ عصام الحب الحقيقي وتزعزعت روحه وفَقَدَ الرَّاحة الأبدية، واعتزل العالم حَتَّى إنه انفصل عن العالم كُليَّة، وعاش يُخَلِّد سامنثا برسم صورها على كل جدران شقته وعاش مع صورها.

يعترف مصطفى لنفسه اعترافًا يوضح هذا التخبُّط الذي يعيشه فهو يقول: (لم يزدني تفكيري في زينب إلا اكتئابًا، ولم يزدني هربي من مارشا إلا قلقًا، ولم يزدني تذكري لكريم إلا اضطرابًا وحين فكرت في نفسي ازدَّدت غَمًّا. ص 229). تغالبه فكرة أن يقذف بمن حَوْله أو مَنْ أمامه مِنْ شُرفة أي مبنى عملاق، ويتجنَّب دائمًا الأماكن الخانقة وأنفاق المترو، ويحذر جدًّا لو اضطر إلى دخولها، يرتكن إلى جدار خرساني بعيدًا عن القضبان، يغالب نفسه حَتَّى لا يدفع بأحد الواقفين على الرَّصيف، ويلقيه على القضبان تحت المترو مباشرة، فيحيله إلى أشلاء ثُمَّ يتخيَّل نفسه مستمتعًا وهو يجمع القِطَع المتناثرة.

كان جسد ياسمين متطابقًا تمامًا مع جسد هند، كانت هند أو ياسمين لا يدري، لم يعد مصطفى يعترف بالأسماء الدنيوية، تتَّصل به ياسمين ويبدو صوتها مألوفًا، لدرجة أنه يتصوَّره صوت هند، وعندما ذهب إليها كان صوتها في بداية حديثه معها(ياسمين) ثُمَّ بدأ الشَّك يغزوه في وجود ياسمين، كان حريصًا على ملامستها كي يتأكد أنها موجودة طيفًا أو جسدًا، لقد عاودته كل هلاوسه البصرية والفكرية، وعندما تَكَشَّف وجه ياسمين عن ندبة زرقاء باهتة، فوق شامة لحبة عنب مماثلة تمامًا لِوَحْمَة هند في نفس مكانها، تأكد أنها هند قد عادت مَرَّة أخرى. وَصل إلى نهاية شكوكه وأراد أن يتأكَّد، هل هذه هند أم ياسمين؟! ذهب إليها في بيتها ورجاها أن يرى النَّدبة بوضوح، ذُعِرَتْ منه وخافت وتراجعت وهو كان يريد رؤية البِشارة (هند أم ياسمين) ولمسها وتأكد أنها هند، وتَحَوَّل جسد الفتاة كله إلى هند، وانقض عليها وأكَّد الجيران في التحقيقات أنه كان يخنق الفتاة ويصرخ فيها كي تُخْرج من جسدها روح هند.

ثُمَّ تأتي له هند وتهمس في أذنه أنها لن تظهر له مَرَّة أخرى وقالت: "أنا آسفة" وكان الصَّوت صوت ياسمين، وقالت: "مع السَّلامة" وكان الصَّوت صوت هند، أدارت ظهرها وكان هذا إذْنًا بالانصراف عن جسد ياسمين. وأخيرًا لم يعد بحاجة لكل الأدوية والعقاقير التي تحقِّق له الانسجام النفسي وتخلِّصه من الأَرَق، أو مضادات الاكتئاب. أفرغ كل الحبوب أمامه وصنع منها أشكالًا وبدأ يتذوقها ويستحلبها ولم يعد يرى غير شارع ممتد بلا نهاية.