تقدم لنا الكاتبة هنا هذه الدراسة التونسية التي اهتمت بمفهوم الإحساس بالزمان في الشعر العربي وبينت أنّ المهمّ في درس الزّمان ليس كونه دائريّا، أو خطّيّا، أو أسطوريّا وإنّما اتّساع مفهومه بدرس الأشعار واختبار أطوارها، ورصد ما تضمره المظاهر فيها، وسعى لتغيير التّصوّرات المستقرة للزّمن وللأدب.

منظورات جديدة في درس دلالة الإحساس بالزّمان

تأمّلات في كتاب «الإحساس بالزّمان في الشّعر العربي»

ليلى درويـش

 

يمثّل الإحساس بالزّمان في الشّعر العربي أطروحة دكتوراه الدّولة أنجزها الأستاذ علي الغيضاوي في قسمين: جعل قسمها الأوّل إطارا أدبيّا لدراسة الزّمان في الشّعر العربي وجعل قسمها الثّاني دراسة في اتّجاهات الشّعراء العرب الزّمانيّة، وهي دراسة تزخر بالتّصوّرات والرّؤى فيما يتعلّق بموضوع الزّمان من حيث هو معنى أو موضوعا شعريّا.

ولا يبتغي الأستاذ الغيضاوي أن يدرس الزّمان في وجهه الفلسفي المجرّد، وإنّما يبتغي درس وقع الزّمان على المبدع فيما أطلق عليه عبارة "الإحساس". وقد أعرض عن الجدل حول مفهوم الزّمان في القديم والحديث ليهتمّ بما سمّاه "الزّمان المعيش"، وامتدّ البحث على أربعة قرون؛ إذ انتقل مفهوم الزّمان من الإجمال إلى التّخصيص، ومن الشّمول إلى التّخصّص، ومن البداوة إلى المدنيّة، ومن الإذعان للقضاء والقدر إلى التّمرّد وتطوّر التّاريخ البلاغي لهذه النّصوص.

وقد رسم ملامح منهج خوّل له أن يصف تجليّات الزّمان في الشّعر ومصادر إحساس الشّعراء به، وضبط معجمه ومفاهيمه لينتقل في القسم الثّاني إلى رصد الاتّجاهات الفنّية للشّعراء في درس الزّمان، فكانت دراسته تاريخيّة شاملة، وكان ينطلق من النّصوص ليبني بعد ذلك خصائص القول الشّعري. ويمكن أن نميّز بين ثقافتين بالإحساس بالزّمان ثقافة البادية وثقافة المدينة.

وكان الأستاذ الغيضاوي يستقرئ أساليب التّصوير والوصف وينظر في البناء الشّكلي، ليبلّغ المعاني الرّمزيّة للزّمان الواقعة وراءه، لينتهي بعد ذلك إلى تأويل الزّمان، مستندا في ذلك إلى فرنيل كاسكيل وهلمير نقرين ويارسلاف ستتكفيتش وجورج بوليه وريجيس بلاشار. وانتهى إلى أنّ الزّمان ليس خطّيّا وإنّما يتخفّى، و يظهر، ويتشكّل في صور مختلفة، فهو "ملتو متكسّر".

ويستدلّ على الإحساس بالزّمان، لدى الشّعراء، ويخصّ بالذّكر امرئ القيس، وأبي نوّاس، في شمول نظرتهما، فقد نظر في أبعاده الطّبيعيّة، والبيولوجيّة والنّفسيّة، والفنّيّة. ويمكن ملاحظة الوظيفة التّأثيريّة، فيما يتعلّق بموضوع الزّمن، والبعد الغنائي، والموضوع الشّعري .

رسم الأستاذ الغيضاوي المجال الدّلالي لدراسة الزّمان في الأدب، فوضع مقاربات للزّمان الإنساني. وضبط المفاهيم واستخرج معنيين أسّس عليهما بعد ذلك أطروحته: أوّلهما دلالة الزّمان على المدّة[1] وشرح ذلك، وأفاض في استقصائه لدى القدماء والمحدثين، وتقصّي الدّراسات العربيّة والغربيّة بصفة وافية، ودرس الزّمان في الشّعر فٱهتمّ بالإنسان والزّمان في الشّعر الجاهلي، وانتهى إلى فكرة "مركزيّة موضوع الزّمان في الشّعر العربيّ القديم[2]، فأنتهى إلى أنّ الزّمان يؤثّر في تكوينيّة القصيدة، وفي مواضيعها وفي أبنيتها الفنيّة. ويمكن اعتبار هذه الدّراسة قد تجاوزت مفهوم الزّمان باعتبار القضاء والقدر وما يستتبعه من معنى الفناء والموت والعدم، فهذا المعنى القدريّ للزّمان تجاوزه المؤلّف بأن درس "الزّمان المعيش" والزّمان المفكّر فيه"[3].

وجعل الأستاذ الغيضاوي بحثه متّجها نحو درس اتّجاهات الشّعراء الزّمانيّة، ومواقفهم، من وجهة نظر تاريخيّة. لقد أكسب دراسة الزّمن بعدا تاريخيّا، واقعيّا، وأعرض عن الكليّات، ولم يرد درس الزّمنيّة من جهة القدريّة وإنّما من حيث طاقة هذه الزّمنيّة على إنتاج الشعريّة.

الأستاذ الغيضاوي يحاور النّقّاد في مفهوم الزّمان:

للأستاذ الغيضاوي تصوّر للزّمن يمتدّ من شعراء العرب قبل الإسلام إلى أحداث القرن العشرين. ونستشفّ من إحالاته اِطّلاعه المعمّق على الدّراسات المهتمّة بالزّمن ، فتصوّراته ذات سند قويّ،من حيث كونها تصوّرات لا تكتفي بالحدوس البعيدة، وإنّما تؤصّلها قراءات معمّقة. وقد عرض هذه الدّراسات وحاور كمال أبو ديب وأدونيس؛ فيردّ غموض مفهوم الزّمان إلى عدم اتّضاح هذا المفهوم في أذهان الدّارسين كما جادل رنقرين وانتهى إلى أنّ دراسات المستشرقين اهتمّت بكتب الاختيارات الشّعريّة، ومجاميع القبائل وتوسّلت بالمناهج الحديثة والحقول المعرفيّة الحديثة: مثل علم الاجتماع ، وعلم النّفس، والفنّ، والفلسفة، وفلسفة الفنّ. ويمكن اعتبار مقاربات الزّمان في الفصل الثّاني أهمّ وجوه هذه الدّراسة؛ فقد تعمّق أستاذ الغيضاوي ظاهرتيّة الصّورة، لدى بلاشار، ومقاربة ظاهرتيّة القراءة في الوعي المتعرّف   لدى بوليه، والأغراضيّة لدى ريتشارد واهتمّ بالمقاربة الأنتروبولوجيّة عند ديران، والمقاربة الشّموليّة عند فاشون، والتّأويليّة الأدبيّة، ونظريّة التّلقّي لدى ميشال رنك، والظّواهريّة التّأويليّة عند بول ريكور.

ومن كلّ هذه المنظومات انتهى الأستاذ الغيضاوي إلى رسم الإطار النّظري لدرس الزّمان ، وحدّد مواقع النّظر في هذا الموضوع ،وحوّل كثيرا من الملاحظات المجرّدة إلى تصوّرات نظريّة لدراسة الزّمان. كما لاحظ ،من موقع الباحث المتمرّس، بنقد الشّعر القديم والمطّلع على النّظريّات الحديثة أنّ الدّراسات النّظريّة لدى العرب المحدثين قليلة وعلى هذا الأساس أعاد النّظر في قضايا منهجيّة، وكان همّه أن يخرج بالزّمان في الشّعر من المستوى المجرّد إلى المستوى المحسوس ،فبنى سياقا للزّمان ،استنادا إلى نظريّة المعنى لدى العرب، وتبلورت لديه أسس العلاقة بين الزّمان والشّعريّة، فالزّمان المدخل إليه هو المحسوس ولذلك جعل الفصل الثّاني لمصادر الوعي بالزّمان إذ "يُدرَك الزّمان بعلامات وصلات وروابط". كما اهتمّ بأسماء الزّمان، وتوسّع في عرضها وإظهار فائدتها لدارس الأدب؛ فالدّهر يرمز إلى القوّة الغاشمة وليس هذا من شأن هذه الدّراسة،فهي تهتمّ بالمستوى المحسوس أي ماعبّر عنه بالإحساس بالزّمان .

أفق من التّصوّرات في درس اتّجاهات العرب الزّمانيّة:
وفي القسم الثاني ـ حيث اهتمّ بدراسة اتّجاهات العرب الزّمانيّة ـ اهتمّ في البدء بشعراء السّبع الطّوال الجاهليّات فتحدّث عن شعريّة اللّيل عند امرئ القيس، فالوصف لديه مدخل لدراسة الزّمان، واهتمّ بالبعد الوجودي للزّمان في شعر طرفة بن العبد، وبالإقبال على الحاضر لدى زهير بن أبي سلمى، وبالتّحكّم في الزّمان عند عنترة، وبتجليّات الزّمان لدى عمرو بن كلثوم، وبمقاربة الحارث بن حلّزة للزّمان، وبصورة الزّمان عند لبيد بن ربيعة، وخلص من المعلّقات إلى أنّ لبيد كان"أوثق شعراء المعلّقات صلة بالزّمان لا سيّما في قصائده التّأمّليّة الاعتباريّة"[4] ورسم بعض ملامح الزّمان في أشعاره. ثمّ انتقل ـ في الفصل الثّاني ـ إلى درس بعض شعراء جمهرة أشعار العرب الجاهليّة لا سيّما عبيد بن الأبرص، والنّابغة الذّبياني والأعشى الكبير،فقد اهتمّ بشعريّة اللّيل وهاجس المصير عند النّابغة،وبالزّمان المميت في شعر الأعشى، وبالقنوط من المعيش والوعي المتشائم عند عبيد بن الأبرص، وبالوعي بالعدم لدى عديّ بن زيد، و بالتّعبير المجازي عن الأجل لدى بشر بن أبي حازم، وبالمقامرة مع المنيّة لدى الصّعلوك المغامر عروة بن الورد، وبتجاوز الزّمن عند حاتم الطّائي في نزعته القدريّة، ثمّ عُني بالوعي الفاجع لدى شعراء هذيل في الفصل الثّالث؛ فدرس فكرة التّناهي عند المتنخّل، والخضوع للمصير لدى أبي ذؤيب وضبط اتّجاهات ثلاثة بارزة للزّمان أوّلها الاختيار الفنّي، وثانيها الوعي بالزّمان، وثالثها الموقف منه. ثمّ اهتمّ بقضايا فكريّة تتعلّق بألفاظ الزّمان بين الشّعر الجاهليّ والقرآن، وفكرة الأجل وفكرة تناهي العلم، ومفهوم الفوت، والغيب، والآتي، ثمّ حلّل نماذج تعبّر عن تطوّر الاتجاهات النّظرة إلى الزّمان فٱهتمّ بالحنين إلى الزّمان الأوّل عند حسّان بن ثابت، والحظّ والقدر لدى كعب بن زهير، والتّبكاء عند تميم بن مقبل، وعرض إلى تنوّع الأبعاد في العصر الأموي، فٱهتمّ بفكرة التّشتّت عند الفرزدق، وبمفهوم الزّمان عند جرير والأخطل، وبمركزيّة الموت عند حارثة بن بدر، ولدى شعراء الغزل مثل جميل بثينة وعمر بن أبي ربيعة في شعريّة اللّيل، ثمّ انتقل إلى شعراء القرن الثّاني الذين غلب عليهم زمان البداوة شأن ذي الرّمّة، واهتمّ بعد ذلك بجيل بشّار والسّيّد الحميري ،ومطيع بن إيّاس . أمّا جيل النّصف الأخير ،فقد اهتمّ فيه بأبي العتاهية، وأبي نوّاس بين زمان أسّسته الزّهديّة وزمان أسّسته الخمريّة.

الأستاذ الغيضاوي مؤوّلا للشّعريّة العربيّة:
وانتهى بعد هذا العرض والتّحليل الطّويل القائم على ثبات العالم وعلى قدره منهجيّة دقيقة إلى أنّ الزّمان بنى رؤى شعريّة ، وخوّل للشّعراء أن يجرّبوا أشكالا في بنائه، فٱهتمّ بما يشترك فيه الشّعراء أي مصادر وعيهم بالزّمان ، وطرقهم في معرفته ، فالزّمان الذي أراد الغيضاوي بناء دراسته في أفق هو: "الزّمان في النّفس" أي لا "مايخصّ الشّعراء العرب بٱعتبار عربيّة ثقافتهم وحضارتهم، وإنّما بٱعتبارهم بشرا كسائر النّاس يدركون تزمّنهم بالزّمان ومنزلتهم في الكون".

 وختم الأستاذ الغيضاوي دراسته ببيان أنّ المهمّ في درس الزّمان ليس كونه دائريّا، أو خطّيّا، أو قبليّا، أو دينيّا، أو أسطوريّا وإنّما اتّساع مفهومه بدرس الأشعار على اختبار أطوارها ، فرصد المظاهر التي تضمر ، وكان الأستاذ الغيضاوي مؤرّخا للشّعر، ومؤوّلا  انطلاقا من فكرة الزّمان لخصائص الشّعريّة العربيّة . ولقد انتهى إلى جملة من التّصوّرات التي غيّرت رؤيتنا للزّمن ورؤيتنا للأدب إذ شرّع الغيضاوي لموضوع آخر لسؤال نقدي أكثر شمولا ودقّة.

 

[1] علي الغيضاوي: الإحساس بالزمان في الشعر العربي من البداية إلى نهاية القرن 2ه ،منشورات كلّية الآداب منّوبة، ص ص (30ـ31 ) 

[2] نفس المصدر ص 101

[3] نفسه ص 104

[4] نفسه ص87