يسعى هذا الكتاب إلى الولوج بنا إلى عالم النقد الأدبي واستعمالاته في الثقافة العربية القديمة، ورحلة المصطلح في العصر الحديث ومواجهته لهيمنة المؤثرات الأجنبية إلى حد الاستلاب، وما رافق هذا الخطاب النقدي الأدبي في علاقته بالواقع العربي وإسقاطاته على المنجز الإبداعي.

رحلة المصطلح النقدي والمصير العربي الغربي المشترك

قراءة في كتاب »مداخل إلى الأدب وخطاباته: بحث في المفاهيم المؤسسة«

لطيـفة الهيثـمي

 

الكتاب للدكتور عز الدين بونيت أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة ابن زهر-أكادير، يتناول فيه موضوعا ذو أهمية إنه الأدب ذو الخطابات المبنية على جملة من المفاهيم المؤسسة له. ومادام موضوع الكتاب يتبنى فيه كاتبه د.بونيت مداخل إلى الأدب وخطاباته وبالتحديد المفاهيم المؤسسة له، ارتأينا التقديم له قبل إدراج القراءة بمقدمة بسيطة لعلها تكون الخيط الرابط بين ما جاء في الموضوع وما ينظر إليه النقد التفسيري للأدب في واقعه على اعتبار أنه فرع من العلم، الذي ينشد الدقة والعدالة العلمية.

هذا التناول المقصود كما يقول "مولتون Moulton" هو "تناول مستقل عن المدح أو الذم، فلا شأن له بالقيمة، نسبية كانت أم مطلقة"[i]. ومن ثم فالناقد العلمي كأي باحث في ميدان من ميادين البحث العلمي، ويرى فيه وبكل أريحية أنه زميل له. فالناقد يصور الظواهر الأدبية كما على حالتها في الواقع، يفحصها، وينظم القوانين والمبادئ التي يراها بناء يتأسس عليه كل هذه الوقائع والظواهر ذات التأثير الواضح.

ومن جهة أخرى إذا فسرنا هذه العلاقة بين النقد والأدب أنها تقوم على أساس نفسي بحسب نظرية "فرويد" في تحليل النفس، فالناقد يكون ممن ينشدون القيام بمهمات تفسيرية يلزمه معها معرفة بهذه النظرية. وقد كان "الرومانتيكيون" في قراءاتهم النقدية قبل "فرويد" ينزعون منزع التفسير ذات القرب من نظريته الفسلفية فاعتبروا الشرح بمثابة "العمل الأساسي للناقد"[ii].

معنى هذا أن هناك تبادلا في التأثير بين النقد والأدب والمجتمع وطريقة استخدام اللغة، وهذا توسع معقول ومشروع إذا قلنا أن التبادل بين هذا المثلث –النقد، الأدب، اللغة- تجمعهم علاقة تأثر وتأثير في إنتاج أدبي رابطته الأساس المجتمع، وهنا تأتي العبارة التي يقول فيها "دي بونا" "إن الأدب تعبير عن المجتمع"[iii]. بل هو قيمة إنسانية اجتماعية، تمثلت في نصوص وإن اختلفت في ظاهرها فقد ظلت بمسمى واحد في جوهرها، هذا ما حاول د.عز الدين بونيت الأستاذ المحاضر في الأدب بجامعة ابن زهر بأكادير في كتابه "مداخل إلى الأدب وخطاباته"-بحث في المفاهيم المؤسسة- عن منشورات دار سوس للنشر والتوزيع.

يبدو من عناوين الفصول التي اشتملت عليها هذه الدراسة أن د.عز الدين بونيت يسعى إلى الولوج بنا إلى عالم النقد الأدبي واستعمالاته في الثقافة العربية القديمة، ورحلة المصطلح في العصر الحديث ومواجهته لهيمنة المؤثرات الأجنبية إلى حد الاستلاب، وما رافق هذا الخطاب النقدي الأدبي في علاقته بالواقع العربي وإسقاطاته على المنجز الإبداعي.

في هذا المؤلف، يمد د.عز الدين بونيت إلينا يد العون حتى نتمكن من وضع أقدامنا بثبات على ما واجهه النقد والأدب عبر مراحل ووفق أزمنة مختلفة، فهو بذلك يعود إلى طرح أسئلة كبرى يتعين على كل قارئ أن يدلي بدلوه فيها في ضوء ما استجد في الوقت الراهن. يتعلق الأمر بالإستراتيجية التي بها نتمكن أن نجمع عددا من النصوص ضمن الموضوع الواحد وإن اختلفت ظاهريا، وبنعتها بالنصوص ذات الوحدة المشتركة وذات الصلة ببعضها البعض؟

النقد والأدب في الاستعمال الثقافي العربي القديم
لقد كان النقد الأدبي عند العرب في الجاهلية، يعتمد على الذوق الفطري ويتضمن أحكاما جزئية وتعميمات ومبالغات كثيرة، ليست له قواعد محددة، وحين مجيء الإسلام ارتقى به عن الفكر والذوق خلافا لما كان عند العرب، فتقدم النقد الأدبي خطوة إلى الأمام وظهرت أحكام نقدية فيها شيء من التدقيق والتعليل، تهتم بالصدق والقيم الرفيعة في العمل الأدبي. وقد أثرت الحركة العلمية الإسلامية في النقد الأدبي فظهرت طائفة من النقاد اللغويين والرواة الذين جمعوا الشعر القديم، ونظروا فيه ووازنوا بين الشعراء، وحكموا على أشعارهم، وبينوا صفاته الفنية كأبو عمرو بن العلاء والأصمعي ويونس بن حبيب.

كما أن نمو النقد الأدبي وارتقائه زاد بظهور مؤلفات مهمة تهتم بقضايا توثيق الشعر القديم، لإثبات الصحيح منه وكشف غير الصحيح، وتقويم الشعراء وإجراء الموازنات بينهم، ودراسة بعض الشعر دراسة تبين المعاني الجيدة والرديئة فيه، والأساليب القوية والضعيفة، وأسباب قوتها وضعفها، ومن أشهر النقاد محمد بن سلام الجمحي مؤلف "طبقات فحول الشعراء"، وابن قتيبة مؤلف "الشعر والشعراء"، والجاحظ الذي ضمن آراءه النقدية مؤلفيه "البيان والتبيين و"الحيوان".

وقد شهد القرن الهجري الرابع نضج النقد الأدبي عند العرب، وظهر نقاد بارعون صنفوا مؤلفات كثيرة قيمة، وعالجوا قضايا نقدية أساسية أهمها تعريف الشعر والخطابة ودراسة عناصر هما والعلاقة بينهما، ودراسة بناء القصيدة، والعناصر الجمالية في العمل الأدبي، وأثر البديع في الشعر والنثر، والموازنة بين الشعراء موازنة تفصيلية دقيقة ولاسيما الموازنة بين أبي تمام والبحتري، وبين المتنبي وكبار الشعراء الآخرين، وما أخذه بعض الشعراء من شعر غيرهم، وهو ما عرف باسم السرقات الشعرية.
كما أن هؤلاء النقاد لم يتوانوا عن مواصلتهم في تأليفهم لمؤلفات خصت قضايا الشعر والنثر، وأضافوا أبحاثا دقيقة في الإعجاز القرآني، وأسرار الجمال البياني، وعمود الشعر العربي، والسرقات الشعرية، من أشهر هؤلاء ابن رشيق القيرواني مؤلف "العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده"، وعبد القاهر الجرجاني مؤلف "دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة"، في هذه المرحلة  عرف التأليف عمق النضج النقدي عند العرب.

إلا أنه وسرعان ما توقف النقد الأدبي عن التقدم، خلال القرنين الخامس والسادس، ليأخذ طريقه إلى الجمود والتقلص تدريجيا حتى وصل في القرون المتأخرة إلى الضعف والتخلف، والسبب في ذلك قلة الإبداع ، وانفصال البلاغة عن النقد، ولكن لم تخل تلك القرون من نقاد بارزين كتبوا مؤلفات نقدية قيمة، أمثال ابن سناء الملك الذي دون قواعد الموشح في كتابه "دار الطراز"، وأسامة بن منقذ في كتابه "البديع في نقد الشعر"، وابن الأثير في "المثل السائر".

النقد في الأدب العربي الحديث (رحلة المصطلح)
في منتصف القرن الثالث عشر الهجري، التاسع عشر الميلادي، شهد الأدب حركة إحياء نقدية، على يد عدد من النقاد، عملوا على تطبيق القواعد النقدية التي كانت سائدة في القرنين الرابع والخامس الهجريين، ثم تقدم النقد الأدبي مع تقدم الأدب، وبدأ مرحلة تغيير كبيرة على يد عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني بكتابهما المشهور "الديوان"، ثم واصل النقد الأدبي تقدمه، إلى أن بلغ من النضج غاياته، وصارت له مناهج كثيرة واتجاهات مختلفة، تجلت في مجموعة من الاتجاهات، الاتجاه الذي يعتمد على الذوق المدرب والثقافة العربية الخالصة المتأثرة بالقرآن الكريم والحديث النبوي، واتجاه أخر اهتم بالجمع بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الغربية مع المحافظة على الأصالة العربية، أما الاتجاه الثالث فقد طغت عليه الثقافة الغربية، التي طبق من خلالها نقاده مناهج غربية، وعملوا على إشاعة مبادئها ومقاييسها الفنية، كالواقعية الغربية والواقعية الماركسية والوجودية والبنيوية، إزاء موجة التأثر بالمناهج الغربية في الأدب والنقد، وارتباط بعضها بمبادئ تخالف الإسلام،كما كان لظهور اتجاه نقدي آخر اهتم بمضمون العمل الأدبي، إضافة إلى القيم الفنية، وحرص على أن يخدم الأدب والشخصية الإسلامية وتراثها العريق، وينمي الذوق السليم، ويتصدى للأعمال الأدبية الهدامة والنقد المرتبط بالماركسية والفلسفات الأخرى المنحرفة، ومن نقاد هذا الاتجاه.

الأدب العربي الحديث (في حفريات المفهوم)
واجه النقد العربي الحديث هيمنة المؤثرات الأجنبية إلى حد الاستلاب الكامل، مما دفع الكثير من النقاد العرب إلى ابتعاث المكونات التقليدية الموروثة وتشكلاتها النقدية الحديثة، وتجلت عمليات التصارع النقدي بين الهوية والهيمنة في إثراء التأصيل والتحديث النقدي، لا مجرد استحضار الموروثات التقليدية، أو مجرد نقل النظريات النقدية المترجمة وتطبيقاته. ثم آلت هذه التصارعات غالبا إلى ضبط مفهوم الأصالة والمعاصرة ومكانته في تحديد الهوية القومية، وفي مقدمتها السمات النظرية النقدية تفاعلا بين التراث النقدي وتثميره في المناهج النقدية الحديثة، منظورات ومعايير.

وتعود أول صيغة لتاريخ الأدب العربي إلى أواسط القرن 19 ضمن مستشرقي المدرسة الألمانية، ثم المستشرقين الإنجليز والفرنسيين، الذين حولوا نظرتهم المقارنة إلى المعالجة العربية الحديثة، حيث وجدوا أنفسهم موقع المقارنين، كون جل الأسئلة التي كانوا سيطرحونها معظمها كان جاهرا، الأمر الذي جعل المفهوم ينتقل من الشمولية نحو المحدودية.

وبانتقالنا إلى الحديث عن الخطاب التاريخي عند العرب كمعطى،  فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو الموضوعات الثلاثة التي لا يمكننا الاستغناء عنها، كونها جديرة بالاهتمام، النزعة المقارنة، التي تعتمد على قياس الأدب العربي، باعتباره تنويعا على الأدب الغربي باعتباره أصلا، وموضعة تجربة الأدب العربي في موقع المحيط بالنسبة للتجربة الأدبية الغربية التي تحتل المركز تلقائيا، وأخيرا تلك القطيعة التي يستوجب بناؤها لتاريخ أدب عربي يجمع بين الماضي والحاضر، كلها مواضيع وتيمات لآفاق أرحب ملائمة، لإعادة تأسيس خطاب تاريخي حول الأدب العربي حديثه وقديمه.

وفي هذا الصدد، يشير د.عز الدين بونيت إلى المغرب في علاقته بالمشترك المشرقي، كشيء طارئ على الثقافة المغربية، وكذا دخول نابليون إلى مصر، وغيرها من الأحداث التي بينت عن بنية إيديولوجية مفقرة لأسس تاريخية تدعمها، ما يدعو بالباحث إلى مزيد من البحث، في تاريخ الأدب المغربي كفرع من فروع الأدب العربي، كونه ما هو إلا نموذج مشرقي الأدب عربي.

وفي جانب آخر، يتساءل د.بونيت عن إمكانية تعريف جديد للتراث الأدبي العربي، وأهم ما ميزه من خصائص، وقوفا عند ما حدده عبد الله العروي، فيما أسماه بجوهرية الثقافة العربية أو التراث العربي، معتبرا إياها في خصائص محددة، أولها لا انتماؤها للمجتمع الذي تبناها، وثانيها أنها ثقافة مجتمع ميت وأنها ثقافة انتفاعية استهلاكية تمتعية فحسب، تحمل ثقافة ما يسمى بالانشطار الداخلي، إنه استيعاب من نوع خاص، أمكنه توفير الشروط الفعالة للمساءلة حول ما إذا كان التراث النقدي مجرد إسهام منهجي لبناء الإثنوغرافيا، وتسويغا إيديولوجيا وتقنويا لها.

الأدب الحديث-غرب وشرق (في حفريات نشأة مجال ثقافي)
إن ما رافق الخطاب النقدي الأدبي العربي، لا يكاد يبتعد عن الواقع العربي وإسقاطاته على المنجز الإبداعي، صحيح أن الخطاب النقدي الأدبي العربي المعاصر، وبعد دخولنا الألفية الثالثة ما زال يحمل إشكاليات نشأت منذ أن تأسس هذا الخطاب، وإن الكثير مما أنجز منه ما زال بعيدا  من أن نطلق عليه مصطلح (النقد)، أو أن ينضوي تحت خيمة (الخطاب النقدي) الذي نريد، فما زلنا نطمح، أولا وأخيرا، إلى وجود فكر عربي ناضج يدعم فكرا أدبيا عربيا، ومن ثم إلى خطاب نقدي عربي منهجي يأخذ بيد المنجز الإبداعي إلى أن يكون بمستوى المنجز الأجنبي، إن لم يكن يتجاوزه، خاصة وان واقعنا العربي سيغني هذا المنجز.

فخصوصية التجربة العربية في الحياة هي العون في ذلك، أي في تأسيس نظرية نقدية عربية، أو على الأقل تقديم رؤيا عربية نقدية، فالأدب الحديث رؤية نقدية واقعية حداثية، ترفض تغييب الإيديولوجي والسوسيولوجي والتاريخي لحساب الجمالي والشكلاني، وأن دخول الشعرية للأدب لم يكن دخولا منفردا بذاته، هو ما يؤكده قول د.بونيت "ففي الفترة السابقة تقريبا التي كان فيها ثلة من النقاد يؤسسون الفهم الجديد للشعر وحدود اللغة الشعرية، كان هناك آخرون وعلى رأسهم فلاديمير بروب، يؤسسون مبحثا جديدا هو الآخر، هو مبحث السرديات"[iv].

وعليه، يبقى تحديد مفهوم النقد الأدبي، في إطار بوتقة ما يسمى مؤسسة تشتغل في ما هو محدود، بتقليص أهمية ما كان مسندا لها في الماضي وإلى الأديب، في تحديد ما هو أدبي، لعل هذا ما يفسره تصور د.عز الدين بونيت حول النقد الأدبي وموضوعية الاختلاف فيه بين العالمين العربي والغربي "الاعتراف بموضوعية الاختلاف في الأدب وحدوده وأوضاعه بين أوربا والعالم العربي بالرغم من سعي التصور التاريخي الاستشراقي إلى تأكيد المصير المشترك للآداب العربية والغربية"[v].

 

[i]-Hudson (W.H): An Introduction to the Stady of Lit, 2nd ed. George E. Harrap, London. P. 358.

[ii]-Roy, P,Basler: Sex, Symbolism and Psychology in Literature, Rutger’s University Press, New Branswick 1948, P. 6.

[iii]-Wellek (R) and Warren (A): Theory of Literature: A W. Bain and Co. London 1949,  P. 4.

[iv] -مداخل إلى الأدب وخطاباته، د.عز الدين بونيت، منشورات دار سوس للنشر والتوزيع، ت.ن. 2015، ص 175.

-نفسه: ص 178.[v]