تقتنص القاصة والروائية صفاء عبد المنعم أحداث قصصها من تجاربها الحياتية، فتبدو قصصها كما لو أنها تتحدث إلى صديق، فتتماها فيها الرؤية البعيدة متخفية وراء البسيط والعادى من الأحداث. وكأنها تدعو قارئها إلى اكتشاف كنزه المخبأ تحت قدميه.

ساعة لقلبك

صفاء عبد المنعم

 

الجانب المظلم للبهجة

جاءت ومعها كل تراث الوحدة والصمت!

الأحساس بالعجز.

التوتر.

أو عقدة النقص أحيانا.

مهابة كل شئ.

لمرات عديدة أحدثها، وهى تلوذ بالصمت.

أصبحتُ أنا المتحدث الوحيد فى الجلسة، وهى تتابع فقط بعينيها اللوزتين بلونهما العسلى الفاتح، حركة المارة فى الشارع وداخل المقهى.

وعندما جاء النادل ووضع المشروبات الساخنة أمامنا. كنتُ أنا أحبُ الشاى ساخناً، ووضعتُ عليه قليلا من أوراق النعناع الأخضر الطازج.

وهى ظلت جالسة فى حرج كأنها لا تعرف كيف تحتسى الشاى أو كأنها لأول مرة تجلس على مقهى فخم فى مكان جديد عليها.

 

(ساعة لقلبك).
وعندما ضحكتُ، وأنا أمد يدى لها بالكوب الذى برد تماما. أخذته منى على أستحياء شديد وهى تبتسم.

فقط تبتسم.

أنتهزتُ الفرصة، وضحكتُ أنا بصوتِ مجلجلِ، جعل الجالسون يلتفتون نحونا.

- أيوه كده.

  النبى تبسم.

الشمس طلعت يا قمر.

والله الشمس طلعت وأشرقت، وسقطت من عليئها، وجاءت تجلس معى.

كنا فى بدايات الخريف والشمس اليوم تحديداً غابت. فكان الجو به بعض الطراوة المنعشة مع هواء بارد قليلاً، وكأننا فى يوم شتوى دافئ.

تنهدت. وأنا أمد يدى لها بسيجارة مشتعلة نحوها

- أشربى، أشربى ولا يهمك، ملعون أبو اللى يزعل القمر.

ضحكت، ضحكة أكثر أشراقاً من الأولى، وقالت بهدوء به بقايا أرستقراطية منطفئة، وتأخذ نفساً عميقاً من السيجارة التى أشعلتها لها : ما حدش مزعلنى!

 أنا اللى مش مبسوطة، ومش فاهمة ليه؟

ومطت الكلمات بين شفتيها القرمزتين الملتهبتين من اللون الأحمر النارى الذى عليهما، وكأنها رمت طرف الخيط أمامى. فجذبته بقوة وخبث بنت البلد، وخبرة طويلة فى طرد الأحزان 

- وماله يا قمر، كلنا زعلانين، ومحدش فينا مبسوط، بس بنحاول نتغلب على الدنيا بنت الإيه.

قبل المفرمة ما تفرمنا، فاهمة المفرمة؟

هزت رأسها وهى تزيح شعرها الأحمر النارى الذى يشبه لون شفتيها.

فى البداية كنتُ أعتقد أنها تقوم بصبغ شعرها بهذا اللون الفاقع الذى يشبه الشمس الساطعة فى شهر أغسطس، ولكننى عرفتُ بعد ذلك أنه لون شعرها الطبيعى، وأن بعض حبات العدس البنى التى حول عينيها   تعطيها بهجة عميقة حينما تضحك.

كنتُ قد بدأت أمل وأشعر بالجوع من صمتها المزعج.

لأننى مازلتُ المتحدث الوحيد فى الجلسة.

بعد الأنتهاء من أحتساء الشاى على مهل بالنسبة لها. وأنا التى شربت كوباً كبيراً ساخناً فى دقيقتين أو أكثر. وهى مازالت  ترنو نحوى بعينين جاحظتين غير مصدقة ما حدث.

كنتُ أشرب دون استمتاع.

أعرفُ أننى أفعل أشياء كثيرة دون استمتاع، مثل الأكل والشرب واللبس، لا أهتم كثيراً بشئ، وأفعله بدقة أو ببطء، أزدرد الطعام فى سرعة وعلى عجالة، أشربُ الشاى ساخناً وبسرعة، فنجان القهوة دبل ينتهى فى لحظة.

كل المتع تقريبا بالنسبة لى توقفت.

وهى التى كانت تستمتع حتى بالقليل فى الحياة من خلف نظارتها السوداء التى تضعها على عينيها دائما.

وعندما شعرت بالحرج أمامى من البطء الطبيعى الذى تحدثه، تركت كوب الشاى، وقامت واقفة وهى تحاول أن تضحك وتعدل النظارة فوق عينيها، وقالت : يا لا بينا.

كنتُ لأول مرة أسمعها تتحدث بهذه السرعة.

قمتُ واقفة فى عجالة قبل أن تعود إلى صمتها، واتجهت نحو السيارة الزرقاء التى تملكها، وركبتُ إلى جوارها.

انطلقت فى سرعة غير معهودة بها وقالت وهى تضغط على زر المسجل وتضحك : إيه رأيك، تاكلى فتة كوارع.

هززتُ رأسى ضاحكة : تمام. كده تمام.

كانت موسيقى غربية وغامضة، تنبعث من المسجل تملأ المكان بهجة. وهى تهز رأسها بشعرها النارى، وتشعر بنشوى لا تقاوم.

وأنا أضحك فى صمت وخجل.