يمثل القاص المصرى، العائد لكتابة القصة بعد فترة توقف، المثل فى إبراز شاعرية القصة القصيره لا من حيث الرؤية فقط، وإنما أيضا فى تحميل التفاصيل الصغيرة بحمولات دلالية، توسع من فضاء القصة، دون أن تفقد متعتى: التلقى والتفكر.

شــموســه

طارق عبد الوهاب جادو

 

قالت البنت :

  • السنه انخلعت يا ام.

وراحت تتأمل في كفها كيسا ً من النايلون.. تضع بداخلها سنها المكسور.

شردت الأم. تقرأ الطالع في كتاب غير منظور.. مشدودة الوجه.. جامدة النظرة. التقت أذناها وذيول الحروف السابحة في هواء الحجرة الراكد.

قالت :

  • خير...

لكن البنت - التي تتحسس في فكها فجوة بطعم الملح – خافت. وانطلقت تلحس بلسانها ذلك الفراغ الخالي من أي بروز.

سألت :

  • واعمل إيه يا ام..؟

مرت لحظة لم يتبدد بعدها ظل السكون. اعتادت – منذ رحل أبوها – أن ينشر من حولها امتداداته.. فتحاصر فيه. يمارس معها لعبته المخيفة ويلبد في أركان البيت. يعشش كالعنكبوت. كلما حاولت أن تزوغ منه أحاط بها بوجه مشعث كأمنا الغوله.

خشخش القلق في صدر البنت. قامت تلكز فخذ الأم الساهمة.. تبحلق في السقف.

  • أم.. يا ام.

ندهت في الوجه الباهت. ومضت عينا الأم ببريق زجاجي.. أرخت بعده الجفنين فانطفأ. لهما.. كان بيت في الناحية يهبطون إلى مدخله سبع درجات. للبيت باب من عروق الخشب ونافذة صغيرة تعلو أرض الحارة بقليل.. تقطعها أسياخ رفيعة من حديد يكسوه الصدأ. في الداخل، وقت العصر، يكنسان الأرض ويفرشان الحصير.

يكون الجلوس...

للأم صندوق رطب ترنو إليه حتى يحل المساء. تحصي أشياءه المحفوظة في جوفه، وتحدثها. قطعتان من الملابس.. واحدة لها.. وواحدة كانت له. مكحله. ومشط كان يسرح في شعرها حين ينسدل ستار الليل. قصاصات من القماش جمعتها من الحارات المجاورة كي تنسج منها للبنت فرشا ً وغطاء.

مالت برأسها ناحية الأرض. سقطت عيناها في وجه البنت. كانت لم تبرح موضعها.. تتشبث بالأهداب.. وتهز الفخذ.

ضمتها الأم فغابت في براح الصدر. شبكت حول العنق راحتيها الناعمتين. في الخلف – بين الجدار والأم – كان الكيس والسن.

  • أم.. يا ام.

تابعت البنت...

  • ها تطلع لي غيرها ؟

للأم وجع في القلب.. آلمها لما سمعت كلمات البنت. خبرت مما علمتها الليالي أن الذي يروح أبدا ً لا يجيء. لكنها كرهت أن تكسر خاطر طفلتها.

  • طبعا ً يا روحي.

على نفسها كذبت. مثل البنت لما كانت تبول في المهد. انسال الخيط الدامع من عينيها فانسكب الزجاج ساخنا ً فوق انحناءة الخد.

من فرج الليل المظلم كان الصباح ينفلت. معه يخرج منسلا ً من باب البيت. توقفه عند الفتحة المستطيلة. تمرغ كفيها في وجهه.. وتدعو.

( قاصد وجه الكريم )

يقول.

(.. والرزق على الله)

ترد.

مثل كثير من الرجال في الناحية أطال البحث. تصبح البيوت خالية منهم ومن أصواتهم. وفي المساء يعودون.. ويعود هو. يدعك تحت الصنبور أصابعه.. وشيئا ً تعرفه. يجيب نظراتها المتساءلة بكلمتين :

(بكره .. تفرج)

اليوم التالي.. كالأمس.

آخر مرة.. حين انسل من البيت.. غاب عنها ولم يعد.

تسألها الآن :

  • وازاي يا ام ؟

أبعدتها عن صدرها الملتهب. تناولت الكيس. دست بداخله أصبعين وأخرجت " السنه ". وضعتها في كف البنت.. كورت القبضة.

قالت لها :

  • ترميها في الشمس.. وتغني :

يا شمس يا شموسه

خدي سنة العروسه

واديني سنه جديده

....................

قالت البنت :

  • بس يا ام ؟...

ردت الأم :

  • آه.. بس.

إلى الخارج طارت البنت. حطت في وسط الحارة. نحو السماء الزرقاء العالية رفعت رأسها.. تبحث عن قرص الشمس. طالعت شرفات البيوت الكابية.. وأحبال الغسيل الممتدة.. تقطر كعيون الأمهات.. جيرانها. ورأت السحاب ندفا ً غائمة.

في حلقها أحست طعم البكاء. جرت. عادت للبيت و حضن الأم المنفتح. ارتمت.

كانت عيون الأولاد في الحارة تطل عليهما من نافذة البيت الوطيئة. بين أصابع أيديهم كانوا يخبئون " سنات " مكسورة.