اخترنا في "ذاكرة الكلمة" أن ننشر مقاطع من كتاب النبي للشاعر والأديب جبران خليل جبران، والذي لازال الى اليوم يؤسس حضوره تجسيدا للمشترك الإنساني وترسيخا للقيم الكونية، ولعل "النبي" يشكل أحد درر كتاباته، إذ يقربنا من آرائه ومواقف ورؤاه في الحياة وتجاربه وعبره أرسى رسالته الكونية، مبكرا، وتركها للجميع ولازالت الى اليوم تعتبره كما وسمها هو، ولادته الثانية.

الوداع

جبران خليل جبران

 

وكان المساء.

فقالت العرافة الْمِطْرة: مُبارك هذا اليوم وهذا المكان الذي جمعنا بك، ومباركة روحك التي خاطبت أرواحنا.

فأجاب وقال: «وهل أنا الذي تكلمت؟ ألم أكن أنا سامعًا نظيركم؟»

•••

ثمَّ نزل عن درجات الهيكل ومشى، فتبعه الشعب بأسره.

وظل يجدُّ في سيره والشعب يلحق به حتى وصل إلى المرفأ، فصعد إلى سفينته ووقف على ظهرها.

حينئذٍ رفع صوته والشعب ينظر إليه وقال لهم:

يا أبناء أورفليس، إن الريح تأمرني أن أفارقكم.

ومع أنني لست كالريح عجولًا، فإنني مرغم أن أطيع أوامرها؛

لأننا نحن الهائمين، الذين ينشدون أبدًا أشد الطرق وحدةً، لا نبدأ أعمال نهار ما عندما نفرغ من نهار غيره، ولا يجدنا شروق شمس حيث تركنا الغروب الذي تقدمه؛

لأننا وإن نامت الأرض، مستيقظون نوالي مسيرنا.

•••

نحن بذور نبات غريب عجيب، وفي بلوغنا واكتمال نمو قلوبنا قد وُهبنا منحة للريح، فتفرقنا على وجه الأرض.

•••

قليلة كانت أيامي بينكم، وأقل منها كلماتي التي تركتها لكم، ولكن إذا تلاشى صوتي في آذانكم، وزالت محبتي من قلوبكم، فحينئذٍ آتي إليكم سريعًا،

وأخاطبكم ثانيةً بقلب أوفر عطفًا من قلبي، وشفتين أجزل إثمارًا للروح من شفتيَّ.

أجل، إنني سأرجع مع المد.

فإن حجبني الموت عنكم الآن وضمني الصمت العظيم بين طيات سكينته، فإنني سأنشد إدراككم مرة أخرى، ولن تذهب أتعابي في ذلك الحين عبثًا.

فإن كنت قد خاطبتكم اليوم بالحق الصريح، فإن هذا الحق سيُظْهِر ذاته لكم في ذلك اليوم بصوت أنقى من صوته اليوم، وبكلمات أقرب إلى أفكاركم من كلماته اليوم.

•••

إنَّنِي ماضٍ مع الرِّيح، يا أبناء أورفليس، ولكنني لن أهبط إلى العالم السفلي، إلى الفراغ المرعب.

فإذا لم يكن هذا اليوم قد أكمل حاجاتكم وأفعمكم من محبتي، فليكن موعدًا ليوم آخر.

فإن حاجات الإنسان تتبدَّل، ولكنَّ محبته لا تتغيَّر ومثلها رغبته في أن تُشْبِع المحبة حاجاته.

فاعلموا إذن أنني سأرجع إليكم من عالم الصمت والسَّكِينَة؛

لأن الضباب الذي يفارق الأرض عند بزوغ الفجر من غير أن يترك سوى قطرات صغيرة من الندى في الحقول، إنما يرتفع في الجو لكي يتجمع هنالك، فيؤلف السحاب الذي لا يلبث أن يعود إلى الأرض مطرًا غزيرًا.

وقد كنت بينكم مثل هذا الضباب؛

ففي سكينة الليل كنت أمشي في شوارعكم، وكنت أدخل بروحي إلى أعماق منازلكم،

وكانت نبضات قلوبكم تتردد في قلبي وسحائب لهاثكم تنتشر على وجهي، وقد عرفتكم بِعُجَرِكُمْ وبُجَرِكُمْ.

نعم، قد عرفت فرحكم وحزنكم، وفي هجوعكم كانت أحلامكم أحلامًا لي،

وكثيرًا ما كنت بينكم بحيرة بين الجبال.

فكانت ترتسم على صفحات مرآتي قننكم الشاهقة ومنحدراتكم المتعرجة، حتى قطعان أفكاركم ورغباتكم العابرة عليها.

وكان ضحك أولادكم يجري إلى سكينتي مع مياه الجداول، وكان حنين شبانكم وشاباتكم يأتي إليَّ مع مجاري الأنهار.

ومع أنَّ الجداول والأنهار كانت تبلغ أعماقي، فإنَّها لم تكن تنقطع البتة عن الغناء.

ولكن هنالك ما هو أحلى من الضحك وأعذب من الحنين بين من جاء إليَّ منكم،

ألا وهو الكائن غير المحدود فيكم،

الإنسان البالغ العظمة فيكم الذي لستم سوى أنسجة وعضلات في كيانه، والمرنِّم الذي ليس غناؤكم أمام غنائه سوى اختلاج وهينمة.

وأنتم لا تعرفون العظمة إلا بهذا الإنسان العظيم الذي فيكم،

وعندما رأيته رأيت حقيقتكم، وأحببتكم؛

لأنه هل في الوجود علوٌّ أو بُعدٌ تصل إليهما المحبة ولا يحيط بهما في دائرة كيانه العظيمة الاتساع؟

أم هل هنالك تصورات أو تمنيات أو أحلام تستطيع أن تسمو فتبلغ أقصى ارتفاعه؟

أجل، إن هذا الإنسان العظيم هو بالحقيقة كالسنديانة الجبارة المغطاة ببراعم التفاح الجميلة؛

فقدرته تقيدكم بالأرض، وشذاهيرفعكم إلى أعالي الفضاء، وفي عزمه وصبره على عواصف الطبيعة أنتم خالدون.

قد أخبرتم فيما مضى أنكم كالسلسلة، ضعفاء كأضعف حلقة في كيانكم.

غير أن هذا إنما هو نصف الحقيقة، فأنتم أيضًا أقوياء كأقوى حلقة من سلسلتكم؛

لأننا إذا حكمنا عليكم بأصغر أعمالكم كُنَّا كمن يحكم على قوة البحر بما في زَبَده من الضعف وسرعة الزوال.

وإن حكمنا عليكم بخيبتكم كُنَّا كمن يلوم الفصول لتعاقبها وعدم ثباتها.

•••

أجل، إنَّكم بالحقيقة كالأوقيانوس العظيم؛

فمع أنَّ سفنًا عظيمةً تنتظر مَدَّ البحر وجَزْرَهُ على شواطئكم، فأنتم كالأوقيانوس، لا تستطيعون أن تعجلوا مَدَّكم وجَزْرَكم.

وأنتم كالفصول أيضًا يا أبناء أورفليس؛

فإنَّكم تنكرون ربيعكم في شتائكم،

ولكن الربيع لا ينكركم، بل يبتسم لكم في غفلته، من غير أن يغضب أو يتعكر صفوه.

ولا يخطر لكم أني أقول لكم هذا لكي أحملكم على أن تهمسوا بعضكم لبعض قائلين: «قد أجاد في مديحنا والثناء علينا، ولم يرَ سوى الصالح فينا.»

فإنني أنقل إليكم بألفاظي ما تدركونه أنتم بأفكاركم.

وهل المعرفة اللفظية سوى ظل للمعرفة غير اللفظية؟

لأنَّ أفكاركم وكلماتي ما هي عند التحقيق إلا أمواج تقذف بها بحيرة الذاكرة المختومة التي تحتفظ بدواوين ماضينا ومجرياته،

وحوادث الأيام المتصرمة عندما لم تكن الأرض تعرفنا، وكانت تجهل ذاتها أيضًا،

وأحلام الليالي عندما كانت الأرض خربة خاوية خالية.

قد جاءكم الحكماء قبلي لكي يقدموا لكم من حكمتهم، أما أنا فقد أتيت إليكم لكي أغرف من مَعِين حكمتكم.

وها أنا ذا قد وجدت ما هو أعظم من الحكمة، قد وجدت روحًا ملتهبةً فيكم، ما برحت تستزيد جمع مبعثرات ذاتها، غير أنكم كنتم وما زلتم غافلين عن اتِّساعها وتعاظمها، تنوحون وتبكون على أيامكم الزائلة.

فإن الحياة تفتش عن الحياة في أجسام الذين يخافون القبور.

•••

ولكن لا قبور ها هنا؛

لأنَّ هذه الجبال والسهول إنما هي بالحقيقة سرير ومرقاة، فإذا قادَتْكم خطواتُكم إلى الحقل الذي وضعتم فيه أسلافكم، فتأمَّلوا جيِّدًا جميع جهاته، تروا ذواتكم ترقصون مع أولادكم جنبًا إلى جنب.

فإنَّنِي الحقَّ أقول لكم، إنَّكم كثيرًا ما تفرحون وأنتم لا تعرفون.

وآخرون جاءوا إليكم وعللوكم بالمواعيد الذهبية التي تبنون عليها صروح إيمانكم، فوهبتم لهم ثروة وقوة وعظَمة.

أما أنا فقد أعطيتكم أحقر موعد، ولكنكم أظهرتم نحوي أريحية لم تُظهروها لسواي؛

فقد أعطيتموني تعطشي الشديد للحياة.

فإنَّنِي أصارحكم القول إنه ما من عطية في هذا العالم أجزل فائدة للإنسان من العطية التي تُحوِّل كل ما في كيانه من الميول والرغبات إلى شفتين محترقتين عطشًا، وتجعل حياته جميعها ينبوعًا حيًّا باقيًا.

وهو ذا فخري وأجري.

في أية ساعة جئت الينبوع متعطِّشًا أجد الماء الحي المتدفق من فم الينبوع متعطِّشًا أيضًا،

فيشربني هذا الماء كما أشربه.

وقد خَيَّلَ إليَّ البعض منكم أنني عَيوفٌ حييٌّ، فلا أقبل عطية من عطاياكم.

على أنني بالحقيقة أكره قبول الأجور، ولكنني لا أرفض العطايا.

وإنه غير خافٍ عليكم أنني كنت أتقوَّت بأثمار العليق والتوت بين التلال، في حين أنكم كنتم ترغبون في أن أجالسكم حول موائدكم.

وكنت أنام في رواق الهيكل في حين أن كلًّا منكم كان يفرح لو يتاح له أن يُئْوِيني في بيته.

ولكن أليست محبتكم الشديدة الممزوجة بدموع العناية بأيامي ولياليَّ هي التي جعلت الطعام حُلوًا في فمي، وحفَّت نومي بالوحي والأحلام؟

•••

لأجل هذا أبارككم من أعماق قلبي؛

لأنَّكم تُعطون كثيرًا ولا تعرفون أنَّكم تُعطون شيئًا.

الحقَّ أقول لكم، إنَّ اللطف الذي ينظر إلى ذاته في مرآة ينقلب حجرًا، والعمل الصالح الذي يسمي نفسه بأسماء جميلة يصير والدًا للعنة كريهة.

وقد دعاني فريقٌ منكم متوحدًا ثملًا بمحبة وحدتي.

أما أنتم، فقلتم بعضكم لبعض: لا تبالغوا في عذله وملامته، فإنه يحب أن يؤلف مجلسه من أشجار الأحراج، وليس من أبناء الإنسان وهو يستلذُّ الجلوس على رءوس التلال والنظر إلى مدينتنا.

وإنني بالحقيقة قد تسلقت التلال ومشيت في أراضٍ بعيدة جِدًّا؛

لأنَّه كيف أمكنني أن أراكم من غير أن أكون في علو شاهق أو بُعد شاسع؟

أو كيف يستطيع أحدٌ أن يكون قريبًا ما لم يكن بعيدًا؟

•••

وغيركم من كان يناديني، ولكن بغير الألفاظ، ويقول لي:

«أيُّها الغريب، أيُّها الغريب المتعشق ما لا يبلغ من الشاهقات، لماذا تقطن بين قنن الجبال حيثما تبني النسور أعشاشها؟

لماذا تسعى إلى ما لا سبيل للحصول عليه؟

أي نوع من العواصف تريد أن تصطاد لشَبَكتك؟

وما هي الطيور البخارية التي تفتش عنها في السماء؟

هَلُمَّ إلينا، وكن واحدًا مِنَّا،

اهبط من علوك، وسكِّن حدة مجاعتك بخُبزنا، وأَخْمِدْ لظَى عطشك بلذيذ خمرتنا!»

قالوا هذه الأقوال كلها في وحدة نفوسهم.

ولو كانت وحدتهم أعمق مما هي لأدركوا أنني لم أكن أسعى إلا إلى إدراك سر أفراحكم وآلامكم.

ولم أكن أصطاد سوى ذواتكم الكبرى السائرة نحو السماء.

ولكن الصياد قد صار صيدًا؛

لأن كثيرًا من سهامي لم تترك قوسي إلا لكي تسعى إلى صدري.

والطائر قد صار زحافة؛

لأنَّنِي عندما بسطت جناحي في الشمس، صار ظلهما على الأرض سلحفاة.

وأنا المؤمن صرت مرتابًا؛

لأنني كثيرًا ما وضعت إصبعي في جنبي رجاء أن أبلغ كمال إيماني بكم ومعرفتي لحقيقتكم.

•••

وبهذا الإيمان وهذه المعرفة أقول لكم:

إنَّكُم لستم محصورين في سجون أجسادكم، كلا، ولستم مقيدين بجدران بيوتكم وحدود حقولكم.

فإن الذات الخفية التي تمثل حقيقتكم تقطن فوق الجبال وتهيم مع الرياح؛ لأنها لا تدبُّ إلى الشمس مستدفئة ولا تتلمس طريقها في الظلمة مستنجدة، بل هي روح حرة طليقة تغلف الأرض وتركب دقائق الأثير.

•••

وإنْ جاءت كلماتي هذه غامضة على أفهامكم، فلا تسعَوْا وراء إيضاحها، فإن الغموض والسديم هما بداءة كل شيء لا نهايته.

وإنَّنِي بملء الرغبة أودُّ أن تتذكروني كبداءة.

والحياة، وجميع الكائنات الحية إنَّما تتصور أوَّلًا في الضباب وليس في البلور.

ومن يدري أنَّ البلور لم يكن ضبابًا متجمِّدًا؟

•••

وهذا ما أودُّ أن تحتفظوا به مع ذكراي:

إنَّ ما يبدو لكم ضعيفًا فيكم هو أقوى وأثبت ما في كيانكم؛ لأنه أليس لهاثكم هو الذي يقيم بنيان عظامكم ويشدده؟

بل أليس الحلم الذي لم يحلم به أحد منكم قط هو الذي بنى مدينتكم وعمل كل ما فيها؟

فلو كان لكم أن تنظروا مجاري ذلك اللهاث لما كانت لكم حاجة إلى أن تنظروا شيئًا آخر غيرها.

ولو استطعتم أن تسمعوا مناجاة ذلك الحلم لما كنتم تزعمون في سماع أي صوت آخر في العالم.

ولكنكم لا تنظرون ولا تسمعون، وحسنًا تفعلون.

فإن الحجاب المسدول على عيونكم سترفعه اليد التي حاكَتْه.

والطين الذي يسد آذانكم ستنتزعه الأصابع التي جبلته.

وحينئذٍ تبصرون.

وحينئذٍ تسمعون.

بَيْدَ أنكم لن تتحسروا على أنكم كنتم عُميًا أو صُمًّا؛

لأنكم في ذلك اليوم ستعرفون المقاصد الخفية في كل شيء،

وستباركون الظلمة كما تباركون النور.

وعندما قال هذا نظر حَوالَيْهِ، فرأى ربان سفينته منتصبًا أمام السكان، وهو ينظر تارة إلى الأشرعة وطورًا إلى البحر.

فقال:

إنَّ رُبَّان سفينتي واسع الصدر جزيل الصبر؛

فإنَّ الرِّيح تهب بعنف، والأشرعة مضطربة،

حتى إنَّ السُّكان نفسه يحتاج إلى من يديره،

ومع كل هذا فإن رُبَّان سفينتي ينتظر سكوتي،

وهؤلاء الملاحون رفقائي، الذين سمعوا جوق المنشدين في البحر الأعظم، قد أصغوا إليَّ بطول أَناة.

ولكنهم لن ينتظروا ثانية واحدة بعد.

فإنني على أتم الأهبة للسفر.

فقد وصل الجدول إلى البحر، وأُتيح للأم العظيمة أن تضم ابنها إلى صدرها مرة ثانية.

•••

فالوداع الوداع يا أبناء أورفليس،

قد غربت شمس هذا اليوم،

وأغلق علينا أبوابه كما تغلق زنبقة الغور أوراقها على غدها.

فكل ما أعطينا ها هنا سنحتفظ به،

وإذا لم يكن كافيًا لسد حاجاتنا، فإننا نأتي ثانية إلى هذا المكان، ونمدُّ أيديَنا معًا لمن أعطانا.

ولا تنسَوْا أنني سآتي إليكم مرةً أخرى؛

فلن يمرَّ زمن قليل حتى يشرع حنيني في جمع الطين والزبد لجسد آخر.

قليلًا ولا ترونني، وقليلًا وترونني؛

لأنَّ امرأة أخرى ستلدني.

•••

أودعكم وأودع الشباب الذي قضيت بينكم.

فإننا في الأمس قد اجتمعنا كما في حلم.

قد أنشدتم لي في وحدتي، وبنيت لكم من أشواقكم بُرجًا في السماء،

ولكن عهد النوم قد انقضى، والحلم قد مضى، ولسنا الآن عند بزوغ الفجر؛

لأن الظهيرة ترقص فوق رءوسنا، ويقظتنا قد تحوَّلت إلى نهار كامل، فيجدر بنا أن نفترق.

فإذا جمعنا شفق الذكرى مرة أخرى، فإننا حينئذٍ نتكلم معًا، وحينئذٍ تنشدون لي أنشودة أوقع في النَّفْس من أنشودة اليوم.

وإن اجتمعت أيدينا في حلم ثانٍ فهنالك سنبني برجًا آخر في السماء.

وعندما قال هذا أشار إلى الملاحين إشارة تُؤْذِن بالسفر، فرفعوا مرساة السفينة في الحال، وحلوا حبالها، وساروا نحو الشرق.

فصرخ الشَّعْبُ كله بصوت عظيم كأنَّه صادر من قلب واحد، وتعالى صراخهم في الشفق فحملته دقائق الهواء فوق البحر كأنَّه صوت بوق عظيم.

أما الْمِطْرة العَرَّافة فكانت صامتة وحدها، تُشيِّع السفينة بنظرها حتى توارت في الضباب.

ثمَّ تفرق الشعب كلٌّ في سبيله، بَيْدَ أنها ظلَّت وحدَها واقفة على شاطئ البحر تردد في قلبها كلمات المصطفى الأخيرة:

«قليلًا ولا ترونني، وقليلًا وترونني؛

لأنَّ امرأة أخرى ستلدني.»

***

 

النبي

وظلَّ المصطفى، المختار الحبيب، الذي كان فجرًا لذاته، يترقَّب عودة سفينته في مدينة أورفليس اثنتي عشرة سنة؛ ليركبها عائدًا إلى الجزيرة التي وُلد فيها.

وفي السنة الثانية عشرة، في اليوم السابع من أيلول شهر الحصاد، صعد إلى قنة إحدى التلال القائمة وراء جدران المدينة، وألقى نظرة عميقة إلى البحر، فرأى سفينته تَمْخر عباب البحر مغمورة بالضَّباب.

فاختلج قلبه في أعماقه، وطارت روحه فوق البحر فرحًا، فأغمض عينيه، ثمَّ صلَّى في سكون نفسه.

•••

غير أنَّه ما هبط عن التَّلة حتى فاجأته كآبة صمَّاء، فقال في قلبه:

كيف أنصرف من هذه المدينة بسلام، وأسير في البحر من غير كآبة؟ كلَّا! إنَّنِي لن أبرح هذه الأرض حتى تسيل الدماء من جراح روحي؛

فقد كانت أيام كآبتي طويلة ضمن جدرانها، وأطول منها كانت ليالي وحدتي وانفرادي، ومن ذا يستطيع أن ينفصل عن كآبته ووحدته من غير أن يتألم في قلبه؟

كثيرةٌ هي أجزاء روحي التي فرقتها في هذه الشوارع، وكثيرٌ هم أبناء حنيني الذين يمشون عُرَاة بين التلال، فكيف أفارقهم من غير أن أثقل كاهلي وأضغط روحي.

فليس ما أفارقه بالثوب الذي أنزعه عني اليوم ثمَّ أرتديه غدًا، بل هو بشرة أمزِّقها بيدي.

كلا، وليس فكرًا أُخلفه ورائي، بل هو قلب جمَّلته مجاعتي، وجعله عطشي رقيقًا خفوقًا.

•••

بيد أنَّنِي لا أستطيع أن أُبْطِئ في سفري.

فإنَّ الْبَحر الذي يدعو كل الأشياء إليه يستدعيني، فيجب عليَّ أنْ أَرْكب سفينتي وأسير في الحال إلى قلبه.

ولو أقمت الليلة ها هنا، فإنني — مع أنَّ ساعات الليل ملتهبة — أجمد وأتبلور وأتقيد بقيود الأرض الثقيلة.

وإنني أودُّ لو يُتاح لي أن يصحبني جميع الذين ها هنا، ولكن أنَّى يكون لي ذلك؟

فإن الصوت لا يستطيع أن يحمل اللسان والشفتين اللواتي تسلحن بجناحيه؛ ولذلك فهو وحده يخترق حجب الفضاء.

أجل، والنسر، يا صاح، لا يحمل عشه بل يطير وحده محلقًا في عنان السماء.

وعندما بلغ المصطفى سفح التلة التفت ثانية إلى البحر، فرأى سفينته تدنو من المرفأ، وأبناء بلاده يروحون ويجيئون على مقدمتها.

فهتف لهم من صميم فؤاده وقال:

يا أبناء أمتي الأولى، أَيُّهَا الراكبون متون الأمواج المذللون مَدَّها وجَزْرها!

كم من مرة أبحرتم في أحلامي! وها قد أتيتم ورأيتكم في يقظتي التي هي أعمق أحلامي.

إنَّنِي على أَتَمِّ الأهبة للإبحار، وفي أعماقي شوقٌ عظيمٌ يترقَّب هبوب الرياح على القلوع بفارغ الصبر.

ولكنني أودُّ أن أتنفَّس مرةً واحدةً في هذا الجو الهادئ، وأن أبعث بنظرة عطف واحدة إلى الوراء.

وحينئذٍ أقف معكم، ملَّاحًا بين الملاحين.

أما أنت أَيُّهَا البحر العظيم، أَيُّهَا الأم الهاجعة!

أنت أَيُّهَا البحر العظيم الذي فيك وحدك يجد النهر والجدول سلامهما وحريتهما.

فاعلم أنَّ هذا الجدول لن يدور إلا دورة واحدة بعد، ولن يسمع أحد خريره على هذا المعبر بعد اليوم، وحينئذٍ آتِي إليك، نقطة طليقة إلى أوقيانوس طليق.

وفيما هو ماشٍ رأى عن بُعد رجالًا ونساءً يتركون حقولهم وكرومهم، ويهرولون إلى أبواب المدينة.

وسمعهم يصرخون بعضهم ببعض من حقل إلى حقل، مردِّدين اسمه وكلٌّ منهم يحدِّث رفيقه بقدوم سفينته.

•••

فقال في نفسه:

أيكون يوم الفراق يوم الاجتماع؟

أم يجري على الأفواه أنَّ مسائي كان فجرًا لي؟

وماذا يجدر بي أنْ أُقدِّم للفلاح الذي ترك سِكَّتَهُ في نصف تَلَمِهِ، وللكرَّام الذي أوقف دولاب معصرته؟

أيتحوَّل قلبي إلى شجرة كثيرة الأثمار فأقطف منها وأعطيهم؟

أم تفيض رغباتي كالينبوع فأملأ كئوسهم؟

هل أنا قيثارة فتلامسني يد القدير، أم أنا مزمار فتمر بي أنفاسه؟

أجل، إنَّنِي هائم أنشد السَّكِينَة، ولكن ما هو الكنز الذي وجدته في السَّكِينَة لكي أوزعه بطمأنينة؟

وإن كان هذا اليوم يوم حصادي، ففي أية حقول بذرت بذاري، وفي أي فصل من الفصول المجهولة كان ذلك؟

وإن كانت هذه هي الساعة التي يجدر بي أن أرفع فيها مصباحي واضعًا إياه على منارتي، فإن النور الذي يتصاعد منه ليس مني؛

لأنني سأرفع مصباحي فارغًا مظلمًا،

ولكن حارس الليل سيملؤه زيتًا، وسينيره أيضًا.

قال هذا معبِّرًا عنه بالألفاظ، ولكن كثيرًا مثل هذا حفظه في قلبه من غير أن يعلنه؛ لأنه هو نفسه لم يقدر أن يوضح سره العميق.

•••

وعندما دخل المدينة استقبله الشعب بأسره، وكانوا يهتفون له مرحبين به بصوت واحد.

فوقفه شيوخ المدينة وقالوا له:

بربك لا تفارقنا هكذا سريعًا؛

فقد كنت ظهيرةً في شفقنا،

وقد أوحى شبابك الأحلام في نفوسنا،

وأنت لست بالغريب بيننا، كلا، ولا أنت بالضيف، بل أنت ولدنا وقسيمُ أرواحنا الحبيب؛

فلا تجعل عيوننا تشتاق إلى رؤية وجهك.

ثمَّ قال له الكُهَّان والكاهنات:

لا تأذن لأمواج البحر أن تفصل بيننا، فتجعل الأعوام التي قضيتها بيننا نسيًا منسيًّا؛

فقد كنت فينا روحًا محيية، وكان خيالك نورًا يشرق على وجوهنا.

قد تعشَّقتك قلوبنا، وعلقتك أرواحنا،

ولكن محبتنا تقنَّعت بحجب الصمت، فلم نستطع أن نعبِّر عنها،

بيد أنَّها تصرخ إليك الآن بأعلى صوتها، وتمزق حجبها بيديها لكي تظهر لك حقيقتها؛

فإنَّ الْمَحبَّة منذ البدء لا تعرف عمقها إلا ساعة الفراق.

ثمَّ جاء إليه كثيرون متوسلين متضرعين، فلم يردَّ على أحد جوابًا، ولكنه كان يحني رأسه، وكان الواقفون حوله ينظرون عبراته تتساقط بغزارة على وجنتيه وصدره.

وظل يمشي مع الشعب حتى وصلوا إلى الساحة الكبرى أمام الهيكل.

 

هوامش:

  1. النبي (1923) من أشهر كتب جبران، ترجم إلى أكثر من خمسين لغة، وهو يعتبر بحق رائعة جبران العالمية، مضمونه اجتماعي، مثالي وتأملي فلسفي، وهو يحوي خلاصة الآراء الجبرانية في الحب والزواج والأولاد والبيوت والثياب والبيع والشراء والحرية والقانون والرحمة والعقاب والدين والأخلاق والحياة والموت واللذة والجمال والكرم والشرائع وغيرها، حمل جبران بذور هذا الكتاب في كيانه منذ طفولته. وكان قد غير عنوانه أربع مرات قبل أن يبدأ بكتابته. وفي تشرين الثاني 1918، كتب إلى "مي زيادة" يقول "هذا الكتاب فكرت بكتابته منذ ألف عام..". ومن عام 1919 إلى عام 1923، كرس جبران جل وقته لهذا العمل، الذي اعتبره حياته و"ولادته الثانية". وساعدته "ميري" في التصحيحات، إلى أن وجد عام 1923 أن عمله قد اكتمل، فدفعه إلى النشر، ليظهر في أيلول نفس العام.  في عام 1931، كتب جبران بخصوص "النبي": "شغل هذا الكتاب الصغير كل حياتي. كنت أريد أن أتأكد بشكل مطلق من أن كل كلمة كانت حقاً أفضل ما أستطيع تقديمه". لم تذهب جهوده عبثاً: بعد سبعين سنة على وفاته، ما يزال يتداوله ملايين القراء في أنحاء العالم.
  2. جبران خليل جبران1300 - 1349 هـ / 1883 - 1931 م جبران بن خليل جبران بن ميخائيل بن سعد، من أحفاد يوسف جبران الماروني البشعلاني اللبناني، نابغة الكتاب المعاصرين في المهجر الأمريكي، وأوسعهم خيالاً أصله من دمشق، نزح أحد أجداده إلى بعلبك ثم إلى قرية بشعلا في لبنان وانتقل جده يوسف جبران إلى قرية (بشري)، وفيها ولد جبران. تعلم ببيروت وأقام أشهراً بباريس، ورحل إلى الولايات المتحدة سنة 1895 مع بعض أقاربه. ثم عاد إلى بيروت فتثقف بالعربية أربع سنوات، وسافر إلى باريس سنة 1908، فمكث ثلاث سنوات حاز في آخرها إجازة الفنون في التصوير وتوجه إلى أمريكا فأقام في نيويورك إلى أن توفي ونقل رفاته إلى مسقط رأسه في لبنان..له: (دمعه وابتسامة، عرائس المروج، الأجنحة المتكسرة، العواصف، المواكب، النبي).