يكشف الباحث المغربي هنا عن دور الترجمة في التواصل العلمي والثقافي والحضاري بين الشعوب، لتطوير المعرفة الفكرية والعلمية وتحقيق التقدم والازدهار. وعن أهمية توفير الإرادة الفعلية للنخب المثقفة والسياسية للنهوض بالبحث العلمي والاجتهاد، قصد بناء وتطوير المعرفة والعلم عبر سيرورة تجمع بين النظرية والتطبيق لخدمة المجتمع في مختلف الميادين.

الترجمة والتواصل العلمي والثقافي

المصطفى رياني

 

تقديم

ساهمت الترجمة على مر العصور في التواصل العلمي و الثقافي بين الأفراد والمجتمعات. وخلقت التقارب والحوار والتعايش بالرغم من الاختلاف اللغوي والحضاري بين الدول. وذلك عبر ترجمة الكتب والنصوص في مختلف أنواع المعرفة من فلسفة وعلم وأدب وفن. كما لعبت الترجمة دورا حاسما في نهضة وتقدم المجتمعات وانتقال الريادة العلمية من مجتمع إلى آخر، وخلق الإشعاع المطلوب في مختلف الميادين بتحقيق النقلة النوعية من عالم التخلف والانحطاط إلى عالم جديد متقدم ومزدهر، يؤمن بالعلم والمعرفة لبناء المستقبل. فكيف تعمل الترجمة على إعادة بناء المعرفة وإطلاق الدينامية الداخلية للتطور الفكري والعلمي؟ وما هو البعد التواصلي للترجمة في معادلة الحوار العلمي و الثقافي والتعايش السلمي بين الدول والمجتمعات الإنسانية ؟

الترجمة في معادلة الإبداع والتواصل:
يمكن تعريف الترجمة كعملية نقل النص الأصلي من اللغة المصدر إلى اللغة الهدف. تتطلب من المترجم إتقان اللغات المستعملة. وكذلك التوفر على ثقافة واسعة بالثقافات حتى يتوفق في ترجمة النص بطريقة سليمة، تعكس معنى ومضمون النص المترجم، لإرضاء المتلقي أو القارئ. كما تتطلب الترجمة عملا مضاعفا لإتقان العملية الترجمية والتعبير عن المعنى ومضامين النصوص بطريقة جيدة وبكل أمانة علمية.

بالإضافة إلى ذلك، تعتبر الترجمة عملية مركبة تتطلب عملا منهجيا وعلميا لتفكيك النص الأصلي إلى وحدات،  قد تكون كلمات أو جملا أو فقرات قصد البحث عن التكافؤ اللغوي والثقافي في اللغة والثقافة الهدف. لكن، وأمام اختلاف الأنساق اللغوية لكل لغة على المستوى المعجمي والنحوي والتركيبي، تصبح الترجمة الحرفية متجاوزة، لصالح الترجمة التي تعتمد التأويل والإبداع والبحث عن وحدات الترجمة النصية التي تتطلب من المترجم أن يكون مبدعا للوصول إلى ما وراء البنية السطحية للنص الأصلي، والكشف عن المعنى العميق والمركب خلف المعنى الظاهر والمباشر. كما يستعمل المترجم التأويل الثقافي لاستكمال الفهم الدقيق للمعنى في النص الأصلي لإنتاج النص الهدف. 

في هذا السياق، عرفت الترجمة تطورا كميا ونوعيا في سيرورتها التاريخية، سواء من خلال الكتب المترجمة من طرف المترجمين أو من خلال الدراسات البحثية المنجزة من طرف الباحثين. الشيء الذي سيساهم في ظهور الترجميات المعاصرة كتخصص علمي، يختص بدراسة الترجمة كسيرورة يقوم بها المترجم. وكذلك دراسة النص المترجم، باعتماد مقاربات علمية مختلفة، تجمع بين الأبعاد النظرية  والمنهجية والتطبيقية، للإجابة عن مختلف الصعوبات والاكراهات التي تقف في وجه المترجم، بهدف تجاوزها للوصول إلى تحقيق نص مترجم يتوفر فيه التكافؤ اللغوي والثقافي بكل أمانة علمية. تجعل من الترجمة عملا ممكنا يساهم في إغناء الحوار والتواصل بين اللغات والثقافات وتقريب المسافات والاختلافات.

2 - الترجمة و بناء المعرفة العلمية:
استطاع المجتمع الأوربي أن يحقق نهضته الفكرية والعلمية اعتمادا على ترجمة الكتب الفلسفية والعلمية لفلاسفة وعلماء الحضارة العربية أمثال ابن رشد وابن سينا والرازي والفارابي الذين وصلوا أوج إبداعهم بإسهاماتهم المعرفية في مختلف ميادين المعرفة والعلم، من فلسفة ومنطق والرياضيات والطب والهندسة. وقد استفاد الفلاسفة والعلماء العرب بدورهم  من ترجمة المعرفة الفلسفية اليونانية في العهد العباسي بشكل رسمي بإنشاء " بيت الحكمة " في بغداد في القرن الثامن الميلادي. و اشتغل المترجمون على إنجاز الترجمات في مختلف الميادين العلمية والفكرية. وكذلك تدريس وتكوين تراجمة متخصصين تحت إشراف حنين ابن إسحاق. فازدهرت الترجمة نظرا لتوسع الدولة العباسية على حساب عدة دول وثقافات منها الفارسية والهندية، بلغاتها المتعددة والمختلفة. جعلت من الترجمة والتواصل حتمية فكرية واجتماعية واقتصادية وسياسية.  لكن سرعان ما سيتعرض الفلاسفة والعلماء لواقع الحصار والتشكيك من طرف رجال الدين والسلطة السياسية. هذه الأخيرة وبممارستها للتضييق ومحاربتها للفلاسفة والعلماء، عملت على محاصرة العقلانية العربية وإفشال المشروع التنويري الذي كان يبحث عن التنوير العقلي والاختلاف والتسامح بين مختلف الثقافات في المجتمع العربي. الشيء الذي سيؤدي إلى الانحطاط والتأخر الثقافي والحضاري.

بالمقابل، سيتمكن المجتمع الأوربي من حمل مشعل المعرفة والعلم. وذلك بترجمة الكتب الفلسفية والعلمية العربية إلى اللاتينية بمدرسة طليطلة للترجمة بالأندلس في القرن الثاني عشر. ومن بينها كتب ابن سينا وابن رشد وبداية العقلانية الأوربية لاحقا مع رونيه ديكارت مرورا بفلسفة عصر الأنوار و تطور العقلانية كتصور فلسفي. يطرح أسئلة التطور والتقدم بأبعادها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وتنتقد سلطوية المجتمع الإقطاعي، وتعبر عن طموحات البورجوازية الناشئة.

في هذا السياق، يتبين كيف ساهمت الترجمة في التواصل العلمي و الثقافي والحضاري بين الشعوب، لتطوير المعرفة الفكرية والعلمية وتحقيق التقدم والازدهار. وخصوصا حين تتوفر الإرادة الفعلية للنخب المثقفة والسياسية للنهوض بالبحث العلمي والاجتهاد، قصد بناء وتطوير المعرفة والعلم عبر سيرورة متواصلة الحلقات. تجمع بين النظرية والتطبيق لخدمة المجتمع في مختلف الميادين من هندسة وطب وفلك ورياضيات والعلوم الانسانية. وستتمكن المجتمعات الأوربية من التطور وتحقيق ثورات وطفرات متواصلة الحلقات :  صناعية و علمية وتكنولوجية ورقمية.

بالمقابل، ستهيمن الدول المتقدمة على العالم بالعلم والمعرفة حين استعملته في السيطرة على الدول والمجتمعات للتحكم في مواردها الطبيعية والبشرية. بينما المطلوب هو توظيف المعرفة بمختلف أشكالها، لخدمة مصلحة الإنسان وازدهاره بدون تمييز أو إقصاء. وهذا يبين أن نظام العولمة الحالي بالرغم من بعض ايجابياته إلا أنه يظل غير منصف لجميع المجتمعات، حيث يتميز بهيمنة الثقافة الأنجلوسكسونية باستعمال اللغة الانجليزية على حساب لغات وثقافات العالم المختلفة والمتعددة.

3 - دور الترجمة في بناء التواصل العلمي:
أصبح التواصل العلمي بين الثقافات ممكنا وسريعا بفضل الترجمة واستعمال التكنولوجيا الرقمية التي تقرب المسافات والاختلافات بين المجتمعات. وذلك بترجمة الكتب والنصوص الورقية و الرقمية أو أثناء عقد الندوات والمؤتمرات. ولتوفير تراجمة وباحثين في الترجمة تم إدراج الترجمة كمادة للتدريس في الجامعات والمعاهد في أغلب دول العالم، نظرا لأهمية هذا التخصص في تكوين كفاءات، تنظيرا وممارسة في هذا الحقل المعرفي و العلمي الواعد، لمواكبة تطور البحث العلمي في مختلف الميادين .

هذا الأخير، يحتاج إلى أطر متخصصة في الترجمة قادرة على إنتاج ترجمات جيدة، تواكبه وتسنده لترجمة الكتب والمقالات العلمية أو النقاش والحوار سواء فيما يتعلق بالمصطلحات العلمية أو البحث عن التكافؤ اللغوي والثقافي في مختلف ميادين الآداب والعلوم والفكر. و تكتسب الترجمة أهمية بحثية رصينة لتطوير اللغة العلمية للغة العربية في علاقتها بلغات العالم. كما تساهم الترجمة العلمية من  وإلى العربية في انفتاح المعرفة العلمية بكل أبعادها و ما توصلت إليه الثقافات الأخرى من علم ومعرفة و العمل على تملكهما. وخصوصا حين يكتب الباحثون والمتخصصون  أبحاثهم العلمية باللغة الأم وترجمتها إلى لغات العالم.

إن المعرفة العلمية هي معرفة إنسانية تركيبية وليدة سيرورة متواصلة الحلقات. ساهم في إنتاجها وتطويرها باحثون متخصصون ينتمون لشعوب مختلفة من العالم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، و بلغاتهم الوطنية. لكن ما نلاحظه هو أن لغات وثقافات العالم أصبحت عبارة عن روافد، كلها تصب في لغة علمية عالمية مهيمنة وهي اللغة الانجليزية وثقافتها الانجلوسكسونية. تكرس مركزية الثقافة الأوربية والغربية بشكل عام. وتستعمل الترجمة بشكل كبير لنقل ما ينتجه الكتاب والباحثون المتخصصون إلى اللغة الانجليزية كلغة العولمة بامتياز، إلى جانب اللغة الصينية الصاعدة والمنافسة.

ولنا أن نتساءل: كيف للغة تحتل الرتبة الرابعة عالميا وتعتبر من اللغات الرسمية بالأمم المتحدة أن يتم التشكيك في علميتها ومصداقيتها؟ إن اللغة العربية هي لغة العلم والمعرفة بامتياز. تتطلب من الباحث والمتخصص والكاتب وكل الناطقين بها، استعمالها في أبحاثهم وإبداعاتهم، لأن في استعمالها وتداولها والإبداع بها،  يعتبر تأهيلا لها وتطويرا لقدراتها التواصلية والترجمية في معادلة البحث العلمي والتواصل الثقافي. كما يعتبر الانفتاح على لغات العالم كلغات وظيفية أساسيا، لاستعمالها قصد التواصل و الترجمة، وإغناء ثقافتنا بالعلم والمعرفة، وجعل البحث العلمي يواكب الطفرات العلمية والرقمية والتكنولوجية التي يعرفها العالم بسرعة ضوئية.

خاتمة:
إن المعرفة العلمية هي إنتاج إنساني مشترك ومركب، ساهمت كل المجتمعات في بلورته بفضل البحث العلمي، باستعمال الترجمة والتواصل اللغوي والثقافي. وهذا يفترض الاعتراف والإنصاف بجميع لغات العالم بدون استثناء ومن بينها اللغة العربية التي تشغل مكانة محترمة بين لغات العالم. تستحق أن تكون لغة علمية لغناها المعجمي والمصطلحي والأسلوبي والتركيبي. بالموازاة يظل الانفتاح على لغات العالم أساسيا وجوهريا، في عالم حولته العولمة إلى قرية صغيرة. يتطلب كثيرا من العمل الترجمي و التواصل اللغوي والثقافي، وفق مقاربة تتوخى الإنصاف والاعتراف بالآخر لتحقيق الحوار المنتج للتعايش السلمي ونبذ الحروب والحدود بين الأفراد والشعوب والثقافات.  

 

أستاذ باحث في الآداب والترجمة