تحكي الرواية عن جزء تاريخي هام في اليمن. بداية من ثورة التحرير حتى الاستقلال عن الاحتلال البريطاني، ويستمر المشهد التاريخي في المتن الروائي حتى 1994، هذا النسيج الروائي يدور في حلقة متكاملة بأفعال تواصلية سميولوجية تكشف وعي شخصيات الرواية من أجل إيصال عالمهم الثري والزاخر بالمعرفة، والثقافة المختلفة.

قراءة في رواية «نخلة وبيت»

هدى توفيق

 

التاريخ كمدلول سميولوجي تواصلي، ودلالي:

يمثل التاريخ الشاهد الأكبر، والمعبرعن ثقافة الشعوب المختلفة بين الدلائل المعرفية، والثقافية والاجتماعية الهامة، كمدلول سميولوجي تواصلي، ودلالي بارز من خلال أبطال روائية تحكي وتسرد بقدر عال من التخيل، وفنيات السرد، والصدق الفني؛ تدور في دائرة سميولوجية بوجه عام. وقد تقنن مصطلح السميولوجيا بما يساوي علم العلامات بكل مقترحاتها النقدية على المنتج الأدبي، ونخص بالذكرهنا رواية (نخلة وبيت)؛ التي تقع تحت مظلة (أبعاد السميولوجيا الثلاثة). كالتالي:

1ـ التعبير أو الجانب المادي من العلامة . 2ـ المحتوى أو ما يُعَبّر عنه، وله شكل غير ملموس. 3ـ المرجع أو الشئ الذي تحيل إليه العلامة، وله شكل ملموس (1).. (ولإدراك أوجه الاختلاف بين مصطلحي سميولوجيا التواصل، وسميولوجيا الدلالة: سننطلق من مفهومي المؤشر (indice). والإشارة (signal).(2)، كما تجلى من بداية الحكي حيث كان عمرالبطل (عوض). أنذاك في الثالثة عشرة . قائلا على لسان حاله: (لما تداعت الصرخات من الجهة الغربية للقرية على سطح منزل مبني من الطين، ذي الطابقين الذي تعتليه  " نوب " مطلية بلون أبيض ناصع. أتفقد حمامي الذي يسكن أقفاص صغيرة مربوطة بحبال من الليف تنحدر تلك الحبال المثبتة بأوتاد صغيرة من أعلى سطح البيت).(3)، مستطردًا بشاعرية وسيميائية مترابطة بين الصرخات التي سمعها من إحدى بيوت القرية السبعة أثناء وجوده على سطح بيته  بينما يراعي الحمام قائلا بحزن: (إحدى الحمامات، فقدت أبويها، قبل أن ينبت ريش جناحيها، أطعمتها كعادتي في كل ليلة قبل مغيب الشمس، ثم أعدتها إلى قفصها).(3).

إذاً: الإشارة إلى الحمام كمؤشرعلى السلام والحب والصفاء. يقابله صرخات موجعة أتية من إحدى بيوت القرية المجاورة له، كمؤشرعلى الألم والفقد والحزن الكبير، وقد ماتت حُسن والدة سعدان صديقه الذي يحبه بإخلاص. وذاك اليوم بالذات أطلق عليه عوض " سعدان .. أخي "، وهو يكن له حب شديد ويصفه كالتالي: (حب لأخ ببشرة سوداء، وقلب جميل، لن أقول قلبا أبيض، فلا توجد قلوب بيضاء، البياض خواء، أما الجمال فليس له لون واحد. بل تتدرج ألوانه وتسطع، كقلب سعدان).(4)، وهو يحاول أن يشاركه آلام الفقد بعد أن أصبح يتيم بوفاة أمه، وقبله والده، وهو بعد طفل صغير، وبقي له خاله الذي يعمل ويعيش في السعودية منذ وقت طويل، وعمته التي حضرت من إحدى قرى الصعيد مع زوجها وطفليها. إما ليأخذوه أو تبقى معه، وقد قررسعدان أن تبقى معه في بيت أخيها الوحيد " عبد إبليس " كما كان يطلق عليه سيده قبل أن يتحرر الجميع من العبودية، ويولد سعدان حر، بموجب ثورة التحرير في الرابع عشر من أكتوبر. ضد الاستعمار البريطاني، وسلاطين وأمراء اتحاد الجنوب (عدن). وأُطلق عليها ثورة الفلاحين والعمال؛ التي لم تكن فقط ضد الاستعمار. بل أيضا ضد الفساد والرجعية والظلم؛ الذي تسيد، وملأ الجميع لحد الثورة؛ التي بها تم جلاء الاحتلال في 30: 11/ 1967م.

المؤشرات السيميائية:

ومن ثم نجد أن إشارة الحمام في مقابل تلك الصرخات، التي أتت من الجهة الغربية للقرية، وملأت أفاق القرية حتى أذن عوض في بدء المتن الروائي. كانت بمثابة إشارات، وعلامات دالة على مؤشر سيميائي سيتوالى تكراره وحدوثه للبطلين: عوض سليل عائلة (النوامي). المعروفة بين القبائل. وسعدان سليل عائلة العبودية التي تتكون من: أمه حُسن، وأخيها سعدان، وأبيه سرور، وأخته الوحيدة. سرور كان عبدًا مملوكًا لدى جد عوض، وأمه حُسن كانت عبدة لسيد آخر، والتقاها سرور، وأحبها واستطاع أن يقنع سيده أن يشتريها من التاجر؛ حتى يتزوجها وتحققت أمنيته. لكن أخيها بيع لسيد آخر، وتفرقا كل في ناحية، وأنجبا سعدان الذي سمته على اسم أخيها الوحيد، وحُسن كانت تحب عوض كثيرًا، وأخبرته أنه يشبه جده للغاية، وهي تأنس إليه، وتحكي له الذكريات المؤلمة والموجعة من عمرها الماضي أثناء العبودية؛ التي تنحدر من  

 سلالة العبودية المذلة قائلا عوض باستفهام: (فقد قص علي والدي كثيرًا من قصص العبيد هنا، وأن كل عائلة تملك عبدا على الأقل وربما أكثر، وحين يحتاجون للمال يبيعونهم كأي متاع أو بهيمة يملكونها).(5)، والدليل على ذلك بالرغم أن الجميع تحرر، ولم يعد هناك عبيد في الجيل الجديد نهائيًا الذي يمثله: عوض، وسعدان، ونصر، والأحول، وسلمى، ومحمد، وطالب، وغيرهم، ولكن لا زال  بعض الناس ينادونه " العبد سعدان " الذي تربى وتعلم وسابق وكافح من أجل حياة جديدة؛ بسيرة طيبة وذكاء وتفان وإخلاص؛ حتى وصل إلى المرحلة الثانوية (البكالوريا). أربع سنوات في المدرسة الوحيدة في مركز (نصاب). التي تتبعها القرية. مثل كل الباقين الأحرار من أبناء القبائل الأخرى: كالنوامي والجراهمة وغيرها؛ التي كانت تتناحر وتتقاتل سواء في الجنوب أو الشمال. لكن واقع الحكي والسرد في الرواية كان في الجنوب، وبالتحديد في جنوب شرق اليمن . في قرية تتبع مركزمديرية (نصاب). وفيها مقر المدرسة الثانوي؛ التي قضى فيها الطلاب الستة دراستهم: (عوض ـ وسعدان ـ ونصرـ والأحول ـ ومحمد ـ وطالب). ثم تفرقت بهم دروب الحياة بين لقاء وفراق. حتى يلتقي سعدان والأحول وعوض في الغربة،في حي البطحاء في الرياض.

ورجوعًا للأم حُسن الصوت الرئيسي، والأهم التي تسرد لنا عن تاريخ العبيد، وتمثل العبودية من خلال الذكريات والميراث الذي عاشته. أثناء حديثها مع عوض سليل الأحرار، ويُشبه جده في الكرم والطيبة والمسالمة، وهي تبتسم له بحنان وحب قائلة: (أن أمها ماتت وعمرها ست سنوات، أصابها مرض أقعدها لشهور، وسبقها أبوها بسنة واحدة، وقد قتل بإحدى حروب القبائل، وحين انطفات نار تلك الحرب، وعمَ السلام، قبض سيدنا دية أبي، واشترى لنا ذلك اليوم لباسا جديداً، كان ذلك كرم منه كثير.. قالتها وهي تبتسم بنصف ابتسامة).(6)، وفي هذا الصدد نجد الباحث السميولوجي (لوى بربيتو) قدم تقسيمًا ثلاثيًا للمؤشرات.(#):

 ـ المؤشرات التلقائية، والمؤشرات التلقائية المفتعلة، والمؤشرات القصدية: و تلك المؤشرات الثالثة. ما يخص مجال اهتمامنا تطبيقًا على رواية (نخلة وبيت).أي: (تتكون من الأحداث أو الوقائع التي تمدنا بمعلومات أُنتجت قصدًا؛ لإيصال مضمون معين، ولا يتحقق لها هذه الغاية إلا عندما يدرك المتلقي نية المرسل في أن يبلغه بشئ ما).(7) ـ بمعنى أن ظهور الحمام في البدء، ووصف القرية ذات السبعة بيوت، ويخص الراوي بيت سعدان بالذات حين يروي: (دخلت مطرحًا . يجمع سبعة بيوت متجاورة، يملؤني الخوف، وأتمنى لو تقفل أذني تماماً، فلا أسمع شيئا البتة). (8) ويسترسل في الحكي عن بيت صديقه سعدان  الشاعر،والراقص، والمغني . متعدد المواهب والقدرات الفنية،رغم الأقدارالسيئة في حياته، وتدفعه دوما

للإنحسار والهزيمة والإنكسار. بداية من فقده أبيه ثم أمه وسلمى وسعاد وماله وعقله في بعض الأحيان، وقد قابل أبيه سرور من قبل العرافة في إحدى المرات التي جاوز فيها الحدود إلى الشمال في مدينة البيضاء، وكانت مشهورة بقراءة الطالع، وسألها عن مستقبل ابنه سعدان، ونصيبه من الحياة القادمة فأخبرته: (سيكون رئيسا للجمهورية، أو سيصاب بالجنون).(9). الذي تأكد ظهور بوادره، وسعدان يحاول أن يقف على يديه ويمشي رويدًا،رويدًا بثبات على راحتيه دون أن يتمايل أو يسقط . حين عاد من السعودية مطرودٍا أشر طردة مع صديقيه الأحول وعوض، والعودة المهينة لبلدهم الأم داخل صندوق أسفل حوض شاحنة مغلق من الخارج، إلا أن به فتحات من الداخل، توضع فيه إطارات الشاحنة الاحتياطية، وكل ما يستطيعون رؤيته أثناء السير في طريق العودة. هو صندوق مظلم به فتحات من الخلف. بينما كان مصمتا من الأمام و من كلا جانبيه، وحين أهانه خاله وزير القصر في  مدينة (جده)، ولطمه وبعثر بكرامته أمام الجميع. قبل أن يطرده ابن صاحب القصر بكل ضراوة وقسوة، وأرغمه على دفع غرامة تصليح سيارته الرياضية الغالية الثمن بتكاليف كبيرة. أخذت منه شقاء أربع سنوات في الغربة بكل سفاهة واستغلال. قائلا بتوجع:( حين ضربني بيده ولكمني، كان يضرب نفسه أيضا، ويجلد ظهره بسياط الرق، التي ظن أنه تحرر منها، ضربني ليثبت دون أن يتعمد،أن العبودية ما زالت ممسكة برقبته، وأن عتقه منقوص، وحريته مقيدة بقيود لا يراها).(10)، وتصبح حياته ملحمة مأساوية من الحرمان من كل من أحبهم، وحاول الاحتفاظ بهم في كل حياته. ليبقى في النهاية وحيدًا. يتعلم المشي بالمقلوب بأن يسيرعلى يديه بدلا من قدميه، وقد انتهجها من إحدى التشكيلات الرياضية؛التي شاهدها في المدرسه الفصل السابع الشعبة "أ"، وكانت من أصعب التمارين، ولا يتقنها إلا اثنان فقط يسيران ببراعة، وسعدان يحاول تقليدهما.

ولأن مؤشر البيت له دلالة معرفية بالغة الأهمية في العمق الروائي. كعنصر سيميائي يطرح وظيفة سميولوجية، كفعل تواصلي في تتمة التخييل الروائي، وتعميق الخطاب الإبداعي، فيصفه عوض كالتالي: (بيت صغير من الطين، له سور من إحدى جهاته، وبجانب السور مظلة صغيرة مصنوعة من سعف النخيل، وتحت المظلة قربة ماء من جلد الماعز، شربت منها مرات عديدة فهي على طريق عودتي من المدرسة،). (على بعد خطوات من باب البيت تقف نخلة شامخة، وحيدة مستقيمة لا انحناء فيها، ولا عوج، مما يجعل تسلقها أمرًا فيه بعض الصعوبة).(11). وتتوالى تلك المؤشرات القصدية داخل المتن الروائي من تصويرشكل البيوت في القرية الصغيرة، والوادي، والمدرسة الأولى. ثم في المدرسة الثانوية في المركز، والأسواق، ورعي الإبل والأغنام، والأرض، والأحجار، والنقوش، والخناجر الثمينة، والمواويل والحكايات الشعبية، والفن الشعبي؛ الذي يتقنه سعدان، وهو يرقص ويغني أغنية حجية قديمة دون أن يخطئ لحنا، أو تنشز حركة من حركات رقصه، وقبرأبيه ذات القبة الزرقاء، كل ذلك داخل الباحة التي تتوسط البيوت السبعة،  وقد أسموها قديمًا " حوط سبعة ".

سميولوجيا التواصل:

 كل تلك الأشياء تشير إلى العلامات الدالة على مؤشرات فاعلة، ومنطقية داخل المتن السردي . وتتوالى في رشاقة سردية، وتتعدى حدود القرية، واليمن كاملًا؛ بظهورسردية متوازية، ومكملة لتفعيل تلك العلامات المؤشرة لسميولوجيا التواصل. والدلالة كل على حدا. عندما اكتمل الحكي عن بلاد الغربة، وتعميق التهميش والظلم والمعاناة وراء البحث عن المال والراحة، ليقابلنا مجتمع مغاير تمامًا، وإن كان لا يختلف كثيرًا في نفس السوء والفاقة التي يعيشها هؤلاء البشر داخل أوطانهم الأم؛ لأن الأفكار والتوجه الطبقي والنظرة واحدة نحو تلك الطبقات من البشر. فلا يوجد اختلاف رغم تغيرالمكان والثقافة المتنوعة؛ لأنها تنزح من بئر واحد من التخلف والتحزب والقبلية والرعونة العشائرية، والتعصب القبلي والعرقي. وقد تمددت الأمور من سئ لأسوأ بالنسبة لهؤلاء الآتين الجدد داخل مجتمع مترف. ولكن لا زال يحمل على عاتقه نفس الأفكار، والمعتقدات نحو هؤلاء المغتربين الهاربين والمتسللين من أجل العمل، وجني ما يسد رمق العيش والحياة ؛هروبا من الحروب والتنازع بين القبائل وبعضها، وقلة الرزق والحيلة في مواجهة مصاعب الحياة.

نخلة وبيت كمؤشرات القصدية:

(هكذا تعتبر المؤشرات القصدية إشارات (signaux) يتحقق بواسطتها التواصل، مما يعني أن استعمالها هو ما يميز التواصل الحقيقي عن غيره.).(12)، وهذا ينطبق على نخلة وبيت. فقد جسدت النخلة والبيت التصورالأمثل باعتبارها مؤشرات قصدية، تشير إلى فحوى التواصل الذي أُنتج داخله شخصية سعدان وحُسن وسرور وخاله وعمته، وامتد البحث عن جذور العبيد التي كانت منتشرة قبل قيام ثورة التحرير في الرابع عشر من اكتوبر، وبها سميت المدرسة في القرية الصغيرة؛ كناية عن اليوم المصيري للشعب اليمني: (ولم يعد هناك أسياد وعبيد، فالكل أحرار سواسية أمام الدولة).(13)، وهذا يعني أن استخدام نخلة وبيت كعلامات مميزة، ودالة لخلق روح التواصل، والتفاعل كما أشار إيريك بويسنس: (أن دراسة الإشارة بأنواعها تكون أساس وموضوع سميولوجيا التواصل). وتتعدد النماذج في تعميق حالة التواصل الإبداعي بين الراوي والمتلقي. يتمثل: من بداية عتبة النص الروائي (نخلة وبيت)؛ التي تشير إلى بيت سعدان من نوع تلك البيوت القديمة التي بنيت من الطين المختلط بالتبن، وأمام البيت تقف نخلة شامخة وحيدة، لكنها قوية لا يستطيع أحد أن يتسلقها بسهولة، أو يزيلها؛ لأن لها جذور، وبقاء لا يستطيع أحد أن يمحيه، مع الإشارة إلى شخص سعدان القوي الذي ظل، ولا زال يعافر حظه السئ، والمجتمع يحاسبه على آثار وأحقاد الماضي؛ لأن والديه من العبيد، لكن قاوم، واجتهد، وذاكر، وتفوق، وسافر، وعمل في إحدى القصور في (جده)، وأهين على يد خاله، وتحدى الجميع بكل قوة وعناء شديد، من أجل الحفاظ على كرامته بعد أن تنازل عن كل ماله لابن صاحب القصر الطائش مقابل اصلاح سيارته الحمراء الرياضية الغالية الثمن، وقد صدمها بغير قصد من الخلف، وترك العمل، ولم ينحني اطلاقًا رغم احتياجه الشديد للعمل والرزق، لسبب معنوي أهم وأقوى. أنه لم يصبح عبد، وتحررالجميع، ولا ذنب له في ميراث الماضي الأليم. الذي خلفه من سلالته في زمن العبودية. لكن الحظ السئ لا يتركه حتى في طموحه الطبيعي أن يتزوج من سلمى، لأنها تناسب وضعه الاجتماعي والطبقي، ومن شدة حبه لها، أطلق عليها سماء إشارة إلى حلم جميل، ولكنه بعيد مثل السماء، ويتمنى الوصول إليه، ولكن للأسف الشديد حتى سماء رفضته، وقالت بكل وقاحة: (لا أريد رجلا أسود). وهكذا تتحقق الإشارية في الكثير من الأشياء الملموسة من خلال العديد من الإشارات؛ التي تصور، وتحقق غاياتها التأويلية (الدالة). بواسطة (عناصر سيميائية أي عناصر مجردة). (14) ـ (إذا الفعل السيميائي هو باختصار سلوك ملموس غايته التعريف بحالة وعي ملموسة).(15)، لأن كما أشار (لوي بربيتو). أن (اعتبر اللسانيات وسميولوجيا التواصل وسميولوجيا الدلالة، ثلاثة علوم يتداخل كل واحد منها مع الآخر بصورة متتابعة).(16).

الرواية تعبر وتحكي عن جزء تاريخي هام في اليمن. بداية من ثورة التحرير في الرابع عشرمن شهرأكتوبر. حتى الاستقلال عن الاحتلال البريطاني، وما قبلها، ثم اقتتال في عدن في 13/ يناير 1986م. وحروب القبائل بين الجراهمة والنوامي، وتوحد اليمنان، ويستمر المشهد التاريخي في المتن الروائي تقريباً حتى 1994م، وعوض يحكي عن تجربته في الحرب أثناء انضمامه في الجيش لأحد الألوية الجنوبية. وظهور الجولات. كنقلة جديدة في مظاهر الحياة، وكعنصر جديد يدخل حياة الجميع.

هذا النسيج الروائي يدور في حلقة متكاملة بأفعال تواصلية سميولوجية بين الدال والمدلول من خلال المؤشرات القصدية أي إشارات (signaux). كما ذكرنا في بدء القول: عن تقسيم الباحث السميولوجي (لوي بربيتو) تقسيمًا ثلاثيًا للمؤشرات، وعناصر تلك الحالات المشتركة في وعي أفراد الرواية الذين يتواصلون؛ من أجل إيصال عالمهم الثري والزاخر بالمعرفة، والثقافة المختلفة، والمرتبطة بتلك الجغرافيا. تؤسس على التالي:

 1ـ البنية السردية المكانية والزمانية.

2ـ الشواهد التاريخية، والثقافة المتجذرة بأساطيرالأولين، والميراث القديم من علية القوم وأسفلهم، حين حكى الأحول عن النظرة إلى البنغالي. أن النساء لا يغطين وجوههن عنه، وحين آتي أنا معه يبادرن بالحجاب، وقد ظن أن هذا أمر حسن وميزة جيدة قائلا:( أن بعض المهن تعري المجتمع، وتبين مساوئه، ومع ذلك فقد كنت أوفر حظا من رفيقي لكونه عربيًا، لكن لم تصل إلى مرتبة مُرضية، بينما البنغالي كانت النظرة له اشد قسوة، والمعاملة تفتقد للإحترام).(17).

 3ـ الأحلام الحقيقية، وأحلام اليقظة لأبطال الرواية من الجيل الجديد، الذين ولدوا أحرار، لكن لا زالوا يعانون من التهميش والظلم والفقر. نموذج: حُسن، وسعدان، وغيرهم. أو حتى المنتمين لقبائل حرة معروفة، وذات وجود، وأصول. نموذج: عوض، والأحول، وغيرهم من قبيلة النوامي، والجراهمة. كحلم عوض في الغربة بعد أن نام في غرفة سعدان: (حلمت أنني ما زلت عالقاً بين حدود البلدين، يطاردني المجانين من الجنوب، ومن الشمال يصوب الجنود بنادقهم نحوي، بل ويطلقون رصاصاتهم، فتمر بجانبي، أسمع أزيزها، فأقوم فزعاً، ثم أستعيذ من الشيطان، وأعود لأنام من جديد بعمق أكثر، دون أن أحلم بشئ أبداً).(18)،

4ـ الحوار: الذي يتجه في بعض الأحيان لوجهة فلسفية وتأملية، ولو بعض الشئ. بين عوض وسعدان أو بمفردهما. وتأخذ نبرة التعالي أحيانا، وأراها ربما تتجاوز وعيهم الروائي إلى حد ما. كسؤال عوض عن قيمة السؤال عن الموت وفقد الحياة. وإنما السؤال الأجدى من وجهة نظره:( ربما هو كيف نبتت حياتنا ونمت، لا كيف هرمت وماتت). (19). عندما عاش موت حُسن، ووالد نصر، والرصاصة التي أصابت صهره محمد أثناء حروب القبائل، وخشى أن يموت في أحضانه، وهم ينقلوه سريعا إلى المستشفى. أيضا سؤال سعدان بممرارة عندما غير خاله اسمه إلى سعدا قائلا: (لماذا نتنازل كثيراً في هذه الحياة .. حتى يصل الأمر لأن يتخلى أحدنا عن اسمه كما فعل خالي).(20)، ويفسر لعمته اسم سعدان الذي صارسعدا. تقول العمة أن سعدان هو مضاعفة للفظ سعد، وأن هذا معناه. (لكني جادلتها بأن لي وجهة نظر أخرى. قلت لها، إنه سعد واحد، ولكنه معرف، إن سعدان معناه " السعد " بدت مستغربة، فشرحت لها مرة أخرى). لأن (قديمًا كانت لغة تكتب سطورها بخط المسند، ومن قواعدها أن التعريف يأتي بآخر الكلمة، وتعرف الكلمات بألف ونون بعد الاسم المعرف، بل ملتصقة به كذيل " السعد " ينطقونها " سعدان").(21).

تتم كل هذه الأحداث الروائية من خلال حقبة تاريخية محددة من تاريخ اليمن. في إحدى القرى التي بها حُسن ترعى أغنامها في الوادي، ويسكن بها سعدان في مطرح به سبعة بيوت متجاورة أطلق عليها قرية السبعة، تتبع مركز مديرية  (نصاب) في جنوب شرق اليمن، تحمل طابع سيكولوجي، وسيوسولوجي به العديد من المؤشرات على الخلفية الاجتماعية، والوضع الاقتصادي. من رعي الأغنام والإبل وزراعة الأرض . وقد كان الأولين يُسمون كل شئ من الأماكن، والآبار، والحصون، والسدود، والدواب، والأشجار حتى الصخور الكبيرة. مثلما أطلق سعدان على الناقة البيضاء شديدة البياض اسم (سحاب)، والأخرى تميل للحمرة اسم  (ريمة).حين أعطاهما له والد عوض ليرعاهما في مقابل أن يكون له النصف فيما يأتي منهما. وعندما ماتت سحاب أثناء ولادة (الحوراء) أتت باسمها كما أشار سعدان، وكان اسمها سحاب أيضاً. ويعبر عن نفسه قائلاً: (أرواح الإبل تألفني كثيراً).(22)، وأيضاً يجيد أغاني الرعاة وحداء الإبل؛التي تجعلها تحث السير مسرعة ويعرف لغتها، والمواويل، والحكايات الشعبية، وهذه المواويل تطرب لها جماهير القرى والبدو. وينطق سعدان عوض بسكون الواو مثل لهجة بعض البدو من القبائل المجاورة؛ الذين ينطقونها هكذا دون بقية الناس قيقولها " عوْض ". ومن ثم (وينطلق لفظ السيمياء (le seme). على كل إجراء عُرفي يُمكن إنجازه الملموس والمسمى الفعل السيميائي  actesenique). من تحقيق التواصل).(23)، فتلك الأفعال السيميائية تُمكن  من إنجاز زمن الأشياء، والأعراف الاجتماعية داخل قرية السبعة، واستطاعت أن تحقق التواصل مع تلك البيئة، من خلال الإشارات المرتبطة بها من: رعي الأغنام والإبل، وزراعة الأرض، ومضغ القات الشهيرة به، ونشوته، والأغاني الشعبية؛ التي منها تحث الأبل على السير، كما ذكر من قبل. و( مواويل حراثة الأرض بالأبقار، وحين الري، وثالثة حين جني المحصول . تلك الأهازيج التي تعين المزارعين على مكابدة الأرض وفلاحتها، وأغاني الرعاة تعجب سعدان).(24). والراوي المتعدد الأصوات من عوض وسعدان ينقلنا من دفقة شعورية قوية من واحدة لأخرى.

 كما نلاحظ يعبرالتاريخ كمدلول سيميولجي تواصلي هام. بداية من عتبة النص المعنون (نخلة وبيت).  لأنه قد بات جزء أساسي له وظيفة سميولوجية تواصلية؛ بإفراز عناصره الوظيفية داخل السرد الروائي. وأصبح جزء منطقي، ويصنف كتجريد، ويقوم بالتجريد بكيفية طبيعية لنا، رغم أن النخلة والبيت أماكن صماء جماد لا يتحدثان أو يفكران أو يشعران مثل أي كائن حي . ولكن من خلال الفعل السيميائي وتوظيف عناصره، بأن أصبحت تلك الأشياء المجردة تؤدي إلى المعنى المحسوس بواسطة العلاقات الاجتماعية التي تخلق روح التواصل، بل أصبحت جزء أساسي من هذه الإدراكات . تلك التي تكون مشتركة بين مختلف الأداءات؛التي تُعمق طرق التعارف بين البشر داخل العنوان الأشمل (نخلة وبيت)، كمؤشرات قوية على لغة التواصل والتفاعل، وتوافر دلالاته السيميائية في خلق فعل سيميائي موظف على طاولة الطرح الروائي ككل داخل النسيج الإبداعي . فيكفي أن (يتكرر العنصر الوظيفي). بالنسبة إلينا ليقوم بدوره كاملاً داخل العالم الروائي. لأن:( قلما نكون واعيين بالفرق بين الدلالة المجردة للسيمياء وحالة الوعي التي هي اساسها الملموس. لكن من السهل أن نجعل الفرق واضحا بكيفية تجريبية).(25). نموذج (نخلة وبيت).التي تعبر عن الدلالة الواضحة الملموسة، والفاعلة في تحقيق التواصل السميولوجي بشكل كبير. تحت عنوان لرمز هائل المكونات الوظيفية بعناصره المتعددة داخل التخييل الروائي، والتفعيل الحركي لكل أحداث العمل الإبداعي الممتد في موازاة مع تاريخ اليمن. بل أصبح هو نفسه (جزء من هذه الإدراكات: تلك التي تكون مشتركة بين مختلف الأداءات).(26) ـ، ومن ثم (نلمس هنا ما يمكن تسميته بالوظيفة الإشارية (((deictique.(27)  نقول مثلا: هذا الاسم مرتبط بهذا الشخص أو الشئ الملموس.(فالسيمياء تتحقق بشكل ملموس). (27). مثل نخلة وبيت تشيران إلى بيت سعدان الذي ولد حرًا، لكن للظلم والقهر والإرث المتخلف، لا زال البعض يناديه العبد سعدان رغم تحرر الجميع، وما يلي ذلك من كل الحدوتة الكبيرة التي عشناها معه على مدار الزمن الروائي منذ الطفولة حتى الشباب. وعاش ومارس حياته منذ ثورة التحرير، والاستقلال والاقتتال في عدن، والحروب بين القبائل، والسعي لتوحد اليمنان حتى رسالة عوض التي أتته منه أثناء وجوده في الغربة بتاريخ 2/ 11/ 1994م . وتحكي عن تجربته في الحرب التي شعر فيها بهزيمة شاملة، وهو يئن ويتوجع بقوله: (رجل مهزوم، وجيش مهزوم، بل ووطن مهزوم).(28). ويتشابك التاريخ مع ارتباطه بتلك الفئات الاجتماعية في قرية السبعة  على عتبة نخلة وبيت، ويتحدث عن نفسه وعمقه على لسان حال سعدان قائلا بعذوبة سردية، ومرارة الفقد، وهو يرحل إلى عالم الغربة الجديد عليه، وقد هجربيته ونخلته الشامخة داخل قرية السبعة، وكل ماضيه وتاريخه. بعد أن فقد أبيه، وأمه، ومن تمنى أن يتزوجها سلمى التي أطلق عليها سماء في أشعاره وأغنياته. (دونت في قرارة نفسي، بداية رحلة حياة، لم تبدأ منذ عشرين عاماً، بل بدأت ذلك اليوم، فتلك الحياة الأولى بناسها وقراها وأغنامها وإبلها، وكل دوابها، كل ذلك لن أجده في حياتي القادمة، فأمامي مدينة تطل على البحر، وتجاور بيت الله الحرام، وهناك خالي الذي أسموني باسمه، فتخلى عن اسمه ليتركني أنا الوحيد بهذا الاسم " سعدان " السعد القادم من بعيد، من بلدة لم تُدون بالخريطة، بلدة عاش فيها أبي وجدي،هي موطني، وليس لي منها سوى نخلة وبيت).(29).

 

صدرت رواية (نخلة وبيت) عن دار نشر عناوين ـ حضرموت، اليمن، الطبعة الأولى 2021م. للكاتب: عيدروس سالم الدياني.

 

هوامش:

1ـ انظرالمصدر: السميولوجيا والتواصل . إيريك بويسنس: ترجمة وتقديم: جواد بنيس ـ رؤية للنشر والتوزيع ـ الطبعة الثانية: 2017ـ ص: 8، 9: هامش داخلي: (1) ـ انظر أمبرتوإيكو Lesigne bruxelles Labor 1988 p 36

2ـ المرجع السابق: ص: 11

3ـ نخلة وبيت: ص: 3

4ـ نخلة وبيت: ص: 17

5ـ نخلة وبيت: ص: 8

6ـ نخلة وبيت: ص: 9

7ـ المرجع السابق: ص: 12

8ـ نخلة وبيت: ص: 4

9ـ نخلة وبيت: ص: 69

10ـ نخلة وبيت: ص:146

11ـ نخلة وبيت: ص: 5

12ـ المرجع السابق: ص: 12: 13: هامش داخلي: (2): ولد بويسنس بمدينة غان ببلجيكا سنة 1900حصل على الدكتوراه في الأدب المقارن سنة 1923، وأصبح أستاذًا للتعليم العالي بالجامعة الحرة لبروكسيل، حيث درَّس النحو المقارن للغات الهندوأوروبية، وأنشأ درسَّا خاصا بسوسيولوجيا اللغة . وفي سنة 1970 أنُتخب عضوًا في الأكاديمية الملكية للعلوم والآداب والفنون الجميلة ببلجيكا. نشر دراسات عديدة في اللسانيات والسميولوجيا، إضافة إلى مجموعة من الكتب.

13ـ نخلة وبيت: ص: 28

14ـ المرجع السابق: ص: 63

15ـ المرجع السابق: ص: 63

16ـ المرجع السابق: ص: 14

17ـ نخلة وبيت: ص: 160

18ـ نخلة وبيت: ص: 165ـ 166

19ـ نخلة وبيت: ص: 16

20ـ نخلة وبيت: ص: 104

21ـ نخلة وبيت: ص: 102ـ 103

22ـ نخلة وبيت: ص: 24

23ـ المرجع السابق: ص: 39

24ـ نخلة وبيت: ص: 74

25ـ المرجع السابق: ص: 61

26ـ نفسه: ص: 55

27ـ نفسه: ص: 62

28ـ نخلة وبيت: ص: 139

29ـ نخلة وبيت: ص: 114