يكتب محرر (الكلمة) عن الأسباب التي حدت به إلى تحويل المجلة، بعد مسيرة تجاوزت خمسة عشر عاما، من شهرية إلى فصلية، بعدما أبهظ العمل التطوعي في مجلة شهرية كاهل بعض محرريها وهو في طليعتهم، وعن المتغيرات الشخصية منها والموضوعية وراء هذا القرار الصعب.

ليس وداعا .. وإنما تغيّر

صبري حافظ

 

بعد أن أكملت (الكلمة) عامها الخامس عشر، في نهاية العام الماضي، فكرت كثيرا في التوقف عن إصدارها، مع أبقاء كل أعدادها مفتوحة للقراء على موقعها. لأن استمرار عمل ثقافي مستقل، وبهذا المستوى الذي حرصنا على الحفاظ عليه قدر طاقتنا، ولخمسة عشر عاما، كان أمرا كافيا لتأكيد قيمة الثقافة الحرة المستقلة عن مؤسسات التردي والتبعية والهوان. وأظن أنه يظل كافيا للتأكيد على أهمية الثقافة بما فيها من أدب إبداعي – بكل أجناسه المختلفة من شعر وسرد ومسرح ونقد – أو انتاج مادي عمراي أو تقني لبلورة بنية تحتيه إنسانية وأخلاقية تساهم في ترقية أي مجتمع من المجتمعات، وتبقى متجذرة في العمق برغم كل عصف بها أو تدمير. وهو الأمر الذي جعل (الكلمة) التي حرصت على تربية ذائقة أدبية سليمة من خلال إعلاء القيمة الأدبية والاستقامة الفكرية، وتجنب الحسابات الصغيرة، ومواجهة الأجندات الفاسدة، نبراسا لتلك القيمة وتجسيدا مستمرا لها. كما التزمت (الكلمة) طوال تلك السنوات بموعدها الشهري مع القارئ، تحرص عليه احتراما منها لنفسها ولقارئها في آن. وهما قيمتان ثقافيتان مهمتان، تحرص عليهما مواصلة لتقليد بدأه طه حسين مع (الكاتب المصري) – وحافظ عليه أبناؤه الذين تدرب محررها مع أحد قاماتهم العالية، يحيى حقي في (المجلة) – والتزم به محررها الذي يعتبر نفسه من أحفاده. في زمن لم تعد المجلات الثقافية التي تقف وراءها ميزانيات ضخمة وحكومات ثرية تعبأ بالتزامها مع القارئ أو موعدها معه.

والواقع أن تراكم أرشيفها على موقعها، وفتحه كلية للقراء، بأعداده التي تجاوزت الآن مئة وثمانين عددا لخير دليل على ما قامت به من دور ثقافي فريد. صحيح أن سرقة أرشيفها – الذي حوله اللص الكويتي إلى موقع باسمه، ولم يستطع الاستفادة منه في تمويل مشروع ثقافي كالكلمة – حرمها مما خططت له من أن يكون لها مصدر مستقل لتمويل استمرارها واستقلالها ذاك. وجعلها تعتمد كلية على جهود فرسان أسرة تحريرها التطوعية، وخاصة الفرسان الثلاثة الذين بدأوا مع انطلاق مسيرتها عام 2007 – أثير محمد علي، وعبدالحق ميفراني، ومنتصر القفاش، وواصلوا الالتزام بها مع كرّ السنين.

وكان هناك عامل شخصي آخر، فضلا عن الشعور بأن عبء العمل التطوعي يبهظ كاهل الكثيرين في هذا الزمن العربي الرديء، وهو أن العمر تقدم بي – فقد بلغت الثمانين في العام الماضي – وأخذت أمراض الشيخوخة نصيبها مني، ومن طاقتي على العمل، وبدأت تؤثر على قدرتي على الاستمرار، بعدما تخطيت تلك العتبة الصعبة – عتبة الثمانين. كما أن الأمر نفسه حدث مع بعض أعضاء أسرة التحرير، فتوقف اثنان رغم أنهما يصغراني كثيرا – منهما سلام إبراهيم الذي انضم لنا بعد سنوات من البداية وقام بعبء باب سرد لعدة سنوات - بسبب المرض وإجهادات الحياة القاسية في زمن لا يرحم. ومع أن هناك من تطوع لسد هذا النقص، ولكنه كان تطوعا موقوتا، لم يتمكن حقا من أن يقوم بالدور الذي كان منوطا بمن توقف عن العمل، ناهيك عن استحالة أن يحل كاتب مكان آخر، دون أن ينطوي الأمر على تغيرات في التوجه والمعايير.

وحينما فاتحت بعض أعضاء أسرة التحرير في أمر التوقف الكلي ذلك استهجنوه، ورفضه بعضهم بشكل مطلق. واقترح أكثر من واحد تحويلها إلى مجلة فصلية، تخفيفا لعبء العمل الشهري الذي يتطلب طاقة شابة ودماء جديدة، على أمل أن يتقدم من يرى في نفسه من الشباب القدرة على النهوض بهذا العمل بشكل شهري، وما عليه/ها إلا الاتصال بي على بريد الكلمة المدون على موقعها. وهو الأمر الذي بدأت أميل إليه بعد طول تأمل وتفكير. وما عزز ميلي إلى الصدور الفصلي، أن أمورا كثيرا تغيرت في الفضاء الرقمي الذي كانت (الكلمة) من رواد استخدامه لنشر مجلة ثقافية عابرة للحدود العربية – جغرافية كانت أو رقابية.

وأهم هذه المتغيرات تلك القفزة العملاقة في عدد مستخدمي الانترنت في العالم العربي. وهو الأمر الذي وعته (الكلمة) طوال مسيرتها، واهتمت بالاستجابة له. فبعد أن كان عدد مستخدمي الانترنت في العالم العربي وقت تفكيري في إصدار (الكلمة) عام 2006 لا يتجاوز ستة ملايين، وكانت الوسيلة الوحيدة للاتصال بتلك الشبكة الرقمية هي الكومبيوتر. تغير هذا الأمر بعد عشر سنوات من صدورها تغيّرات جذرية واسعة. فأصبح وقتها (2016) عدد مستخدمي تلك الشبكة في العالم العربي أكثر من عشرة أضعاف مستخدميها حينما انطلقت (الكلمة). كما استطاعت المجلة في الفترة نفسها أن تستقطب اهتمام الكثيرين من مستخدمي الشبكة الرقمية العالمية خارج العالم العربي، فلم تبق بقعة في كوكبنا الأرضي من أقصى شماله في كندا واسكندينافيا وروسيا، إلى أقصى جنوبه في استراليا ونيوزيلندا حتى استقطبت (الكلمة) فيها قراء ومتابعين.

لكن التغير الأهم الذي حتم علينا الاستثمار في تطويرها بعد عشر سنوات من صدورها وتحديث موقعها عام 2016 جرى حينما تجاوز عدد من يستخدمون الشبكة الرقمية، من خلال أدوات جديدة كالأجهزة اللوحية والتليفونات الذكية، عدد من يستخدمونها من خلال الكومبيوتر عدة مرات. وهو الأمر الذي تواصل في النمو حتى تجاوز عدد مستخدمي الشبكة الرقمية في عالمنا العربي الآن المئتي مليون – في عالم عربي تجاوز تعداد سكانه 430 مليون نسمة. وقمنا وقتها بالاستثمار في إعادة تجهيز موقع (الكلمة) الذي كان مصمما عند انطلاقها من أجل مستخدمي الكومبيوتر وبرامج تصفحه المختلفة. وهو الأمر الذي ترافق مع وفود جيل جديد من القراء من مستخدمي الأجهزة اللوحية والتليفونات الذكية؛ مع تغيير شركات المعلومات الكبرى من «جوجول» و«ميكروسوفت» لبرامج التصفح فيها، والتي تخلى بعضها عن دعم التقنيات القديمة التي كانت تنهض عليها برمجة (الكلمة). وقد استطعنا – كما ذكرت – إعادة برمجة (الكلمة) لتحسين مقروئيتها على كل المتصفحات الجديدة. واحتفظنا بقرائها القدامى، وانضم لهم عدد كبير من القراء الجدد.

لكن المتغيرات لا تتوقف، فقد امتدت أيادي شركات الشبكة الرقمية الطويلة إلى أدق خصائص الحياة اليومية لهذه الملايين الجديدة من مستخدميها. وأتاحت لهم، من أجل السيطرة عليهم والاستفادة من تدفقهم على منصاتها، وهم التعبير والكتابة والنشر دون تأجيل أو رقابة – وخاصة من خلال الفيس بوك واليوتيوب وأشباهه من مواقع التدوين وقنوات الدردشة – بدلا من اللجوء لمجلة ثقافية رصينة مثل (الكلمة). أقول وهم التعبير، لأن تلك الشركات العملاقة – وليس من قبيل الصدفة أنها كلها، من فيس بوك وجوجول وميكروسوفت أمريكية – تستهدف استخدام كل هذا التعبير عبر خوارزمياتها الذكية في دمج الجميع في آلة الرأسمالية الاستهلاكية النيوليبرالية المتوحشة، وتحت سطوة الهيمنة الأميركية على الخطاب السائد، ومنهج الحياة والتصورات المستساغة.

ومما يحزنني كمتابع لتلك المتغيرات أن أجد كثيرا من الكتاب، والكتاب المحتملين، يبددون جزءا كبيرا من طاقتهم في «الفيس بوك» وأشباهه. وقد استقطبهم فيه هذا الوهم بالتعبير، بدلا من انفاق تلك الطاقة في عمل يُنشر ضمن سياق مؤثر ومغاير كلية لسياقات النشر الجهنمية في شركات الهيمنة العملاقة تلك. أقول الجهنمية لأنها بالفعل كذلك، لا توفر لهم وهم التعبير عما يريدون كتابته فحسب، ولكنها تدغدع – بوصلاتها الشبكية وبعداداتها المختلفة من إعجاب أو استهجان – الجانب الفردي على حساب الجوانب الجمعية والقيمية. وتحولهم علاوة على ذلك إلى أقنان في آلة المعلوماتية الضخمة التي تستخدم عملهم المجاني في تخليق خوارزميات السوق والسيطرة، وتنتج بهم وعبرهم عوائدها الفلكية.

ولم تصرف مسارب التعبير والتغيرات الجهنمية تلك الكتاب والنصوص المحتملة عن مسارها الصحيح فحسب، ولكنها صرفت أيضا عددا كبيرا من القراء المحتملين عن متابعة المجلات الجادة، ووجهت عددا أكبر منهم إلى متابعة تلك الصفحات الشخصية والمدونات. والواقع أن أثير محمد علي قد نبهتني إلى ضرورة أن يكون هناك شخص متخصص في إدارة موقع (الكلمة) على فيس بوك، والذي تأسس مع تطويرها لملاءمة الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية قبل أكثر من خمس سنوات، ولكنه ظل خاملا. ولو رأي أحد من محبي (الكلمة) في نفسه القدرة على التطوع للقيام بهذا العمل، فإنني أناشده أن يتصل بي كي ينشّط موقعها الخامل ذاك.

بعد تناول تلك المتغيرات – الشخصية منها والموضوعية – أقول أنني أميل الآن إلى إصدار (الكلمة) بشكل فصلي، ليس فقط لأن هذا هو أقصى ما في طاقتي الآن، وقد تبدد الكثير منها بين زيارات الأطباء والمستشفيات بعدما كنت لا أقربهم أبدا. ولكن أيضا لوعي بأن أن عالمنا العربي ما يزال بخير، ومازال في حاجة إلى مثل تلك المجلة. لم يفقد إنسانه بوصلته الهادية برغم ما تعرضت له من تشوش وبلبلة بسبب الهجمات الإعلامية الضارية، وانتشار الفضائيات ذات السياسات المشبوهة والمتناغمة برغم اختلافاتها البادية؛ وما يعيشه إنسانه من إحباطات قاسية بسبب التردي الكبير في شتى مناحي الواقع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل والثقافية أيضا. ومازال القارئ الحقيقي والجاد فيه متعطشا لثقافة نزيهة جادة ومستقلة عن المؤسسات العربية، التي تفقد يوما بعد يوم مصداقيتها، وتتخلى عن دورها فيتخلى القراء عنها.

ولأن (الكلمة) كانت قد تعرضت عند استقبالها لعامها الرابع لمؤامرة بشعة استهدفت إغلاقها وإخراس صوت الكلمة الحرة المستقلة في زمن يعج بالأجهزة القمعية، والمؤامرات الدولية والأنظمة المشبوهة وكلاب حراستها. وهي المؤامرة التي استطاعت أن تحجب (الكلمة) عن قرائها لشهور أربعة، استطعت خلالها مع حفنة صغيرة من المؤمنين بـها وبمشروعها الثقافي - وهم فرسان (الكلمة) الثلاثة، أثير محمد علي، وعبدالحق ميفراني، ومنتصر القفّاش، الذين يحملون عبء تحريرها معي، وقد انضم إليهم فارس رابع، مبرمج ممتاز أهدتني إياه الظروف، هو عبدالله الجندي - التغلب على مؤامرات المتآمرين. والبدء من جديد. فإنني أجلت الإعلان عن هذا التحوّل حتى تكتمل أعداد (الكلمة) 180 عددا، أي خمسة عشر عاما كاملة. ويتم تعويض تلك الأعداد الأربعة التي لم تصدر عام 2010. على أن يُعد العدد الماضي – العدد 181 – هو عدد الفصل الأول من هذا العام/ السادس عشر، ويصبح العدد الحالي هو عدد ربيع العام السادس عشر. وسوف يصدر العدد التالي، عدد الصيف بعد شهرين، وتكتمل أعدد العام السادس عشر في الخريف. وسوف تنتظم الأعداد في الصدور بعدها بشكل فصلي منتظم،[i] يحترم موعده مع القراء كما عودت (الكلمة) قراءها على مد مسيرتها الطويلة.

وسوف تظل (الكلمة) برغم هذا التغيير في أيقاع صدورها مخلصة للمبادئ والقيم التي رادت مسيرتها. أي الاهتمام بالقيمة الأدبية والثقافية في المحل الأول، مهما كان اختلاف توجهاتها ومنطلقاتها مع فكر المحرر وتصوراته. فـ(الكلمة) تفتح على مد صفحاتها مساحة واسعة للحرية والاختلاف، مادام الاختلاف عقليا وبرهانيا. لأن غايتها هي نشر الفكر العقلي والنقدي، وإرهاف وعي المثقف وتعميق مداركه، وتعويد القارئ على التخلص من الرأي الواحد، ومن استبداد المطلقات الكاذبة. فالرصانة والاحتفاء بالقيمة مهما كانت مكانة من ينتجها هي همّ (الكلمة) الأول؛ والإعراض عن التفاهة والركاكة وانعدام القيمة، مهما كانت الهالات الزائفة التي تحيط باسم كاتبها، هي التي ترود عمليات الانتقاء في كل عدد من أعدادها. والقيمة عندنا هي قيمة لا ينفصل فيها الأدبي والثقافي عن الأخلاقي والسياسي، لأنها قيمة واحدة لا تتجزأ، في عالم دججت فيه كلاب الحراسة أسماءها بألقاب وصفات كان لها في الماضي وقع كبير، وتأثير سرعان ما أفقدتها ممارساتهم المخجلة كل ما كان له تاريخ عند القراء والمثقفين على السواء.

وأود بهذه المناسبة أن أعرب عن امتناني الكبير لكل أعضاء أسرة تحرير (الكلمة) القدامى منهم والجدد، ولكتاب (الكلمة) الذين شاركوني رسالتها، وما زالوا يمدونها بنصوصهم، وآمنوا معي بدور الكلمة الحرة المستقلة، وقدرتها على التأثير، برغم ما في ذلك من صعوبات. ولقرائها الذين التفوا حولها، وميزوا عبر هذا الالتفاف المستمر بين حراس الكلمة وكلاب حراسة الأنظمة ومسوغي المخططات المشبوهة. فلم يفقد القارئ العربي العريض بعد قدرته على فرز التبر من التراب الذي يواصلون ذره في عيونه، ولا على التفرقة بين الثقافة الجادة التي تستهدف إرهاف الوعي النقدي، والثقافة الركيكة الغثة التي تشيع الوعي الزائف، وتشتت بوصلة الإنسان، وتستخف به وبالوطن على السواء.

وأناشد كل من يجد في نفسه القدرة على الإسهام في تحرير (الكلمة)، والحفاظ على شعلتها متقدة، أن يبادر بالكتابة إلينا بما يستطيع أن يضيفه من إبداع أو نقد أو بحث يضيء الطريق للآخرين. وينضو عن الكلمات ما علق بها من أدران. كي تصبح الكلمة سلاحا للتغير ونبراسا لمستقبل عربي وضيء. مشاركة في مجلة لا يرود خياراتها، التي تحافظ فيها على القيمة الثقافية، غير الجدية والصدق والرغبة في إعلاء قيم النقد والتجديد. فقد صدرت (الكلمة) منذ البداية لتطرح الحق في مواجهة القوة، كما يقول إدوار سعيد.

 

 

[i]. أي في أول يناير/ أبريل/ يوليو/ أكتوبر: شتاء/ ربيع/ صيف/ خريف.