يكشف السياسي الألماني البارز هنا عن رؤيته لدور أوروبا في عالم بدأ يتحول مع الحرب في أوكرانيا، وتبدل مواقف العالم الثالث من الغرب فيها، وكيف أن عليها في لحظة التحول العالمية تلك أن تعزز علاقة التعاون والتضامن مع بلدان أفريقيا خاصة، وأن تخفف العواقب الاقتصادية الوخيمة لتلك الحرب عليها.

زمن التحوّل العالمي

في عالم متعدد الأقطاب لا غِنى عن التعاون فيه

مارتن شولز

تقديم وترجمة حامد فضل الله

 

نُشر هذا المقال بتاريخ 27 إبريل في مجلّة السياسة الدولية والمجتمع، وكاتب المقال مارتن شولز، الرئيس الأسبق للبرلمان الألماني (البندستاغ) والبرلمان الأوروبي، ورئيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي سابقاً، ويشغل حالياً رئيس مجلس إدارة مؤسسة فريدرش إيبرت في برلين.

إلى النص:
بينما تهزّ الحرب العدوانيّة الروسية ضدّ أوكرانيا النظام الأمنيّ الأوروبيّ، تتأثر أجزاء أخرى من العالم بشكلٍ خاصٍ بـ "الآثار الجانبية" لهذه الحرب. شكّلت مكافحةُ العواقب الاقتصادية للوباء، وكذلك آثار أزمةِ المناخ، تحدّيات كبيرةٍ للعديد من البلدان النامية. مما جعل الحرب في أوكرانيا تزيد من صعوبة التغلب عليها وتضيف ديناميكيات أزمةٍ جديدةٍ. نتيجة للغزو الروسيّ، فعلى سبيل المثال، ارتفعت بسرعة أسعار الخبز والبنزين والأسمدة في بلدان الجنوب العالميّ. وقامت في الوقت نفسه، العديد من الدول المصدّرة بتقييد تصدير المواد الغذائية، مما يُهدد بحدوثِ نقص في الغذاء في العديد من الأماكن.

في ظلّ هذه التطورات، يزداد خطر المجاعة، والاحتجاجات التي تؤدي إلى الاضطرابات أيضاً. كما أنّ هناك قلقٌ من أنّ الالتزامات الجديدة المتعلقة بالحرب في أوكرانيا، يُمكن أن تُقلل الدول المانحة من مواردها واستِعدادها، لدعم الجنوب العالميّ أيضاً. والتي يحتاج إليها أكثر من أيّ وقتٍ مضى. يجب علينا - نحن الأوروبيين- مواجهة هذه المخاوف. إذ أن دعم أوكرانيا، والمشاركة القويّة مع بلدان جنوب الكرة الأرضية، يجب ألاّ يكونا متعارضين.

لماذا يغدو التزامنا تجاه الجنوب العالمي في الوقت الحالي، ذا أهميّة؟ هذا يُظهرهُ مثالان من أفريقيا: يعاني القرن الأفريقي من أسوأ جفاف منذ 40 عاماً. 20 مليون شخص مهددون بمجاعة حادّة وفي الوقت نفسه تتضاعف أسعار المواد الغذائية والأسمدة بسبب الحرب في أوروبا. ومن المعروف أن أكثر من ثلث واردات الحبوب إلى شرق إفريقيا حتى الآن يأتي من روسيا أو أوكرانيا.

لقد انخفضت سلاسل التوريد منذ الغزو الروسي لأوكرانيا. وقد أصبحت الميزانيات الوطنية للمنطقة بعد عامين من القيود الوبائية والاقتصادية، مُثقلة بالديون ولا يمكنها أن تمتص ارتفاع الأسعار. كما أنّ  برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، والذي يحصل على أكثر من نصف حبوبه من أوكرانيا أو روسيا، يفتقر إلى الأموال اللازمة لمكافحة المجاعة الوشيكة. لقد أصبحت النداءات الموجهة إلى مجتمع المانحين الدولي يائسة على نحو متزايدٍ. كما ظهر بوضوح بأن حماية السكان المدنيين في غرب أفريقيا تزداد صعوبةً أيضاً.

أدّت أزمة المناخ بالفعل إلى زيادة مخاطر الصراع في منطقة الساحل، على سبيل المثال، بسبب تقلص المراعي ونقاط المياه. إن الافتقار إلى الآفاق الاقتصادية، وعدم وجود الخدمات العامة وانعدام الأمن، يزيد من حافز الكثيرين للانضمام إلى الجماعات العنيفة. وغالباً ما يقاتل الجيش في المنطقة، هؤلاء دون اعتبار للسكان المدنيين. كما يتمّ استخدام الأسلحة الروسيّة والمستشارين العسكريين بشكل متزايد. إنّ الدعم المنسق محلياً للأمن البشري، والذي يتمّ تمويله من خلال التعاون الإنمائي الألماني والأوروبي أيضاً وكذلك بعثات حفظ السلام الدولية، في مالي، يمكن أن تقدّم مساهمةً مهمّة في حماية السكان المدنيين على الأرض. وقد كان استمرار مهمة مينوسما والمشاركة الألمانية فيها (مينوسما بعثة الأمم المتحدة المتعددة لتحقيق الاستقرار في مالي بمشاركة وحدة من الجيش الألماني ــ المترجم) موضع نقاش، خاصة منذ الانسحاب من أفغانستان في الصيف الماضي.

تثير حرب أوكرانيا الآن بشكلٍ متزايدٍ السؤال، حول ما إذا كانت المشاركة لا تزال قابلة للتطبيق، عندما يكون التهديد الحالي متواجداً أو يقف أمام باب الدار. ومع ذلك فإنّ انسحابنا من منطقة الساحل سيحرم السكان المدنيين من الحماية اللازمة ويجعل الإمدادات الإنسانية أكثر صعوبة. سيكون ذلك إشارة قاتلة للسكان المحليين. وكما أنه سيكون دليلاً على عدم استعداد أوروبا لتحمل المزيد من المسؤولية العالمية في المستقبل. يوضح المثالان أنّه في الوقت الحالي يجب علينا، بدلاً من ذلك تكثيف التعاون مع الجنوب العالمي بدلاً من تقليصه. يملي تضامننا الدولي أنّ نحافظ على التزامنا العالمي بالأمن البشري الشامل، داخل وخارج أوروبا: نحن في الشمال العالمي، استفدنا من الاستعمار والعولمة لقرون، وعشنا على حساب بلدان الجنوب العالمي. لا يعاني هؤلاء من أزمة المناخ أكثر من غيرهم، ولكنّهم ساهموا بشكل أقلّ في حدوثها أيضاً. إنه جزء من مسؤوليتنا العالمية لمواصلة دعم هذه البلدان - خاصّة عندما تتأثر بشدّة، بآثار الحرب في أوروبا.

إن ارتباط أوروبا مع الجنوب العالمي أوسع من ارتباط الشركاء الآخرين. تعمل روسيا والصين وتركيا والإمارات العربية المتحدة هناك بشكل حصري تقريباً مع الحكومات - بغضّ النظر عن مدى ديمقراطيتها. بينما تتعاون أوروبا مع البرلمانات والسلطة القضائية والمجتمع المدني. سواء كان الأمر يتعلّق بمكافحة الجوع أو حماية السكان المدنيين أو فرض حقوق الإنسان وحقوق العمل وفي سلاسل التوريد العالمية أو تعزيز المجال الديمقراطي. - تعتمد الجهات الفاعلة المدنية في الجنوب العالمي على الدعم الأوروبي. وهذا ليس متوقعاً من روسيا والصين. إذ يرغب غالبية السكان في معظم بلدان الجنوب العالمي، في فرص لا يمكن ضمانها إلاّ عن طريق الديمقراطية.

لذلك يجب أن يكون استمرار البذل المشترك من أجل الحقوق الاجتماعية والسياسية في جميع أنحاء العالم - دون سذاجة من حيث السياسة الخارجية - جزءًا من زمن التحول. إن استمرار ارتباط عالمي قويّ من الناحية الجيوستراتيجية ضروريّ لأوروبا أيضاً. لا توجد منطقة أخرى في العالم تستفيد من النظام المتعدد الأطراف القائم على الأحكام مثل الاتحاد الأوروبي، الذي بنى ازدهاره وسلاسل التوريد الخاصة به، على موثوقيتها، لذلك فإن تفكيك العولمة الذي تمّ التقليل من شأنه حتى الآن، والذي يهدد حالياً على طول مناطق النفوذ الحصرية، يمثل خطراً خاصاً في ضوء التكامل الخاص للازدهار الأوروبي في تقسيم العمل العالمي. لذلك يتعين على أوروبا بذل المزيد من الجهد للحفاظ على هذا النظام القائم على الأحكام والأصول وخارج حدودها أيضاً.

لذلك نحتاج إلى شركاء، ومن أجل ذلك علينا بذل جهد أكبر من ذي قبل. إن دائرة الاتحاد الأوروبي أو مجموعة السبع أو الناتو أو منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية؛ صغيرة بالنسبة لذلك. يجب علينا بشكل متزايد تقديم عروض ملموسة وعادلة للجنوب العالمي، تجعل الاتحاد الأوروبي شريكاً، وأن يكون أكثر جاذبية مما كان عليه حتى الآن. وهذا ليس إيثاراً، ولكنه منطق سليم لصالح كلا الطرفين: أن أي شخص يريد تأمين الأغلبية لنظام متعدد الأطراف قائم على الأصول ولصالحه، يجب أن يكون الشريك المفضل للبلدان النامية وللمشاريع السياسية المشتركة. لذلك فإن امتناع بعض الدول النامية و البلاد السريعة النمو عن التصويت لصالح القرار الخاص بأوكرانيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة في بداية شهر مارس، يعد إشارة تحذير. من بين أكثر من 140 دولة صوتت لصالح القرار، كانوا من الجنوب العالمي الذين ترتبط بهم أوروبا بشكل خاص، ونظمها في الأرجح أقرب إلى الديمقراطية. ومع ذلك، ينبغي لنا أيضاً، أن ننظر إلى الأسباب التي دفعت بعض البلدان الامتناع عن التصويت، واشتقاق نهج سياسة بناءة في نفس الوقت.

بالنسبة للعديد من البلدان في الجنوب العالمي، فإن تزايد العالم المتعدد الأقطاب، هو عالم، يمكنهم فيه، تقليل الاعتماد على أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وتنويع الشراكات أيضاً. فقد أصبحت روسيا على نحو متزايد أحد هؤلاء الشركاء، وهي على سبيل المثال أكبر مصدّر للأسلحة إلى إفريقيا، وفي مجال تصدير الحبوب أيضاً. لذلك فإنّ اتخاذ موقفٍ واضحٍ تجاه روسيا، يعد أكثر صعوبة بالنسبة لبعض البلدان. يجب أن تتفاعل أوروبا بشكل بناء مع هذا. لا ينبغي أن يستند التعاون المستقبلي إلى مقولات مثل "المكافأة" أو "العقوبة" لسلوك التصويت. وبدلاً من ذلك ، ينبغي التأكيد على فرص المشاركة في تشكيل التحديات العالمية. امتنعت دول مثل الهند وجنوب إفريقيا عن التصويت في الجمعية العامة، من بين أمور أخرى، منها المعايير المزدوجة التي نمارسها، على سبيل المثال عندما يتعلق الأمر بمكافحة الأوبئة. ومع ذلك ، فإن هذين البلدين ليسا وحدهما الشريكين الأساسيين في التعددية القائمة على الأصول.

لذلك يجب علينا تقديم عروض تنافسية للجنوب العالمي أكثر من أي وقت مضى. ولذلك نحتاج إلى طريقة جديدة للعمل معاً وفهماً أفضل لمصالح كل منا. يجب أن يكون تعاوننا أكثر إستراتيجية مما كان عليه في الماضي. وهذا يتطلب المزيد من الترابط بين مختلف مجالات السياسة في أوروبا. يجب أن تتشابك المقاربات في السياسة الخارجية، والتنمية، والمناخ، والسياسة الاقتصادية. وعلى رغم الحاجة المتزايدة إلى الأموال للدفاع، يجب الحفاظ على الالتزام الإنساني والإنمائي الواسع. في النهاية ، فإنّ كل يورو يتم إنفاقه على منع الأزمات يوفر في النهاية الكثير من التكاليف التي يجب إنفاقها في التعامل مع عواقب الأزمة. كلّ يورو يتدفّق إلى حماية الديمقراطية يخلق الأساس للاستقرار السياسي.

إنّ الشرط الأساسي للتغيير في السياسة هو دائمًا التقييم النقدي للتصرف الذاتي. لقد خلطنا في الماضي، بين الأمن قصير المدى والاستقرار طويل المدى. إن تعاون أوروبا مع المستبدين في إفريقيا للسيطرة على الهجرة إلى أوروبا أو تعزيز الأمن الإقليمي  كان خاطئاً. لقد كلفنا ذلك ثقة أولئك الذين يحتجونبنجاح متزايد ضدّ هؤلاء المستبدين وقد يمكن أن يتولوا قريباً مسؤولية الحكومة. إن فرض المصالح التجارية التي تحمي مصالح بعض الصناعات الأوروبية، ولكنها تقيد نهج الاِبداع في الجنوب العالمي، يجعل من السهل على الجهات الفاعلة الأخرى تقديم عروض، يفترض أنها أكثر جاذبية، مثل بناء البنية التحتية الاقتصادية.

في عالم يتم فيه التودد إلى العديد من البلدان النامية من قبل شركاء محتملين مختلفين، تكتسب سياسة تجارية أوروبية أكثر عدلاً، أهمية جيوسياسية. ومن خلالها يمكننا جذب الشركاء الذين نحتاجهم. سوف تظلّ ميزة أوروبا، هي قدرتها على التعاون متعدد الأبعاد مع الجنوب العالمي. وإنه سوف تحظى باحترامٍ كبيرٍ هناك - يتفق على ذلك شركاؤنا في السياسة والمجتمع المدني والنقابات العمالية، من ساو باولو إلى باماكو إلى دكا. يحتاج العالم متعدد الأقطاب بشكل متزايد إلى المزيد من المشاركة الدولية وليس تقليلها. وعليه يجب قياس تعاملنا السياسي في فترة التحول أيضاً.

أودّ بعد هذا العرض، أن أقدم هنا بعض النقاط والملاحظات القليلة، كمدخل لمقالٍ تفصيليّ لاحقٍ:

- ضمّ المقال نقداً ذاتياً، وبعض النقاط الموضوعيّة و كثيراً من التفاؤل، لا يسنده الواقع.

- سوف تظلّ المصالح الأوروبية، أي الغربيّة، هي التي ستتحكم في السياسة الخارجية، ولا تختلف عن سياسة روسيا والصين.

- إن قوله "لذلك فإن امتناع بعض الدول النامية والبلاد سريعة النمو عن التصويت لصالح القرار الخاص بأوكرانيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة في بداية شهر مارس، يعدّ إشارة تحذير" ربما تكون إشارة التحذير واردة، ولكن بلدان العالم الثالث لم تنسَ مساندة ودعم الاتحاد السوفيتي السابق لحركة التحرر الوطني، أثناء نضالها ضدّ الاستعمار.

- يقول "تعتمد الجهات الفاعلة المدنية في الجنوب العالمي على الدعم الأوروبي. وهذا ليس متوقعاً من روسيا والصين"، كما يلقي اللوم على روسيا التي تسببت في أزمة التغذية وارتفاع الأسعار في الجنوب العالمي بسبب حربها على أوكرانيا؛ ولكن رغم نقده الذاتي الخجول، ينسى أو يتناسى، استغلال دول الشمال البشع لشعوب الجنوب ونهب مواردها لعدة قرون، والاستغلال لايزال متواصلا، ولكن بطرق وأساليب مبتكرة.

- يسير شولز – دون التعرض الآن للملابسات الداخلية، التي قادت إلى استقالته من رئاسة الحزب – على نهج أسلافه الكبار، زعماء الحزب الاشتراكي الديمقراطي العظام، فيلي براندت وهلموت اشميدت. براندت صاحب الرؤية والبصيرة وسياسته التي عرفت "بسياسة الشرق1" منطلقاً من الجملة الشهيرة "التغيير من خلال التقارب2" كمدخل للتصالح، بدءاً من بولندا والتي قادت في النهاية إلى توحيد الألمانيتين.

- رئاسة شولز للبرلمان الأوروبي أتاحت له الفرصة للقاء العديد من زعماء العالم الثالث والاِطلاع على مشاكل بلدانهم، وشولز يتحدث عدة لغات بطلاقة وبليغ في الحديث.

- ميخائيل غورباتشوف، الذي شارك في إنهاء الحرب الباردة وتوحيد الألمانيتين، كان يحلم "بالبيت الأوروبي"، ربما يحلم الآن شولز" بالبيت العالمي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

Martin Schulz, Internationale Politik und Gesellschaft (IPG), 27. 04. 2022.

1- Ostpolitik

2 - Wandel durch Annäherung

2 ــ التغيير من خلال التقارب، هو مفهوم سياسي ظهر في ألمانيا الاتحادية خلال الحرب الباردة كجزء من" السياسة الجديدة، سياسة ــ ، عضو الحزب الاشتراكي الديمقراطي.Egon Bahr الشرق" وتعود الصياغة إلى إجون بار ــ