يتتبع الباحث الهندي هنا أثر الوجودية على الشعر العربي في بداية الشعر الحديث في منتصف القرن الماضي، ويخلط بين التيارين الوجودي والماركسي فيه، مع وعيه بجدلية العلاقة بين الشعر والفلسفة، ولكنه يؤول بعض قصائد الهم السياسي والاجتماعي على أنها قصائد ذات نفس وجودي خالص.

الوجودية وأثرها في الشعر العربي المعاصر

معراج أحمد معراج الندوي

 

في مستهل الحرب العالمية الثانية كانت البلاد العربية تتجاذبها جملة من التيارات الفكرية والأيدولوجية. ومن أبرزها التيار القومي التيار الإسلامي والتيار الماركسي. وعندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها بدأ العرب يركزوا على الوجودية الفرنسية من حيث نقلوا معظم أعمالهم إلى العربية. دخلت الوجودية في الشعر العربي المعاصر في أوائل الخمسينيات لكن هذه الفلسفة ليست فلسفة واحدة منسجمة، وإنما فلسفات متعددة تتقاطع فيما بينها، فتجمع شعر عاد إلى الفلسفة الوجودية الفردانية التي تفك أي ارتباط مع المجتمع لتعالج المعضلات الوجودية التي تقلق الإنسان كإنسان مثل الموت والحياة.

إن الوجودية هي أقرب الفلسفات إلى الشعر، والشعر أقرب الفنون للوجودية. فالشعر والفلسفة صورتان للتعبير عن الوجود إحداهما للتعبير عن الإمكان والأخرى للتعبير عن الآنية. ولهذا الشعر والفلسفة متكاملين. ولا غنى لأحدهما عن الآخر. والوجودية كفن يزداد وضوحا أكثر إذا ما اخذنا بعين الاعتبار، أن الأدب خير أداة قادرة على تجسيد الانفعالات الإنسانية. وانفعالات الإنسانية منبثقة عن عناصر معينة كالإرادة والاختيار والقلق والمسوؤلية. وهي العناصر التي تقوم عليها الفلسفة الوجودية.

دخلت الوجودية في الشعر العربي من باب الفلسفة والنقد. إن عبد الرحمن بدوي هو الذي نشر الوجودية في الأوساط العربية من خلال تأليف الشهير "الزمان الوجودي" في وقت كان ينشرها سارتر في فرنسا. وقد نقل عبد الرحمن بدوي "الوجود والعدم" لسارتر إلى العربية وقدم نظرية الشعر الوجودي في تأليفه " الإنسانية والوجودية في الفكر العربي" ومارس الشعر الوجودي في ديوانه " مرآة نفسي". ثم حمل لواء الوجودية أدونيس وأصدر مع يوسف الخال مجلة "شعر" التي كان لها أثر كبير في تطوير الشعر العربي وتحديثه. وفي عام 1954م نشر أدونيس قصيدة "الفراغ" والاتجاهات الوجودية بارزة في شعر أدونيس. انتشرت الوجودية في البلدان العربية وآمن بها بعض الشباب المثقف بالثقافة الغربية.

والوجوديون في البلاد العربية ينفذون من ثغرة لا بفطن لها الناس كثيرا. وهذا يفسر لنا تحول كثيرا من أصحاب الفكر الشيوعي، وما أشبه إلى الكتاب الأدبية. وإن نظرة عابرة على أسماء رواد هذا الاتجاه وعقائدهم تكشف عن وراءه خطة ذكية وأصابع خفية. وأن لهم غاية لا تخفي على أحد. وهؤلاء هم أشهر الرواد. أدونيس، أنسي الحاج، بدر شاكر السياب، محمود درويش، نزار قباني وعبد الوهاب البياتي. قد حاول البياتي إلى الينابيع الفكرة إلى التعبير والفلسفة. فتعرف على الماركسية. جنح كثيرا في شعره إلى التعبير عن أفكاره بالرمز. يتخذ من قصة عنصرا من عناصر الطبقة صورة الحياة البشرية في منحى من مناحيها.

الشعر الوجودي كمية هائلة في الشعر العربي. قرض كثير من الشعراء العرب في العصر الحديث  الشعر الوجودي أو كان شعرهم على نمط  الشعر الوجودي. وقد صرح جليل كمال الدين أن البياتي وجودي كامل في مجموعة قصائده "أباريق مهمشة" وأن هذه المجموعة هي خطوة أولى نحو الشعر الوجودي في الشعر العربي المعاصر. استخدم البياتي المصطلحات والتراكيب الخاصة بالوجودية والوجودين في ديوانه "النار والكلمات" الذي صدر عام 1964م و ديوانه "سفر الفقر والثورة". وله قصائد ذات سمات وجودية صارخة أمثال: قصيدة "إلى البير كامو" و"مسافر بلا حقائب" و"الحرف العائد و"محنة أبي العلاء" وغيرها من القصائد. وديوان "سفر الفقر والثورة".

يعد عبد الوهاب البياتي من أبرز المتقدميين شاعرية وأحلاهم نغما، يجمع شعره بين حقائق الوحي الاجتماعي، وحرارة الانفعال الشخصي. وتلتقي عند الذات بالموضوع. يستقي مضامينه من واقع الحياة ويستفيد من سائر المذاهب. فهو يعتمد شأن الرمزيين على البلورة والإيجاز والأسلوب وكذلك يخرج الأشياء شأن السرياليين من وجودها الموضوعي إلى وجودها الذاتي. رمز الشاعر في قصيدة  له " مسافر بلا حقائب" حياة مسافر تائه يتيه في صحراء الوجود. هو مسافر من الإمكان، وليس له وجه ولا تاريخ، يلهو به عبث الظلال، وفي داخله تموت نفسه وهو موجود متثائب، ضجر، حزين سيكون بلا جدوى، لأنه له وجود عبث لا جدوى له. والجدير بالذكر أن مسافر بلا حقائب يماثل حرفيا المسافر بلا أمتعة. ويقول فيها الشاعر:

  من لا مكان

 لا وجه، لا تاريخ، من لا مكان

 تحت السماء ، وفي عويل الريح أسمعها تناديني: تعال!

 لا وجه، لا تاريخ ..... أسمعها تناديني: تعال!

 عبر التلال

مستنقع التاريخ يعبره رجال

 عدد الرمال

 والأرض ما زالت، وما زال الرجال

  يلهو بهم عبث الظلال

  وأنا- سجى- في الريح أسمعها، تناديني : عال!

 عبر التلال

 وأنا وآلاف السنين

 متثائب، ضجر ، حزين

 من لا مكان

تحت السماء

 في داخلي نفسي تموت ، بلا رجاء

 وأنا وآلاف السنين

 متثائب، ضجر ، حزين

 سأكون! لا جدوى، سأبقي دائما من لا مكان

 لا وجه، لا تاريخ لي، من لا مكان

 الضوء يصدمني، وضوضاء المدينة من بعيد

 نفس الحياة يعيد رصف طريقها، سأم جديد

 أقوى من  الموت العنيبد

 سأم جديد

 وأسير لا الوي على شيئ، وآلاف السنين

 لا شيئ ينتظر المسافر غير حاضره الحزين

 وحل وطين

 وعيون آلاف الجنادب، والسنن

 وتلوح أسوار المدينة، أي نفع أرتجيه؟

 من عالم ما زال والأمس المريه

 يحيا، وليس يقول: إيه"

 يحيا على جيف معطرة الجباه

 نفس الحياة

 نفس الحياة يعيد رصف طريقها، سأم جديد

 أقوى من الموت العنيد

 تحت السماء

 بلا رجاء

 في داخلي نفس تموت

 كالعنكبوت

 نفسي تموت

 وعلى الجدار

 ضوء النهار

يمتص أعوامي، ويبصقها دما، ضوء النهار

 أبدا لأجلي، لم يكن هذا النهار

 الباب أغلق، لم يكن هذا النهار

 الباب أغلق، لم يكن هذا النهار

 أبدا لأجلي لم يكن هذا النهار

 سأكون ! لا جدوى سابقي دائما منم لا مكان

لا وجه، ولا تاريخ لي،  من لا مكان

إن طبيعة عبد والوهاب البياتي وأفكاره تميل إلى الوجودية لأن الظروف التي عاش فيها الشاعر قد تركت آثارها العميقة في حسه المرهف وقد أدت بالشاعر إلى الإغراق في عالم سوداوي مملوء بالضيق والآلام والأحزان.

إن الشعر والفلسفة صورتان للتعبير عن الوجود للكون والحياة. والشاعر الوجودي يخلق عالما من الوجود قائما بذاته بواسطة الكلمة، وكلمة الشاعر عاطفية انفعالية. فالشاعر الوجودي مبدع في عالم الإمكان، والشعر الوجودي هو الإبداع. والشاعر الوجودي هو المؤسس الحقيقي للغة. دخلت الوجودية في الشعر العربي المعاصر في أوائل الخمسينيات لكن هذه الفلسفة ليست فلسفة واحدة منسجمة، وإنما فلسفات متعددة تتقاطع فيما بينها، فتجمع شعر عاد إلى الفلسفة الوجودية الفردانية التي تفك أي ارتباط مع المجتمع لتعالج المعضلات الوجودية التي تقلق الإنسان مثل الموت والحياة. فقد حاولت الفلسفات والمدارس الميتافيزية المتطورة أن تكشف أسرار الحياة والكون عبر القرون الطويلة.

 

الأستاذ المساعد، قسم اللغة العربية وآدابها/ جامعة عالية- كولكاتا- الهند

merajjnu@gmail.com