ينفذ الناقد المصري إلى التيارات التحتية السارية في شبكة السرد المراوغة في هذه رواية عزت القمحاوي البديعة التي جعلت الخوف والحصار الذي فرضه «كوفيد» على المصريين استعارة روائية كاشفة عما تعيشه مصر وما يعاني منه إنسانها من واقع رازح ثقيل يفت في الروح وتعصف طاقته التدميرية بالأحياء والموتى معا.

«غربة المنازل» في مدينة الغبار

ياسر ثابت

 

في «غربة المنازل» (الدار المصرية اللبنانية، 2021)، يزيل عزت القمحاوي الغبار عن النوافذ، كي يرى أهلها وجوه الحياة بعيدًا عن أمراض العزلة.
وفي رواية تزخر بحيل المونتاج، يقودك هذا الروائي المتمكن من أدواته إلى مبنى غامض وعلاقاتٍ غير قابلة للضبط والتأطير. من تقنيات السرد في الرواية، تستوقفنا ثلاث: الخطاب العاطفي (الجوع والحرمان والشبق)، والاسترجاع والاستباق (مصطلحان سرديان، يدلّ الأول على مخالفة سير السّرد عبر العودة إلى حدث سابق، والثاني على مخالفة زمن السّرد عبر تجاوز الحاضر وذكر حدثٍ لم يحن وقته بعد)، وإثارة السؤال (أسئلة القلق من المستقبل(. «الغموض مؤلم» (ص 198)، لكنه ممتع أيضًا.
في كتاب المكابدات الذي يفتحه هذا الروائي، الكثير من الحكايات التي تدور أحداثها في «مدينة الغبار»، ويمارس من خلالها القمحاوي نقد الواقع وإثارة الأسئلة. أما الزمن الذي يعنوّن به فصول الرواية فهو مرتبط بذروة ظهور «كوفيد 19» وتفشيه، مع ما يعنيه ذلك من مخاوف، وإجراءات احترازية، وحالات إصابة وهشاشة في هذه المدينة المسحورة التي تتأرجح بين الواقع والخيال.
والخوف لا يُنجِبُ إلا الموت:
بدأ الأمر باتهام الزوج «سمير الصاوي» بإلقاء زوجته «شهد» من نافذة الطابق الخامس بعد أن عرف بإصابتها بـ«كورونا». لم تثبت التهمة على الرجل، لكن تساقط النساء من النوافذ استمر. «توالت إصباحات وأمسيات بأخبار سقوط النساء من بلكونات ونوافذ المناطق العشوائية، في الشمال، في الجنوب، في الشرق، في الغرب. وسرعان ما اجتاحت الظاهرة كل أحياء المدينة. لم يعد أحد يتذكر أسماء الضحايا، أو يسأل إن كانت حوادث انتحار أو جرائم قتل» (ص 188).

في ظل تعطل الكلام تتمدد مساحة الحواس، حيث يفسح السرد مجالًا لملمس الحياة ورائحتها وطعمها وألوانها، مما يجعل من القراءة عملًا لكل الحواس، ورحلة نكتشف من خلالها عالمًا صاخبًا بالأحلام ومعجزات الحب، تحت المظهر المخادع لهدوء العزلة الحزين.
يمضي السرد في «غربة المنازل» التي تقع في 208 صفحات على الخيط الرفيع بين الواقعي والخيالي، بحيث يمكن أن نتعرف داخل الرواية إلى وقائع حقيقية يرفعها الخيال إلى عالم من الأساطير. لا يستأثر الوباء بالواجهة دائمًا؛ فكثيرًا ما يتحول إلى مجرد خلفية لعلاقة الشخصيات بالحياة وما يشغلهم من أسئلة حول الوجود والعدم، والقوة والسلطة، والحُبِّ والجنس.
لا تترك الرواية قارئها نهبًا للعزلة والخوف؛ بل يفتح السرد نوافذ تتطلع منها الشخصيات للحياة. «فريدة»، امرأة في منتصف العمر تتأرجح مع حبيبها «يوسف» في عربة النساء بالترام محاصرة بين عيون مستنكرة لوجود رجل بالعربة وبين نظرات محبة من امرأة وحيدة تبدو من عمقها وكأنها رأت ما عاشه الحبيبان للتو. لا تستطيع العاشقة أن تتخذ موقفًا من نظرات الأخرى إلى حبيبها، فهي لا تعرف إن كانت هذه الأخرى حقيقية عليها أن تغار منها، أم أنها صورتها هي معكوسة على زجاج النافذة. وما إن انفتح باب الترام حتى قفز «يوسف» إلى الرصيف. هنا «سمعت «فريدة» المرأة تستحثها بحماسة:
-
وراءه، لا تتركيه» (ص 19). نظرة متفحصة من امرأة في عربة ترام تصل إلى سرٍّ ما عاشته امرأةٌ أخرى في ساعة حُب.

نلتقي في الرواية بالمؤرخ «بديع العطَّار»، الذي يعتزل قبل الوباء؛ لأنه لا يخشى سوى التاريخ عندما يعطله الخوف. أفنى «بديع» خمسين عامًا من عمره يتتبع تاريخ قيام الأمم واضمحلالها، لا تخيفه الحروب والمجاعات والأوبئة، لا يرعبه سوى الخوف، الذي «يعتبره الأبشع من كل بشاعة؛ لأنه يبدد تضامن الضحايا، ويحولهم إلي ضباع تتداعى لنهش من يسقط من بينهم، يتلذذون برؤية لحمه بين الأنياب لمجرد أنهم ليسوا مكانه» (ص 49). يعجز المؤرخ عن إيقاف آلة التاريخ الخربة، ثم جاءته الفكرة: «اختبئ يصبح ما تخشاه غير موجود» (ص 50). هكذا فرض على نفسه العزلة قبل أن يطرق وباء كورونا أبواب مدينته!

«بدأ العطَّار يستشعر الخوف من الوباء، متذكرًا الطاعون الذي ضرب المدينة المطمورة الآن تحت تلال القمامة على مشارف مدينة الغبار» (ص 54). يشغله حتى النهاية سؤالٌ واحد: «هل وصل الوباء إلى مدينة الغبار؟» (ص 63).
أما شقيقه وجاره في العمارة «وديع العطار»، فهو باحثٌ يخسر حربًا طويلة الأمد مع الذباب، لكنه يستميت فى معركة أخيرة من أجل الحُب مع «لطيفة العراقي» .. وهي امرأة رآها في الحديقة تُريّض كلبتها، فلحق بها وتتبع خطاها مثلها!
يسمع «وديع» طنين الذبابة الزرقاء التي لا تظهر إلا إذا كانت هناك جثة في الجوار، فيشعر بالقلق على شقيقه المسكون بالعزلة.
في شقة أخرى من هذا المبنى، ها هو ذا عطر مريضة شابة يغمر عيادة طبيب النساء الأعزب «فريد عبدالمحيط»، ويقلب حياته رأسًا على عقب، معتزلًا الطب متفرغًا للحُب.
نتابع حكاية الطبيب الذي لطالما «تمنى أن يفقد حاسة الشم التي أفسدت حياته، لكن فقدانها في ظل الوباء يعني إصابة مؤكدة. أخذ يتخيل رائحة جثته لو مات في أيام العزلة. ستكون مثل هذه الرائحة الشنيعة التي افتقدها للتو، سيشمها الجيران، ويفرون من أمام الباب دون أن يُبلغ أحدهُم عن الأمر، أو حتى دون أن يصارح نفسه بأنه شمَّ شيئًا غير عادي. من يريد أن يشمَّ ورطة؟!» (ص 70).

طبيب أمراض نساء «بعد أن توصل إلى الاستنارة، لم يعد للروائح السرية تزمت الفضيلة وزناخة الوظيفة» (ص 84)، ورجل متعدد العلاقات «يُفضِّل الصغيرات السابحات في رحم السذاجة؛ لأنهن لا يعانين من لؤم نساء منتصف العمر اللاتي يغافلنه وينبشن خزائن أدويته. يُفكرِّن بشكل تلقائي في المنشطات. ولا مشكلة لديه، الاعتراف بالحقيقة، لكن الجنس كالعلاج؛ نصف الشفاء يتوقف على الاقتناع بالطبيب» (ص 85). كان من الممكن أن يُمضي في حياته دون تغيير، لولا أن مريضة شابة أنقذت له بقية حياته، وأعاد معها تعريف السعادة. «خدَّرته ومضت» (ص 74)، «واشتعل في قلبه الحنين إلى كل ما ضيَّعه ذات يوم» (ص 76).
إلا أن نهاية تلك العلاقة تبدو صادمة إلى أقصى حد. في العلاقة بين الموسيقار «رامي حنا» ومعشوقته «غيداء»، نلمس مشاعر مرهفة، رغم أن البداية كانت مجرد خدعة إعلان لطلب سكرتيرة. «عندما جاءت إلى هذه الشقة منذ ثلاثين عامًا، تصوّر أنها امرأة أخرى ستزوره مرةً أو مرتين» (ص28)، قبل أن يتنبه «إلى أنه ليس من قرر استقبال غيداء تحت سقفه؛ فهي التي قررت البقاء في هذه الشقة بكل كبرياء الكونتيسة دو جرمانت، ولم يملك سوى الاستجابة لرغبتها، وسرعان ما تعمق وجودها إلى حد أن صار عاجزًا عن تصور الحياة بدونها، بينما لم تمنحه في أي وقت الإحساس بأنها في حالة اضطرار» (ص 28). في صباح اليوم التالي لبدء عملها مديرة للمنزل وإقامتها فيه، رأى ما أدهشه. «كانت جالسة في بيجاما سماوية قصيرة، وفي يدها فنجان من طقم فاليري الكلاسيكي الذي لم يستعمله منذ عشرين سنة على الأقل. شقت الفرحة بوجودها قلبه، ولم تلبث الغيرة أن جرحت فرحته تحت وطأة إحساس بأن أشياءه متناغمة مع غيداء أكثر من تناغمها معه. وداهمه شعور بالاستياء من شقته التي خانته بانتمائها إلى هذا الحد لامرأة تستيقظ فيها للمرة الأولى» (ص 36).

لكن بعد نحو شهر من تطور هذه العلاقة الغامضة والناعمة، التحم الجسدان -لمرة أولى وأخيرة- يقول لنفسه: «لقد عرفتُ أخيرًا المرأة التي سأشيخ معها» (ص 41). «مع الوقت غامت رغبات جسده، أصبحت مثل شعاع شمس يتسلل من خلف زجاج مضبب يمرر الضوء من دون حرارة. لم يعد متأكدًا ماذا يريد فيما تبقى من حياته، لكنه يعرف تمامًا ما فاته فيما مضى، وتسامح مع كل الفقد، وتنازل عن الكثير من الأسئلة التي لم يجد لها جوابًا، إلا واحدًا، ولن يستريح قبل أن يسمع من غيداء جوابًا: لماذا لم ترغب فيه ثانيةً؟» (ص 45).

تمرض «غيداء» وتُعالَج في المستشفى قبل عودتها إلى البيت على كرسي ذي عجلات، لتبدأ رحلة الاعتناء بها بدلًا من أن تعتني هي به: «أعادها إلى الغرفة. حشد لها الوسائد، وحملها من تحت إبطيها وأنزلها على السرير، هيأ ساقيها في وضعٍ مريح، ثم خرج وجلب زجاجة ماء وكأسًا. صبَّ لها، وشرب ما تبقى منها، ثم وضع الزجاجة والكأس على الكوميدينو واستدار إلى الجهة الأخرى واستلقى بجوارها» (ص 39).
يُحدِّث «رامي» نفسه قائلًا:
 - «لقد دجَّنتُها، ولم تعد تستغني عني!
هتف كالطفل الهائم بين الكويكبات، استلقى بجانبها وطوّقها بذراعه. أخذت أصابعه تعبث بظهرها من فوق قميصها القطني، متلمسة غبطة عودتها إلى البيت. وسرعان ما تحولت غبطة الأصابع إلى بهجة في القلب» (ص 27).

ها نحن أمام موسيقار عرف الكثير من النساء وانتهى مقيدًا بسطوة امرأة يحاول الإمساك بجملة لحنها الأولى مكتفيًا ببهجة الشيخوخة بجوارها.
بشرٌ، من كل صنف ولون، وأفعالٌ عظيمة وأخرى مخزية. طوبى للقارئ الذي يقرأ ويفكر ويستمتع دون أحكام مسبقة تكبل القراءة وتخنق متعة تذوق الحكاية.