تقدم لنا الباحثة المصرية هنا واحدة من رائدات الحركة النسوية، ساهمت بشكل فعّال في الإضافة إلى النظرية النسوية وتفكيك الكثير من مضمراتها ومسلماتها المسكوت عنها في الجدل النسوي، وفي طرح تصور أعمق لوضع المرأة في المجتمع الرأسمالي خاصة، ودور الرأسمالية في استمرارية ما تعاني منه من تمييز.

الرائدة النسوية اللاتينية: ليندا مارتن ألكوف

إكـرام البدوي

 

مع بدايات القرن الحادي والعشرون شهدت أمريكا اللاتينية، تطورًا مستمرًا أضفى طابعًا مؤسسيًا على تقاليدها ونهجها الفلسفي، ومن هنا اكتسب مصطلح (فلسفة أمريكا اللاتينية) رواجًا واهتمامًا بحثيًا كبيرًا في الولايات المتحدة، ويرجع ذلك لجهود جيل من الفلاسفة اللاتينيين الذين ولدوا في أمريكا اللاتينية، وأصبحوا فيما بعد أساتذة في جامعات الولايات المتحدة، وعلى رأسهم الفيلسوفة وعالمة الاجتماع اللاتينية: ليندا مارتن ألكوف (Linda Martin Alcoff) أستاذ الفلسفة ودراسات المرأة في كلية هانتر(Hunter College)  في جامعة مدينة نيويورك، أسهمت في عدة مجالات فكرية منها (نظرية المعرفة الاجتماعية، والفلسفة النسوية، والفلسفة القارية)، وسلطت الضوء بشكل كبير على فلسفة ميشيل فوكو.

عُرفت الناشطة النسوية (ألكوف) بإسهاماتها الفكرية لتحديد العلاقة بين النظرية والممارسة، وذلك من خلال دراستها التي ركزت على النوع الاجتماعي (Gender) باعتباره طرف أساس في الاضطهاد الذي تعانيه المرأة، وعلى الرغم من تقاطعه مع أشكال أخرى للاضطهاد؛ إلا أنه يظل أهم الأطراف ذات التأثير الكبير في المجتمع. اهتمت (ألكوف) في كتاباتها بإبراز السمات والخصائص الإيجابية للمرأة، في محاولة لمواجهة ميراثًا تاريخيًا كبيرًا دأب على تهميش النساء والانتقاص من دورهن في كتابات العديد من الفلاسفة والمفكرين، علاوة على بعض النصوص اللاهوتية؛ حيث تقول: "فالمرأة دائماً هي مجموعة من السمات التي يمكن التنبؤ بها والتحكم فيها جنبًا إلى جنب مع الظواهر الطبيعية الأخرى، ومن هنا أصبحت المعضلة التي تواجه المنظرين النسويين هي أن تعريفنا لذاتنا يرتكز على مفهوم يجب علينا تفكيكه وإلغاء جوهره في جميع جوانبه."([1])

لاحظت (ألكوف) أن مشكلة النسوية الثقافية لا تكمن في الجوهر الأنثوي ذاته، وإنما تمثلت المشكلة في الذكورة (البيولوجيا الذكورية). فانتقدت النسوية الثقافية لأنها لم تعترض على مفهوم الثقافة السائدة وارتباطاته بالقمع والاضطهاد، وعلى الرغم من أن النسوية الثقافية تصدت للقمع والاضطهاد الواقعين على المرأة، إلا أنها اكتفت بالاعتراض على المعايير والقيم الذكورية الموجودة في هذه الثقافة، حيث تُعد النسوية الثقافية هي أيديولوجية الطبيعة الأنثوية أو الجوهر الأنثوي. ووفقًا للنسويات الثقافيات لا يتعلق الأمر بنظام اجتماعي أو مؤسسة اقتصادية أو مجموعة من المعتقدات الرجعية المعادية للمرأة فحسب، بل تنحصر مشكلاتهن في الذكورة نفسها.)[2]) فتكمن مشكلة النسويات الثقافيات في اعتقادهن أن الهدف الأساسي للنسوية هو تحرير النساء من (القيم الذكورية)، وخلق ثقافة بديلة تقوم على (القيم الأنثوية). حيث رأت (ألكوف) أن إصرار النسوية الثقافية لإعادة تعريف الأنوثة لا يمكن أن يفيد الحركة النسوية على المدى البعيد، وأشارت أنه علينا تعزيز حرية الحركة لدى النساء بحيث يمكنهن التنافس في العالم الرأسمالي جنبًا إلى جنب مع الرجال.

وخلافًا للنسوية الثقافية التي تتعامل مع اللغة بوصفها انعكاسًا للواقع، ووفقًا للنسوية ما بعد البنيوية؛ فاللغة تبني الواقع، فارتكزت (ألكوف) في كتاباتها إلى أن رفض الحتمية البيولوجية لا يرتكز على الاعتقاد بأن الذوات البشرية غير محدَّدة بشكل كاف، بل يرتكز على أننا مقيدون بواسطة الخطاب الاجتماعي والممارسة الثقافية باعتبارنا بُنى (أي أن التجربة الذاتية هي بناء يرتكز عليه خطاب اجتماعي خارج عن سيطرة الفرد).([3])

عكفت (ألكوف) على مراجعة نظرية المعرفة النسوية في دراسات النوع الاجتماعي عبر الثقافات، حيث تأثرت المنهجيات والأساليب المعنية بتمكين النساء والفئات المهمشة الأخرى المتصورة في النوع الاجتماعي بنظريات المعرفة النسوية. وبناء على ذلك، ترى (ألكوف) أنه يتحتم على المرء "أن يكون على إلمام باللغة والسلوكيّات المعرفيّة للثقافة السائدة".([4]) فليس الأمر سهلاً أن تكون ممزقاً بين هويتين مختلفتين. فلا بديل لدينا سوى فهم الاختلافات حول هويتنا والنظر إلى أنفسنا كآخرين. "ولذلك فإن حدود التفسير الفلسفي للنسويات ليس له علاقة بغُلُوّ التقاليد بقدر ما يتعلق بتَنَاغَمَ واندماج الآفاق والثقافات المختلفة."([5])

ولأن ثمة مشكل رئيس يتعلق بتحديد المطالب النسوية حيث لا تخلو المنظمات النسوية من الانقسامات، استدعت (ألكوف) فكرة أنه لا يزال بإمكاننا أن نُعامل النساء كفئة واحدة، مما يسهل ممارسة النسوية كـ(مفهوم سياسي) فهي تؤمن بالنظرية السياسية التي تكمن خارج حدود الكتب وكيفية تطبيقها في الواقع. حيث رأت أن غالبية النشطاء النسويين ينحصر تركيزهم على (الطبقة العليا من النساء العاملات) وبذلك تبقي الغالبية من نساء الطبقات الأقل مهمشات.

اقترحت (ألكوف) فهماً بديلاً لـ (  (Genderنظرًا لتشكيل هوية المرأة من خلال عناصر مختلفة في محيطها، والتي لخصتها في نظرية الموقف النسوي (Feminist standpoint theory)(*). تقول أنه يجب أن تستند النظرية السياسية إلى فرضية أولية مفادها أن كل شخص لديه هوية جسدية مادية سيؤثر ويصدر حكمًا على جميع الادعاءات السياسية في الواقع. فالتمييز على أساس (Gender) غير أساسي ومنبثق من تجربة تاريخية ومع ذلك نعتمد على Gender)) كمرجعية انطلاق أساسية في ممارسة السياسة.([6]) جادلت (ألكوف) أن هذا التنظير لا يعني أن ماهية المرأة يتم تحديدها فقط من خلال عناصر خارجية، وأن المرأة نفسها هي مجرد متلق سلبي للهوية التي أنشأتها هذه القوى، ولكن المرأة نفسها تساهم بنشاط ما في هذا السياق الذي ينضوي عليه تحديد موقعها في المجتمع ومن ثم، فنحن بحاجة إلى تحليل أكثر عمقًا للمجتمعات الأبوية الواقعة تحت طائلة الرأسمالية.

حددت (ألكوف) ثلاثة جوانب رئيسية لأي هوية اجتماعية. أولاً، وضعها التجريبي، أو الطرق التي يمكن من خلالها تحديد موقع الهوية وقياسها وتتبعها بشكل موضوعي تاريخي في الزمان والمكان. ثانياً، وضعها التخيلي، أو الطرق التي يشكل بها تخيلًا اجتماعيًا مشتركًا ينظم ويصف أنماط الحياة المعيارية والمقبولة، سواء بالنسبة للمجموعة أو الفرد. ثالثاً، تكوين موضوعها، أو تكوين موضوعات فردية مع طرق معينة للتجربة والإدراك وكذلك التفاعل مع البيئة الاجتماعية والطبيعية.([7])

لاحظت (ألكوف) أنه لا يمكن للمرء أن يتناول الطبقية كعنصر منفصل، فالوضع الطبقي وليد للعرق والنوع الاجتماعي، ولذلك إن النقاشات والنظريات النسوية تطورت في ظل الاعتراف المتزايد بالتمثيلات العرقية للمرأة في العالم التي تتحدث عن ظروف المرأة البيضاء المميزة كنقطة مرجعية لها. لم تستطع نظريات النساء البيض أن تدلل على الاضطهاد المتعدد للنساء السود، أي آثار العرق في بناء الشخصية والعلاقات بين الجنسين. وفي مقالها (ما الذي يجب أن يفعله البيض؟) اكتشفت (ألكوف) أن البيض في بعض الأوقات وفي بعض الجوانب ينحازون ويتوحدون مع غير البيض، ومن ثم يتخذون موقفًا ضد العنصرية ليصلوا بذلك إلى ما هو أكثر من النقد الذاتي، وهنا طرحت (ألكوف) تساؤلاً يشكك في كثير من بنيان نظريات سابقة قائلة: "إذا سلمنا بأن هوية أي جماعة قائمة على استبعاد الآخر وعلى التفوق الضمني، فلماذا الاحتفاظ بالهوية البيضاء أصلاً؟ ألا ينبغي علينا أن نتخطى التصنيفات العرقيّة؟".([8])

حصلت (ألكوف) على العديد من الأوسمة والجوائز، بما في ذلك الدكتوراه الفخرية من جامعة أوسلو   (University of Oslo) عام 2011 ، وجائزة فرانتز فانون من الجمعية الفلسفية الكاريبية لعام 2009 عن كتابها: (Visible Identities: Race, Gender, and the Self) الهويات المرئية: العرق والجنس والذات، وتم الاعتراف بها باعتبارها المرأة المتميزة في الفلسفة من قبل جمعية المرأة في الفلسفة لعام 2005.(*)

 

*المصادر:

  1. ليندا مارتن ألكوف، ما الذي يجب أن يفعله البيض؟ ضمن مؤلف نقض مركزية المركز- الفلسفة من أجل عالم متعدد الثقافات بعد-استعماري ونسوي، تحرير/ أوما ناريان وساندرا هاردنغ، ترجمة/ يمنى طريف الخولي، سلسلة عالم المعرفة، ج2، ديسمبر 2012.

 

  1. Linda Martín Alcoff, “Cultural Feminism versus Post -Structuralism: The Identity Crisis in Feminist Theory”. Signs 13, no. 3,1988.
  2. …………………….., Gadamer’s Feminist Epistemology, edited by Lorraine Code, The Pennsylvania State University,2003.
  3. ………………………, Schutte's Nietzschean Postcolonial Politics, Published by: Wiley on behalf of Hypanthia, 2004.
  4. www.alcoff.com
 

([1]( Linda Alcoff, Cultural Feminism versus Post -Structuralism: The Identity Crisis in Feminist Theory. Signs 13, no. 3(1988): p.405.

([2]) Linda Martín Alcoff, (Cultural Feminism versus Post-Structuralism): p.408,409.

([3]( Ibid, p. 421

([4]) Linda Martín Alcoff, Schutte's Nietzschean Postcolonial Politics, Published by: Wiley on behalf of Hypanthia, 2004, p. 153,154 .

([5]) Linda Martín Alcoff, Gadamer’s Feminist Epistemology, edited by Lorraine Code, The Pennsylvania State University,2003, p. 255,256.

(*) نظرية الموقف النسوي: من أهم أسس الفلسفة النسوية إجمالاً، ومفادها المبدئي أن موقف النساء ذو أفضلية من حيث إنه الأقدر على كشف التحيز الجنساني للذكور وتعسف المركزية الذكورية وسائر التشوهات من هذا القبيل التي تنال من المصداقية والموضوعية. وسوف يتمد منطق هذا الموقف ليشمل أيضاً ما يمكن أن نسميه نظرية الموقف العنصري، من حيث إن السود دخلاء على جماعات البيض وحين يدخلونها ويطلعون على أسرارها يصبحون أصحاب موقف معرفي متميز. انظر إلى: أوما ناريان وساندرا هاردنغ، نقض مركزية المركز- الفلسفة من أجل عالم متعدد الثقافات بعد-استعماري ونسوي، ترجمة/ يمنى طريف الخولي، سلسلة عالم المعرفة، ج2، ديسمبر 2012، هامش ص186.

([6])  Linda Alcoff, "Cultural Feminism versus Post-Structuralism, p. 432, 433

([7]) Linda Alcoff, "Cultural Feminism versus Post-Structuralism: 435-436

([8]) ليندا مارتن ألكوف، ما الذي يجب أن يفعله البيض، ضمن مؤلف نقض مركزية المركز- الفلسفة من أجل عالم متعدد الثقافات بعد-استعماري ونسوي، تحرير/ أوما ناريان وساندرا هاردنغ، ترجمة/ يمنى طريف الخولي، سلسلة عالم المعرفة، ج2، ديسمبر 2012، مرجع سابق، ص.181

(*) انظر إلى: ليندا مارتن ألكوف."السيرة الذاتية" www.alcoff.com  مؤرشفة من الأصلي في 5-8-2021 .