يحاور الباحث الفلسطيني هنا أسعد أبوخليل في مقاله الذي سبق أن نشرناه بالكلمة ومقولته عن خروج العرب من التاريخ، ويفند الأسباب التي أدت إلى هذا الخروج، وإلى تخلف البلدان العربية وازدياد أغلبها فقرا، ويرجع الكثير من ذلك إلى المخطط الصهيوني في المنطقة وما ساد فيها من نظم عسكرية.

كيف خرج العرب المعاصرون من التاريخ؟

البحث عن الأسباب

عصام النقـيـب

 

في مقال له في «الأخبار» (يوم 19/3/2022)، بعنوان «الموت السياسي للعرب: كيف استقلنا من التاريخ؟» قدّم أسعد أبو خليل مجموعة من الأفكار والتحاليل الأولية الصادمة بصراحتها للأحداث العربية، فسّر من خلالها مضمون مقالته أن العرب خرجوا من التاريخ، بعدما كانوا قد دخلوا بقوة إلى داخل مجراه العريض بزعامة عبد الناصر، الذي وثقت الشعوب العربية بشخصه وقيادته. وبفضل ذلك، كانت القوى الكبرى تحسب حساب الشعوب العربية، وآراء عبد الناصر بالذات، في ما يخصّ أي قرارات تتّخذها ذات علاقة بالمنطقة العربية. فقد كانت هذه الشعوب تعبّر عن غضبها ومعارضتها لأيّ قرار يتعارض مع مصلحة أيّ من الدول العربية، بالخروج إلى الشوارع ومحاصرة السفارات والاحتجاج، أي استخدام «العنف السياسي» حسب تعبير الكاتب.

وقد توقف ذلك الآن تماماً. إذ لا أحد يحسب حساب الشعوب العربية أو مواقف دولها. ولم يعد هناك، في وزارات الخارجية الغربية، خبراء مستعربون يتصارعون مع الصهاينة، كما يقول الكاتب، حرصاً على إرضاء الشعوب العربية لتأمين مصالح دولهم. كل ذلك لم يعد موجوداً الآن، بعدما سيطر الجهاز الصهيوني على كل مقدّرات صنع السياسة الخارجية نحو بلادنا في الولايات المتحدة، ومنذ نهاية التسعينيّات، في كندا. (ويمكن الآن، إلحاقاً بما ذكره الكاتب، أن نضيف بريطانيا إلى القائمة). ثم قدّم أبو خليل ستة أسباب لتفسير الظاهرة، والعودة إليها لاحقاً، ولدعم رأيه في أن العودة إلى الخيار العسكري على مستوى الدول، والعنف السياسي على مستوى الشعوب، وليس المفاوضات أو الأساليب الدبلوماسية هي الطريق الوحيد للخروج من الأوضاع الراهنة. وهو يرى، في هذا السياق، أن أساليب اللاعنف وقيادة المجتمع المدني للعمل الوطني لا مجدية، والدعوة إليها مشبوهة، ويسخر، دون تقديم الأدلة، من صحة القول إن حركة المقاومة المدنية، التي قادها غاندي، هي التي حررت الهند من الاستعمار البريطاني.

من الصعب الاختلاف مع مقولة خروج العرب المعاصرين من التاريخ، لأن كل الأحداث تشهد بذلك، كما أصبح الشعور بالتراجع في كل الميادين وغياب العرب عن التأثير في مجرى الأحداث، التي تخصّ مصير أوطانهم، يخيّم على معظم الأقطار العربية، وبخاصة بلدان الهلال الخصيب واليمن وليبيا، التي أصبحت شعوبها تعيش في أوضاع كارثية، غير مسبوقة في تاريخها.

تنطلق هذه المداخلة من تثمين مبادرة أبو خليل بدقّ جرس الإنذار لدول المنطقة وشعوبها، وتذكيره لها بحالة انعدام الوزن الدولي التي وصلت إليها، ومخاطر المستقبل الذي ينتظرها، لو استمرت في تجاهل هذه المخاطر والتحديات. وتسعى المداخلة، انطلاقاً من مناقشة مجموعة الأسباب التي قدّمها الكاتب لتفسير الظاهرة، إلى التعرّف، بمزيد من التعمق، إلى جذور هذه الأزمة ومسارها الزمني. وهي تركّز، بصورة حصرية، على موضوع واحد دون غيره: هو محاولة فهم دور النظم العربية التي حاولت أن تملأ الفراغ الذي تركه عبد الناصر، بعد رحيله مباشرة، في التمهيد لمسلسل الأحداث الكارثية التي حلّت بالمنطقة العربية لاحقاً، وصولاً إلى الحالة الحاضرة. أي أنّ المداخلة، تتوقف عمداً عند هذه النقطة، دون التعرّض لتلك الأحداث، بأيّ قدر من التفصيل، لكون ذلك يتعدّى بكثير حدود مثل هذه المداخلة وهدفها.

البحث عن الأسباب
يلاحظ، بداية، أن بعضاً من الأسباب الستة، المقترحة من أبو خليل، هي أقرب إلى أن تكون من أعراض الظاهرة بدلاً من مسبّباتها. وعلى سبيل المثال، فإنّ «حالة الإحباط التي تمرّ بها الشعوب العربية» التي قدّمها الكاتب كأحد الأسباب الستّة (السبب 3)، تبدو نتيجة لحالة التراجع العربية ونتائجها الكارثية على حياة الشعوب العربية، وليست تفسيراً لها.
وكذلك فإن «غياب زعامات عربية تتحدّى الواقع» (السبب 4) هو توصيف للواقع القائم وليس تفسيراً لأسبابه. فالقول مثلاً إن فلاناً مريض هو مرادف للقول إنه إنسان يفتقر إلى الصحة، وليس تفسيراً لمرضه.

ومع الاعتراف بأهمية «ظاهرة مواقع التواصل الاجتماعي التي توهم الفرد بأن كتابة تغريدة هي بنفس قوة تظاهرة أمام مبنى حكومي أو سفارة أجنبية» (السبب 6)، وخاصة بعدما أصبح لهذه الظاهرة ما يشبه مفعول المخدّر بالنسبة إلى قطاعات واسعة من الشعوب العربية، إلا أن هذه الوسائل متاحة لكل شعوب العالم وليس للشعوب العربية وحدها، ومنها تحصل شعوبنا على الكثير من الأخبار ووجهات النظر التي يحجبها عنها الإعلام الرسمي، وخاصة أن غالبيّة المواطنين يقضون معظم أوقاتهم في البحث عن مورد رزقهم ورزق أسرهم.

وكذلك فإن «سياسة الإلهاء المقصودة والتي أوعزت بها الحكومة الأميركية لحكومات السعودية والإمارات وقطر للإفراط في إعلام التسلية والفن وكل ما هو بعيد عن فلسطين» (السبب 1) تبدو قليلة الأهمية في سياق هذا الموضوع، فالمشاهدون الذين يتابعون هذه البرامج على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، عندهم خيارات أخرى كثيرة. وما يبدو أكثر أهمية، هو أن النفط السعودي والإماراتي، وخاصة منذ ثورات الربيع العربي، أصبح يستخدم في شراء الأقلام وما تبقى من منابر الصحافة والميديا ذات الاستقلال النسبي في المنطقة، وإغلاق معظمها. وما يبدو أكثر أهمية من ذي وذاك، أنه منذ زمن طويل، خيّم الظلام، على كل منابر الإعلام المستقلة، ودفع الكثير من حمَلة الأقلام والآراء الحرّة حياتهم ثمناً لذلك، في دول الأنظمة العسكرية، التي وصلت إلى الحكم في السبعينيّات من القرن الماضي. حيث احتكر الإعلام الرسمي وصحافة الدولة فبركة الحقائق، وإبداء الرأي، ما صرف الناس، داخل تلك الدول وخارجها، عن قراءة أو تصديق أيٍّ مما ينشر أو يذاع هناك، ودفعهم إلى البحث عن مصادر أخرى.

في مقابل الأسباب الأربعة التي جرت الإشارة إليها، يبدو أن «فعالية القمع العربي في خلق حالة استكانة لدى المواطنين» (السبب 2) يخاطب جذور المشكلة في الصميم. لأن القمع العربي سبق حالة التراجع وكان من أهم مسبّباتها. إلا أنّ الكاتب لم يتوسع بصورة كافية، في تحليل دور هذا العامل المحوري، في تفسير الظاهرة، بتقديمه مثالاً واحداً على القمع، هو حالة دولة الإمارات. فبالرغم من أن المعلومات كافّة، المتوفرة في الفضاء العام، تدعم قوله بأن الإمارات تحكم بقبضة أمنية حديدية، لقمع أيّ صوت معارض، وخاصةً بعد تحالف حاكمها علناً، مع وليّ العهد السعودي، بالانضمام الرسمي والصريح إلى المعسكر الصهيوني، وأصبحت مخابراتها تنسّق وتتبادل المعلومات مباشرة مع «الموساد»، فإنّ الدور الإقليمي الذي تقوم به الإمارات في المنطقة حديث العهد نسبياً، ولاحق لحالة التراجع والتخبّط العربي التي بدأت قبل ذلك بسنين طويلة. أي أن حالة الإمارات، على أهميتها الحرجة بالنسبة إلى الأوضاع الحاضرة، لا تفيد كثيراً كمثال عند البحث عن جذور حالة التراجع، في الوقت الذي اشتهرت فيه المنطقة، منذ عقود، بالأمثلة على وجود أنظمة عسكرية قمعية، لا تتردّد في سحق شعوبها ضماناً لبقائها.

وأخيراً، لا شك أنّ «ضعف القضايا المركزية بعد سقوط منظمة التحرير وانتهاج ياسر عرفات لمسيرة أوسلو التي قضت على المقاومة الفلسطينية المسلّحة في عمودها الفقري» (السبب 5) هو أيضاً من أخطر مسبّبات حالة التراجع والتدهور العربي. وكما بيّن د. أنيس فوزي قاسم، في دراسته المرجعية لاتفاقيات أوسلو «الآثار القانونية لاتفاق أوسلو» بالرجوع إلى وثائقها وموادها وملاحقها بالتفصيل (1)، (وهي، في حدود معرفة كاتب هذه المداخلة، الدراسة الوحيدة المنشورة بالعربية التي تصدّت لإنجاز هذه المهمة البحثية القانونية ذات الأولوية العالية)، فإنّ ما قدمته أوسلو للحركة الصهيونية، من هدايا مجانية، أكثر إجحافاً بحقوق الشعب الفلسطيني، ودعماً للمشروع الصهيوني، من القرارات السياسية التاريخية التي مكّنت الحركة الصهيونية من استعمار فلسطين، مثل وعد بلفور (1917)، ووثيقة الانتداب (1920) الصادرة عن عصبة الأمم، وقرار التقسيم (1947).

يلاحظ أن بعضاً من الأسباب الستّة، المقترحة من أسعد أبو خليل، هي أقرب إلى أن تكون من أعراض الظاهرة بدلاً من مسبّباتها. ما يضاعف من أهمية الاستنتاج الذي توصل إليه قاسم، هو أن القرارات الدولية الثلاثة المشار إليها، تحققت بإرادات استعمارية ودولية، لم يكن بمقدور الشعب الفلسطيني إيقافها. أمّا اتفاقية أوسلو، فقد تحققت بإرادة القيادة التاريخية لمنظمة التحرير الفلسطيني، وملء موافقتها، وخلف ظهر الشعب الفلسطيني. وهو ما لم يحدث في تاريخ الحركات الوطنية المعروفة كلها. وبهذا، فإن تجربة أوسلو قدّمت درساً قاسياً للشعب الفلسطيني، ولكل شعب عربي آخر، وهو ألّا يسلم شؤونه أبداً لأيّ قيادة لا تنبثق من بين صفوفه، بصورة تمثيلية، ولا تخضع، في كل الأوقات، لمساءلته ومحاسبته وموافقته.

الحقيقة، أن النتائج، التي تمخّضت عنها اتفاقية أوسلو، أخطر بكثير من مجرد «القضاء على المقاومة الفلسطينية المسلحة في عمودها الفقري». فقد تنازلت قيادة المنظمة، من خلال الاتفاقية، عن كامل الحقوق الفلسطينية، دون قيد أو شرط، وتجاهلت وجود الاحتلال والاستيطان والمستوطنات وعمليات التطهير العرقي في القدس والضفة، وتعاملت معها كأنها مسلّمات بديهية وحقائق تاريخية قديمة قدم المدن والبلدات والقرى الفلسطينية العريقة التي يعود تاريخها إلى مئات وآلاف السنين. فكلّ وثائق الاتفاقية، التي تصل في حجمها إلى مئات الصفحات، ومئات الآلاف من الكلمات، تخلو من أيّ مفردات أو عبارات مفتاحية مثل: احتلال، جيش احتلال، سلطة احتلال، أراضٍ محتلّة، عمليات استيطان، مستوطنون، أراضٍ مصادرة، إخلاء البيوت من أصحابها، شعب فلسطيني، حقوق فلسطينية، حقّ تقرير المصير، القدس الشرقية (إذ تستخدم كلمة القدس فقط بوصفها القدس الموحّدة، العاصمة الأبدية لإسرائيل)، فضلاً عن تعابير أخرى، مثل دولة فلسطينية أو دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، التي ادّعت قيادة المنظمة أن توهم الشعب الفلسطيني بأنه هدف الاتفاقية(2).

أي أنّ الاتفاقية كانت تعادل عملية تطبيع كاملة، من قبل قيادة المنظمة، مع الاحتلال ونشاطاته المستمرة في الاستيطان والتهويد والتطوير العرقي، وبالتالي مع الحركة الصهيونية. وكأن قيادة المنظمة أصيبت فجأة بحالة من فقدان كامل للذاكرة الوطنية (أمنيزيا). وكان ذلك كله مقابل إقامة سلطة فلسطينية، إدارية وقضائية، خالية من أيّ مقوّم من مقوّمات السيادة، على مناطق الكثرة السكانية الفلسطينية. وهي الجزر السكانية المعزولة بعضها عن بعض، والمؤلّفة من المدن الفلسطينية والبلدات والقرى المحيطة بها مباشرة، والتي لا يزيد مجموع مساحتها على 9% من مساحة فلسطين التاريخية. كما أن الوظيفة الرئيسية للسلطة، وفق نصوص الاتفاقية، هي ضبط الأمن في المناطق الفلسطينية ومنع أيّ احتكاك بينها وبين قوات الاحتلال أو المستوطنين والمستوطنات، من خلال التنسيق الأمني على مدار الساعة مع الأمن الإسرائيلي. وهو ما مكّن الاحتلال، ولا يزال، من مضاعفة وتيرة عملياته في الاستيطان والتطهير العرقي، في المنطقة جيم (60% من الأراضي المحتلة)، وفي القدس ومحيطها الجغرافي الواسع، من البلدات والقرى العربية المعروفة، دون عوائق. وفي مقابل ذلك، تحصل السلطة على تمويل سنوي منتظم ومجزٍ من أموال الدول المانحة، ومن دافع الضرائب والرسوم الفلسطيني.

وهكذا، وبالرغم من مئات الصفحات التي تتألّف منها الاتفاقية، فإنّ معادلتها التعاقدية مغرقة في بساطتها المُذلّة: شركة خدمات حراسة فلسطينية تعمل، بعقد جانبي، في مؤسّسة ضخمة اسمها الاحتلال، تابع وسيد، وحفنة سنوية من الدولارات، مقابل وطن (3).

التجربة الناصرية:
في مقال أسعد أبو خليل مجموعة من الأفكار والتحاليل الأولية الصادمة بصراحتها للأحداث العربية، فسّر من خلالها مضمون مقالته أن العرب خرجوا من التاريخ، بعدما كانوا قد دخلوا بقوة إلى داخل مجراه العريض بزعامة جمال عبد الناصر، الذي وثقت الشعوب العربية بشخصه وقيادته. لا بد إذاً من العودة إلى التجربة الناصرية، للمزيد من التعمّق في «السبب 2» (أنظمة القمع)، بوصفه السبب الرئيسي، إذ إن المرحلة التي تلت المرحلة الناصرية، تمثّل الفترة البينية بين التجربة الناصرية والمرحلة الحاضرة.

كل من عاصر فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وهو في مرحلة الشباب، وقد أصبحوا قلة متلاشية، من بينهم كاتب هذه السطور، يشعر بالاعتزاز والحنين الجارف إلى تلك الفترة المفعمة بالإنجاز والأمل والشعور بالانتماء العربي، عند قراءة ما كتبه أبو خليل عن الدور الذي كانت تقوم به الشعوب العربية في عهد عبد الناصر، حيث التفّت كلها آنذاك حول قيادته، وكانت كلمة منه تحرّك الملايين على امتداد الوطن العربي. كانت نقطة التحوّل هي خروج بريطانيا مهزومة من قناة السويس ومصر كلها، وإنهاء احتلال دام سبعين عاماً إلى غير رجعة، نتيجة لفشل العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، أو ما سمّي بحرب السويس. وقبل ذلك، بسنوات قليلة، كانت الهند قد حصلت على استقلالها من بريطانيا، عام 1947، ثم انتصرت الثورة الشيوعية في الصين عام 1949، ثم مني الاستعمار الفرنسي في فيتنام بهزيمة مدوية في منتصف عام 1954، عند استسلام الحامية الفرنسية في ديان بيان فو، في فيتنام الشمالية، للثوار الفيتناميين، بعد حصار دام أربعة أشهر، ثم انطلقت الثورة الجزائرية قبل نهاية العام ذاته.
وقد شعرنا كمواطنين عرب آنذاك، وكما بدا للعالم أيضاً، أن الشعوب العربية عرفت طريقها نحو المستقبل، خلف قيادة عبد الناصر، بهدف التحرّر من الاستعمار والوحدة واسترجاع الحقوق الفلسطينية، وإرساء قواعد العدالة الاجتماعية كأساس لبناء المجتمعات العربية الحديثة. إذ لم يمض عقد من الزمن على انطلاق الثورة المصرية عام 1952، حتى حصلت المغرب وتونس على استقلالها من فرنسا، وألغى كل من العراق والأردن معاهدته مع بريطانيا، ثم تحرّرت الجزائر من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، الذي كان قد استمر أكثر من مئة وخمسين عاماً. وبصورة موازية، امتدت حركات التحرر إلى القارتين الأفريقية والآسيوية، وظهر إلى الوجود، عبر مؤتمر باندونغ، 1955، مجموعة دول الحياد الإيجابي، بزعامة نهرو وعبد الناصر وتيتو، وبمباركة من شو إن لاي، وزير خارجية الصين الشعبية آنذاك، لتشمل معظم الدول التي حصلت على استقلالها، في آسيا وأفريقيا.

يمكن تفسير ما سبق بالقول إن الحرب العالمية الثانية كانت نهاية مرحلة الاستعمار الأوروبي التقليدي لآسيا وأفريقيا، إذ تحولت الدول الأوروبية المستعمرة، مع نهاية الحرب التي أنهكتها وأظهرت محدودية إمكاناتها، إلى قوى من المرتبة الثانية. وفي المقابل، برز عالم جديد ثنائي القطبية، تقوده دولتان فتيتان عظميان، هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. وكان حرص كل من القطبين، بحافز الردع النووي المتبادل، على تجنب الدخول في مواجهة نووية مع الآخر، مع التنافس في الوقت ذاته على نشر نظامه السياسي ونفوذه الاقتصادي في العالم، قد بلور قواعد مستقرة متفق عليها، للعبة السياسة الدولية. وهذا وفر بدوره مساحة مفيدة من حرية الحركة، أمام الدول الأفريقية والآسيوية الناشئة. فقد كانت الدولتان الكبيرتان تتنافسان على كسب صداقة هذه الدول، من خلال المساعدات الاقتصادية والعسكرية والتحالفات الإقليمية. وبالنسبة للمنطقة العربية، كان عبد الناصر، بما يملكه من عزيمة وإخلاص وقيادة كاريزماتية، هو رجل المرحلة المناسب، في الزمن المناسب. أو على حد تعبيره في كتيبه عن «فلسفة الثورة»: «أن هذا الجيل على موعد مع القدر.

التحدّيات
كان للضباط الأحرار الكثير مما يدعم ادعاءهم بأن حركتهم كانت ثورة حقيقية، وليست مجرد انقلاب عسكري. فالذين قادوا الانقلاب كانوا مجموعة متفاهمة، بدأوا في التحاور السري وتطوير وبلورة أفكارهم الإصلاحية بصورة جدية منذ مشاركتهم في حرب 1948. كانت تلك الأفكار تتمحور حول أهداف التحرر الكامل من الوجود البريطاني ومن النظام الإقطاعي المتمثل في طبقة الباشوات، الذي يقف الملك وحاشيته على رأسه، وفي تحقيق النهضة لمصر في الميادين كافة، بعد تحقيق الإصلاح الزراعي الذي يرجع الأرض لأصحابها الفلاحين. وقد قدموا أهدافهم للشعب المصري في «برنامج النقاط الست» الذي تضمنه البيان الإذاعي الأول للثورة، وبدأوا بتنفيذه بمجرد أن استتب لهم الحكم. كما أن دور الحركة في دعم وإنجاح موجة التحرر من الاستعمار، التي عمت المنطقة العربية في السنوات التالية لعام 1952، كما سبق ذكره، شاهد آخر على صدق وفعالية النوايا الثورية لانقلاب الضباط الأحرار.

إلا أنه بالرغم من كل ذلك، فقد كان نظام الحكم، الذي قاده عبد الناصر، في نهاية المطاف، نظاماً مصمماً لخدمة انقلاب عسكري وتأمين بقائه، وإن حاول جاهداً، وبكل إخلاص، أن يتحول إلى ثورة. كان نظاماً مغلقاً من الناحية المؤسسية، يقوم فيه مجلس الثورة بأدوار السلطة التنفيذية (إصدار القرارات السياسية والعسكرية والمدنية) والسلطة التشريعية (إصدار مراسيم القوانين والتشريعات باسم مجلس الثورة) والسلطة القضائية عند اللزوم (من خلال محاكم الثورة). وكان يعتمد بصورة أساسية على الإعلام الموجه، وغياب وجود أحزاب أو صحف معارضة مستقلة. وكان يعتمد أيضاً على المخابرات ذات الصلاحيات القوية والمباشرة، وعلى ضباط الجيش، بصورة أساسية أيضاً، لإشغال المناصب المهمة في القطاع العام، ضماناً لولاء الجيش. ونتيجة لذلك، كان النظام يفتقر إلى الحد الأدنى من الآليات المؤسسية المستقلة، لمحاسبة ومساءلة القيادات السياسية والعسكرية والاقتصادية، بخاصة على المستويات العليا، وعلى تصحيح الأخطاء، في الوقت المناسب، وقبل استفحالها.

لم يمض وقت طويل على حرب السويس، عام 1956، قبل أن تبدأ نتائج هذا الانغلاق المؤسسي تؤثر في الأحداث. وقد تمثل ذلك، بصورة خاصة، في نشوء صراع قوى صامت داخل النظام، كان مركزه المشير عبد الحكيم عامر، الذي وقع في إغراء السلطات الهائلة التي كان يتمتع بها، كقائد للقوات المسلحة ونائب لعبد الناصر. فقد أحاط نفسه، مع الوقت، بشلل من منظمي سهرات الأنس واللهو والمخدرات على المستوى الشخصي، والمنتفعين والمنافقين، من الضباط وأصحاب المصالح، في مجال الحكم، وأصبح المشير وأعوانه بمثابة دولة داخل دولة.

وقد تسبب هذا الاختلال، على أعلى المستويات في منظومة الحكم، والذي بقي بعيداً من صفحات الإعلام الموجه، بين أمور أخرى كثيرة، في عدم استيعاب النظام للدروس العسكرية الخطيرة التي تمخضت عنها تجربة حرب السويس عام 1956، بخاصة بالنسبة لطبيعة الخطط العسكرية الإسرائيلية المقبلة، والدور الموكل لسلاح الطيران في الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية. بل كان هناك في عالم المشير مبالغة غير مفهومة في تقدير القوة العسكرية والصواريخ المصرية، وفي تقليل أهمية القوة العسكرية الإسرائيلية، وهو ما يخالف ألفباء العقائد العسكرية كافة. وقد تسبب هذا الاختلال المؤسسي في منظومة الحكم، في تفكك الوحدة المصرية السورية، ثم في كارثة 1967. وكان للمشير، بحكم منصبه والمسؤوليات العليا التي كانت موكلة إليه، دور مباشر في التسبب في كل من هاتين النكستين التاريخيتين.

إلا أن عبد الناصر استطاع، بعد كارثة 1967، وكما ينوه أبو خليل، أن يستعيد زمام المبادرة ويعيد تنظيم القوات المسلحة ويشن حرب استنزاف طويلة ناجحة ضد القوات الإسرائيلية عبر قناة السويس. بل إن ميزان القوى القتالي بدأ يميل لصالح مصر، مع بداية عام 1970، مما دفع بوزير الخارجية الأميركية آنذاك، وليام روجرز، إلى تفعيل مبادرته الشهيرة، التي دعت إلى تطبيق القرار 242، والذي يقضي بانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة، وإقامة سلام إقليمي شامل في المنطقة. وكان ذلك يتناقض كلياً مع ما تريده إسرائيل والقوى الصهيونية الداعمة لها، وعلى رأسها الداهية الصهيوني متعدد الأدوار، هنري كيسنجر (الذي تميّز سجله أثناء توليه وزارة الخارجية الأميركية باضطهاد وسفك دماء الشعوب المكافحة من أجل حريتها)، وهو الإصرار على عقد سلام منفرد، مع كل دولة عربية على حدة، بدلاً من السلام الإقليمي الذي نص عليه القرار الدولي.

وذلك لأن السلام المنفرد يمكّن إسرائيل من فرض شروطها للسلام على كل دولة عربية على حدة، بما يعكس، لصالحها، توازن القوى بينهما على الأرض، وبما يؤمن عزل تلك الدولة عن الدول العربية الأخرى. كما أن السلام المنفرد يعفي إسرائيل من أهم مسؤولياتها أمام المجتمع الدولي، وبموجب القرار، وهي إيقاف الاستيطان والانسحاب من الأراضي المحتلة، أي التخلي عما تعتبره إسرائيل والحركة الصهيونية مبرر وجودهما. وأخيراً، فإن السلام المنفرد يعفي إسرائيل أيضاً من مسؤولية تعريف حدودها النهائية، أسوة بدول العالم الأخرى كافة. فالحركة الصهيونية لم تفصح عن، أو تلتزم في أي وقت، منذ أعلنت مشروعها، على لسان هرتزل في نهاية القرن التاسع عشر، كما لم يلتزم أي مسؤول آخر في الحركة أو الدولة الصهيونية، بأي تعريف لتلك الحدود، داخل فلسطين التاريخية أو خارجها. وهو ما يعكس طبيعة إسرائيل، كمشروع استعماري استيطاني، مستمر ومفتوح على المستقبل: حدودها في أي وقت، هي الخطوط الجغرافية التي وصل إليها زحفها الاستيطاني عند ذلك الوقت، سواء كان ذلك داخل فلسطين التاريخية أو خارجها.

كان السلام الإقليمي هو ما أراده المجتمع الدولي من خلال القرار، وتبناه روجرز، من خلال رؤيته للمصالح الأميركية، وقبل به عبد الناصر. وكان السلام المنفرد هو ما أرادته الحركة الصهيونية، ونادى به ونفذه كيسنجر، من خلال رؤيته للمصالح الصهيونية، وقبل به السادات. ولذا كان موت عبد الناصر المفاجئ في أواخر 1970، والذي حامت حول توقيته الشكوك، من أكبر النكسات التي أصابت المنطقة العربية. فقد غاب القائد القدير والشجاع فجأة، في أحرج الأوقات، قبل أن ينهي مهمته في إدارة المعركة القائمة، وبقي النظام المغلق الذي يسيطر عليه الجيش.

كان عبد الناصر قد حاول جاهداً أن يطور النظام الانقلابي في اتجاه مزيد من المشاركة والتمثيل الشعبي الواسع، من خلال إجراء انتخابات رئاسية وانتخابات تشريعية، لمجلس الشعب، وتشجيع وجود أصوات مستقلة داخله. إلا أن هياكل الدولة المؤسسية، كانت تتحرك بإشراف الاتحاد القومي، ثم الاتحاد الاشتراكي لاحقاً، الذي هو حزب الدولة المهيمن. أي أن علاقات القوى لم تتغير من الناحية الجوهرية، وبقي الجيش مسيطراً. وبدأ التردي والتراجع والفساد يزداد تباعاً، في عهود الذين خلفوا عبد الناصر، ابتداء بالسادات، مروراً بمبارك، وانتهاء بالسيسي. وليس أدل على ذلك من أن نائب عبد الناصر قام على الفور، بعد أن استتب له الحكم، بإلغاء توجهات عبد الناصر السياسية والاقتصادية والجيوسياسية كافة، فاستبدل الحليف السوفياتي بالسيد الأميركي، وحصر اهتمامه بمصر بمعزل عن العالم العربي، وقبل بالسلام المنفرد بمعزل عن النظام السوري، حليفه في الحرب. وزار القدس، وخطب في الكنيست، ثم عقد الصلح مع إسرائيل.

وكان ذلك كله مقابل تحويل سيناء، التي هي جزء من الأرض المصرية، إلى منطقة منزوعة السلاح، ومقابل تمويل الجيش المصري بالمعونات الأميركية المالية السنوية، ليصبح كلياً خارج الصراع، وعالة مترهلة على المعونة السنوية الأميركية، وخاضعاً لمراقبة البنتاغون. وهو ما أطلق يد إسرائيل في الأراضي المحتلة، أي القدس والضفة الغربية والقطاع، من دون قيد أو شرط. يبدو إذاً أن الدرس الأساسي الذي تمخضت عنه التجربة الناصرية هو عدم إمكان بناء مستقبل متطور وقابل للاستمرار لبلد عربي، أو أي بلد آخر، على أساس حكم الجيش وتولي العسكر شؤون الحكم، حتى إذا توافرت النوايا الطيبة، وتحت أي مسمى من المسميات.

وهو ما يعني ضرورة التمييز بين التجربة الناصرية وشخص عبد الناصر، ومكانته الخاصة في التاريخ العربي الحديث، من جهة، وبين نظام الحكم الناصري من جهة أخرى. أهم ما في تلك التجربة أنها غنية بالدروس، لأنها كانت محاولة حقيقية لبناء مشروع قومي على مستوى المنطقة، ربما للمرة الأولى منذ محمد علي. ولذا فإن أفضل ما يمكن عمله، لتكريم عبد الناصر، لخدمة مصالح الشعوب العربية، هو دراسة تلك التجربة بصورة نقدية، في كل جوانبها، ليس بهدف نسخها وتكرارها، على غرار التفكير السلفي، بل لتشخيص مواطن قوتها وخللها، وما يمكن تعلمه عن أسباب فشلها في النهاية. وكما يقال، فالشعوب التي لا تتعلم من تاريخها تظل مجبرة على تكراره.

جمهوريات الصمت والخوف
أدّى نجاح التجربة الناصرية في مراحلها الأولى إلى حدوث عدة انقلابات عسكرية، في المنطقة العربية، لتحلّ مكان الأنظمة التي كانت سائدة، على غرار ما حصل في مصر. وقبل مضي عقد من الزمن على رحيل عبد الناصر، استتبّ الأمر، بصورة خاصة، لأربعة قادة جدد أعطى كل منهم لانقلابه صفة الثورة التي تُنهي كلّ الثورات، وليقف على قمّة نظامه دون منازع: ليبيا (1969)، سوريا (1970)، العراق (1978)، اليمن (1978). وقد سبق ذلك، في حالتي سوريا والعراق، صراع دموي دام سنوات، داخل الحزب والجيش (لم تُدرج التجربة المصرية الهامة ضمن هذه المجموعة، فقد جرى التعرّض لها بالتفصيل، كما لم تُدرج التجربة الجزائرية، لخصوصيّتها، ولبُعدها النسبي عن مسرح الأحداث في المشرق).

كان يقود كلاً من النظم العسكرية الأربعة فرد مغمور، مغامر محدود التعليم والثقافة، متمرّس في الصراعات الحزبية أو العسكرية الداخلية، إضافة إلى كونه شديد الطموح الشخصي والاعتداد بالذات، وذا ذكاء وقسوة فطريّين. ونظراً إلى افتقار كلّ من القادة الجدد للحد الأدنى من شرعية الموافقة أو التمثيل الشعبي الحر، فقد اعتمدوا جميعاً على عصبيات فئوية أو قبلية لضمان البقاء في الحكم، وعلى نظام شمولي، يعتمد على الحزب الواحد والجيش العقائدي الموجه، وعلى أجهزة الشرطة والمخابرات المتعددة التي تراقب المواطنين وترصد تحركاتهم على مدار الساعة، علماً بأن قادة كل من هذه الأجهزة يكون مسؤولاً مباشرة أمام رأس النظام. واستكملوا ذلك بتفعيل دور المؤسسات الحكومية والمجالس التشريعية والقضائية الضرورية لإدارة شؤون الحكم المدني. إلا أن هذه المؤسسات كانت، من حيث الصلاحيات العليا والقرارات النهائية، مجرّد واجهة للنظام، الذي يتحكم في كل قراراته، رأس النظام، بالاعتماد على الجيش والمخابرات والحزب (قد يكون من أقصر الطرق للتعرّف إلى التكوين الهيكلي الاستبدادي للأنظمة الأربعة المذكورة مطالعة الدستور الخاص بكل دولة، وكذلك النظام الأساسي للحزب الحاكم. وينطبق الأمر ذاته على «القانون الأساسي المعدّل» الذي تعتبره السلطة الفلسطينية دستورها، والنظام الأساسي لحركة فتح في الداخل والتي تقوم بدور الحزب الحاكم).
صمّم كلٌّ من القادة منظومة حكمه ليستمر مدى الحياة، معتبراً أن وجوده وبقاء نظامه ضروري لمستقبل بلده ومستقبل المنطقة، ولتحقيق أهداف المنطقة العربية. أي هو الخليفة المؤهل، بصورة أو بأخرى، دون غيره، لتحقيق الأهداف العربية للمشروع الناصري، في التحرير والوحدة والعدالة الاجتماعية. ولمّا كانت صياغة هذه الأهداف الإقليمية ما زالت فضفاضة، لم تخضع بعد للحد الأدنى من المراجعة والتطوير الفكري في ضوء التجربة، فقد كان سهلاً على كلٍّ من القادة الجدد أن يفسرها ويفصلها وفق مصالحه ومصلحة النظام، دون أن يلزمه ذلك بأي التزام أو إنجاز محدد.

وكما كان متوقعاً، فسرعان ما اختفت في البلدان المعنية، نتيجة لكل ذلك، مظاهر ومقومات الحياة السياسية المتعارف عليها حضارياً، كأحزاب المعارضة والقضاء المستقل، والنقابات المستقلة، ومنابر الصحافة والإعلام غير الموجه، وهيئات النفع العام المستقلة، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وتحولت تلك الجمهوريات إلى ما يمكن تسويته بجمهوريات تحكمها المخابرات والصمت والخوف. ولأن النظم الجديدة كانت تمارس الشمولية والاستبداد في مجتمعات ما زالت دون عتبة التطور الاقتصادي، فقد تحولت بسرعة إلى «جمهوريات وراثية»، تسندها عصبيات فئوية أو قبلية، أقرب في مفاهيمها وممارساتها إلى نظم الحكم في عصور الانحطاط، ولكن بوسائل وأدوات قمع ومظاهر الحضارة الحديثة. أنظمة فاشية ومتخلّفة في آن واحد.

جدران الفصل الثلاثة
وكما هو متوقع، فقد كان حق الجماهير في ممارسة العنف السياسي، الذي افتقده أبو خليل، من أوّل ضحايا الأنظمة الجديدة. إلا أنّ أخطر ما حققته الأنظمة، دون أن تدرك أبعاده، هو أن كلّاً منها، بعد أن حبس شعبه في قفص من الاستبداد الشرس، عزل ذلك الشعب أيضاً، في آن واحد، عن مسيرة التنمية الاقتصادية العالمية، وعن التفاعل مع محيطه العربي، وعن المشاركة المباشرة في الصراع العربي الإسرائيلي. ففي مجال التنمية الاقتصادية، فرض الاستبداد، في كل من تلك البلدان، سقفاً منخفضاً على وتيرة التنمية في ميادين النهوض الاقتصادي والاجتماعي والثقافي المختلفة، نتيجة انغلاق النظام على نفسه، وعدم قدرة المواطنين على المشاركة بحرية، في ظلّ فرص متكافئة، باستخدام كل ما يملكونه من مواهب ومبادرات، وابتكار، وقدرات تنافسية، في تطوير حياتهم وحياة أسرهم ومجتمعهم ووطنهم.

لقد وجدوا أنفسهم يعيشون في نظم يتحكم فيها مجموعات ووجوه جامدة ثابتة لا تتغير، من أصحاب المناصب والنفوذ في الحزب أو الجيش أو المخابرات، وأبنائهم والملتفين حولهم، ليس نتيجة لكفاءتهم في خدمة وطنهم، بل لولائهم للنظام أو موقعهم في هرمه، أو لصلاتهم العائلية. وهو ما وفّر بدوره مناخاً مثالياً لازدهار الفساد، وتسرّب الثروة الوطنية إلى جيوب المتنفّذين والمنتفعين على حساب المال العام ومشاريع التنمية الوطنية. إضافة إلى الإنفاق الهائل، بعيداً عن المراقبة، على أجهزة الحكم والقمع، وعلى مشاريع التسلّح. وكما تقول الحكمة السياسية: «السلطة تفسد، والسلطة المطلقة تفسد بصورة مطلقة».
وقد أبقى ذلك كله البلدان المذكورة دون عتبة النهوض الاقتصادي على مدى عقود طويلة. وذلك في الوقت الذي انتقل فيه العديد من المجتمعات، التي كانت أيضاً تعاني من التخلّف الاقتصادي، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كما في بلدان الشرق الأقصى مثلاً، إلى مسار التطور الاقتصادي المتسارع، ومعدلات الدخل القومي، ومداخيل الفرد العالية. كما أنّ إسرائيل، التي كانت تملك أصلاً اقتصاداً ذا تكوين متطور، بحكم تكوينها، كغزوة استعمارية قادمة من أوروبا، تابعت تطورها بسرعة متزايدة في ميادين الاقتصاد، والتعليم، والبحث العلمي، والتكنولوجيا العالية، وصناعة وتصدير منتوجات الأسلحة المتخصصة المتطورة، بما في ذلك أحدث وسائل التجسّس، وقمع التظاهرات.

وفي مجال التفاعل العربي ــ العربي، كان من أوّل إنجازات أنظمة القمع، وبحكم الهاجس الأمني وحرصها المتزايد على بقائها، أنّ كلاً منها أنشأ، منذ لحظة استلامه للحكم، نقاط مراقبة أمنية تخضع مباشرة لإشراف وقرارات مراكز المخابرات، على نقاط المعابر الحدودية كافة الجوية والبرية والبحرية، بالإضافة إلى مراكز المخابرات الداخلية. وأصبحت نشاطات السفر، بين كلٍّ من الدول المعنية والدول العربية الأخرى، تتميّز بالمعاملات الروتينية المعقّدة، وصفوف الانتظار الطويلة والمهينة عند المعابر، والقلق والخوف ممّا تقرّره المخابرات، التي تعمل في الداخل بعيداً من شباك المعاملات، وذلك بالنسبة لمواطني البلد المعني، وللعرب الزائرين، على حدٍّ سواء.

وهو ما قلّص بصورة مأساوية من فرص التفاعل الحياتي الطبيعي، في مجالات التعاون التجاري والاقتصادي والثقافي والعلمي، بين شعوب الدول المعنية، وكذلك بينها وبين الشعوب العربية الأخرى، علماً بأنها كلها يجمعها لغة أولى واحدة، وتاريخ وثقافة مشتركة، وطموحات إنسانية متشابهة، وعلاقات أسرية. وبذلك، تحولت الأنظمة التي احتكر كل منها المناداة بالوحدة، والتنمية الاقتصادية، إلى أكبر العقبات في طريق الوحدة والتنمية العربية، ما جعل الناس تترحّم بحسرة على أيام الانتداب والسنوات القليلة اللاحقة التي سبقت عهود الاستبداد.

وفي مجال مواجهة إسرائيل والحركة الصهيونية، كان من أهم عواقب محاصرة شعوب البلدان المعنية داخل أقفاص الاستبداد، إن لم يكن أهمّها، هو أنّ تلك الأقفاص كانت أيضاً بمثابة جدار كثيف عازل بين الشعوب العربية وبين فرص لدعم الشعب الفلسطيني، ومواجهة الدولة الصهيونية، بصورة مباشرة ودون حواجز. وكان ذلك نتيجة طبيعية لاحتكار النظم القمعية لكل أنواع الحراك السياسي والجماهيري والإعلامي، داخل وعبر حدودها، وحصر ذلك فيما تنظمه أجهزته من نشاطات أو تظاهرات، أو ما يصدر عن أبواقها الإعلامية من بيانات وتفسيرات، وكلها ذات طبيعة معروفة ومكررة، لا وقع لها. فلم يكن بإمكان جماهير المجتمع المدني، في تلك البلدان، مثلاً، تنظيم مسيرات شعبية غير مسلّحة نحو الحدود بصورة مكثّفة ومتتابعة لا تتراجع، للمطالبة بعودة اللاجئين إلى وطنهم في فلسطين والجولان، وتنبيه العالم لحقوقهم كل يوم، أو لدعم الانتفاضات الفلسطينية، أو مسيرات العودة من غزة، أو يوم الأرض في الداخل.

ولم يكن بالإمكان المشاركة في مسيرات القوارب البحرية المطالبة بفك الحصار عن غزة، أو الانضمام إلى فلسطينيّي الداخل والمتطوّعين الدوليين دفاعاً عن البيوت المهددة بالمصادرة والإخلاء في حيّ الشيخ جرّاح، وسائر أحياء القدس العربية، أو الأراضي المعرّضة للمصادرة في الضفة. وهو ما جعل الشعوب العربية غائبة، بالقول والفعل، عن المساهمة المباشرة في دعم الشعب الفلسطيني، وحرمانها، بين أمور أخرى، من الكشف ميدانياً، وعلى مرأى من العالم، عمّا يجري في الداخل من جرائم دولية من التطهير العرقي الممنهج، وعن قوانين الأبارتايد التي تستند إليها المحاكم الإسرائيلية في إضفاء الشرعية المزوّرة على تلك الجرائم، علماً بأن ذلك يضع تلك القوانين والمحاكم، وعلى رأسها المحكمة العليا، في قفص الاتهام الدولي.

الاستبداد يصبح، مع مرور الوقت، قفصاً للحاكم المستبد أكثر ممّا هو للشعب المحاصر، لأن الشعب يظل في النهاية يملك خيار المقاومة، فيما لا يملك الاستبداد من خيارات سوى الإمعان في الاستبداد. فهو يخشى من أي نشاط شعبي لا يخضع لتحكّمه المباشر، لخوفه من تحوّل الحراك الشعبي ليصبح ضد النظام في أي وقت، أو من التعرّض، كنظام معزول عن شعبه، للغضب من قبل الدول المستهدفة بالحراك الشعبي، ولتهديدات ليس في مقدوره مواجهتها.

ولهذه الأسباب، لم تسمح تلك الأنظمة أيضاً بأي عمليات مقاومة شعبية مسلّحة تنطلق عبر حدودها، أو تخاطر باستدراج الدولة الصهيونية إلى حرب عصابات شعبية تستنزف قدراتها، كما فعل حزب الله مثلاً، وبنجاح تاريخي، لتحرير الجنوب اللبناني. ومع الوقت، وتصاعد الهوة التنظيمية والتكنولوجية العسكرية بين إسرائيل وجيرانها، تحوّلت الأنظمة العربية القمعية إلى أسود من خشب، لا تستأسد إلا على شعوبها، وإلى عبء ثقيل على تلك الشعوب، بعد أن فشلت في تحقيق أي من الأهداف التي نادت بها، عند وصولها إلى الحكم.

جدران أوسلو الثلاثة
وليس أدلّ على أهمية ما أنجزته تلك الأنظمة، في خدمة المصالح العليا للحركة الصهيونية، دون وعي أو إدراك من مدى التطابق الوظيفي بين الجدران التي بنتها تلك الأنظمة حول شعوبها، وبين الجدران العازلة التي بنتها إسرائيل، خاصة من خلال اتفاقية أوسلو، وبإشراف الداهية الصهيوني المخضرم، شمعون بيريز، بالتواطؤ مع قيادة المنظمة، حول وداخل التجمعات الديموغرافية الفلسطينية في الأراضي المحتلة. فمن خلال احتفاظ الاحتلال بالأراضي والمياه الفلسطينية التي تضمّها المنطقة جيم، والمناطق الشاسعة المحيطة بالقدس الشرقية من الشمال والشرق والجنوب، التي ضمّتها إسرائيل مع مدينة القدس الشرقية، في نطاق ما سمّته بمحافظة القدس الكبرى، ومن خلال انتزاع حق المواطنة من فلسطينيّي القدس، وفرض الحصار الدائم حول غزة، حرمت أوسلو فلسطينيّي الأراضي المحتلة من الحد الأدنى اللازم من مقومات بناء اقتصاد وطني منتج، وحاصرت جماهير الشعب الفلسطيني داخل المدن التي تشرف عليها السلطة، بهدف تحويلهم إلى حالة خيرية تعيش على معونات الدول المانحة.

ومن خلال الالتزامات السياسية والاقتصادية الدقيقة والمتشابكة التي فرضتها الاتفاقية على السلطة، ومحاصرة مناطق السلطة (ألف وباء) من الجهات كافة بالمنطقة جيم المخصصة للاستيطان، والخاضعة أمنياً وإدارياً وسيادياً للاحتلال، عزلت الاتفاقية الشعب الفلسطيني في الداخل، ليس فقط عن محيطه العربي، بل عزلت الجزر السكانية الفلسطينية عن بعضها، وعن المنطقة جيم والقدس. وعزلت المناطق كلها عن غزة، وعن 1948 والشتات. وغني عن القول أن الدور الموكل للسلطة بموجب الاتفاقية، كحارس أمني وسياسي للاحتلال، وكما ذكر بالتفصيل سابقاً، قام بدور الجدار العازل الذي يحمي نشاطات الاستيطان وقوات الاحتلال التي تحميها، من المواجهة المباشرة مع جماهير الشعب الفلسطيني، وجنبها بذلك تحمّل التكاليف الباهظة للاحتلال المباشر، سياسياً وقانونياً وعسكرياً ومالياً وبشرياً.

الحصاد المر
مع نهاية الطريق المسدود التي وصلت إليها أنظمة الاستبداد العربية والفلسطينية، تسارعت وتشابكت التدخلات الخارجية والإقليمية والدولية التي أوصلت المنطقة إلى أحوالها الحاضرة، وهو ما يخرج عن الإطار المحدد الذي التزمت به هذه المداخلة، ما يوجب التوقف عند هذه النقطة. ويكفي الإشارة، لمجرد التذكير، وعلى مستوى العناوين فقط، إلى أنّ الأمور بدأت تأخذ منحى خطيراً على مستوى المنطقة نتيجة لحربَي الخليج العدوانيتَين اللتين شنّهما رأس النظام العراقي، آنذاك، ضد إيران (1982) والكويت (1990)، على التوالي، مما مهّد الطريق أمام الحربين اللتين قادتهما الولايات المتحدة ضد العراق: الأولى (1990) لطرد صدّام من الكويت، والثانية (2003) لاحتلال العراق ونهب ثرواته، ثم اضطرارها للخروج منه بالفشل وسوء السمعة، بعد أن تسبّب تدخّلها في حروب داخلية وإقليمية مدمّرة، وبعد أن نشرت قواعدها العسكرية في سائر دول الخليج النفطية.

وتلا ذلك ما سمّي عالمياً بثورات الربيع العربي (ابتداءً من خريف 2010)، وما أعقبها من صراعات داخلية وتدخلات خليجية وإقليمية ودولية طاحنة، خاصة داخل كل من الدول الأربعة المعنية. وما رافق ذلك كله من ظهور وممارسات وحشية عدمية الأهداف، للجماعات الإسلامية الأصولية، من ذوي العقول المغسولة بتفسيرات سيد قطب الفاشية للإسلام، وبمعتقدات الإسلام الوهابي السلفي والتكفيري. ويكفي الإشارة، مثلاً، إلى أن ثلاثة من البلدان المعنية الأربعة، على الأقل، أصبحت تعيش غالبية شعوبها دون خط الفقر، وفي حالات مروعة من التقسيم الجغرافي، والاحتلال الخارجي، والدمار العمراني، والنزوح الداخلي والخارجي، والصراعات الفئوية الدموية الداخلية، التي ليس في الأفق المنظور ما يعد بانتهائها.

خاتمة
يمكن أن نستنتج ممّا سبق، أنّ خروج العرب المعاصرين من التاريخ بدأ، بصورة جدية ومتسارعة، مع وصول أنظمة الاستبداد العسكري إلى الحكم، أي منذ السبعينيات من القرن الماضي. ولم تكن أوسلو إلا الصيغة الفلسطينية لسقوط أنظمة الاستبداد العربي في مصيدة الحركة الصهيونية، في سعيها الدؤوب لتهويد الأرض الفلسطينية، كحد أدنى، وللهيمنة السياسية والاقتصادية على شؤون المنطقة. كما نستنتج أن التحديات التي واجهها الشعب الفلسطيني، منذ بدء الحملة الصهيونية، كانت دائماً متداخلة مع التحديات التي تواجهها الشعوب العربية، ولا يمكن الفصل بينهما.

وفي الوقت الذي تبّنت فيه معظم الأنظمة العربية، بما فيها النظام الفلسطيني، بحكم تكوينها الفوقي، أجندات متضاربة، في سعي كل منها للمحافظة على بقائه وامتيازاته، على حساب مصالح وحقوق شعبه، فإنّ أوليات الشعوب العربية، بما فيها الشعب الفلسطيني، كانت دائماً متشابهة في طبيعتها. فكل منها يسعى، وفق ظروفه والتحديات التي يواجهها، إلى امتلاك القدرة على تقرير مصيره، أي أن يعيش كشعب، وكل مواطن فيه، سيّداً حرّاً موفور الكرامة، كامل الحقوق، فوق كل بقعة من ترابه الوطني، أي حرّاً من أي استبداد داخلي أو خارجي. لقد حرصت الصهيونية، ونجحت حتى الآن بصورة مدهشة، فيما عدا استثناءات معدودة، في تجنّب مواجهة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية مباشرة، طوال مسيرتها الطويلة من الحروب والدماء والدمار، الذي فرضته على شعوب المنطقة وأجيالها المتعاقبة. ومن جهة أخرى، فإن أكبر درس تعلّمه الشعب الفلسطيني، والشعوب العربية الأخرى، هو أن لا تسلّم زمام أمورها لأي منظومة حكم أو قيادة وطنية لا تخضع مساءلتها ومحاسبتها وتبديلها من خلال هيئات مستقلة ممثلة للقواعد الشعبية وقواعد مؤسّسية ملزمة.

كما أن التطورات الأخيرة التي نتجت عن حملة التطبيع التي يقودها أولياء العهد في كل من الإمارات والسعودية، وسعيهما، باستخدام فوائض الريع النفطي الضخمة، لتنصيب أنظمة ديكتاتورية على غرار أنظمتهما في المنطقة، من السيسي إلى حفتر وبرهان وقيس بن سعيد، والحبل على الجرار، لتقوم بالتطبيع مع إسرائيل، لقاء الدعم المالي وصكوك الغفران الأميركي، يؤكد من جديد أن أخشى ما تخشاه الحركة الصهيونية هو مواجهة الشعوب العربية مباشرة. وأن تحالفها مع دول الاستبداد العربية الجديدة، المسلحة بالعوائد النفطية، يفتح لها أبواب الهيمنة على المنطقة من بوابة النفط والمال.

تدل تجارب التاريخ الحديث أن الشعوب التي تملك مقاليد أمورها، وتتصرف من خلال قيادات مسؤولة أمام شعوبها، تعرف كيف تطوّر أساليب الكفاح التي تناسب قدراتها، وتفتح باب المشاركة للغالبية الشعبية في الكفاح وبذل التضحيات الهائلة، كل من موقعه ووفق ظروفه، فيما تشل بالتدريج قدرة المستعمر على استخدام تفوقه العسكري والاقتصادي. أي أن الإرادة الحرة للشعب الفلسطيني والشعوب العربية هي وحدها القادرة على مواجهة الحركة الصهيونية وحلفائها، بصبر، ونفس طويل واستعداد دائم للتضحيات. وذلك عند خطوط التماس كافة مع تلك الحركة، في الداخل الفلسطيني، وفي المحيط العربي، وفي الشتات، وداخل المجتمعات اليهودية ذاتها في إسرائيل والعالم. وهو ما يعد بتمكّن الأجيال الجديدة من العرب المعاصرين من الدخول المتجدد للتاريخ، من بوابة الحرية الواسعة.

 

أكاديمي فلسطيني

عن (الأخبار) اللبنانية


مراجع وهوامش:
(1) الآثار القانونية لاتفاقيّة أوسلو»، د. أنيس فوزي قاسم، القضيّة الفلسطينية في مئويّتها الثانية، من وعد بلفور إلى الربيع العربي، إعداد وإشراف فيصل جلول ورشاد أبو شاور، «مؤسسة الدراسات الفلسطينية»، 2018.
(2)
وثائق أوسلو الرئيسية اثنتان:
«
وثيقة إعلان المبادئ»، أيلول 1993، و«الاتفاقية الإسرائيلية ــــ الفلسطينية، حول الضفة الغربية وقطاع غزة»، تشرين الثاني، 1995. نصوص الوثيقة الأولى متوفرة، مثلاً، على موقع التوثيق الخاص بالأمم المتحدة باللغتين العربية والإنكليزية. أمّا الثانية، وهي الوثيقة التفصيلية التي تصل إلى مئات الآلاف من الكلمات، فهي متوفرة باللغة الإنكليزية فقط. أفضل المواقع للحصول على كل وثائق الاتفاقية (الثماني) والاستفادة المباشرة منها لأغراض البحث هو موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية. موقع السلطة/ المنظّمة الذي يحتوي على أعداد لا تحصى من الصور والتصريحات الخاصة برئيس السلطة (فخامة رئيس دولة فلسطين) كانت حتى آخر مرة تصفّحتها، لا تشير إلى الاتفاقية بكلمة واحدة، فضلاً عن توفير وثائقها للمهتمّين والباحثين.

(3) يمكن لإلقاء نظرة سريعة، وشاملة في الوقت ذاته، على طبيعة وحجم التنازلات التي قدّمتها قيادة المنظمة لإسرائيل، من خلال الاتفاقية، مطالعة رسالة عرفات إلى رابين وجواب رابين المقتضب عليها (9 أيلول، 1993)، علماً بأن حجم الرسالة والجواب لا يصل إلى 200 كلمة. وهي متوفّرة على مواقع الأمم المتحدة، بين مواقع أخرى كثيرة، ليس بينها موقع السلطة/ المنظّمة