يكشف الكاتب المغربي عن بعض ملامح تفكير كاستورياديس صاحب مشروع الخيال الاجتماعي في مسألة التحليل النفسي، واهتمامه بالبعد الاجتماعي الذي أهمله فرويد في تحليله لمكونات الأنا الفردية المختلفة. كاشفا بذلك عن البعد السياسي للتحليل النفسي ودوره في ترسيخ بنية المجتمع السائدة.

كورنليوس كاستوريادس: التحليل النفسي كمشروع سياسي

منير الحجوجي

 

يقف كورنليوس كاستورياديس C. Castoriadis، هذا السوسيولوجي المنتبه لدور المؤسسات التحديثية في تحرير الفرد من قبضة الأورتودوكسيا، قلت يقف مفككا الطوبوغرافيا الفرودية الشهيرة: الهو/ الأنا/ الأنا الأعلى. لا يتصور كاستورياديس لاوعيا وقد غزاه الوعي، حيث يقبض الوعي على الغرائز عبر المفاهيم العقلانية، لأن تحكم الوعي في اللاوعي يعني نهايتنا ككائنات بشرية، ككائنات تحلم وترغب و .. ان ما يجعل منا كائنات بشرية ليس العقل، ولكن الانبعاث المستمر واللامتوقع لخيالنا الخلاق عبر تدفق flux التمثلات، والأحاسيس، والرغبات. ان واحدة من مهام المحلل النفسي هي تحرير هذا التدفق المكبوت من طرف أنا غالبا ما يكون متحجرا ومنغرسا في تربة المجتمع. هكذا يقلب كورنليوس المعادلة الفرودية: حيث ما أوجد يجب أن ينبثق شيء ما Là où Je suis/est, ça doit aussi émerger....

يجب تحرير الرغبة من قبضة الأرتودوكسيا. لنأخذ هذا المثال الذي يوضح جيدا الحدود بين الرؤية الأرطودوكسية والرؤية التحليلية لكورنليوس. عندما ينظر شخص الى امرأة وهو راغب فيها، فانه – وفق الرؤية الأرتودوكسية- يكون قد مارس الخيانة، على الأقل في قلبه. أما التحليل كما ينظر اليه كاستورياديس فهو يتأسس على منطق أخر: إن حياتنا تبدأ في اللحظة التي ننظر فيها الى امرأة في أفق أن نرغب فيها. ان هذه الرغبة لا يمكن الغاؤها. أن نكون هو أن تكون لنا رغبة، وبدونها لا يمكننا ببساطة أن نظل على قيد الحياة.

يروم التحليل النفسي بناء ذاتية واعية برغباتها، ذاتية وقد توقفت على أن تكون آلة عقلانية (وما هي بذلك) وخاضعة/ متأقلمة اجتماعيا، ذاتية أقرت وحررت الخيال الجذري في عمق النفس. ان الذاتية التي يصفها كاستورياديس هي أساسا سيرورة، لا حالة يتم/ الوصول اليها/ تحقيقها بشكل نهائي. ومشروع الاستقلالية هو مشروع يحول الذات في قلب السيرورة. وهذا الهدف لا يمكن التوصل إليه من دون النشاط الخاص للمريض: نشاط التذكر، التكرار، البناء.

يسمي كاستورياديس هذا النشاط نشاطا شعريا: فالمريض يقوم - عبر العمل السالف الذكر - بفسخ الذاتية القديمة (المقموعة) وبناء ذاتية جديدة/ كائن جديد/ مستقل، واع بهويته الجديدة. ان مهمة التحليل النفسي – تماما مثلما هي مهمة التربية والفلسفة - هي مساعدة الفرد على أن يصبح كائنا إنسانيا، هي مساعدة الفرد على أن يوضح اندفاعاته ورغباته في المشروع الأكبر للحياة، مشروع التحول الى كائن واع، مستقل. على العلاج النفسي أن يطور – مستثمرا الكلام ذاته للمريض- النشاط النظري/ البنائي للمريض. لا شيء يجب أن يترك للصدفة. كل شيء يتفوه به المريض يحمل دلالة قوية على المحلل التقاطها ثم استثمارها. كل جلسة مع المريض هي خطوة في مسار العلاج، أي في مسار تفتيت/ الوعي بالماضي والتوجه نحو المستقبل. الأهم هنا ليس تحرير المريض من قبضة الألم، ولكن مساعدته على الوعي بما يمنعه من التحرر، الوعي بما يمنعه من التحول الى كائن أنثروبولوجي، الى كائن بمسؤوليات تحررية. يردنا هذا الى السياسة، والى مشروع الاستقلالية كمشروع اجتماعي وليس فقط فردي.

ما هو المحور الأساسي لهذا المشروع السياسي؟ انه مساعدة الفرد على الخروج من المنطق الهووي identitaire، وولوج منطق الاختلاف، المنطق الذي يمكن للذات بموجبه أن تعيش هويتها خارج الهوية الجمعية. والسؤال المهم هنا هو: كيف يمكن تحقيق الخروج من المنطق الهووي/ الشمولي؟ كيف يمكن تحقيق الاستقلالية؟

اذا كان التحليل النفسي يروم مساعدة الفرد على أن يصبح مستقلا قادرا على النشاط المفكر والتداول والنقد وكما هو الحال مع مشروع الفلسفة والديموقراطية، فانه مجبر على طرح سؤال/ رهان المؤسسات الموجودة. ان اللقاء مع المؤسسات الموجودة هو لقاء مع الذات الفعلية للمريض. فهذه الذات هي أساسا صناعة اجتماعية، صنعت لكي تعمل داخل ومن أجل عدة dispositif اجتماعية بهدف واضح هو الحفاظ عليها والعمل على استمرارها واعادة إنتاجها. ان المؤسسات لا تستمر بالقوة المادية، ولكن وخصوصا من خلال استدخالها من طرف الأفراد المشكلين للمجموعة الاجتماعية.

ان المؤسسات الاجتماعية هي ابداعات الخيال الجذري، أو يجب أن تكون كذلك، وتحيل الى القدرة الخلاقة للمجموعة المجهولة Anonyme كما تظهر في اللغة والطبائع والأفكار. لا يمكن للجماعة أن توجد وتحضر الا وهي ممأسسة داخل مؤسسات. أهم شيء في هذه المؤسسات أنها ما ان تحضر حتى تحضر بوصفها معطاة بشكل نهائي باعتبارها موروثة عن الأجداد أو الآلهة أو العقل. فتتحول الى أشياء ثابتة، متحجرة، مقدسة. هناك دوما في المؤسسات عنصر ما أساسي، قوي جدا وفعال هو العنصر الذي يقوم بوظيفة التأبيد الذاتي autoperpétuation التي نسميها في التحليل النفسي التكرار. ويشكل صنع أفراد مطابقين لبعضهم البعض العنصر الأساسي في هذه الاستراتيجية.

بطبيعة الحال ولأسباب عميقة ومعقدة يقوم المجتمع بإخفاء كونه هو من يصنع الأفراد الطيعين. يسمى كاستورياديس هذا المجتمع مجتمعا هوويا/ شموليا hétéronome . أما المجتمع المستقل فهو الذي يعلم بشكل واضح أنه هو من يخلق القوانين ويعلم أيضا أنه هو الذي يؤسس حياته بشكل يمكنه من تحرير خياله الجذري وتحويل مؤسساته عبر نشاطه الجماعي، التأملي والتداولي. يسمى كاسطورياديس النشاط الذي يروم بناء مجتمع مستقل وبناء القرارات المتعلقة بالمشاريع الجماعية مشروعا سياسيا. ويبدو واضحا أن مشروع تأسيس المجتمع المستقل لن يكون له أي معنى ما لم يتجه وفي الوقت ذاته نحو المساعدة على انبعاث أفراد مستقلين. والعكس صحيح.

في حالة المجتمع الهووي يطابق الانضباط تحجر بنية المؤسسة فيما تطابق استراتيجية اخفاء الخيال الراديكالي المؤسس تحجر الفرد كمنتوج اجتماعي. أما في منظور المجتمع المستقل فان مهمة التحليل النفسي (والديموقراطية، والفلسفة، والسياسة، والبيداغوجيا) هي تمكين الفرد من التحول الى ذات واعية – ذات الفكر والارادة -  بخيالها الراديكالي (لاوعيها) وقادرة على تحرير قدرتها على الفعل، على تشكيل مشروع مفتوح والاشتغال عليه. لا وجود لمجتمع ديموقراطي بلا أفراد ديموقراطيين. ومستحيل أن نكون ديموقراطيين في مجتمع هووي، ماضوي. والديموقراطية ببساطة شديدة هي ما يلي:1- أن ينخرط الكل في التفكير الكلي في قضايا الكل..2- أن ينخرط الكل في العمل الكلي على مشاريع الكل. الديموقراطية هي الجماعة الفرحة بوجودها كجماعة مسؤولة عن مجموع أفرادها المسؤولين بدورهم عن الجماعة. هكذا يتصور كورنليوس الأدوار الوظيفية/ الوجودية للمجتمع/ الأفراد. ان المجتمع المستقل كمجتمع يؤسس ذاته بذاته ويحكم ذاته بذاته يفترض أفرادا بقدرة عالية على المشاركة في أنشطته التداولية.

لماذا من المهم جدا السير في اتجاه تأسيس المجتمع المستقل؟ لأنه يستحيل لنا أن نحقق رغباتنا بل حتى الحد الأدنى لوجودنا في مجتمع شمولي. ان المجتمع الشمولي لا يقوم فقط على منع أفعال ما من التحقق، ولكنه – وهذا هو الأخطر- على منع الأفكار، على صد تدفق التمثلات، على فرض السكوت المطبق على الخيال الجذري. ان منع الأفكار هي الوسيلة المثلى لمنع الأفعال. وهذا أمر فظيع من الأنا الأعلى الرهيب والوحشي الفرويدي. اننا نريد أنا مفكرة، واعية بمشروعها في التحول الى ذات أنتروبولوجية. ولا يمكن للذات أن تحرر امكاناتها الا بالاستناد الى لاوعيها، الى ارادتها الدفينة، الى ما كبته فيها المجتمع كمؤسسات/ آلات قمعية. وهذا هو ما يشكل أو المفروض أن يشكل مساهمة الفرد في الابداع الاجتماعي/ التاريخي الشامل. هذه هي الجدة الأساسية لفكر كورنليوس.

ان الفرق بين المجتمع الشمولي والمجتمع المستقل هو أن الأول لا يمكنه أن يشتغل بكامل الفعالية الا في الحالة التي يستدخل فيها أفراده مجموع قوانينه باعتبارها قوانين ميتاطبيعية، أبدية. وعلى رأس تلك القوانين يوجد القانون الأسمى: "لن تسائل القوانين".. أما القانون في المجتمع المستقل فلن يكون الا هذا: "ستمتثل الى القانون. لكن يمكنك أن تسائله، وتطرح سؤال العدالة أو الموائمة." ان مشروع التحليل النفسي هو ذاته مشروع الفلسفة والتربية والديموقراطية: مساعدة الجماعة على بناء مؤسسات لا يشكل استدخالها من طرف الأفراد أي مشكل بالنسبة لتطورهم وتحولهم الى ذوات مستقلة. على مبدأ الاستقلالية أن يكون منغرسا في المؤسسة، أمرا مؤسسا، يجد مشروعيته في البرنامج الأنطولوجي للمؤسسة - لا خارجها. على المؤسسة أن تحمل الاستقلالية في جيناتها.

تنزع المؤسسة الشمولية الفرد من عمقه النفسي الجذري – مستوى الرغبات والارادات الليبيدية الثورية الأولى- وترمي به الى "العالم".. تفرض عليه الدخول الى عالم الحياة الشاقة، الشرسة. وبالمقابل تمنحه مهدئا/ تعويضا كبيرا اسمه المعنى. تمنحه كل المعاني التي تملأ الحياة وتطرد السلبية. تقوم المؤسسة بكل شيء حتى لا نتذكر. لا تتردد في منح المعنى ل "كل شيء" لنا/ فينا. تجتث التساؤل من الجذر. فالمعنى يصد أي رغبة في التساؤل/ البحث خارج المعنى. لا تتركنا لخطر القلق/ الفراغ الأنطولوجي. مع المؤسسة كل شيء يصبح له معنى: الحياة، الجنس، النضال، الموت، ما بعد الموت. تغرقنا في معاني تجعلنا في منأى عن البحث/ التساؤل/ تذكر "المعنى". معنى العالم الذي انتزعنا منه. تقوم المؤسسة بكل شيء حتى لا نعي بأننا انتزعنا من خيالنا الجذري، خيال الحرية والمسؤولية والحق في التساؤل حول المؤسسة وعدالتها. هذا هو ارهاب المؤسسة.

عندما يتدخل التحليل النفسي كأداة تحديثية/ تحريرية فليس من أجل أن يمنح للمريض معنى. انه فقط يساعده على أن يخلق لنفسه معنى. لا يتعلق الأمر أبدا بتحديد هذا المعنى قبلا وبشكل نهائي وكوني. لذلك فان الصعوبة القصوى التي قد تعترض المحلل والمحلل أيضا هي القبول بالموت. قبول موت الشخص الذي كان من أجل الشخص الذي يولد. الموت فيما يقول كاستورياديس هي الصخرة النهائية التي قد تتكسر عليها لعبة التحليل والخلق والتحول.

تخلق المجتمعات الشمولية المعنى لأجل الكل ثم تفرض على الكل استدخاله. انها تؤسس أو تبني ممثلين واقعيين أو رمزيين لمعنى أبدي خالد مفروض في الكل المساهمة في حمله وتأبيده. قد يتعلق الأمر بأسطورة الخلود أو عودة الروح لكن قد يتعلق الأمر بخلود معنى مؤسس – الملك- الدولة- الأمة- الحزب- يمكن لأي منا التماهي معه.

"أعتقد، يقول كورنليوس، أن مجتمعا مستقلا لن يقبل بكل هذا. وتبقى الصعوبة الكبرى هنا هي تلك التي قد يجدها البشر في أن يقبلوا بشكل فوري بموت الفرد، بموت الجماعة وحتى بموت كل الأعمال التي قاموا بها. لا أحد يقبل بسهولة موت المعنى. هذه هي الصعوبة الأساسية للتحليل النفسي. هذا هو ما قد يجعل التحليل النفسي مسارا بلا نهاية interminable".