ويظل الإبداع هو الكشاف الذى به يبحث المبدع عن جوهر الحياة، بما تحمله –ظاهريا- من أفراح وأحزان. فحيث فرضت الجائحة على الوجود المزيد من الظلام، والضباب، فتاهت الرؤية، وغابت الرؤى، فيمد الكاتب منير عتيبة أصابعه ليجمع بقايا الحياة المتناثرة، ويصنع منها قصة قصيرة، وكأنها الحياة .. القصيرة.

كشكشها .. طفيها

منير عتيبة

 

هل سيحترق ميكروفون المسجد لكثرة استخدامه؟ منذ بدأت جائحة كورونا وهو لا يتوقف عن الإعلان عن الأموات، لم يكن أحد يذهب لدفنهم سوى أقرب الأقربين، أحيانا كان هؤلاء الأقربون يستأجرون من يدفنون موتاهم، بالتدريج بدأ البعض يتشجع ويعلي من شأن (الواجب) على الخوف من الموت، مع اتخاذ إجراءات احترازية شديدة، ثم تراخت شدة الإجراءات الاحترازية، حتى لم تعد موجودة، ووصل التزاحم في الجنازات لدرجة أن كورونا لن تجد مكانًا تقف فيه بين الواقفين. "وفتح المقبرة بعد صلاة الظهر" شدت أذني صيغة الإعلان فانتبهت من نومي المتقطع أصلًا، كنا بعد الشروق بقليل، وكان صوته المزعج يواصل إعلانه الغريب "سيكون العمدة موجودًا، وضابط نقطة الشرطة، وواعظ المسجد، ورئيس الحي، وعضو المجلس المحلي، وجثث الوالدين، وشبح مدير المدرسة، وذكرى الحبيبة، وكل نطع فيكِ يا بلد. أهالي البلدة ال.. يعني كرام! اليوم فتح مقبرة حامد كشكشها بعد صلاة الظهر بحضور العمدة و...."، جلست فوق سريري متربعًا، تأخذني الدهشة، فقد كان حامد كشكشها هو من يذيع نعيه الغريب هذا.  نظرت من شباك حجرتي غير متوقع أن تزيدني هذه الحركة معرفة بما يحدث، لكني فوجئت بكل شبابيك الشارع مفتوحة، البلدة كلها تعلن اندهاشها ورغبتها في المعرفة، رأيت بعض الشباب يسرعون إلى المسجد القريب جدًا من بيتي، ورأيت بعضهم يعود بسرعة، حامد كشكشها ليس في المسجد. صلى الظهر من صلى، وتكاسل من تكاسل، البعض لا يصلي أصلًا، والبعض ذهب إلى الكنيسة وعاد بسرعة، وآخرون يجحدون بالصلاة والإله معًا، لكن الجميع ذهبوا إلى المقابر كالمساقين دون إرادة. كان الزحام فوق طاقة استيعاب المكان، العمدة الذي مات منذ سنوات، وناظر المدرسة الذي هاجر ولم يعد لأنه مات محترقًا في حرب الخليج الثانية، وضابط النقطة المنقول منذ أكثر من عقد من الزمان، وذكرى حبيبة حامد كشكشها، وجثتي أبويه، وأشباح لا أعرفها، ورجال ونساء أعرفهم، آخرون أراهم لأول مرة. كانت جثة أمه مسروقة الكفن، ألقى إليها أحدهم ببالطو قديم، لم يغط الكثير، لكن لم يكن لدى أحدنا الوقت لينظر، أما جثة الأب فلم تهتم بأن تغطي أي شئ، نظر إليهما حامد نظرة سريعة، ثم وزع نظراته علينا من علٍ، حيث كان يقف فوق أكبر المقابر، مقبرة مولانا الشيخ أحمد القناوي ولي البلدة، خرج هيكل عظمي الشيخ أحمد من مقبرته دون أن يُفتح بابها. وقف أمامها حائرًا ماذا يفعل، فلم يهتد لقول أو فعل، فتجمد في مكانه، امتلأ فراغ الجو فوق الرؤوس بما يشبه شاشات عرض بلازمية بأحجام عديدة، لكل منا شاشته الخاصة، لكن الجميع يستطيع أن يرى شاشات الجميع. ناظر المدرسة يأمر تلاميد المدرسة الإعدادية بعدم كتابة أسمائهم على ورقة الامتحان إلا في آخر اللجنة، ثم يكتب اسم ابن العمدة على ورقة حامد، واسم حامد على ورقة ابن العمدة. الأب لا يصلب طوله من الحشيش، يصفع حامد صفعة توقعه على الأرض "فاشل ابن كلب. ملعون أبوك أيًا كان" "كانت عندي أحلام كبيرة يا أبي" "كشكش أحلامك وعش على قدك". الطفل حامد يبكي:"أنا ابن من يا أمي؟" "ابن من أنت ابنه! كشكش أسئلتك، وطفى فضولك ترتاح". ذكرى البنت الحلوة تضحك وهو يقول لها متولهًا:"أحلامي لك بعرض السماء، وأشواقي أقوى من نار الجحيم" "كشكش أحلامك. وطفي نار شوقك. وانساني" تبتسم ابتسامة وضاءة، وترقص حاجبيها بمرح. ضابط النقطة يسحل حامد في الشارع ليكون عبرة لكل من يتعاطي الترامادول. واعظ المسجد يعطي حامد خمسمئة جنيه وشمروخ. أمام جامع القائد إبراهيم حامد يضرب فتاة ويلقيها أرضًا ويعريها "ما الذي أخرجك من بيتك؟ كشكشي نفسك يا بنت الكلب؟". سائق توكتوك مراهق يصرخ في حامد:"كشكش نفسك يا عم الحاج، الشارع ليس لك وحدك" ويميل إليه بالتوكتوك يكاد يدهسه. تداخلت المشاهد والحوارات. لاحظتُ الحزن يخرج من محجري الشيخ أحمد القناوي حشرات صغيرة لامعه تنفجر فتصيب وجوهنا برذاذ ملحي موجع. رفع حامد يديه إلى أعلى، لم أستطع أن أفسر ملامح وجهه ونظرة عينيه إلى السماء. لكني تذكرت أنه كان يقف الوقفة نفسها كثيرًا في الأشهر الأخيرة، هل كان يتدرب على شيء ما؟ رأيته فوق جبل منسي، وأمام ترعة المحمودية قبل أن تتحول إلى مواسير مدفونة تحت الأرض، وفي منطقة الحدائق التي أصبحت مصبًا للصرف الصحي، كان ينتقل من مكان لآخر، يقف بالساعات رافعًا يديه، وعيناه معلقتان بالسماء. ضم قبضتيه بعنف كأنه يمسك قطعة قماش من طرفيها، جذب ما يمسكه إليه فأصبحت يداه بجوار جنبيه. هل انطبقت السماء على الأرض؟ أشعر أن السحاب يطبق على أنفاسي. نفخ حامد بقوة "أووووووف". هل قضى على قدرتنا على الإبصار أم أطفأ الشمس؟. توقف عقلي عن الأسئلة وهو يحاول التركيز فيما يحسه ولا يراه، كأننا في طوابير يسوقها حامد بعصا خفية، ندخل خلف هيكل الشيخ أحمد إلى مقبرته، الأحياء والجثث والأشباح والذكريات الحلوة والمرة جميعًا.